(1) القسم الثاني - السنة

الباب الاول القسم الثاني السنة (1) السنة في اللغة، السنة عند الفقهاء والكلاميين، السنة عند الاصوليين، اتفاق واختلاف. السنة النبوية حجيتها من الضروريات، الادلة التي ذكروها على الحجية:  الكتاب، السنة، الاجماع، العقل، ومناقشاتها اشكال ودفع.
------------------------------------------------------------------
تعريف السنة: السنة في اللغة: لكلمة (السنة) تحديدات تختلف باختلاف المصطلحين، فهي في عرف أهل اللغة (الطريقة المسلوكة، وأصلها من قولهم سننت الشئ بالمسن إذا أمررته عليه حتى  يؤثر فيه سنا أي طريقا). (وقال الكسائي: معناها الدوام، فقولنا: سنة، معناها الامر بالادامة من قولهم: سننت الماء إذا واليت في صبه). (وقال الخطابي: أصلها الطريقة المحمودة، فإذا أطلقت  انصرفت إليها، وقد تستعمل في غيرها مقيدة، كقوله: من سن سنة سيئة). (وقيل: هي الطريقة المعتادة سواء كانت حسنة أو سيئة، كما في الحديث الصحيح: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر  من عمل بها إلى يوم القيمة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة (1)). السنة عند الفقهاء والكلاميين: وتطلق في عرف الفقهاء على ما يقابل البدعة، ويراد بها  كل حكم يستند إلى أصول الشريعة في مقابل البدعة فإنها تطلق على (ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة (2)) وربما استعملها الكلاميون بهذا الاصطلاح، كما تطلق في اصطلاح آخر لهم  على (ما يرجع جانب وجوده
(1) تراجع هذه الاقوال في ارشار الفحول، ص 33. (2) نهاية ابن الاثير مادة (بدع). (*)
------------------------------------------------------------------
على جانب عدمه ترجيحا ليس معه المنع من النقيض (1)) وهي بذلك ترادف كلمة المستحب، وربما كان إطلاقها على النافلة في العبادات من باب إطلاق العام على الخاص، وكذلك اطلاقها على  خصوص (ما واظب على فعله النبي (صلى الله عليه وآله) مع ترك ما بلا عذر (2)) كما جاء في بعض التحديدات. السنة عند الاصوليين: وقد اختلفوا في مدلولها من حيث السعة والضيق مع  اتفاقهم على صدقها على (ما صدر عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قول أو فعل أو تقرير) وقيدها الشوكاني بقوله (من غير القرآن) وهو قيد في غير موضعه لان القرآن لم يصدر عن النبي  (صلى الله عليه وآله) وإنما صدر عن الله وبلغه النبي، فهو لا يصدق عليه أنه قوله إلا بضرب من التجوز والتحديد العلمي لا يتحمله، وهناك قيود أخر أضافها غير واحد كقولهم إذا كان في مقام  التشريع وسيتضح ان هذه القيود لا موضع لها أيضا لانه ما من شئ يصدر عن الانسان بارادته إلا وله في الشريعة حكم، فجميع ما يصدر عن النبي (صلى الله عليه وآله) - بعد ثبوت عصمته -  لا بد ان يكون صادرا عن تشريع حكم وله دلالته في مقام التشريع العام إلا ما اختص به (صلى الله عليه وآله) وسيأتي الحديث فيه. وموضع الاختلاف في التحديد توسعة الشاطبي لها إلى ما تشمل  الصحابة حيث اعتبر ما يصدر عنهم سنة ويجري عليه أحكامها الخاصة من حيث الحجية، وربما وافقه بعضهم على ذلك، بينما وسعها الشيعة إلى ما يصدر عن أئمتهم (عليهم السلام) فهي عندهم  كل ما يصدر عن المعصوم قولا وفعلا وتقريرا، وبالطبع ان الذي يهمنا هو المصطلح الثالث أعني مفهومها عند الاصوليين لان الحديث عن حجيتها انما يتصل بهذه الناحية دون غيرها، وطبيعة
(1) ارشاد الفحول، ص 33. (2) ارشاد الفحول، ص 33. (*)
------------------------------------------------------------------
المقارنة تستدعي استعراض آرائهم على اختلافها في هذه المسألة الهامة. والحديث حول حجية السنة يقع في مواقع ثلاث: 1 - حجية ما صدر عن النبي من قول، أو فعل، أو تقرير. 2 - حجية ما  صدر عن الصحابة من ذلك بالاضافة إلى معناها الاول، وهو الذي اختاره الشاطبي. 3 - حجية ما صدر عن الائمة من أهل البيت بالاضافة إلى معناها الاول أيضا، وهو الذي تبناه الشيعة على  اختلاف منهم في المراد من أئمة أهل البيت.
------------------------------------------------------------------
حجية السنة النبوية: والحديث حول حجية ما صدر عن النبي من قول أو فعل أو تقرير، أوضح من ان يطال فيها الحديث، إذ لولاها لما اتضحت معالم الاسلام، ولتعطل العمل بالقرآن، ولما أمكن  ان يستنبط منه حكم واحد بكل ما له من شرائط وموانع، لان أحكام القرآن لم يرد أكثرها لبيان جميع خصوصيات ما يتصل بالحكم، وانما هي واردة في بيان أصل التشريع، وربما لا نجد فيه حكما  واحدا قد استكمل جميع خصوصياته قيودا وشرائط وموانع، خذوا على ذلك مثلا هذه الآيات المباركة (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة (1). كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم (2))، ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (3))، ثم حاولوا التجرد عن تحديدات السنة لمفاهيمها وأجزائها وشرائطها وموانعها، فهل تستطيعون ان تخرجوا منها بمدلول محدد، وما يقال  عن هذه الآيات يقال عن غيرها، فالقول بالاكتفاء بالكتاب عن الرجوع إلى السنة تعبير آخر عن التنكر لاصل الاسلام وهدم لاهم معالمه وركائزه العملية. وقد قامت محاولات على عهد رسول الله  (صلى الله عليه وآله) وبعده للتشكيك بقيمة السنة، أمثال ما حدث به عبد الله بن عمرو، قال: (كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا:  انك تكتب كل شئ تسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك للرسول،
(1) البقرة / 43 (2) البقرة / 183. (3) آل عمران / 97. (*)
------------------------------------------------------------------
فقال اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق (1))، وربما كان من ردود الفعل لموقف قريش هذا من السنة قول النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يحذر من مغبة تركها: (لا ألفين أحدكم على  أريكته يأتيه الامر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه (2))، وقد حاولوا بعد ذلك ان تصبغ هذه الدعوة الهادمة بصبغة علمية على يد أتباعهم بعد  حين، فاستدلوا لها بأن القرآن نزل تبيانا لكل شئ، وأمثالها من الادلة التي ذكرها الشافعي في كتابه الام ورد عليها بأبلغ رد، وخلاصة ما جاء في رده: (إن القرآن لم يأت بكل شئ من ناحية، وفيه  الكثير مما يحتاج إلى بيان من ناحية أخرى، وسواء في ذلك العبادات والمعاملات، ولا يقوم بذلك إلا الرسول (صلى الله عليه وآله) بحكم رسالته التي عليه ان يقوم بها، وفي هذا يقول الله تعالى:  (وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم (3))، ثم يقول: (لو رددنا السنة كلها لصرنا إلى أمر عظيم لا يمكن قبوله، وهو أن من يأتي بأقل ما يسمى صلاة أو زكاة، فقد أدى ما عليه، ولو صلى  ركعتين في كل يوم أو أيام إذ له ان يقول ما لم يكن فيه كتاب الله، فليس على أحد فيه فرض، ولكن السنة بينت لنا عدد الصلوات في اليوم وكيفياتها، والزكاة وأنواعها ومقاديرها، والاموال التي  تجب فيها (4)).
(1) المدخل للفقه الاسلامي، ص 184، نقلا عن ابن عبد البر في جامعه، وأبي داود في سننه، والحاكم، وغيرهم. (2) مصطفى الزرقا، في كتابه، في الحديث النبوي، ص 16 ط / 2،  وبمضمونه وردت عدة أحاديث اقرأها في الموافقات، ج / 4 ص 15. (3 - 4) اقرأ هذا الملخص وتتمته في كتاب (تاريخ الفقه الاسلامي) للدكتور محمد يوسف موسى، ص 229.  (*)
------------------------------------------------------------------
والحقيقة، ان المناقشة في حجية السنة أو انكارها مناقشة في الضروريات الدينية وإنكار لها، وليس لنا مع منكر الضروري من الدين حساب، لانه خارج عن طبيعة رسالتنا بحكم خروجه عن  الاسلام، يقول الشوكاني: (والحاصل ان ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الاحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الاسلام (1)) ويقول الخضري من  المتأخرين: (وعلى الجملة فان حجية السنة من ضروريات الدين، أجمع عليها المسلمون ونطق بها القرآن (2)) وكذلك غيرهما من الاصوليين، والحقيقة اني لا أكاد أفهم معنى للاسلام بدون  السنة، ومتى كانت حجيتها بهذه الدرجة من الوضوح، فإن إقامة البرهان عليها لا معنى له، لان أقصى ما يأتي به البرهان هو العلم بالحجية، وهو حاصل فعلا بدون الرجوع إليه، ولكن الاعلام من  الاصوليين درجوا على ذكر أدلة على ذلك من الكتاب والسنة والاجماع والعقل، ولا بد لنا من مجاراتهم في هذا المجال ما دمنا نريد أن نؤرخ لمبانيهم وحججها من جهة، ونقيمها بعد ذلك من الجهة  الاخرى. 1 - حجيتها من القرآن: استدلوا بآيات من القرآن الكريم على اعتبار الحجية لها أمثال قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول (3))، (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا  (4))، (وما ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى (5)) ودلالة هذه الآيات في الجملة من أوضح الدلالات على حجيتها، إلا أنها فيما تبدو - أضيق من المدعى لانها لا تشمل غير القول إلا  بضرب من التجوز، والمراد اثباته عموم حجيتها لمطلق السنة قولا وفعلا وتقريرا.
(1) ارشاد الفحول، ص 33. (2) أصول الفقه، ص 334 (3) النساء / 58. (4) الحشر / 7 (5) النجم / 3 / 4. (*)
------------------------------------------------------------------
الاجماع: وقد حكاه غير واحد من الباحثين، يقول خلاف: (أجمع المسلمون على ان ما صدر عن رسول الله من قول أو فعل أو تقرير، وكان مقصودا به التشريع والاقتداء، ونقل الينا بسند صحيح  يفيد القطع أو الظن الراجح بصدقه يكون حجة على المسلمين (1)) وفي سلم الوصول: (الاجماع العملي من عهد الرسول إلى يومنا هذا على اعتبار السنة دليلا تستمد منه الاحكام، فان المسلمين  في جميع العصور استدلوا على الاحكام الشرعية بما صح من أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يختلفوا في وجوب العمل بما ورد في السنة (2)). ولا يعلم مخالف في ذلك من المسلمين  على الاطلاق، إلا ما يبدو من اولئك الذين رد عليهم الشافعي وهم على طوائف ثلاث، وجل أقوالهم تنصب على السنة المروية لا على أصل السنة، فراجعها في تاريخ الفقه الاسلامي لمحمد  يوسف موسى (3). ونقلة الاجماع على الحجية كثيرون إلا أن الاشكال في حجية أصل الاجماع لدى البعض وفي مصدر حجيته لدى البعض الآخر، فإن انكرنا حجية الاجماع أو قلنا: إن مصدره  من السنة نفسها لم يعد يصلح للدليلية هنا، أما مع انكار الحجية فواضح، واما مع انحصار مصدره بالسنة فللزوم الدور لوضوح ان حجية الاجماع تكون موقوفة على حجية السنة، فإذا كانت حجية  السنة موقوفة على حجية الاجماع، كانت المسألة دائرة. 3 - دلالة السنة على حجية نفسها: وقد استدل بها غير واحد من الاصوليين، يقول الاستاذ سلام: كما
(1) علم أصول الفقه، ص 39. (2) سلم الوصول، ص 261. (3) ص 227 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
دل على حجيتها ومنزلتها من الكتاب قوله (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدهما أبدا: كتاب الله وسنة نبيه، واقراره لمعاذ بن جبل لما قال: أقضي بكتاب الله  فإن لم أجد فبسنة رسوله (1)) يقول الاستاذ عمر عبد الله، وهو يعدد أدلته على حجة السنة: (ثانيا ان النبي (صلى الله عليه وآله) اعتبر السنة دليلا من الادلة الشرعية ومصدرا من مصادر  التشريع، كما دل على ذلك حديث معاذ بن جبل حينما بعثه الرسول إلى اليمن (2)). وهذا النوع من الاستدلال لا يخلو من غرابة لوضوح لزوم الدور فيه، لان حجية هذه الادلة موقوفة على كونها  من السنة، وكون السنة حجة، فلو توقف ثبوت حجية السنة عليها لزم الدور. 4 - دليل العقل: ويراد من دليل العقل هنا، خصوص ما دل على عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) وامتناع صدور  الذنب والغفلة والخطأ والسهو منه، ليمكن القطع بكون ما يصدر عنه من أقوال وأفعال وتقريرات هي من قبيل التشريع، إذ مع العصمة لا بد أن تكون جملة تصرفاته القولية والفعلية وما يتصل بها  من إقرار موافقة للشريعة وهو معنى حجيتها. وهذا الدليل من امتن ما يمكن أن يذكر من الادلة على حجية السنة وانكاره مساوق لانكار النبوة من وجهة عقلية، إذ مع إمكان صدور المعصية منه  أو الخطأ في التبليغ أو السهو أو الغفلة لا يمكن الوثوق أو القطع بما يدعي تأديته عن الله عزوجل لاحتمال العصيان أو السهو أو الغفلة أو الخطأ منه، ولا مدفع لهذا الاحتمال.
