القسم الرابع - دليل العقل

الباب الاول القسم الرابع دليل العقل الاختلاف في تحديد العقل، ما يصلح من حدوده أن يكون أصلا، العقل مدرك وليس بحاكم، تقسيم المدركات العقلية: أقسام الحسن والقبح، اتفاق واختلاف،  رأي الاشاعرة، أدلة ونقاش، ذاتية الحسن والقبح وعدمها، رأي المعتزلة، أقسام الحسن والقبح عندهم، أدلة ونقاش، حجية العقل، مذهب الماتريدية ومناقشته، مذهب بعض الاخباريين من الشيعة  ومناقشته. خلاصة البحث.
------------------------------------------------------------------
الاختلاف في تحديد العقل: والحديث حول العقل واعتباره من القواعد التي يستند إليها المجتهدون في مجالات استنباط أحكامهم كثر لدى الاصوليين، إلا أنه لم يتحدد المراد منه عند الجميع.  وكلماتهم في ذلك مختلفة جدا، وفي بعضها خلط بين العقل كمصدر للحجية في كثير من الاصول المنتجة للحكم الشرعي الفرعي الكلي أو الوظيفة وبين كونه أصلا بنفسه يصلح أن يقع كبرى  لقياس استنباط الاحكام الفرعية الكلية كالكتاب والسنة على حد سواء. وقد عقدت في كتب بعض الشيعة والسنة أبواب لما أسموه بدليل العقل، وعند فحص هذه الابواب تجد المعروض فيها التماس  العقل كدليل على ما ينتج الوظائف أو الاحكام الظاهرية، أي أنك تجده دليلا على الاصل المنتج، لا أنه بنفسه أصل منتج لها، يقول الغزالي في مبحث دليل العقل، وهو الاصل الرابع لديه: (دل  العقل على براءة الذمة عن الواجبات وسقوط الحرج عن الخلق في الحركات والسكنات قبل بعثة الرسل عليهم السلام، وتأييدهم بالمعجزات، وانتفاء الاحكام معلوم بدليل العقل قبل ورود السمع،  ونحن على استصحاب ذلك إلى أن يرد السمع (1)). فالعقل عنده هنا من الادلة على البراءة، وهي أصل منتج للوظيفة، فهو دليل على الاصل لا دليل على الوظيفة مباشرة.
(1) المستصفى، ج 1 ص 127. (*)
------------------------------------------------------------------
وفي الحدائق الناضرة: (المقام الثالث في دليل العقل، وفسره بعض بالبراءة والاستصحاب، وآخرون قصروه على الثاني، وثالث فسره بلحن الخطاب وفحوى الخطاب ودليل الخطاب، ورابع بعد  البراءة الاصلية والاستصحاب بالتلازم بين الحكمين المندرج فيه مقدمة الواجب، واستلزام الامر بالشئ النهي عن ضده الخاص، والدلالة الالتزامية (1)) والذي يتصل من كلامه هذا بدليل العقل  كأصل، هو خصوص ما يتصل بالتلازم بين الحكمين وإن كان اتصاله من حيث تشخيص الصغريات له، أما الباقي منها فحسابه حساب ما ذكره الغزالي وغيره. ما يصلح منها لئن يكون أصلا:  وعلى أي حال فان الذي يرتبط ببحوثنا هذه من المدركات العقلية، هو الادراك الذي يتعلق بالحكم الشرعي مباشرة، وقد عرفه في القوانين المحكمة بأنه (حكم عقلي يوصل به إلى الحكم الشرعي،  وينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى العلم بالحكم الشرعي (2)). والذي يؤخذ على هذا التعريف من وجهة شكلية تعبيره بالحكم العقلي مع أنه ليس للعقل أكثر من وظيفة الادراك وهو مقصوده  حتما، وأظن ان التعبير بالحكم وانتشاره هو الذي أوجب ان يلتبس على بعض الباحثين في ان القائلين باعتبار العقل من الاصول يرونه هو الحاكم في مقابل الله عزوجل. العقل مدرك وليس بحاكم:  والتعبير بالحكم العقلي - في المجالات التشريعية - وان أوهم ذلك إلا
(1) ج 1 ص 40. (2) أصول الفقه للمظفر، ج 3 ص 108. نقلا عنه. (*)
------------------------------------------------------------------