(1) المدخل للفقه الاسلامي ص 225. (2) سلم الوصول ص 261. (*)
------------------------------------------------------------------
ومع وجود هذا الاحتمال لا يمكن تمامية الاحتجاج له أو عليه حتى في مجال دعواه النبوة، لما سبق أن قلنا من أن كل حجة لا تنتهي إلى القطع فهي ليست بحجة، لان العلم مقوم للحجية. فإذا ثبتت  نبوته بالادلة العقلية، فقد ثبتت عصمته حتما للتلازم بينهما، وبخاصة إذا آمنا باستحالة اصدار المعجزة من قبل الله تعالى على يد من يمكن أن يدعي النبوة كذبا لقاعدة التحسين والتقبيح العقليين أو  لغيرها على اختلاف في المبنى. اشكال ودفع: وقد يقال بعدم التلازم عقلا بين إثبات العصمة له وتحصيل الحجة على اعتبار - ما يصدر منه من قول أو فعل أو تقرير - من قبيل التشريع لان الدليل  العقلي غاية ما يثبت امتناع كذبه في ادعاء النبوة لاستحالة صدور المعجزة على يد مدعي النبوة كذبا لا مطلق صدور الذنب منه فضلا عن الخطأ والسهو والنسيان. ودعوى عدم حصول العلم  بكون ما يصدر عنه تشريعا، لاحتمال الخطأ، أو النسيان، أو الكذب في التبليغ، أو السهو، يدفعها الرجوع إلى اصالة عدم الخطأ، أو السهو، أو الغفلة ونظائرها، وهي من الاصول العقلائية التي  يجري عليها الناس في واقعهم، ويكون حسابه حساب أئمة المذاهب، من حيث وجود هذه الاحتمالات فيهم، ومع ذلك فان الناس يثقون بأقوالهم ويدفعون الخطأ فيها أو السهو أو الغفلة، أو تعمد  الكذب بأمثال هذه الاصول. وهذا الاشكال من أعقد ما يمكن ان يذكر في هذا الباب، ولكن
------------------------------------------------------------------
دفعه انما يتم إذا تذكرنا ما سبق ان قلناه من أن كل حجة لا تنتهي إلى العلم فهي ليست بحجة، لان القطع هو الحجة الوحيدة التي لا تحتاج إلى جعل، وبها ينقطع التسلسل ويرتفع الدور. وهذه  الاصول العقلائية التي يفزع إليها الناس في سلوكهم مع بعضهم، لا تحدث علما بمدلولها ولا تكشف عنه أصلا لا كشفا واقعيا ولا تعبديا. أما نفي الكشف الواقعي عنها فواضح لعدم التلازم بين  اجراء اصالة عدم الخطأ في سلوك شخص ما وبين اصابة الواقع والعلم به، ولو كان بينهما تلازم عقلي لامكن اجراء هذا الاصل مثلا في حق أي شخص واعتبار ما يصدر عنه من السنة ولا  خصوصية للنبي في ذلك. وأما نفي الكشف التعبدي عنها فلانه مما يحتاج إلى جعل من قبل الشارع، ومجرد بناء العقلاء لا يعطيه هذه الصفة ما لم يتم امضاؤه من قبله. وشأنه في ذلك شأن جميع  ما يصدرون عنه من عادات وتقاليد واعراف، والسر في ذلك ان القطع بصحة الاحتجاج به على الشارع لا يتم الا إذا تم تبنيه من قبله وعلم ذلك منه، وكل حجة لا تنتهي إلى القطع بصحة  الاحتجاج بها، فهي ليست بحجة كما سبق بيان ذلك مفصلا. هذا إذا أعطينا هذه الاصول صفة الا مارية، اما إذا جردناها منها واعتبرناها وظائف عقلائية جعلوها عند الشك لينتظم سلوكهم في  الحياة، فأمرها أوضح لعدم حكايتها عن أي واقع ليعتبر ما تحكى عنه من قبيل التشريع. والاعتماد عليها كوظائف لا يتم إلا إذا تم تبني الشارع لها بالامضاء أيضا لنفس السبب السابق. وعلى هذا  فحجية هذه الاصول وأمثالها موقوفة على امضاء الشارع لها بقوله أو فعله أو تقريره، وكون هذا الامضاء حجة أي موقوفة على
------------------------------------------------------------------
حجية السنة، فلو كانت حجية السنة موقوفة عليها كما هو الفرض لزم الدور لبداهة ان حجية الاقرار من قبله (صلى الله عليه وآله) مثلا موقوفة على حجية اصالة عدم الخطأ أو اصالة الصحة أو  اصالة عدم الغفلة أو السهو، وحجية هذه الاصول موقوفة على حجية اقراره لها لو كان هناك اقرار، ومع اسقاط المتكرر ينتح ان حجية اقراره موقوفة على حجية اقراره. والحقيقة ان القول  بحجية السنة بشكلها الواسع، لا يلتئم مع انكار العصمة أو بعض شؤونها بحال. وليس المهم بعد ذلك ان ندخل في شؤون العصمة وأدلتها فان ذلك من بحوث علم الكلام. والكلمات بعد ذلك مختلفة  ومشتتة، والتأمل فيما عرضناه يكشف فيما نعتقد وجه الحق فيها. ومهما قيل أو يقال في العصمة على صعيد علم الكلام فانهم في الفقه مجمعون على اعتبار حجية السنة قولا وفعلا وتقريرا، وهو  حسبنا في مجال المقارنة. على ان حجيتها - كما سبق ان قلنا - ضرورة دينية لا يمكن لمسلم ان ينكرها وهو باق على الاسلام، والاعتراف بها ينطوي على الاعتراف بالعصمة حتما وعدم جواز  الخطأ عليه خلافا للقاضي أبي بكر (1).
(1) راجع أقوال المسألة في ارشاد الفحول، ص 34. (*)
------------------------------------------------------------------
الباب الاول القسم الثاني السنة (2) سنة الصحابة الادلة على حجيتها: الكتاب، السنة، أخذ العلماء بأقوالهم، الروايات الآمرة بمحبتهم، مناقشات ذلك كله.
------------------------------------------------------------------
سنة الصحابة: يقول الشاطبي: (سنة الصحابة (رض) سنة يعمل عليها ويرجع إليها، والدليل على ذلك أمور (1)). والامور التي ذكرها لا تنهض باثبات ما يريده نعرضها ملخصة: أحدها: (ثناء  الله عليهم من غير مثنوية، ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها كقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس (2))، وقوله: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم  شهيدا (3)، ففي الاولى إثبات الافضلية على سائر الامم، وذلك يقضي باستقامتهم على كل حال، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة، وفي الثانية إثبات العدالة مطلقا، وذلك يدل على ما  دلت عليه الاولى (4)). والجواب على الآية الاولى يقع من وجوه: أ - ان اثبات الافضلية لهم على سائر الامم، كما هو مفاد أفعل التفضيل في كلمة (خير أمة) لا تستلزم الاستقامة لكل فرد منهم  على كل حال، بل تكفي الاستقامة النسبية لافرادها، فيكون معناها ان هذه الامة مثلا في مفارقات أفرادها، أقل من الامم التي سبقتها فهي خيرهم من هذه الناحية، هذا إذا لم نقل أن الآية انما  فضلتهم من جهة تشريع الامر بالمعروف لهم والنهي عن المنكر، كما هو ظاهر تعقيبها بقوله تعالى: تأمرون
(1) ص 74، الموافقات ج / 4. (2) آل عمران / 110. (3) البقرة / 142. (4) ص 74، الموافقات ج / 4. (*)
------------------------------------------------------------------
بالمعروف وتنهون عن المنكر، فلا تكون واردة في مقام جعل الحجية لاقوالهم أصلا. ب - ان التفضيل الوارد فيها انما هو بلحاظ المجموع - ككل - لا بلحاظ تفضيل كل فرد منها على كل فرد من  غيرها لنلتزم لهم بالاستقامة على كل حال، ولذا لا نرى أية منافاة بين هذه الآية وبين ما يدل - لو وجد - على تفضيل حواري عيسى مثلا على بعض غير المتورعين من الصحابة. ج - انها واردة  في مقام التفضيل لا مقام جعل الحجية لكل ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال وتقريرات إذ هي أجنبية عن هذه الناحية، ومع عدم احراز كونها واردة لبيان هذه الجهة لا يمكن التمسك بها بحال. د -  ان هذا الدليل لو تم فهو أوسع من المدعى بكثير لكون الامة أوسع من الصحابة ولا يمكن الالتزام بهذا التعميم. وقد تنبه الشاطبي لهذا الاشكال ودفعه بقوله: (ولا يقال ان هذا عام في الامة فلا  يختص بالصحابة دون من بعدهم). (لانا نقول أولا ليس كذلك بناء على انهم المخاطبون على الخصوص، ولا يدخل معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل أخر، وثانيا على تسليم التعميم أنهم أول داخل  في شمول الخطاب، فانهم أول من تلقى ذلك من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهم المباشرون للوحي، وثالثا انهم أولى بالدخول من غيرهم إذ الاوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على  الكمال الا هم، فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح (1)). ولكن هذه المناقشات لا يتضح لها وجه، أما الاولى فلأن اختصاص الخطاب بهم مبني على ما سبقت  الاشارة إليه من اختصاص الحجية بخصوص المشافهين لامتناع خطاب المغدوم وقد تقدم ما فيه بالاضافة إلى ان هذا
(1) الموافقات، ج 4 ص 75. (*)
------------------------------------------------------------------
الاشكال لو تم فهو لا ينفع المستدل لاختصاصه بخصوص الحاضرين في مجلس الخطاب لامتناع خطاب غير الحاضر، واذن تختص الآية بخصوص من حضروا المجلس عند نزول الآية، وليس  كل الصحابة، على ان دليل المشاركة وحده كاف في التعميم. وأما المناقشتان الثانية والثالثة، فهما واضحتا البطلان لانكار الاولية والاولوية في القضايا التي يكون مساقها مساق القضية الحقيقية  لان نسبتها إلى الجميع تكون نسبة واحدة من حيث الدلالة اللفظية، على أن أولية الدخول أو أولويته لا يستلزم صرف الخطاب إليهم وقصره عليهم، لان مقتضاهما يوجب مشاركة الغير لهم في  الدخول مع تأخر في الزمان أو الرتبة، فما ذكره من الاختصاص بهم من هذه الجهات لا يخلو من مؤاخذة. ومع ثبوت التعميم لا يمكن اثبات أحكام السنة لجميع الامة كما هو واضح. وما يقال عن  هذه الآية يقال عن الآية الثانية فهي، بالاضافة إلى هذه المؤاخذات على الاستفادة منها والغض عن تسليم افادتها لعدالتهم جميعا، ان مجرد العدالة لا يوجب كون كل ما يصدر عنهم من السنة وإلا  لعممنا الحكم إلى كل عادل سواء كان صحابيا أم غير صحابي، لورود الحكم على العنوان كما هو الفرض، وغاية ما تقتضيه العدالة هو كونهم لا يتعمدون الخطيئة، أما مطابقة ما يصدر عنهم  للاحكام الواقعية ليكون سنة، فهذا أجنبي عن مفهوم العدالة تماما. (والثاني ما جاء في الحديث من الامر باتباعهم، وان سننهم في طلب الاتباع كسنة النبي (صلى الله عليه وآله) كقوله: فعليكم  بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)، وقوله: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله ؟ قال: ما أنا  عليه وأصحابي. وعنه أنه قال: أصحابي مثل الملح لا
------------------------------------------------------------------
يصلح الطعام إلا به، وعنه أيضا: (ان الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار لي منهم أربعة: أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، فجعلهم خير أصحابي وفي أصحابي  كلهم خير). ويروى في بعض الاخبار: (وأصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، الى غير ذلك مما في معناه (1)). والجواب عن هذه الاحاديث ونظائرها - بعد التغافل عن أسانيدها وحساب ما جاء  في بعضها من الطعون أمثال ما ذكره ابن حزم عن حديث أصحابي كالنجوم من أنه (حديث موضوع مكذوب باطل، وقال أحمد: حديث لا يصح، وقال البزار: لا يصح هذا الكلام عن النبي (صلى  الله عليه وآله (2)) - ان هذه الروايات لا يمكن الاخذ بظاهر بعضها، ولا دلالة للبعض الآخر على المدعى. وأول ما يرد على الرواية الاولى ونظائرها من الروايات الآمرة بالاقتداء بهم استحالة  صدور مضمونها من المعصوم لاستحالة ان يعبدنا الشارع بالمتناقضين، وتناقض سيرة الخلفاء في نفسها من أوضح الامور لمن قرأ تأريخهم واستقرأ ما صدر عنهم من أحداث. وحسبك ان سيرة  الشيخين مما عرضت على الامام علي (عليه السلام) يوم الشورى، فأبى التقيد بها ولم يقبل الخلافة لذلك، وقبلها عثمان وخرج عليها بإجماع المؤرخين، وفي أيام خلافة الامام، نقض كل ما أبرمه  الخليفة عثمان، وخرج على سيرته سواء في توزيع الاموال أم المناصب أم اسلوب الحكم، والشيخان نفسهما مختلفا السيرة، فأبو بكر ساوى في توزيع الاموال الخراجية وعمر فاوت فيها، وابو  بكر كان يرى طلاق الثلاث
(1) الموافقات، ج / 4 ص 76. (2) اقرأ ما كتبه الشيخ عبد الله دراز في تعليقه على هذا الحديث في نفس المصدر، وما جاء فيه من تضعيف وتصحيح (*)
------------------------------------------------------------------
واحدا، وعمر شرعه ثلاثا، وعمر منع عن المتعتين، ولم يمنع عنهما الخليفة الاول ونظائر ذلك اكثر من أن تحصى. وعلى هذا، فأية هذه السير هي السنة ؟ وهل يمكن ان تكون كلها سنة حاكية  عن الواقع، وهل يتقبل الواقع الواحد حكمين متناقضين ؟ ! وما أحسن ما ناقش الغزالي أمثال هذه الروايات بقوله: (فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله،  فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ، وكيف تدعى عصمتهم من غير حجة متواترة، وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف، وكيف يختلف المعصومان، كيف، وقد اتفقت الصحابة على  جواز مخالفة الصحابة، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه، فانتفاء الدليل على العصمة ووقوع الاختلاف بينهم  وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ثلاثة أدلة قاطعة (1)). على أن بعض هذه الروايات أضيق من المدعى لاختصاصها بالخلفاء الراشدين كالرواية الاولى، فتعميمها إلى مختلف الصحابة لا يتضح  له وجه، والروايات الباقية أجنبية عن إفادة إثبات جعل الحجية لما يصدر عنهم وغاية ما تدل عليه - لو صحت أسانيدها - مدحهم والثناء عليهم، والمدح والثناء لا يرتبطان بعالم جعل الحجية  للممدوحين. على ان هذه الروايات - على تقدير تمامية دلالتها - مخصصة بما دل على ارتداد اكثرهم، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (بينا أنا قائم إذا  زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم، فقلت: أين ؟ قال إلى النار والله، قلت: وما
(1) المستصفى، ج 1 ص 135. (*)
------------------------------------------------------------------
شأنهم ؟ قال: انهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، قلت: أين ؟ قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم ؟ قال: إنهم ارتدوا  بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم (1)) وفي روايته الاخرى عن سهل بن سعد قال: (قال النبي (صلى الله عليه وآله): إني فرطكم على الحوض من مر علي  شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش، فقال: هكذا سمعت من سهل ؟ فقلت: نعم، فقال: اشهد  على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها، فأقول: انهم مني، فيقال انك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي (2)). وفي روايته الثالثة عن انس عن النبي (صلى الله  عليه وآله) قال: (ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك (3)). إلى غير هذه الروايات مما عرضها البخاري في باب  الحوض وغيره، كما عرضها غيره من اصحاب الصحاح وسائر السنن (4)، ولا يهم عرضها، وطبيعة الجمع بين الادلة تقتضي تقييد تلكم الادلة بغير المرتدين فمع الشك في ارتداد أحد الصحابة  لا يمكن التمسك بتلكم العمومات لعدم احراز موضوعها وهو الصحابي غير المرتد، ويكون التمسك بها من قبيل التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، والتحقيق انه لا يسوغ لان القضية لا
(1) البخاري، ج 8 ص 121. (2) البخاري، ج 8 ص 120. (3) البخاري، ج 8 ص 120. (4) أجوبة مسائل جار الله للامام شرف الدين، ص 14. (*)
------------------------------------------------------------------
تثبت موضوعها بل تحتاج إلى اثباته من خارج نطاق الدليل. وقد يقال ان المراد بالمرتدين هم اصحاب الردة الذين قاتلهم الخليفة أبو بكر، وهم معلومون فلا تصل النوبة إلى الشك والتوقف عن  التمسك بتلكم العمومات، ولكن هذا الاحتمال بعيدا جدا لمنافاته بصراحة لرواية ابي هريرة السابقة التي صرحت بقولها: (فلا أراه يخلص إلا مثل همل النعم) وهي أبلغ كناية عن القلة، ومعنى ذلك  أنها حكمت على أكثرهم بالارتداد، ومعلوم أن هؤلاء المرتدين الذين حاربهم الخليفة لا يشكلون إلا أقل القليل. ولولا أننا في مقام التماس الادلة إلى أحكام الله عزوجل، وهو يقتضينا ان لا نترك ما  نحتمل مدخليته في مقام الحجية رفعا أو وضعا لكنا في غنى عن عرض هذه الاخبار والاحاديث والتحدث فيها. وما يقال عن هذه الاحاديث، يقال عن آية (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله  الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا (1)) وكأن هذه الاحاديث واردة مورد التفسير لهذه الآية، وموكدة لتحقق مضمونها بعد وفاته. الثالث (ان  جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الاقاويل، فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجة ودليلا، وبعضهم عد قول الخلفاء الاربعة دليلا، وبعضهم يعد قول الصحابة على الاطلاق حجة  ودليلا، ولكن قول من هذه الاقوال متعلق من السنة، وهذه الآراء وإن ترجح عند العلماء خلافها ففيها تقوية تضاف إلى امر كلي هو المعتمد في المسألة، وذلك ان السلف والخلف من التابعين ومن  بعدهم يهابون مخالفة الصحابة ويتكثرون بموافقتهم، وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الائمة المعتبرين، فنجدهم إذا عينوا مذاهبهم قد ذكر من
(1) آل عمران / 144. (*)
------------------------------------------------------------------
ذهب إليها من الصحابة، وما ذاك إلا لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم وقوة مآخذهم دون غيرهم وكبر شأنهم في الشريعة، وانهم مما يجب متابعتهم وتقليدهم فضلا عن النظر  معهم فيما نظروا فيه، وقد نقل عن الشافعي أن المجتهد قبل ان يجتهد لا يمنع من تقليد الصحابة ويمنع من غيره وهو المنقول عنه في الصحابي كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته،  ولكنه مع ذلك يعرف لهم قدرهم (1)). والجواب على هذا النوع من الاستدلال أنه أجنبي عن اعتبار ما يصدر عنهم من السنة، وغاية ما يدل عليه - لو صح - ان جمهور العلماء كانوا يرونهم في  مجالات الرواية أو الرأي أوثق أو أوصل من غيرهم، والصدق والوثاقة واصالة الرأي شئ وكون ما ينتهون إليه من السنة شئ آخر، وقول الشافعي الذي نقله نفسه يبعدهم عن هذا المجال إذ كيف  يمكن له ان يحج من كان قوله سنة، وهل يستطيع ان يقول مثل هذا الكلام عن النبي (صلى الله عليه وآله) ؟ على ان هذا النوع من الترجيح لاقوالهم لا يعتمد أصلا من أصول التشريع، والعلماء  لم يتفقوا عليه ليشكل اتفاقهم اجماعا يركن إليه. الرابع: (ما جاء في الاحاديث من ايجاب محبتهم، وذم من أبغضهم، وان من أحبهم فقد أحب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أبغضهم فقد أبغض  النبي عليه الصلاة والسلام، وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه فقط إذ لا مزية في ذلك، وانما هو لشدة متابعتهم له وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمايته ونصرته، ومن كان بهذه  المثابة حقيق ان يتخذ قدوة وتجعل سيرته قبلة (2)).
(1) الموافقات، ج 4 ص 77 وما بعدها. (2) الموافقات ج 4 ص 79 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
والجواب عن هذا الاستدلال أوضح من سابقه لان ما ذكره من التعليل لا يكفي لاعطائهم صفة المشرعين أو الحاق منزلتهم بمنزلة النبوة، وغاية ما يصورهم أنهم أناس لهم مقامهم في خدمة  الاسلام والالتزام بتعاليمه، ولكنه لا ينفي عنهم الخطأ أو السهو أو الغفلة، على ان لارباب الجرح والتعديل حسابا مع الكثير من روايات هذا الباب لا يهم عرضها الآن. هذا كله من حيث اعتبار ما  يصدر عنهم من السنة، أما جعل الحجية لاقوالهم من حيث كونهم رواة ومجتهدين فلذلك حساب آخر يأتي موضعه في مبحث (مذهب الصحابي).
------------------------------------------------------------------
الباب الاول القسم الثاني السنة (3) سنة أهل البيت تمهيد ما يصلح للدليلية، أدلتهم من الكتاب: آية التطهير ودلالتها على العصمة، شبهات حول الآية ودفعها، آية أولي الامر، استدلال الرازي بها  على العصمة، شبهات حول تعيين أولي الامر ودفعها، ادلتهم من السنة، حديث الثقلين، سند الحديث، دلالته على العصمة، مناقشات أبي زهرة للحديث، حديث حول المناقشات، من هم أهل البيت،  الادلة العقلية ومدى دلالتها على ذلك.
------------------------------------------------------------------
تمهيد: وقد استدل الشيعة على حجية سنة أهل البيت بأدلة كثيرة، يصعب استعراضها جميعا واستيفاء الحديث فيها، وحسبنا ان نعرض منها الآن نماذج لا تحتاج دلالتها إلى مقدمات مطوية ليسهل  استيعاب الحديث فيها. وأهم ما ذكروه من أدلتهم - على اختلافها - ثلاثة: الكتاب، السنة النبوية، العقل. والذي يهمنا من هذه الادلة التي عرضوها لاثبات مرادهم هو كل ما دل أو رجع إلى لزوم  التمسك بهم، والرجوع إليهم، واعتبار قولهم حجة يستند إليها في مقام اثبات الواقع ومجرد مدحهم والثناء عليهم من قبل الله عزوجل أو النبي (صلى الله عليه وآله) لا يكفي في اعتبار الحجية لما  يصدر عنهم وان قربت دلالته في كتب الشيعة الكلامية بعد ذكر مقدمات مطوية قد لا يخلو بعضها من مناقشة، وقد سبق ان تحدثنا فيما يشبه الموضوع مع الشاطبي عندما استدل على اعتبار سنة  الصحابة بأخبار المدح والثناء عليهم، وما قلناه هناك نقوله هنا، وان كان نوع المديح يختلف لسانه، وربما كان في لسان بعضه هنا ما يشعر بالحجية، ولا يهم اطالة الحديث فيه. ثم إن الاحاديث التي  وردت عن النبي (صلى الله عليه وآله) واستدلوا بها على الحجية، تختلف في أسانيدها، فبعضها يرجع إلى أهل البيت أنفسهم، وينفرد أو يكاد بروايته شيعة أهل البيت، وبعضها الآخر مما يتفق  على روايته الشيعة وأهل السنة على السواء. والذي يحسن ان نذكره في أحاديثنا هذه منها هو خصوص ما اتفق
------------------------------------------------------------------
عليه الطرفان، ووثقوا رواته، اختصارا لمسافة الحديث وابعادا لشبهة من لا يطمئن إلى غير أحاديث أرباب مذهبه لاحتمال تحكم بعض العوامل الشعورية أو اللاشعورية في صياغتها، وتخلصا  من شبهة الدور التي أثارها فضيلة الاستاذ الشيخ سليم البشري في مراجعاته القيمة مع الامام شرف الدين، فقد جاء في إحدى مراجعاته له: 1 - هاتها بينة من كلام الله ورسوله تشهد لكم بوجوب  اتباع الائمة من أهل البيت دون غيرهم، ودعنا في هذا المقام من كلام غير الله ورسوله. 2 - فان كلام أئمتكم لا يصلح لئن يكون حجة على خصومهم والاحتجاج به في هذه المسألة دوري كما -  تعلمون (1) -). وربما قرب الدور بدعوى ان حجية أقوال أهل البيت موقوفة على اثبات كونها من السنة، واثبات كونها من السنة موقوف على حجية أقوالهم، ومع إسقاط المتكرر ينتج ان اثبات  كونها من السنة موقوف على إثبات كونها من السنة، ونظير هذا الدور ما سبق أن أوردناه على من استدل بالسنة النبوية على حجية السنة. ولكن الجواب عن هذا الدور هنا واضح إذا تصورنا أن  حجية أقوال اهل البيت هذه لا تتوقف على كونها من السنة، وانما يكفي في إثبات الحجية لها كونها مروية من طريقهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) وصدورها عنهم باعتبارهم من الرواة  الموثوقين، واذن يختلف الموقوف عن الموقوف عليه فيرتفع الدور، ويكون إثبات كون ما يصدر عنهم من السنة موقوفا على روايتهم الخاصة لا على أقوالهم كمشرعين. نعم لو أريد من أقوال  الائمة غير الرواية عن النبي، بل باعتبارها نفسها سنة، وأريد إثبات
(1) المراجعات لشرف الدين، ص 19 المراجعة 13، ويحسن لكل مسلم ان يطلع على هذه المراجعات فان فيها من أدب المناظرة وعمق البحث ما يقل نظيره في هذا المجال. (*)
------------------------------------------------------------------
كونها سنة بنفس الاقوال لتحكمت شبهة الدور ولا مدفع لها. وعلى أي حال فان الذي يحسن بنا - متى أردنا لانفسنا الموضوعية في بحوثنا هذه - ان نتجنب هذا النوع من الاحاديث ونقتصر على  خصوص ما اتفق الطرفان على روايته، ووجد في كتبهم المعتمدة لهم. أدلتهم من الكتاب: استدلوا من الكتاب بآيات عدة نكتفي منها بما اعتبروه دالا على عصمتهم لانه هو الذي يتصل بطبيعة  بحوثنا هذه، وأهمها آيتان: الاولى آية التطهير وهي: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا). وتقريب الاستدلال بها على عصمة اهل البيت ما ورد فيها من حصر ارادة  إذهاب الرجس - أي الذنوب - عنهم بكلمة (انما)، وهي من أقوى أدوات الحصر واستحالة تخلف المراد عن الارادة بالنسبة له تعالى من البديهيات لمن آمن بالله عزوجل، وقرأ في كتابه العزيز: ( انما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون)، وتخريجها على أساس فلسفي من البديهيات أيضا لمن يدرك أن إرادته هي العلة التامة أو آخر أجزائها بالنسبة لجميع مخلوقاته، واستحالة تخلف  المعلول عن العلة من القضايا الاولية، ولا أقل من كونها من القضايا المسلمة لدى الطرفين كما سبقت الاشارة إلى ذلك، وليس معنى العصمة إلا استحالة صدور الذنب عن صاحبها عادة. شبهات  حول الآية: 1 - وقد يقال ان الارادة - كما يقسمها علماء الاصول - إرادتان:
------------------------------------------------------------------
تكوينية وتشريعية، وهي وإن كانت من حيث استحالة تخلف المراد عنها واحدة - إلا انها تختلف بالنسبة إلى المتعلق، فإن كان متعلقها خصوص الامور الواقعية من أفعال المكلفين وغيرها سميت  تكوينية، وان كان متعلقها الامور المجعولة على أفعال المكلفين من قبل المشرع سميت إرادة تشريعية. والارادة هنا لا ترتبط بالارادة التكوينية لان متعلقها الاحكام الواردة على أفعالهم فكأن الآية  تقول: (إنما شرعنا لكم الاحكام يا أهل البيت لنذهب بها الرجس عنكم ولنطهركم بها تطهيرا). ولكن تفسير الارادة هنا بالارادة التشريعية يتنافى مع نص الآية بالحصر المستفاد من كلمة (إنما) إذ  لا خصوصية لاهل البيت في تشريع الاحكام لهم، وليست لهم أحكام مستقلة عن أحكام بقية المكلفين، والغاية من تشريعه للاحكام إذهاب الرجس عن الجميع، لا عن خصوص أهل البيت على أن  حملها على الارادة التشريعية يتنافى مع اهتمام النبي (صلى الله عليه وآله) بأهل البيت وتطبيق الآية عليهم بالخصوص، كما يأتي ذلك فيما بعد. 2 - وقد يقال أيضا ان حملها على الارادة التكوينية  وإن دل على معنى العصمة فيهم لاستحالة تخلف المراد عن إرادته تعالى، إلا ان ذلك يجرنا إلى الالتزام بالجبر وسلبهم الارادة فيما يصدر عنهم من أفعال ما دامت الارادة التكوينية هي المتحكمة  في جميع تصرفاتهم، ونتيجة ذلك حتما حرمانهم من الثواب لانه وليد إرادة العبد، كما تقتضيه نظرية التحسين والتقبيح العقليين، وهذا ما لا يمكن ان يلتزم به مدعو الامامة لاهل البيت. والجواب  على هذه الشبهة يجرنا إلى الحديث حول نظرية الجبر والاختيار عند الشيعة.