اننا لا نعرف من يذهب إلى القول به من المسلمين على الاطلاق، وقد نسب ذلك على ألسنة بعض المشايخ إلى المعتزلة، ففي مسلم الثبوت (لا حكم إلا من الله تعالى باجماع الامة، لا كما في كتب  بعض المشايخ ان المعتزلة يرون ان الحاكم هو العقل، فان هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعي الاسلام (1)) وفي محيط الزركشي (ان المعتزلة لا ينكرون ان الله هو الشارع للاحكام  والموجب لها، والعقل عندهم طريق إلى العلم بالحكم الشرعي (2)) نعم هناك مدركات عقلية لا تكشف عن حكم شرعي لاستحالة جعله من قبله وستأتي الاشارة إليها. والخلاف الذي وقع في  الحقيقة انما هو في قابلية العقل لادراك الاحكام الشرعية من غير طريق النقل، أي ان الخلاف واقع في خصوص المستقلات العقلية لا غير، ولايضاح هذا الجانب نعرض للمسألة بشئ من  الحديث. تقسيم المدركات العقلية: لقد قسموا مدركات العقل إلى مستقلة وغير مستقلة، وأرادوا بالمستقلة ما تفرد العقل بإدراكه لها دون توسط بيان شرعي، ومثلوا له بادراك العقل الحسن والقبح  المستلزم لادراك حكم الشارع بهما، وفي مقابلها غير المستقلة وهي التي يعتمد الادراك فيها على بيان من الشارع كإدراكه وجوب المقدمة عند الشارع بعد اطلاعه على وجوب ذيها لديه، أو  إدراكه نهي الشارع عن الضد العام بعد اطلاعه على إيجاب ضده، إلى ما هنالك مما ذكروه من الامثلة وأكثرها موضع نقاش. والظاهر ان ما يدركه العقل من اللوازم على اختلافها من بينة  بالمعنى الاخص أو الاعم، أو غير بينة إذا كانت لازمة لدليل لفظي، أي
(1 - 2) مباحث الحكم عند الاصوليين، ج 1 ص 162 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
ان ما لا يستقل العقل به من المدركات، لا موضع لخلاف فيه لدى علماء الاسلام لا من حيث قابلية الادراك العقلي، ولا من حيث حجية مدركاته. وإذا كانت هناك خلافات فإنما هي في تشخيص  صغريات القاعدة، كما يستفاد ذلك من عرضهم لمباحث غير المستقلات العقلية، وانتهائهم في الكثير منها إلى إثبات هذه اللوازم واعتبارها حجة من دون مناقشة في صلاحية العقل لهذا الادراك.  والخلاف بعد ذلك إنما هو في خصوص المستقلات العقلية، أو قل في خصوص مسألة التحسين والتقبيح العقليين، والظاهر أنها هي المصدر الوحيد لجل المدركات العقلية المستتبعة لادراك  الاحكام الشرعية. والامثلة التي أوردوها (كوجوب قضاء الدين ورد الوديعة، والعدل والانصاف، وحسن الصدق النافع، وقبح الظلم وحرمته، والكذب مع عدم الضرورة، وحسن الاحسان  واستحبابه (1)..)، انما هي من صغريات هذه القاعدة. وبما أن الحديث في هذه القاعدة، صغرى وكبرى يشكل أهم ما يتصل بمبحث العقل كدليل، فلا بد من صرف الحديث إليها وتشخيص مواقع  النزاع فيها، ثم البحث عن حجيتها وعدمها. أقسام الحسن والقبح: يطلق الحسن والقبح على معاني ثلاثة، اثنان منها موضع اتفاق الكلاميين والفلاسفة من المسلمين في إمكان إدراك العقل لها،  وواحد منها موضع الخلاف.
(1) أعيان الشيعة، ج 1 ق 2 ص 18. (*)
------------------------------------------------------------------
اتفاق واختلاف: أما موضع الاتفاق منهما فهما: 1 - الحسن بمعنى الملاءمة للطبع والقبح بمعنى عدمها، فيقال مثلا: هذا المنظر حسن جميل، وذلك المنظر قبيح، أو هذا الصوت حسن وذلك قبيح،  ويريدون بذلك أنها ملائمة للطبع أو غير ملائمة. 2 - الحسن بمعنى الكمال والقبح بمعنى عدمه، فيقال بأن العلم حسن وان الجهل قبيح، يعني أن العلم فيه كمال النفس بخلاف الجهل. وهذان  المعنيان، هما اللذان كانا موضع الاتفاق، فالاشاعرة والمعتزلة وغيرهما، يؤمنون جميعا بإمكان إدراك العقل لهما. وموضع الخلاف بعد ذلك هو في المعنى الثالث وهو: 3 - الحسن بمعنى إدراك  أن هذا الشئ أو ذاك مما ينبغي ان يفعل بحيث لو أقدم عليه الفاعل لكان موضع مدح العقلاء بما هم عقلاء، والقبح بخلافه، ولا ينافي ذلك أن يكون منشأ هذا الادراك - أعني - إدراك أن هذا مما  ينبغي أن يفعل أو لا يفعل هو أحد الادراكين السابقين، بمعنى أن العقل بعد أن يدرك ملاءمة الشئ للنفس أو مجافاته لها أو يدرك كمال الشئ أو نقصه، يدرك مع ذلك انه مما ينبغي أن يفعل أو لا  يفعل. والادراك بالمعنى الثالث، هو الذي يسمى على ألسنة الفلاسفة (بالعقل العملي) ويقابله ما يسمى (بالعقل النظري) كأدراك العقل أن الكل أعظم من الجزء، وان النقيضين لا يجتمعان ولا  يرتفعان، وهما من حيث انتمائهما للعقل متحدان، إلا أنهما يختلفان بلحاظ متعلق إدراكهما، فإن كان مما ينبغي أن يعلم سمي بالعقل النظري، وإن كان مما ينبغي أن يعمل سمي بالعقل العملي  (1).