------------------------------------------------------------------
وملخص ما ذهبوا إليه أن جميع أفعال العبيد وإن كانت مخلوقة لله عزوجل، ومرادة له بالارادة التكوينية لامتناع جعل الشريك له في الخلق، إلا أن خلقه لافعالهم إنما هو بتوسط إرادتهم الخاصة  غالبا وفي طولها، وبذلك صححوا نسبة الافعال للعبيد ونسبتها لله فهي مخلوقة لله عزوجل حقيقة، وهي صادرة عن إرادة العبيد حقيقة أيضا، وبذلك صححوا الثواب والعقاب، وذهبوا إلى الحل  الوسط الذي أخذوه من أقوال أئمتهم (عليهم السلام) لا جبر ولا تفويض، وانما هو أمر بين أمرين وبهذا سلموا من مخالفة الوجدان في نفي الارادة وسلبها عنهم، كما هو مفاد مذهب القائلين  بالجبر، كما سلموا من شبهة المفوضة في عزل الله عن خلقه وتفويض الخلق لعبيده، كما هو مذهب المفوضة. وبناء على هذه النظرية يكون مفاد الآية ان الله عزوجل لما علم أن إرادتهم تجري  دائما على وفق ما شرعه لهم من أحكام، بحكم ما زودوا به من إمكانات ذاتية، ومواهب مكتسبة نتيجة تربيتهم على وفق مبادئ الاسلام تربية حولتهم في سلوكهم إلى اسلام متجسد، ثم بحكم ما كانت  لديهم من القدرات على أعمال ارادتهم وفق أحكامه التي استوعبوها علما وخبرة، فقد صح له الاخبار عن ذاته المقدسة بأنه لا يريد لهم بإرادته التكوينية إلا إذهاب الرجس عنهم، لانه لا يفيض  الوجود إلا على هذا النوع من أفعالهم ما داموا هم لا يريدون لانفسهم إلا إذهاب الرجس والتطهير عنهم. وبهذا يتضح معنى الاصطفاء والاختيار من قبله لبعض عبيده في ان يحملوا ثقل النهوض  برسالته المقدسة كما هو الشأن في الانبياء وأوصيائهم عليهم السلام. على أن الشبهة لو تمت فهي جارية في الانبياء جميعا، وثبوت العصمة
------------------------------------------------------------------
لهم - ولو نسبيا - موضع اتفاق الجميع، فما يجاب به هناك يجاب به هنا من دون فرق، والشبهة لا يمكن ان تحل إلا على مذهب اهل البيت في نظرية الامر بين الامرين على جميع التقادير. 3 -  وشبهة ثالثة، أثاروها حول المراد من أهل البيت، فالذي عليه عكرمة ومقاتل - وهما من أقدم من تبنى ابعادها عن أهل البيت في عرف الشيعة - نزولها في نساء النبي (صلى الله عليه وآله)  خاصة. وكان من مظاهر إصرار عكرمة وتبينه لهذا الرأي: انه كان ينادي به في السوق (1)، وكان يقول: (من شاء باهلته انها نزلت في أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) (2)) والذي يبدو ان  الرأي السائد على عهده كان على خلاف رأيه كما يشعر فحوى رده على غيره (ليس بالذي تذهبون إليه إنما هو نساء النبي (صلى الله عليه وآله) (3)) وقد نسب هذا الرأي إلى ابن عباس، ويبدو  أنه المصدر الوحيد في النسبة إليه وان كان في أسباب النزول للواحدي رواية عن ابن عباس يرويها سعيد بن جبير دون توسط عكرمة هذا (4)، إلا ان رواية ابن مردويه لها عن سعيد بن جبير  عنه (5) - أي عن عكرمة - عن ابن عباس يقرب ان يكون في رواية الواحدي تدليس وهما رواية واحدة، وقد استدل هو أو استدلوا له بوحدة السياق، لان الآية إنما وردت ضمن آيات نزلت كلها  في نساء النبي، ووحدة السياق كافية لتعيين المراد من أهل البيت. والحديث حول هذه الشبهة يدعونا إلى تقييم آراء كل من عكرمة ومقاتل، ومعرفة البواعث النفسية التي بعثت بعكرمة على كل  هذا الاصرار
(1) الواحدي في أسباب النزول، ص 268. (2) الدر المنثور، ج 5 ص 198. (3) الدر المنثور، ج 5 ص 198. (4) أسباب النزول، ص 267. (5) الدر المنثور،  ج 5 ص 198. (*)
------------------------------------------------------------------
والموقف غير المحايد، حتى اضطره الموقف إلى الدعوة إلى المباهلة والنداء في الاسواق، وهو موقف غير طبيعي منه، ولا الف في غير هذا الموقف المعين. والظاهر ان لذلك كله ارتباطا بعقيدته  التي تبناها يوم اعتنق مذهب الخوارج (1) وبخاصة رأي نجدة الحروري (2). وللخوارج موقف مع الامام علي معروف، فلو التزم بنزول الآية في أهل البيت بما فيهم علي، لكان عليه القول  بعصمته ولاهار على نفسه أسس عقيدته التي سوغت لهم الخروج عليه ومقاتلته، وبررت لهم - أعني الخوارج - قتله. وقد استغل علائقه بابن عباس وسيلة للكذب عليه، وكان ممن يستسيغون  الكذب في سبيل العقيدة - فيما يبدو - ومن أولى من ابن عباس في الكذب عليه فيما يتصل بهذا الموضوع الحساس - وقد اشتهرت قصة كذبه على ابن عباس بين خاصته حتى كان يضرب المثل  فيه، فعن ابن المسيب (انه قال لمولى له اسمه برد: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس، وعن ابن عمر أنه قال ذلك أيضا لمولاه نافع (3)). وقد حاول علي بن عبد الله بن عباس صده  وردعه عن ذلك، ومن وسائله التي اتخذها معه أنه كان يوثقه على الكنيف ليرتدع عن الكذب على أبيه، يقول عبد الله بن ابي الحرث: (دخلت على ابن عبد الله بن عباس وعكرمة موثق على باب  كنيف، فقلت: أتفعلون هذا بمولاكم ؟ فقال: ان هذا يكذب على أبي (4))، وحقده فيما يبدو لم يختص بأهل
(1) وفيات الاعيان، ج 1 ص 320، ترجمة عكرمة. (2 - 3) راجع الكلمة الغراء لشرف الدين، ص 215 وما بعدها، نقلا عن ميزان الاعتدال وغيره، ففيه بالاضافة إلى ذلك آراء  مختلف النقاد الرجاليين فيه. (4) وفيات الاعيان، ج 1 ص 320. (*)
------------------------------------------------------------------
البيت وانما تجاوزهم إلى جميع المسلمين عدا الخوارج، فعن خالد بن عمران قال: (كنا في المغرب وعندنا عكرمة في وقت الموسم، فقال: وددت أن بيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يمينا  وشمالا، وعن يعقوب الحضرمي عن جده، قال: وقف عكرمة على باب المسجد فقال: ما فيه إلا كافر (1)). وأما مقاتل فحسابه من حيث العداء لامير المؤمنين حساب عكرمة، ونسبة الكذب إليه  لا تقل عن نسبتها إلى زميله عكرمة، حتى عده النسائي في جملة الكذابين المعروفين بوضع الحديث (2). وقال الجوزجاني، كما في ترجمة مقاتل من ميزان الذهبي: كان مقاتل كذابا جسورا  (3)) (وكان يقول لابي جعفر المنصور: أنظر ما تحب أن أحدثه فيك حتى أحدثه، وقال للمهدي: إن شئت وضعت لك أحاديث في العباس، قال: لا حاجة لي فيها (4))، وإذا كان كل من مقاتل  وعكرمة بهذا المستوى لدى أرباب الجرح والتعديل، فأمر روايتهما ورأيهما لا يحتاج إلى إطالة حديث وبخاصة في مثل هذه المسألة التي تمس مواقع العقيدة أو العاطفة من نفسيهما. ولكن هذه  البواعث فيما يبدو، خفيت على بعض الاعلام، فأقاموا لرأيهما وروايتهما وزنا، ولذلك نرى ان نعود إلى التحدث عن ذلك بعيدا عن شخصيتهما لنرى قيمة هذه الرواية أو هذا الرأي. 1 - والذي  لاحظته من قسم من الروايات: أن لفظة الاهل لم تكن تطلق في ألسنة العرب على الازواج إلا بضرب من التجوز، ففي
(1) الكلمة الغراء، ص 215 طبعة النجف، وهي ملحقة بكتابه الفصول المهمة. (2) دلائل الصدق، ج 2 ص 95. (3) الكلمة الغراء، ص 217. (4) اقرأ مصادرها في الغدير،  ج 5 ص 266. (*)
------------------------------------------------------------------
صحيح مسلم: ان زيد بن أرقم سئل عن المراد بأهل البيت هل هم النساء ؟ (قال: لا وايم الله، ان المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها، فترجع إلى أبيها وقومها (1)). وفي رواية  أم سلمة، قالت: نزلت هذه الآية في بيتي (: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، وفي البيت سبعة: جبريل وميكائيل وعلي وفاطمة والحسن والحسين (رضي الله عنهم)،  وانا على باب البيت، قلت: ألست من أهل البيت ؟ قال: إنك إلى خير إنك من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) (2) فدفعها عن صدق هذا العنوان عليها، وإثبات الزوجية لها: يدل على أن مفهوم  الاهل لا يشمل الزوجة، كما ان تعليل زيد بن أرقم يدل على المفروغية عن ذلك ولا يبعد دعوى التبادر من كلمة أهل خصوص من كانت له بالشخص وشائج قربى ثابتة غير قابلة للزوال،  والزوجة وان كانت قريبة من الزوج إلا ان وشائجها القربية قابلة للزوال بالطلاق وشبهه، كما ذكر زيد. 2 - ومع الغض عن هذه الناحية، فدعوى نزولها في نساء النبي شرف لم تدعه لنفسها  واحدة من النساء، بل صرحت غير واحدة منهن بنزولها في النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين. (أخرج الترمذي، وصححه، وابن جرير وابن المنذر والحاكم، وصححه  وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة (رضي الله عنها) قالت: في بيتي نزلت: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت)، وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين، فجللهم  رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكساء كان عليه، ثم قال: هؤلاء أهل بيتي، فاذهب عنهم
(1) صحيح مسلم، باب فضائل علي. (2) الدر المنثور ج 5 ص 198. (*)
------------------------------------------------------------------
الرجس وطهرهم تطهيرا (1)). وفي رواية أم سلمة الاخرى، وهي صحيحة على شرط البخاري (في بيتي نزلت: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت)، فأرسل رسول الله إلى علي  وفاطمة والحسن والحسين، فقال: هؤلاء أهل بيتي (2)). وحديث الكساء، الذي كاد أن يتواتر مضمونه لتعدد رواته لدى الشيعة والسنة في جميع الطبقات، حافل بتطبيقها عليهم بالخصوص، تقول  عائشة: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي، فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال:  (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (3)). والذي يبدو ان الغرض من حصرهم تحت الكساء، وتطبيق الآية عليهم، ومنع حتى أم سلمة من الدخول معهم، كما ورد في  روايات كثيرة، هو التأكيد على اختصاصهم بالآية، وقطع الطريق على كل ادعاء بشمولها لغيرهم. وهناك روايات آحاد توسع بعضها في الجالسين تحت الكساء إلى ما يشمل جميع أقاربه وبناته  وأزواجه، وبعضهم تخصهم بالعباس وولده حيث اشتمل النبي (صلى الله عليه وآله) (على العباس وبنيه بملاءة، ثم قال: يا رب هذا عمي وصنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري  إياهم فامنت أسكفة الباب وحوائط البيت، فقالت امين وهي ثلاثا (4)).
(1) الدر المنثور، ج 5 ص 198. (2) الحاكم في المستدرك، ج 3 ص 146. (3) صحيح مسلم، ج 7 ص 130. (4) دلائل الصدق، ج 2 ص 72 نقلا عن الصواعق  المحرقة. (*)
------------------------------------------------------------------
وهي لعدم طبعيتها وضعف أسانيدها، ومجافاتها لواقع الكثير منهم لا تستحق أن يطال فيها الحديث، ومن رغب في الاطلاع عليها فليقرأها مع محاكماتها في كتاب دلائل الصدق (1)، وحسبها وهنا  أن لا يستدل بها أو يستند إليها أحد من اولئك أو أحد اتباعهم مع ما فيها من الشرف العظيم لامثالهم. وكأن النبي (صلى الله عليه وآله) وقد خشي ان يستغل بعضهم قربه منه فيزعم شمول الآية له،  فحاول قطع السبيل عليهم بالتأكيد على تطبيقها على هؤلاء بالخصوص، وتكرار هذا التطبيق حتى تألفه الاسماع، وتطمئن إليه القلوب، يقول ابو الحمراء: (حفظت من رسول الله (صلى الله عليه  وآله) ثمانية أشهر بالمدينة ليس من مرة يخرج إلى صلاة الغداة إلا أتى الى باب علي فوضع يده على جنبتي الباب، ثم قال: الصلاة الصلاة، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيرا  (2)). وفي رواية ابن عباس، قال: شهدنا رسول الله تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) عند وقت كل صلاة، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اهل البيت،  (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا (3)). ومع ذلك كله، فهل تبقى لدعوى عكرمة وروايته مجال لمعارضة هذه الصحاح وعشرات من أمثالها (4) حفلت بها كتب  الحديث والكثير من صحاحها ؟ 3 - أما ما يتصل بدعوى وحدة السياق، فهي لو تمت لما كانت أكثر من كونها اجتهادا في مقابلة النص، والنصوص السابقة كافية لرفع
(1) ج 2 ص 72 وما بعدها. (2، 3) الدر المنثور، ج 5 ص 199. (4) يحسن لمن يرغب استيعاب رواية الباب ان يرجع إلى دلائل الصدق، ج 2 آية التطهير والكلمة الغراء. (*)
------------------------------------------------------------------
اليد عن كل اجتهاد جاء على خلافها، على أنها في نفسها غير تامة، لان من شرائط التمسك بوحدة السياق ان يعلم وحدة الكلام ليكون بعضه قرينة على المراد من البعض الآخر، ومع احتمال  التعدد في الكلام لا مجال للتمسك بها بحال. ووقوع هذه الآية أو هذا القسم منها ضمن ما نزل في زوجات النبي، لا يدل على وحدة الكلام لما نعرف من أن نظم القرآن لم يجر على أساس من  التسلسل الزمني، فرب آية مكية وضعت بين آيات مدنية وبالعكس فضلا عن اثبات ان الآيات المتسلسلة كان نزولها دفعة واحدة. ومع تولد هذا الاحتمال لا يبقى مجال للتمسك بوحدة السياق، وأي  سياق يصلح للقرينية مع احتمال التعدد في أطرافه وتباعد ما بينها في النزول. على ان تذكير الضمير في آية التطهير وتأنيث بقية الضمائر في الآيات السابقة عليها واللاحقة لها يقرب ما قلناه، إذ  ان وحدة السياق تقتضي اتحادا في نوع الضمائر، ومقتضى التسلسل الطبيعي ان تكون الآية هكذا، انما يريد الله ليذهب عنكن الرجس أهل البيت لا عنكم. والظاهر من روايات أم سلمة، وهي التي  نزلت في بيتها هذه الآية أنها نزلت منفردة كما توحي به مختلف الاجواء التي رسمتها رواياتها لما أحاط بها من جمع أهل البيت وادخالهم في الكساء ومنعها من مشاركتهم في الدخول إلى ما  هنالك. والحق الذي يتراءى لنا من مجموع ما رويناه من نزول الآية وحرص النبي (صلى الله عليه وآله) على عدم مشاركة الغير لهم فيها واتخاذه الاحتياطات بادخالهم تحت الكساء، ليقطع بها  الطريق على كل مدع ومتقول، ثم تأكيده هذا المعنى خلال تسعة أشهر في كل يوم خمس مرات يقف فيها على باب علي وفاطمة، كل ذلك مما يوجب القطع بأن للآية شأنا يتجاوز المناحي
------------------------------------------------------------------
العاطفية، وهو مما يتنزه عنه مقام النبوة لامر يتصل بصميم التشريع من اثبات العصمة لهم، وما يلازم ذلك من لزوم الرجوع إليهم والتأثر والتأسي بهم في أخذ الاحكام، على ان الآية لا يتضح لها  معنى غير ذلك كما أوضحناه في بداية الحديث. الآية الثانية قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ان كنتم  تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (1). وقد قرب الفخر الرازي دلالتها على عصمة أولي الامر في تفسيره لهذه الآية بقوله: (ان الله تعالى أمر بطاعة أولي الامر على سبيل  الجزم في هذه الآية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير اقدامه على الخطأ، يكون قد أمر الله  بمتابعته، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الامر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وانه محال، فثبت ان الله تعالى أمر بطاعة أولي  الامر على سبيل الجزم، وثبت ان كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب ان يكون معصوما عن الخطأ، فثبت قطعا أن أولي الامر المذكور في هذه الآية لا بد وان يكون معصوما (2))  ولكن الفخر الرازي خالف الشيعة في دعواهم في ارادة خصوص أئمتهم من هذه الآية وقرب ان يكون المراد منها أهل الاجماع بالخصوص، واستدل على ذلك بقوله: (ثم نقول: ذلك المعصوم).
(1) النساء / 59. (2) التفسير الكبير، ج 10 ص 144. ويؤيد هذا التقريب مساواتهم لله والرسول في وجوب طاعتهم مما يدل على ان جعل الاطاعة لهم ليس من نوع جعلها للآمرين  بالمعروف والناهين عن المنكر بل هي من نوع اطاعة الله والرسول التي تجب على كل حال. (*)
------------------------------------------------------------------
أما مجموع الامة أو بعض الامة لا جائز ان يكون بعض الامة لانا بينا ان الله تعالى أوجب طاعة أولي الامر في هذه الآية قطعا، وايجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم، قادرين على  الوصول إليهم والاستفادة منهم، ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا عاجزون عن معرفة الامام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليهم، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم، وإذا كان الامر  كذلك، علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الامة ولا طائفة من طوائفهم، ولما بطل هذا، وجب ان يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله: وأولي الامر  أهل الحل والعقد من الامة، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الامة حجة (1)). ثم استعرض بعد ذلك الاقوال الاخر في الآية وناقشها جميعا مناقشات ذات أصالة وجهد حتى انتهى إلى رأي من  أسماهم بالروافض، فقال: (وأما حمل الآية على الائمة المعصومين على ما تقوله الروافض ففي غاية البعد لوجوه: أحدها ما ذكرناه أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم، فلو أوجب  علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق، ولو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الايجاب مشروطا، وظاهر قوله: أطيعوا الله وأطيعو الرسول وأولي  الامر منكم يقتضي الاطلاق، وأيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال وذلك لانه تعالى أمر بطاعة الله وطاعة الرسول، وطاعة أولي الامر في لفظة واحدة وهو قوله: وأطيعوا الرسول وأولي الامر  منكم، واللفظة الواحدة لا يجوز ان تكون مطلقة ومشروطة معا، فلما كانت
(1) التفسير الكبير، ج 10 ص 144. (*)
------------------------------------------------------------------
هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب ان تكون مطلقة في حق أولي الامر. الثاني أنه تعالى أمر بطاعة أولي الامر وأولو الامر جمع، وعندهم لا يكون في الزمان إلا إمام واحد، وحمل الجمع  على الفرد خلاف الظاهر. وثالثها أنه قال: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول، ولو كان المراد بأولي الامر الامام المعصوم لوجب ان يقال: فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الامام، فثبت  ان الحق تفسير الآية بما ذكرناه (1)). والذي يرد - على الفخر الرازي في استفادته وجوب إطاعة أهل الاجماع وانهم هم المراد من كلمة أولي الامر لا الائمة - بناؤه هذه الاستفادة على اعتبار  معرفة متعلق الحكم من شروط نفس التكليف، وبانتفاء هذا الشرط لتعذر معرفة الائمة والوصول إليهم ينتفي المشروط. وهذا النوع من الاستفادة غريب في بابه، إذ لازمه ان تتحول جميع القضايا  المطلقة إلى قضايا، مشروطة لانه ما من قضية الا ويتوقف امتثالها على معرفة متعلقها، فلو اعتبرت معرفة المتعلق شرطا فيها لزمت ان تكون مشروطة والظاهر ان الرازي خلط بين ما كان  من سنخ مقدمة الوجوب وما كان من سنخ مقدمة الواجب، فلزوم معرفة المتعلق إنما هو من النوع الثاني أي من نوع ما يتوقف عليه امتثال التكليف لا اصله، ولذلك التزم بعضهم بوجوبه المقدمي،  بينما لم يلتزم أحد فيما نعلم بوجوب مقدمات أصل التكليف وشروطه، إذ الوجوب قبل حصولها غير موجود ليتولد منه وجوب لمقدماته وبعد وجودها لا معنى لتولد الوجوب منه بالنسبة إليها
(1) التفسير الكبير، ج 10 ص 146. (*)
------------------------------------------------------------------
للزوم تحصيل الحاصل. وعلى هذا فوجوب معرفة المتعلق للتكاليف، لا يمكن أخذه شرطا فيها بما هو متعلق لها لتأخره رتبة عنها، ويستحيل أخذ المتأخر في المتقدم للزوم الخلف أو الدور. على  ان هذا الاشكال وارد عليه نقضا، لان اجماع أهل الحل والعقد هو نفسه مما يحتاج إلى معرفة، وربما كانت معرفته أشق من معرفة فرد أو أفراد لاحتياجها إلى استيعاب جميع المجتهدين وليس  من، السهل استقراؤهم جميعا والاطلاع على آرائهم، وعلى مبناه يلزم تقييد وجوب الاطاعة بمعرفتهم، ويعسر تحصيل هذا الشرط والاشكال نفس الاشكال. والغريب في دعواه بعد ذلك ادعاء  العجز عن الوصول إلى الائمة ومعرفة آرائهم ! ! مع توفر أدلة معرفتهم وامكان الوصول إلى ما يأتون به من أحكام بواسطة رواتهم الموثوقين. ثم إن استفادة الاجماع من كلمة (أولي الامر) مبنية  على ارادة العموم المجموعي منها وحملها على ذلك خلاف الظاهر، لان الظاهر من هذا النوع من العمومات هو العموم الاستغراقي المنحل في واقعه إلى أحكام متعددة بتعدد أفراده، ومن  استعرض أحكام الشارع التي استعمل فيها العمومات الاستغراقية، يجدها مستوعبة لاكثر أحكامه وما كان منها من قبيل العموم المجموعي نادر نسبيا، فلو قال الشارع: اعطوا زكواتكم لاولي  الفقر والمسكنة - مثلا - فهل معنى ذلك لزوم اعطائها لهم مجتمعين واعطاء الزكوات مجتمعة أم ماذا ؟ وعلى هذا فحمل (اولي الامر) في الآية على العموم المجموعي حمل على الفرد النادر من  دون قرينة ملزمة وما ذكره من القرينة لا تصلح لذلك ما دام أهل الاجماع أنفسهم مما يحتاجون إلى المعرفة كالائمة،
------------------------------------------------------------------
ومعرفة واحد أو آحاد أيسر بكثير من معرفة مجموع المجتهدين - كما قلنا - وبخاصة بعد توفر وسائل معرفتهم وأخذ الاحكام عنهم. وقد اتضحت الاجابة بهذا على ما أورده على الشيعة من  اشكالات. أما الاشكال الاول فهو بالاضافة إلى وروده نقضا عليه لان اطاعة الله والرسول وأهل الحل والعقد كلها مما تتوقف على المعرفة، ان المعرفة لا يمكن أخذها قيدا في أصل التكليف لما  سبق بيانه، ولو أمكن فالوجوبات الواردة على اطاعة الله والرسول كلها مقيدة بها فلا يلزم التفرقة في التكليف الواحد كما يقول. والاشكال الثاني يتضح جوابه مما ذكرناه في اعتبار هذا النوع من  الجموع من العمومات الاستغراقية التي ينال فيها كل فرد حكمه فإذا قال المشرع الحديث - مثلا -: حكم الحاكم نافذ في المحاكم المدنية، فان معناه ان حكم كل واحد منهم، نافذ لا حكمهم مجتمعين،  نعم يظهر من اتيانه بلسان الجمع ان أولي الامر أكثر من فرد واحد وهذا ما تقول به الشيعة، ولا يلزمه ان يكونوا مجتمعين في زمان واحد لان صدق الجمع على الافراد الموزعين على الازمنة لا  ينافي ظاهره. يبقى الاشكال الثالث وهو عدم ذكره لاولي الامر في وجوب الرد إليهم عند التنازع بل اقتصر في الذكر على خصوص الله والرسول، وهذا الاشكال أمره سهل لجواز الحذف  اعتمادا على قرينة ذكره سابقا، وقد سبق في صدر الآية ان ساوى بينهم وبين الله والرسول في لزوم الطاعة، ويؤيد هذا المعنى ما ورد في الآية الثانية (ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الامر  منهم لعلمه الذين يستبطونه منهم). والاشكال الذي يرد على الشيعة - بعد تسليم دلالتها على عصمة أولي الامر كما قال الفخر - ان القضية لا تثبت موضوعها فهي لا تعين المراد
------------------------------------------------------------------
من أولي الامر وهل هم الائمة من اهل البيت أو غيرهم، فلا بد من إثبات ذلك إلى التماس أدلة أخرى من غير الآية، وسيأتي الحديث حول ذلك في جواب سؤال من هم اهل البيت. والآيات الباقية  التي استدلوا بها على العصمة حساب ما يدل منها عليها حساب هذه الآية من حيث عدم تعيينها للامام المعصوم، فالمهم ان يساق الحديث إلى أدلتهم من السنة النبوية. أدلتهم من السنة: وأول أدلتهم  من السنة وأهمها: حديث الثقلين: وهذا الحديث يكاد يكون متواترا بل هو متواتر فعلا، إذا لوحظ مجموع رواته من الشيعة والسنة في مختلف الطبقات، واختلاف بعض الرواة في زيادة النقل  ونقيصته تقتضيه طبيعة تعدد الواقعة التي صدر فيها، ونقل بعضهم له بالمعنى وموضع الالتقاء بين الرواة متواتر قطعا. ومن حسنات دار التقريب بين المذاهب الاسلامية في مصر، أنها أصدرت  رسالة ضافية ألفها بعض أعضائها في هذا الحديث أسمتها: (حديث الثقلين)، وقد استوفى فيها مؤلفها ما وقف عليه من أسانيد الحديث في الكتب المعتمدة لدى اهل السنة. وحسب الحديث لئن يكون  موضع اعتماد الباحثين ان يكون من رواته كل من صحيح مسلم، وسنن الدارمي، وخصائص النسائي، وسنن أبي داود، وابن ماجة، ومسند أحمد، ومستدرك الحاكم، وذخائر الطبري، وحلية  الاولياء، وكنز العمال، وغيرهم، وان تعنى بروايته كتب
------------------------------------------------------------------
المفسرين أمثال الرازي، والثعلبي، والنيسابوري، والخازن، وابن كثير، وغيرهم، بالاضافة إلى الكثير من كتب التأريخ، واللغة، والسير، والتراجم. وقد استقصت رسالة دار التقريب عشرات  المؤلفين من هؤلاء وغيرهم (1)، وقد كنت أود نقلها بنصها لقيمة ما ورد فيها من رأي ونقل لولا انتشارها وتداولها، وما أظن أن حديثا يملك من الشهرة ما يملكه هذا الحديث، وقد أوصله ابن  حجر في الصواعق المحرقة إلى نيف وعشرين صحابيا، يقول في كتابه: (ثم اعلم ان لحديث التمسك بذلك طرقا كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا (2))، وفي غاية المرام وصلت أحاديثه  من طرق السنة إلى (39) حديثا ومن طرق الشيعة إلى (82) حديثا (3). والظاهر أن سر شهرته تكرار النبي (صلى الله عليه وآله) له في أكثر من موضع يقول ابن حجر: (ومر له طرق  مبسوطة في حادي عشر الشبه، وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة، وفي أخرى أنه قاله بالمدينة في مرضه، وقد امتلات الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه قال ذلك بغدير خم،  وفي أخرى أنه قال ذلك لما قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف). وقال: (ولا تنافي إذ لا مانع من أنه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماما بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة (4)).  ولسان الحديث كما في رواية زيد بن أرقم: (إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الارض،
(1) راجع ذلك في هذه الرسالة، ص 5 وما بعدها، مطبعة مخيمر مصر. (2) الصواعق المحرقة، ص 148. (3) أصول الاستنباط، ص 24. (4) الصواعق المحرقة. (*)
------------------------------------------------------------------
وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفونني فيهما (1)). وفي رواية زيد بن ثابت: (إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والارض، أو ما  بين السماء إلى الارض، وعترتي اهل بيتي، وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (2)). ورواية أبي سعيد الخدري: (إني أوشك ان أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عزوجل،  وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الارض، وعترتي اهل بيتي، وان اللطيف أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفونني فيهما (3)). وقد استفيد من هذا  الحديث عدة أمور نعرضها بإيجاز: 1 - دلالته على عصمة اهل البيت: أ - لاقترانهم بالكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتصريحه بعدم افتراقهم عنه، ومن البديهي أن صدور  أية مخالفة للشريعة سواء كانت عن عمد أم سهو أم غفلة، تعتبر افتراقا عن القرآن في هذا الحال وان لم يتحقق انطباق عنوان المعصية عليها أحيانا كما في الغافل والساهي، والمدار في صدق  عنوان الافتراق عنه عدم مصاحبته لعدم التقيد بأحكامه وإن كان معذورا في ذلك، فيقال فلان - مثلا - افترق عن الكتاب وكان معذورا في افتراقه عنه، والحديث صريح في عدم افتراقهما حتى يردا  الحوض. ب - ولانه اعتبر التمسك بهم عاصما عن الضلالة دائما وأبدا، كما هو مقتضى ما تفيده كلمة لن التأبيدية، وفاقد الشئ لا يعطيه. ج - على أن تجويز الافتراق عليهم بمخالفة الكتاب  وصدور الذنب
(1، 2، 3) اقرأ أسانيدها مفصلة في كتاب المراجعات، ص 20، 21، وبقية ألسنتها متقاربة وأكثرها صحيحة الاسناد. (*)
------------------------------------------------------------------
منهم تجويز للكذب على الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي أخبر عن الله عزوجل بعدم وقوع افتراقهما، وتجويز الكذب عليه متعمدا في مقام التبليغ والاخبار عن الله في الاحكام وما يرجع إليها  من موضوعاتها وعللها، مناف لافتراض العصمة في التبليغ، وهي مما أجمعت عليها كلمة المسلمين على الاطلاق حتى نفاة العصمة عنه بقول مطلق، يقول الشوكاني بعد استعراضه لمختلف  مبانيهم في عصمة الانبياء: (وهكذا وقع الاجماع على عصمتهم بعد النبوة من تعمد الكذب في الاحكام الشرعية لدلالة المعجزة على صدقهم، وأما الكذب غلطا فمنعه الجمهور، وجوزه القاضي أبو  بكر (1)). ولا إشكال أن الغلط لا يتأتى في هذا الحديث لاصرار النبي (صلى الله عليه وآله) على تبليغه في أكثر من موضع والزام الناس بمؤداه، والغلط لا يتكرر عادة. على ان الادلة العقلية  على عصمة النبي، والتي سبقت الاشارة إليها، من استحالة الخطأ عليه في مقام التبليغ - وكلما يصدر عنه تبليغ - كما يأتي، تكفي في دفع شبهة القاضي أبي بكر، وتمنع من احتمال الخطأ في  دعواه عدم الافتراق. 2 - لزوم التمسك بهما معا لا بواحد منهما منعا من الضلالة، لقوله (صلى الله عليه وآله): فيه ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، ولقوله: فانظروا كيف تخلفونني فيهما، وأوضح  من ذلك دلالة ما ورد في رواية الطبراني في تتمتها: (فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم (2)). وبالطبع أن معنى التمسك بالقرآن، هو الاخذ بتعاليمه  والسير على وفقها، وهو نفسه معنى التمسك بأهل البيت عدل القرآن. ومن هذا الحديث يتضح أن التمسك بأحدهما لا يغني عن الآخر (ما