(1) أصول الفقه للمظفر، ج 2 ص 18. (*)
------------------------------------------------------------------
رأي الاشاعرة، أدلة ونقاش: من رأي الاشاعرة أنه (ليس للفعل نفسه حسن ولا قبح ذاتيان ولا لصفة توجبهما، وإنما حسنه ورود الشرع بالاذن لنا فيه على سبيل الوجوب أو الندب أو الاباحة،  وقبحه وروده بحظر من الشارع لنا منه على سبيل التحريم أو الكراهة، وإذا ورد الشرع بإطلاق الفعل لنا أو منعنا منه، فقلنا: أن ما أذن لنا فيه الشارع فحسن وما منعنا عنه فقبيح، فإن هذا  الوصف بالنسبة لافعال المكلفين ليس منشؤه العقل وإنما منشؤه حكم الشارع، فمقياس الحسن والقبح عندهم هو الشرع لا العقل). (فالصلاة والصوم وأمثالهما مما أمر الله به حسن، وليس حسنه  إلا من جهة أمر الشارع به فقط، والزنا والسرقة والقتل عدوانا بغير حق، وأكل أموال الناس بالباطل، كل ذلك قبيح لنهي الشارع عنه فقط، فلو لم يكن أمر الشارع بما أمر، ونهي الشارع عما  نهى، لما كان حسنا أو قبيحا (1)). وهذا الرأي الذي تبناه الاشاعرة يشبه إلى حد بعيد مذهب بعض علماء الاخلاق في دعواهم بأن الخير والشر لا مقياس لهما غير القانون، فما منع منه القانون  كان شرا محضا، وما أجازه أو ألزم به كان خيرا كذلك. وقد استدل الاشاعرة على ذلك بعدة أدلة نذكر منها أهمها: 1 - قولهم: (لو كان الحسن والقبح عقليين، لاختلف الحكم على الافعال من  ناحية تحسينها وتقبيحها، إذ العقول متفاوتة في حكمها على الافعال، فقد يعقل البعض حسنا فيما يقبحه الآخر والعكس، بل ان
(1) مباحث الحكم عند الاصوليين، ج 1 ص 168. (*)
------------------------------------------------------------------
العقل الواحد قد يحكم على الفعل تارة بالقبح وتارة بالحسن، تحت تأثير الهوى والغرض أو مؤثرات أخرى (1)). والجواب على هذا: ان العقول بما هي عقول لا تتفاوت في إدراكاتها وانما يقع  التفاوت بين الناس بتأثير الهوى والغرض والمؤثرات الاخرى. والمدركات العقلية المدعاة هي التي يتطابق عليها العقلاء بما أنهم عقلاء، ومع فرض تطابقهم من حيث كونهم عقلاء، فانه لا مسرح  لافتراض الهوى والغرض والمؤثرات الاخرى، والا للزم الخلف. وما أكثر ما تتطابق آراء العقلاء على شئ، وأمثلتها من العقل النظري كثيرة كالاوليات التي عرضناها في مبحث اصول  الاحتجاج، وكون الكل أكبر من الجزء ومن العقل العملي ادراكهم لحسن النظام وقبح الفوضى وحسن الاستقامة في السلوك، وقبح الاستهتار والتعدي على الآخرين إلى عشرات أمثالها. ودليل  تطابق العقلاء فيها اننا لا يمكن ان نتصور أمة من الامم مهما كان شأنها من البداءة أو التحضر تستطيع أن تتبنى في دساتيرها الفوضى والكذب والاستهتار كمبدأ من مبادئ الدولة. وأظن ان  المستدل قد اختلطت عليه الكبريات العقلية بمجالات تطبيقها فوقع فيما وقع فيه من الخلط. والظاهر ان تأثير الهوى والغرض والمؤثرات الاخرى انما يكون في الغالب في مجالات التطبيق  والتماس الصغريات لحكم العقل، وبها يكون الاختلاف، ولعل ادراك الكثير من هذه الصغريات يكون بقوى أخرى غير العقل وبخاصة إذا كانت جزئية لان العقل لا يدرك غير الكليات. 2 -  قولهم: (لو كان الحسن والقبح من الصفات الذاتية لكان ذلك
(1) مباحث الحكم عند الاصوليين، ج 1 ص 169. (*)
------------------------------------------------------------------