(1) ارشاد الفحول، ص 34. (2) الصواعق المحرقة، ص 148. (*)
------------------------------------------------------------------
إن تمسكتم بهما)، (ولا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا). ولم يقل ما إن تمسكتم بأحدهما، أو تقدمتم أحدهما، وسيأتي السر في ذلك من أنهما معا يشكلان وحدة يتمثل بها الاسلام على  واقعه وبكامل أحكامه ووظائفه. 3 - بقاء العترة إلى جنب الكتاب إلى يوم القيمة، أي لا يخلو منهما زمان من الازمنة ما داما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وهي كناية عن بقائهما إلى يوم  القيمة. يقول ابن حجر: (وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة على عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيمة، كما ان الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أمانا لاهل الارض  كما يأتي، ويشهد لذلك الخبر السابق: في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي (1)). 4 - دلالته على تميزهم بالعلم بكل ما يتصل بالشريعة وغيره، كما يدل على ذلك اقترانهم بالكتاب الذي  لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ولقوله (صلى الله عليه وآله): ولا تعلموهم فانهم أعلم منكم. يقال ابن حجر: - وهو من خير من كتبوا في هذا الحديث فهما وموضوعية (تنبيه سمى رسول الله (صلى  الله عليه وآله) القرآن وعترته، وهي بالمثناة الفوقية، الاهل والنسل والرهط الادنون الثقلين، لان الثقل كل نفيس خطير مصون، وهذان كذلك إذ كل منهما معدن العلوم اللدنية، والاسرار والحكم  العلية، والاحكام الشرعية) (ولذا حث (صلى الله عليه وآله) على الاقتداء والتمسك بهم والتعلم منهم، وقال: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت). (وقيل: سميا ثقلين، لثقل وجوب رعاية  حقوقهما). (ثم إن الذين وقع الحث عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله
(1) الصواعق المحرقة، ص 149. (*)
------------------------------------------------------------------
وسنة رسوله، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض، ويؤيده الخبر السابق: ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، وتميزوا بذلك عن بقية العلماء لان الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا،  وشرفهم بالكرامات الباهرة، والمزايا المتكاثرة، وقد مر بعضها (1)). مناقشة الحديث: وقد ناقش الاستاذ محمد أبو زهرة هذا الحديث بمناقشات مطولة بعد أن استعرض استدلال الشيعة به على  وجوب الرجوع إليهم، نذكر كل ما يتصل بحديثنا منه، ثم نعقب عليه بما يتراءى لنا من أوجه المفارقة فيه. يقول: (ولكنا نقول: ان كتب السنة التي ذكرته بلفظ سنتي أوثق من الكتب التي روته بلفظ  عترتي، وبعد التسليم بصحة اللفظ نقول: بانه لا يقطع بل لا يعين من ذكروهم من الائمة الستة المتفق عليهم عند الامامية الفاطميين وهو لا يعين أولاد الحسين دون أولاد الحسن، كما لا يعين واحدا  من هؤلاء بهذا الترتيب، وكما لا يدل على أن الامامة تكون بالتوارث، بل لا يدل على إمامة السياسة، وإنه أدل على إمامة الفقه والعلم (2)). ومواقع النظر حول نصه هذا، تقع في ثلاث: 1 -  مناقشته في الحديث من حيث سنده لتقديم ما ورد فيه من لفظ سنتي على ما ورد من لفظ عترتي، لكون رواته من كتب السنة بهذا اللفظ أوثق.
(1) هذا النص بطوله مستل من الصواعق المحرقة، ص 149، مطبعة دار الطباعة المحمدية بمصر. (2) الامام الصادق، ص 199. (*)
------------------------------------------------------------------
2 - كونه لا يعين المراد من الاهل، كما لا يعين الائمة المتفق عليهم لدى الشيعة أو غيرهم، وكأنه يريد ان يقول: إن القضية لا تثبت موضوعها، فكيف جاز الاستدلال به على إمامة خصوص  الائمة ؟ ! 3 - دلالته على إمامة الفقه لا السياسة: أما المناقشة الاولى فهي غير واضحة لدينا، لان رواية وسنتي - لو صحت - فهي لا تعارض رواية العترة، واعتبار الصادر شيئا واحدا أما هذه  أو تلك لا ملجئ له، وأظن ان الشيخ أبا زهرة تخيل التعارض بينهما، استنادا إلى مفهوم العدد، ولكنه نسي أن هذا النوع من مفاهيم المخالفة ليس بحجة - كما هو التحقيق لدى متأخري الاصوليين -  على ان التعارض لا يلجأ إليه إلا مع تحكم المعارضة، ومع إمكان الجمع بينهما لا معارضة أصلا، وقد جمع ابن حجر بينهما في صواعقه، فقال: (وفي رواية كتاب الله وسنتي وهي المراد من  الاحاديث المقتصرة على الكتاب لان السنة مبنية له، فأغنى ذكره عن ذكرها، والحاصل ان الحث وقع على التمسك بالكتاب وبالسنة وبالعلماء بهما من أهل البيت، ويستفاد من مجموع ذلك بقاء  الامور الثلاثة إلى قيام الساعة (1)) وان شئت ان تقول: إن ذكر أهل البيت معناه ذكر للسنة لانهم لا يأتون إلا بها، فكل ما عندهم مأخوذ بواسطة النبي، أي بواسطة السنة، وقد طفحت بذلك  أحاديثهم، ويؤيده ما ورد في كنز العمال من جواب النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي عندما سأله: ما أرث منك يا رسول الله ؟ قال (صلى الله عليه وآله): ما ورث الانبياء من قبل: كتاب ربهم  وسنة نبيهم (2)). واذن يكون ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر، وكلتا الروايتين
(1) الصواعق المحرقة ص 148. (2) السقيفة للمظفر، ص 49 عن كنز العمال (5: 41). (*)
------------------------------------------------------------------
يمكن ان تكونا صحيحتين ولا حاجة إلى تكذيب إحداهما وتعيين الصادرة منهما بالرجوع إلى المرجحات. ومع الغض عن ذلك وافتراض تمامية المعارضة، وان الصادر منه (صلى الله عليه وآله)  لا يمكن أن يكون إلا واحدة منهما فتقديمه لكلمة وسنتي، لا أعرف له وجها. لان حديث التمسك بالثقلين متواتر من جميع طبقاته، والكتب التي حفلت به أكثر من أن تحصى، وطرقه إلى الصحابة  كثيرة، ورواته منهم - أي الصحابة - كثيرون جدا، وفي رواياته عدة روايات كانت في أعلى درجات الصحة، كما شهد بذلك الحاكم وغيره. بينما نرى الحديث الآخر لا يتجاوز في اعتباره عن  كونه من أحاديث الآحاد، ولقد كنت أحب للسيد أبي زهرة ان يتفضل بذكر الكتب السنية التي روت حديث وسنتي لنرى مدى ادعائه الاوثقية لها، وأي كتب أوثق من الصحاح والسنن والمسانيد  ومستدركاتها التي سبق ذكرها وذكر روايتها للحديث لتقدم عند المعارضة ؟ ! وفي حدود تتبعي لكتب الحديث، واستعانتي ببعض الفهارس، لم أجد رواية وسنتي إلا في عدد من الكتب لا تتجاوز  عدد الاصابع لليد الواحدة، وهي مشتركة في رواية الحديثين معا، اللهم إلا ما يبدو من مالك حيث اقتصر في الموطأ على ذكرها فحسب، ولم يذكر الحديث الآخر - إن صدق تتبعي لما في الكتاب -  يقول راوي الموطأ: (وحدثني عن مالك: انه بلغه ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه (1))، ويكفي في توهين الرواية أنها  مرفوعة ولم يذكر الكتاب رواتها، مما يدل
(1) الموطأ، ج 2 ص 208. طبعة مصطفى البابي الحلبي. (*)
------------------------------------------------------------------
على عدم اطمئنان صاحبها إليها ولسانها (عن مالك أنه بلغه ان رسول الله)، ولعل الموطأ هو أقدم مصادرها في كتب الحديث، كما أن ابن هشام هو أقدم رواتها في كتب السير (1) فيما يبدو. وما  عدا هذين الكتابين، فقد ذكرها ابن حجر في صواعقه مرسلة، وذكرها الطبراني فيما حكي عنه (2). ومثل هذه الرواية - وهي بهذه الدرجة من الضعف لانها لا تزيد على كونها مرفوعة أو  مرسلة، ولو قدر صحتها فهي لا تزيد على كونها من أخبار الاحاد - هل يمكن ان تقف بوجه حديث الثقلين مع وفرة رواته في كتب السنة وتصحيح الكثير من رواياته، كما سبق بيانه ؟ هذا كله من  حيث سند الحديثين. أما من حيث المضمون، فأنا - شخصيا - لا أكاد أفهم كيف يمكن أن تكون السنة مرجعا يطلب إلى المسلمين في جميع عصورهم أن يتمسكوا بها إلى جنب الكتاب، وهي غير  مجموعة على عهده (صلى الله عليه وآله) وفيها الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد. ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمدينة واصحابه كما يقول ابن حزم: (مشاغيل  في المعاش، وتعذر القوت عليهم لجهد العيش بالحجاز، وانه كان يفتي بالفتيا ويحكم بالحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط، وأنه إنما قامت الحجة على سائر من لم يحضره (صلى الله عليه  وآله) بنقل من حضره، وهم واحد أو اثنان (3)). وإذا صح هذا وهو صحيح جدا لان التاريخ لم يحدثنا عنه (صلى الله عليه وآله) أنه كان يجمع الصحابة جميعا، ويبلغهم بكل ما يجد من أحكام، ولو
(1، 2) حديث الثقلين، ص 18، دار التقريب. (3) تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلامية، ص 123 نقلا عنه. (*)
------------------------------------------------------------------
تصورناه في أقواله فلا نتصوره في أفعاله وتقريراته وهما من السنة، فماذا يصنع من يريد التمسك بسنته من بعده ولنفترضه من غير الصحابة ؟ أيظل يبحث عن جميع الصحابة وفيهم الولاة  والحكام، وفيهم القواد والجنود في الثغور ليسألهم عن طبيعة ما يريد التعرف عليه من أحكام، أم يكتفي بالرجوع إلى الموجودين وهو لا يجزيه لاحتمال صدور الناسخ أو المقيد أو المخصص أمام  واحد أو اثنين ممن لم يكونوا بالمدينة ؟ والحجية - كما يقول ابن حزم -: لا تتقوم إلا بهم. والعمل بالعام أو المطلق لا يجوز قبل الفحص عن مخصصه أو مقيده ما دمنا نعلم أن من طريقة النبي في  التبليغ هو الاعتماد على القرائن المنفصلة، فالارجاع إلى شئ مشتت وغير مدون تعجيز للامة وتضييع للكثير من أحكامها الواقعية. وإذا كانت هذه المشكلة قائمة بالنسبة إلى من أدرك الصحابة  وهم القلة نسبيا، فما رأيكم بالمشكلة بعد تكثر الفتوح، وانتشار الاسلام، ومحاولة التعرف على أحكامه من قبل غير الصحابة من رواتهم، وبخاصة بعد انتشار الكذب والوضع في الحديث  للاغراض السياسية أو الدينية أو النفسية ؟ ومثل هذه المشكلة هل يمكن ان لا تكون أمامه (صلى الله عليه وآله) وهو المسؤول عن وضع الضمانات لبقاء شريعته ما دامت خاتمة الشرائع، وقد  شاهد قسما من التنكر لسنته على عهده (صلى الله عليه وآله) كما مرت الاشارة إلى ذلك في سابق من الاحاديث. إن الشئ الطبيعي أن لا يفرض أي مصدر تشريعي على الامة ما لم يكن مدونا  ومحدد المفاهيم، أو يكون هناك مسؤول عنه يكون هو المرجع فيه. وما دمنا نعلم أن السنة لم تدون على عهد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وان
------------------------------------------------------------------
النبي (صلى الله عليه وآله) منزه عن التفريط برسالته، فلا بد أن نفترض جعل مرجع تحدد لديه السنة بكل خصائصها، وبهذا تتضح أهمية حديث الثقلين وقيمة إرجاع الامة إلى أهل البيت فيه لاخذ  الاحكام عنهم، كما تتضح أسرار تأكيده على الاقتداء بهم (1)، وجعلهم سفن النجاة تارة (2)، وأمانا للامة أخرى (3)، وباب حطة ثالثة (4) وهكذا... وبخاصة إذا أدركنا مقام النبوة وما يقتضيه  من تنزيه عن جميع المجالات العاطفية غير المنطقية، وإلا فما الذي يفرق أهل بيته عن غيرهم من الامة ليضفي عليهم كل هذا التقديس، ويلزمها بهذه الاوامر المؤكدة بالرجوع إليهم، والاقتداء  بهم، والتمسك بحبلهم ؟ أما ما يتصل بعدم تعيينه المراد من اهل البيت، فهذا من أوجه ما أورده ابو زهرة من إشكالات على هذا الحديث. وكون القضية لا تشخص موضوعها بديهية، لذلك نرى ان  نتعرف على المراد من اهل البيت من خارج نطاق هذا الحديث. من هم أهل البيت ؟ وأول ما يلفت النظر سكوت الامة عن استيضاح أمرهم من النبي (صلى الله عليه وآله) وبخاصة وقد سمعوه  منه في نوب متفرقة وأماكن مختلفة، أما كان فيهم من يقول له: إنك عصمتنا من الضلالة بالرجوع إلى اهل بيتك، وجعلتهم قرناء القرآن، فمن هم اهل هذا البيت لنعتصم بهم ؟ أترى ان عصمتهم  من الضلالة من الامور العادية التي لا تهم معرفتها والاستفسار عنها، أم ترى أنهم كانوا معروفين لديهم فما احتاجوا إلى استفسار وحديث ؟ والذي يبدو ان الصحابة ما كانوا في حاجة إلى  استفسار وهم يشاهدون
(1 - 2 - 3 - 4) مضامين الاحاديث، إقرأها واسانيدها من كتب السنة في كتاب المراجعات للامام شرف الدين، ص 23 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
نبيهم (صلى الله عليه وآله) في كل يوم يقف على باب علي وفاطمة، وهو يقرأ: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا، وتسعة أشهر وهي المدة التي حدث عنها ابن  عباس، كافية لئن تعرف الامة من هم اهل البيت، ثم يشاهدونه وقد خرج إلى المباهلة وليس معه غير علي وفاطمة وحسن وحسين، وهو يقول: (اللهم هؤلاء أهلي (1))، وهم من أعرف الناس  بخصائص هذا الكلام، وأكثرهم إدراكا لما ينطوي عليه من قصر واختصاص. وأحاديث الكساء التي سبقت الاشارة إليها فيما سبق، بما في بعضها من إقصاء حتى لزوجته أم سلمة، ما يغني عن  إطالة الحديث معه في التعرف على المراد من اهل البيت على عهده، وأحاديثه على اختلافها يفسر بعضها بعضا، ويعين بعضها المراد من البعض. على أنا لا نحتاج في بدء النظر إلى أكثر من  تشخيص واحد منهم يكون المرجع للقيام بمهمته من بعده، وهو بدوره يعين الخلف الذي يأتي بعده وهكذا... وليس من الضروري ان يتولى ذلك النبي بنفسه إن لم نقل أنه غير طبيعي لولا ان  تقتضيه بعض الاعتبارات ومن هنا احتجنا إلى النص على من يقوم بوظيفة الامامة، لان استيعاب السنة والاحكام الشرعية وطبيعة الصيانة لحفظها التي تستدعي العصمة لصاحبها والعاصمية  للآخرين، ليست من الصفات البارزة التي يدركها جميع الناس ليتركها مسرحا لاختيارهم وتمييزهم، ولو أمكن تركها لهم في مجال التشخيص فليس من الضروري أن يتفق الناس على اختيار  صاحبها بالذات
(1) يقول مسلم في صحيحه، ج 7 ص 121: (لما نزلت هذه الآية (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم) دعا رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال: (اللهم هؤلاء أهلي) وقد  رواها بالاضافة إلى صحيح مسلم كل من: الترمذي، والحاكم، والبيهقي، وغيرهم، انظر دلائل الصدق، ج 2 ص 86. (*)
------------------------------------------------------------------
مع تباين عواطفهم وميولهم. وطبيعة الصيانة والحفظ ومراعاة استمرارها منهجا وتطبيقا في الحياة، تستدعي اتخاذ مختلف الاحتياطات اللازمة لذلك. ولقد أغنانا (صلى الله عليه وآله) حين عين  عليا في نفس حديث الثقلين وسماه من بين أهل بيته لينهض بوظائفه من بعده، ومما جاء في خطابه التاريخي في يوم غدير خم، وهو ينعى نفسه لعشرات الالوف من المسلمين الذين كانوا معه: ( كأني قد دعيت فأجبت، اني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما اكبر من الآخر: كتاب الله وعترتي، فانظروا كيف تخلفونني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ثم قال: (إن الله عزوجل  مولاي، وأنا مولى كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي، فقال: من كنت مولاه فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه (1)). ثم قال في مرض موته بعد ذلك مؤكدا: (أيها الناس يوشك ان أقبض قبضا  سريعا فينطلق بي، وقد قدمت اليكم القول معذرة اليكم، الا اني مخلف فيكم كتاب ربي عزوجل، وعترتي أهل بيتي، ثم أخذ بيد علي فرفعها، فقال: هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي، لا يفترقان  حتى يردا علي الحوض فأسألهما ما خلفت فيهما (2)). على أن الاحاديث الدالة على عصمته كافية في تعيينه، أمثال قوله (صلى الله عليه وآله): (علي مع الحق، والحق مع علي يدور معه حيثما  دار (3)) وقوله (صلى الله عليه وآله) لعمار: (يا عمار، إن رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس واديا غيره، فاسلك مع علي ودع الناس، إنه لن يدلك على ردى ولن يخرجك من هدى (4)).  وقوله (صلى الله عليه وآله): (اللهم أدر الحق
(1) مستدرك الحاكم وتلخيصه للذهبي، ج 3 ص 109، وقد صححه الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله. (2) ابن حجر في الصواعق، ص 24. (3 - 4) دلائل الصدق،  ج 2 ص 303، وفيه عشرات من أمثالها إقرأ مصادرها من كتب أهل السنة في الجزء نفسه. (*)
------------------------------------------------------------------
مع علي، حيث دار (1)) إلى غيرها من الاحاديث. ومن هنا قال أبو القاسم البجلي وتلامذته من المعتزلة: (لو نازع علي عقيب وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسل سيفه لحكمنا بهلاك كل  من خالفه وتقدم عليه، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه، ولكنه مالك الامر وصاحب الخلافة، إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها، وإذا أمسك عنها وجب علينا القول  بعدالة من اغضى له عليها، وحكمه في ذلك حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لانه قد ثبت عنه في الاخبار الصحيحة أنه قال: (علي مع الحق، والحق مع علي يدور معه حيثما دار)، وقال له  غير مرة: (حربك حربي، وسلمك سلمي (2)). وإذا كانت هذه الاحاديث التي مرت تعين عليا وولديه، فما الذي يعين بقية الائمة من أهل البيت ؟ هناك روايات مأثورة لدى الشيعة وأخرى لدى  السنة، يذكرها صاحب الينابيع وغيره تصرح بأسمائهم جميعا (3). ولكن الروايات التي حفلت بها الصحاح والمسانيد لا تذكرهم بغير عددهم. ففي رواية البخاري عن (جابر بن سمرة، قال:  سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: يكون اثنا عشر أميرا، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلهم من قريش (4))، وفي صحيح مسلم بسنده عن النبي (صلى الله عليه وآله): (لا  يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم
(1) المستصفى، ج 1 ص 136. (2) ابن ابي الحديد في شرحه للنهج، ج 1 ص 212. (3) ينابيع المودة، ج 3 ص 99. (4) البخاري، ج 9 ص 81. (*)
------------------------------------------------------------------
اثنا عشر خليفة كلهم من قريش (1)). وفي رواية احمد عن مسروق، قال: (كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله (صلى  الله عليه وآله) كم يملك هذه الامة من خليفة ؟ فقال عبد الله: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله، اثني عشر كعدة نقباء بني اسرائيل (2)). وفي نظير  هذه الاحاديث مع اختلاف في بعض المضامين، حدث كل من أبي داود، والبزار والطبراني (3)، وغيرهم، وطرقها في هذه الكتب كثيرة وبخاصة في صحيح مسلم ومسند احمد. والذي يستفاد من  هذه الروايات: 1 - ان عدد الامراء أو الخلفاء لا يتجاوز الاثني عشر، وكلهم من قريش. 2 - وان هؤلاء الامراء معينون بالنص، كما هو مقتضى تشبيههم بنقباء بني اسرائيل لقوله تعالى: (ولقد  أخذنا ميثاق بني اسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا). 3 - ان هذه الروايات افترضت لهم البقاء ما بقي الدين الاسلامي، أو حتى تقوم الساعة، كما هو مقتضى رواية مسلم السابقة، وأصرح من  ذلك روايته الاخرى في نفس الباب: (لا يزال هذا الامر في قريش ما بقي من الناس اثنان (4)).
(1) صحيح مسلم، ج 6 ص 4، وفي ص 3 - 4 روايات أخرى بمضمون رواية البخاري. (2) دلائل الصدق، ج 2 ص 316 نقلا عن مسند احمد وغيره. (3) أضواء على السنة  المحمدية، ص 210 وما بعدها. (4) صحيح مسلم، ج 6 ص 3. (*)
------------------------------------------------------------------
وإذا صحت هذه الاستفادة فهي لا تلتئم إلا مع مبنى الامامية في عدد الائمة وبقائهم وكونهم من المنصوص عليهم من قبله (صلى الله عليه وآله)، وهي منسجمة جدا مع حديث الثقلين وبقائهما حتى  يردا عليه الحوض. وصحة هذه الاستفادة موقوفة على ان يكون المراد من بقاء الامر فيهم بقاء الامامة والخلافة - بالاستحقاق - لا السلطة الظاهرية. لان الخليفة الشرعي خليفة يستمد سلطته من  الله، وهي في حدود السلطنة التشريعية لا التكوينية، لان هذا النوع من السلطنة هو الذي تقتضيه وظيفته كمشرع، ولا ينافي ذلك ذهاب السلطنة منهم في واقعها الخارجي لتسلط الآخرين عليهم.  على ان الروايات تبقى بلا تفسير لو تخلينا عن حملها على هذا المعنى لبداهة ان السلطنة الظاهرية قد تولاها من قريش أضعاف أضعاف هذا العدد، فضلا عن انقراض دولهم وعدم النص على  أحد منهم - أمويين وعباسيين - باتفاق المسلمين. ومن الجدير بالذكر ان هذه الروايات كانت مأثورة في بعض الصحاح والمسانيد قبل ان يكتمل عدد الائمة فلا يحتمل ان تكون من الموضوعات بعد  اكتمال العدد المذكور على ان جميع رواتها من أهل السنة ومن الموثوقين لديهم. ولعل حيرة كثير من العلماء في توجيه هذه الاحاديث وملاءمتها للواقع التأريخي، كان منشؤها عدم تمكنهم من  تكذيبها، ومن هنا تضاربت الاقول في توجيهها وبيان المراد منها. والسيوطي (بعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الاحاديث المشكلة خرج برأي غريب نورده هنا تفكهة للقراء، وهو (وعلى هذا  فقد وجد من الاثني عشر الخلفاء الاربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن
------------------------------------------------------------------
عبد العزيز وهؤلاء ثمانية، ويحتمل ان يضم إليهم المهدي من العباسيين لانه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، وكذلك الظاهر لما أوتيه من العدل وبقي الاثنان المنتظران أحدهما: المهدي  لانه من أهل بيت محمد، ولم يبين المنتظر الثاني، ورحم الله من قال في السيوطي: إنه حاطب ليل (1)). وما يقال عن السيوطي، يقال عن ابن روزبهان في رده على العلامة الحلي وهو يحاول  توجيه هذه الاحاديث (2). والحقيقة ان هذه الاحاديث لا تقبل توجيها إلا على مذهب الامامية في أئمتهم. واعتبارها من دلائل النبوة في صدقها عن الاخبار بالمغيبات، أولى من محاولة إثارة  الشكوك حولها كما صنعه بعض الباحثين المحدثين متخطيا في ذلك جميع الاعتبارات العلمية وبخاصة بعد ان ثبت صدقها بانطباقها على الائمة الاثني عشر (عليهم السلام). على أنا في غنى عن  هذه الروايات وغيرها بحديث الثقلين نفسه، فهو الذي ترك بأيدينا مقياسا لتشخيص العصمة في أصحابها، وقديما قيل: (اعرف الحق تعرف أهله). والمقياس في العصمة هو عدم الافتراق عن  القرآن، فلنمسك بأيدينا هذا المقياس، ونسبر به الواقع السلوكي لجميع من تسموا بالائمة لدى فرق الشيعة، ونختار أجدرهم بالانطباق عليه لنتمسك بإمامته. وأظن ان الانسب والابعد عن الادعاء ان  نهمل كتب الشيعة على اختلافها، وننزع إلى كتب إخواننا من أهل السنة ونجعلها الحكم في تطبيق هذا المقياس عليهم، فانها أقرب إلى الموضوعية عادة من كتب
(1) أضواء على السنة المحمدية، ص 212. (2) دلائل الصدق، ج 2 ص 315. (*)
------------------------------------------------------------------
قد يقال في حق أصحابها أن كل طائفة تريد التزيد لائمتها بالخصوص. ولنا من ابن طولون مؤرخ دمشق في كتابه (الائمة الاثنا عشر)، وابن حجر في صواعقه، والشيخ سليمان البلخي وغيرهم  رادة لامثال هذه البحوث. ولنترك قراءة تراجمهم جميعا للاخ أبي زهرة ليرى أيهم أكثر انسجاما في واقعه مع المقياس الذي استفدناه من حديث الثقلين، يقول أحمد وهو يعلق على حديث الامام  الرضا عن آبائه حين مر بنيسابور: (لو قرأت هذا الاسناد على مجنون لبرئ من جنته (1)). والذي نرجوه ونأمل أن لا ننساه ونحن نستعرض تراجمهم، ان هؤلاء الائمة الاثني عشر قد ادعوا  لانفسهم الامامة في عرض السلطة الزمنية، واتخذوا من أنفسهم كما اتخذهم الملايين من أتباعهم قادة للمعارضة السلمية للحكم القائم في زمنهم، وكانوا عرضة للسجون والمراقبة، وكثير منهم قتل  بالسم، وفيهم من استشهد في ميدان الجهاد على يد القائمين بالحكم. وفي هؤلاء الائمة من تولى الامامة وهو ابن عشرين سنة كالحسن العسكري، بل فيهم من تولى منصبها وهو ابن ثمان كالامامين  الجواد والهادي. ومن المعروف عن الشيعة ادعاؤهم العصمة لائمتهم الملازمة لدعوى الاحاطة في شؤون الشريعة جميعها، بل ادعوا الاعلمية لهم في جميع الشؤون، وهم أنفسهم صرحوا بذلك.  ومن كلمات أئمتهم في ذلك كله ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهجه الخالد (نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم وينابيع الحكمة)، وقوله عليه السلام:  (أين الذين زعموا أنهم
(1) الصواعق المحرقة، ص 203. (*)
------------------------------------------------------------------
الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا، ان رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى، ان الائمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم،  لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم). وقول علي بن الحسين السجاد: (وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا واحتجوا بمتشابه القرآن فتأولوا بارائهم واتهموا مأثور الخبر فينا)، إلى  ان يقول: (فإلى من يفزع خلف هذه الامة، وقد درست أعلام هذه الامة، ودانت الامة بالفرقة والاختلاف يكفر بعضهم بعضا، والله تعالى يقول: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما  جاءهم البينات، فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة، وتأويل الحكم الا أعدال الكتاب وأبناء أئمة الهدى، ومصابيح الدجى الذين احتج الله بهم على عباده، ولم يدع الخلق سدى من غير حجة، هل  تعرفونهم أو تجدونهم إلا من فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (1)) ؟ ومع هذه الاقوال ونظيرها صادر عن اكثر الائمة، وهم مصحرون  بمبادئهم، أما كان بوسع السلطة وهي تملك ما تملك من وسائل القمع أن تقضي على هذه الجبهة من المعارضة ذات الدعاوى العريضة من أيسر طرقها، وذلك بتعريض أئمتها لشئ من الامتحان  العسير في بعض ما يملكه العصر من معارف وبخاصة ما يتصل منها بغوامض الفقه والتشريع ليسقط دعواها في الاعلمية من الاساس، أو يعرضهم إلى شئ من الامتحان في الاخلاق والسلوك  ليسقط ادعاءهم العصمة.
(1) اقرأ هذه الاقوال وغيرها في المراجعات لشرف الدين مأثورة عن النهج والصواعق ص 18. (*)
------------------------------------------------------------------
وإذا كان في الكبار منهم عصمة وعلم، نتيجة دربة ومعاناة فما هو الشأن في ابن عشرين عاما أو ابن ثمان، فهل تملك الوسائل الطبيعية تعليلا لتمثلهم لذلك كله. ولو كان هؤلاء الائمة في زوايا أو  تكايا، وكانوا محجوبين عن الرأي العام، كما هو الشأن في أئمة الاسماعيلية أو بعض الفرق الباطنية لكان لاضفاء الغموض والمناقبية على سلوكهم من الاتباع مجال، ولكن ما نصنع وهم  مصحرون بأفكارهم وسلوكهم وواقعهم، تجاه السلطة وغيرها من خصومهم في الفكر، والتأريخ حافل بمواقف السلطة منهم ومحاربتها لافكارهم وتعريضهم لمختلف وسائل الاغراء والاختبار ومع  ذلك فقد حفل التأريخ بنتائج اختباراتهم المشرفة وسجلها بإكبار. ولقد حدث المؤرخون عن كثير من هذه المواقف المحرجة وبخاصة مع الامام الجواد، مستغلين صغر سنه عند تولي الامامة (1).  وحتى لو افترضنا سكوت التأريخ عن هذه الظاهرة، فان من غير الطبيعي ان لا تحدث أكثر من مرة تبعا لتكرر الحاجة إليها وبخاصة وان المعارضة كانت على أشدها في العصور العباسية.  وطريقة اعلان فضيحتهم بأحراج أئمتهم فيما يدعونه من علم أو استقامة سلوك، وإبراز سخفهم لاحتضانهم أئمة بهذا السن وهذا المستوى لو أمكن ذلك أيسر بكثير من تعريض الامة إلى حروب قد  يكون الخليفة نفسه من ضحاياها، أو تعريض هؤلاء الائمة إلى السجون والمراقبة أو المجاملة أحيانا. وإذا كان بوسع الاخ أبي زهرة ان يعلل هذه الظاهرة بتعليل منطقي
(1) اقرأ موقفه من امتحان الخليفة له على يد يحيى بن اكثم في الصواعق المحرقة، ص 204. (*)
------------------------------------------------------------------
يخضع لما نعرف من عوامل طبيعية - أعني ظاهرة تفوقهم في مجالات الاختبار والتمحيص - بالنسبة إلى الكبار من الائمة بإرجاعها إلى الجهد والدراسة والتجربة السلوكية سرا، فهل بوسع  فضيلته ان يعللها في ابن عشرين سنة أو في ابن ثمان، كما هو الشأن في الائمة الثلاثة: الجواد، والهادي، والعسكري. وما لنا نبعد والاخ أبو زهرة، وهو من الاساتذة الذين عانوا مشاكل التدريس  في الجامعات، هل يستطيع ان يعطي الضمانة لنجاح أي استاذ - لو عرض لامتحان عسير - في خصوص ما ألفه من كتب من دون سابق تحضير، فكيف إذا وسعنا الامتحان إلى مختلف مجالات  المعرفة - وهي المدعاة لائمة اهل البيت في مذهب الشيعة الامامية - ودون سابق تحضير ؟ وإذا كان للصدفة - وهي مستحيلة - مجالها في امتحان ما بالنسبة إلى شخص ما فليس لها موقع بالنسبة  إليه في مختلف المجالات فضلا عن تكررها بالنسبة إلى جميع الائمة صغارهم وكبارهم كما يحدث في ذلك التأريخ. وأظن ان في هذه الاعتبارات التي ذكرناها مجتمعة ما يغني عن استيعاب كل  ما ذكر في تشخيص المراد من أهل البيت. أما الدعوى الثالثة وهي دلالته على إمامة الفقه لا السياسة، فهي ما لا أعرف لها وجها يمكن الركون إليه لافتراضها فصل السلطتين الدينية والزمنية  عن بعضهما مع ان الاسلام لا يعترف بذلك لما فيه من تجاهل لوظائف الامامة وهي امتداد لوظائف النبي إلا فيما يتصل بعالم الاتصال بالسماء، وبخاصة فيما يتصل في الشؤون التطبيقية. لان  الفكرة - أية فكرة - لا يكفي في تحقيق نفسها ان تشرع وتعيش على صعيد من الورق، بل لا بد ان تضمن لها تطبيقا تتلاءم فيه الوسائل والاهداف، وإلا لما صح نسبة النجاح لتجربتها بحال من  الاحوال،
------------------------------------------------------------------
ولقد كتبت فصلا مطولا في البحث الذي يتصل بانبثاق فكرة الامامة والضرورات الداعية إليها في محاضراتي عن تأريخ التشريع الاسلامي في كلية الفقه، ومما جاء فيه مما يتصل بحديثنا هذا: ( والذي اخاله ان من أوليات ما يقتضيه ضمان التطبيق ان يكون القائم على تطبيقها شخصا تتجسد فيه مبادئ فكرته تجسدا مستوعبا لمختلف المجالات التي تكفلت الفكرة تقويمها من نفسه. ولا نريد  من التجسد أكثر من أن يكون صاحبها خليا عن الافكار المعاكسة لها من جهة، وتغلغلها في نفسه كمبدأ يستحق من صاحبه التضحية والفناء فيه من جهة أخرى، ومتى كان الانسان بهذا المستوى  استحال في حقه من وجهة نفسية ان يخرج على تعاليمها مجال. وإذا لم يكن القائم بالحكم بهذا المستوى من الايمان بها وكانت لديه رواسب على خلافها لم يكن بالطبع أمينا على تطبيقها مائة  بالمائة لاحتمال انبعاث إحدى تلكم الرواسب في غفلة من غفلات الضمير واستئثارها في توجيهه الوجهة المعاكسة التي تأتي على الفكرة في بعض مناحيها وتعطلها عن التأثير ككل، وربما  استجاب الرأي العام له تخفيفا لحدة الصراع في أعماقه بين ما جد من تعاليم هذه الفكرة وما كان معاشا له ومتجاوبا مع نفسه من الرواسب. على ان الناس - كل الناس - لا يكادون يختلفون الا  نادرا في قدرتهم على التفكيك بين الفكرة وشخصية القائم عليها، فالتشريع الذي يحرم الرشوة أو الربا أو الاستئثار لا يمكن ان يأخذ مفعوله من نفوس الناس متى عرف الارتشاء أو المراباة أو  الاستئثار في شخص المسؤول عن تطبيقه ولو في ان ما، أو احتمل فيه ذلك). وبما ان الاسلام يعالج الانسان علاجا مستوعبا لمختلف جهاته داخلية
------------------------------------------------------------------
وخارجية، احتجنا لضمان تبليغه وتطبيقه إلى العصمة في الرسول ثم العصمة في الذي يتولى وظيفته من بعده، وعلى هذا يتضح سر إصرار النبي على تعيين أهل بيته الذين أعدهم الله لهذه المهمة  إعدادا خاصا بالاضافة إلى مواهبهم الارادية للقيام بشؤونها. وما لنا نبعد بالاستاذ أبي زهرة وطبيعة النص الذي تحدث حوله تقتضيه، وهل وراء التعبير بلفظ مخلف ولفظ خليفتين ما يؤدي هذا  المعنى. على ان الاخ أبا زهرة حاول ان يقتطع النص من اجوائه التي تسلط الاضواء على تحديد مفاهيمه، ويدرسه بعيدا عنها فوقع فيما وقع فيه. وهل نسي حضرته مجيئه في معرض التمهيد  لحديث النص في يوم الغدير ومما جاء فيه: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وصفة الاولوية لا تكون إلا لمن له الولاية العامة على الامة ليستطيع التصرف بما تقتضيه مصلحتها ثم تعقيبها  بإعطاء الولاية له بقوله: (من كنت وليه فهذا علي وليه) ولحوقها بالدعاء الذي لا يناسب إلا الولاية العامة (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره). ثم ورودها بعد ذلك في معرض  تأكيد النص قبيل وفاته كما سبق التحدث في ذلك مما يوجب القطع بشمولها للجانب السياسي إذا لوحظت بمجموع ما لابسها من قرائن وأجواء. على ان شمولها للجانب السياسي وعدم شمولها لم  يعد موضعا لحاجتنا اليوم لنطيل التحدث فيه. لان البحث في هذا الجانب لا يثمر ثمرة فقهية ومجاله التأريخ. واثباته هناك لا يتوقف على دلالة هذه الرواية فحسب لتظافر أدلة النص وتكثرها في  التأريخ. وإنما الذي يتصل بصميم رسالتنا - كمقارنين - اثبات لزوم الرجوع
------------------------------------------------------------------
إليهم في الفقه وأصوله، والحديث واف في الدلالة عليه كما ذكر أبو زهرة وغيره. وأظن ان تحدثنا عن هذا الحديث وما انطوى عليه من عرض كثير من الاحاديث المعتبرة ذات الدلالة على حجية  رأيهم يغني عن استعراض بقية الاحاديث ودراستها فليرجع إليها في مظانها من الكتب المطولة. الادلة العقلية: ودليل العقل على اعتبار العصمة لهم لا يختلف عما استدل به على اعتبارها في  النبي لوحدة الملاك فيهما، وبخاصة إذا تذكرنا ما قلناه من ان الامامة امتداد للنبوة من حيث وظائفها العامة عدا ما يتصل بالوحي فانه من مختصات النبوة، وهذا الجانب لا يستدعي العصمة بالذات  إلا من حيث الصدق في التبليغ، وهو متوفر في الامام. ولعل في شرحنا السابق لوظائف الامامة ما يغني عن معاودة الحديث فيها. وقد صور هذا الدليل على ألسنتهم بصور ننقلها عن دلائل الصدق  بنصها الاولى: (إن الامام حافظ للشرع كالنبي لان حفظه من أظهر فوائد إمامته، فتجب عصمته لذلك، لان المراد حفظه علما وعملا، وبالضرورة لا يقدر على حفظه بتمامه إلا معصوم، إذ لا أقل  من خطأ غيره، ولو اكتفينا بحفظ بعضه لكان البعض الآخر ملغى بنظر الشارع وهو خلاف الضرورة، فان النبي قد جاء لتعليم الاحكام كلها وعمل الناس بها على مرور الايام (1)). والثانية: (ان  الحاجة إلى الامام في تلك الفوائد (يشير إلى ما ذكره
(1) للدليل تتمة مطولة فيها دفع شبه أوردها المصنف على نفسه وأجاب عليها، لا أرى حاجة لعرضها. (*)
------------------------------------------------------------------
العلامة من فوائد الامامة كإقامة الحدود وحفظ الفرائض وغيرها) يوجب عصمته وإلا لافتقر إلى إمام آخر وتسلسل). والثالثة: (ان الامام لو عصى لوجب الانكار عليه والايذاء له من باب الامر  بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مفوت للغرض من نصبه ومضاد لوجوب طاعته وتعظيمه على الاطلاق المستفاد من قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم). الرابعة: (لو  صدرت المعصية منه لسقط محله من القلوب فلا تنقاد لطاعته، فتنتفي فائدة النصب). الخامسة: (انه لو عصى لكان أدون حالا من أقل آحاد الامة، لان أصغر الصغائر من أعلى الامة وأولاها  بمعرفة مناقب الطاعات ومثالب المعاصي أقبح وأعظم من أكبر الكبائر من أدنى الامة (1)). وهذه الادلة لو تمت جميعا فهي غاية ما تثبته عصمة الائمة ولازمها اعتبار كل ما يصدر عنهم موافقا  للشريعة وهو معنى حجيته، إلا أنها لا تعين الائمة ولا تشخصهم فتحتاج إلى ضميمة الادلة السابقة من كتاب وسنة لتشخيصهم جميعا. والدخول في عرض ما أورد أو يورد عليها وما أجيب عنها  من الشبه يخرج البحث من أيدينا إلى بحث كلامي لا نرى ضرورة الخوض فيه هنا، وهو معروض في جل كتب الشيعة الكلامية. والخلاصة ان دلالة الكتاب والسنة على عصمة أهل البيت  وأعلميتهم وافية جدا. وان ما ورد من انسجام واقعهم التأريخي مع طبيعة ما فرضته أدلة حجيتهم من العصمة والاعلمية وبخاصة في الائمة الذين لا يمكن اخضاعهم
(1) دلائل الصدق، ج 2 ص 10 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
للعوامل الطبيعية التي نعرفها كالائمة الثلاثة الجواد والهادي والعسكري خير ما يصلح للتأييد. فتعميم السنة اذن لهم في موضعه. وما أروع ما نسب إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي من الاستدلال  على إمامة الامام علي بقوله: (استغناؤه عن الكل واحتياج الكل إليه دليل إمامته (1))، وهو دليل يصلح للاستدلال به على إمامة جميع الائمة إذ لم يحدث التأريخ في رواية صحيحة عن احتياج أحد  منهم إلى الاستفسار عن أي مسألة أو أخذها أو دراستها من الغير مهما كان شأنه عدا المعصوم الذي سبقه، ولو وجد لحفلت بذكره أحاديث المؤرخين كما هو الشأن في نظائره من الاهمية،  وبخاصة وان الشيعة يفترضون لهم ذلك. وتمام ما انتهينا إليه من بداية الحديث عن السنة إلى هذا الموضع، ان حجية السنة في الجملة من ضروريات الاسلام، بل لا معنى للاسلام بدونها، فإطالة  الحديث في التماس الحجج لها من التطويل غير المستساغ لوسط اسلامي، وان كنا محتاجين في الجملة لاطالة التحدث حول بعض ما ورد من التعميمات فيها إلى الصحابة، أو الائمة من أهل  البيت.
(1) لم يسعني التأكد من صحة النسبة فعلا لعدم عثوري عليها في المصادر التي أملكها. (*)