مضطردا فيه ولما تخلف عنه، بل يبقى الفعل حسنا دائما أو قبيحا دائما، والواقع غير ذلك لان الكذب قد يكون قبيحا وقد يكون حسنا بل يكون واجبا إذا ترتب عليه خير محقق كانقاذ برئ من يد  سلطان جائر، أو من يد ظالم له بطش ونفوذ، ويقابل ذلك ان الصدق يكون قبيحا في هذا المقام (1)). والجواب على هذا يدعونا ان نتحدث قليلا في واقع هذا القسم من الحسن والقبح وموقعه من  الذاتية وعدمها ليتضح لنا الجواب على هذا الاستدلال. ذاتية الحسن والقبح وعدمها: ذكرنا فيما سبق ان للحسن والقبح بالمعنى الثالث - أعني ادراك العقلاء بأن هذا الشئ مثلا مما ينبغي ان يفعل -  مناشئ تعود في واقعها إلى الحسن والقبح بمعنييهما السابقين أعني الكمال والنقص أو الملاءمة وعدمها. ونسبة هذه المناشئ إلى الحسن والقبح بالمعنى الثالث تختلف من حيث ما لها من قابلية في  التأثير، ويمكن تقسيمها استنادا لهذا السبب إلى ثلاثة أقسام: أولها: ما كان علة تامة في التأثير (ويسمى الحسن والقبح فيه بالذاتيين مثل العدل والظلم، فان العدل بما هو عدل لا يكون إلا حسنا أبدا،  أي أنه متى ما صدق عنوان العدل فانه لا بد ان يمدح عليه فاعله عند العقلاء ويعد عندهم محسنا، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون إلا قبيحا، أي انه متى ما صدق عنوان الظلم، فان فاعله مذموم  عندهم ويعد مسيئا (2)).
(1) مباحث الحكم عند الاصوليين، ج 1 ص 169. (2) أصول الفقه للمظفر، ج 2 ص 24. (*)
------------------------------------------------------------------
ثانيها: ما فيه اقتضاء التأثير أي لو خلي وطبعه لكان مؤثرا، ومثاله الصدق والكذب، فالصدق بما هو صدق فيه اقتضاء التأثير في إدراك العقلاء بأنه مما ينبغي ان يفعل ويمدحون فاعله عليه  بخلاف الكذب فإنه مذموم لديهم، ولكن هذا التأثير لا يتم عادة مع وجود مزاحم له يمنع من تأثيره نظرا لاهميته كأن يكون في الصدق ما يوجب قتل النفس المحترمة، أو انتهاك عرض، أو تسلط  ظالم على مؤمن وهكذا. ثالثها: ما ليس فيه اقتضاء ولا علية، فهو فاقد للتأثير لو خلي ونفسه، ولكنه يتقبل العناوين الاخر فقد يأخذ عنوانا له علية التأثير في الحسن فيكون حسنا أو القبح فيكون  قبيحا، وأكثر المباحات الشرعية من هذا القبيل، فشرب الماء مثلا لو لوحظ بمعزل عن أي عنوان آخر قد لا يكون له التأثير في إدراك العقلاء لحسنه أو قبحه لا على نحو العلية ولا على نحو  الاقتضاء، فوجوده لدى العقلاء كعدمه، ولكنه إذا عرض عليه عنوان انقاذ حياة صاحبه أو عرض عليه عنوان هلاكه، كما لو كان ممنوعا عن شربه يكون علة في إدراك العقلاء لحسنه أو قبحه.  وعلى هذا فمعنى (كون الحسن أو القبح ذاتيا: ان العنوان المحكوم عليه بأحدهما بما هو في نفسه وفي حد ذاته، يكون محكوما به لا من جهة اندراجه تحت عنوان آخر، فلا يحتاج إلى واسطة في  اتصافه بأحدهما (1)). ومعنى العلية والاقتضاء هنا هو (أن المراد من العلية أن العنوان بنفسه هو تمام موضوع حكم العقلاء بالحسن أو القبح، وأن المراد من الاقتضاء أن العنوان لو خلي  وطبعه، يكون داخلا فيما هو موضوع لحكم العقلاء بالحسن أو القبح، وليس المراد من العلية والاقتضاء
(1) أصول الفقه للمظفر، ج 2 ص 25. (*)
------------------------------------------------------------------
ما هو معروف من معناهما انه بمعنى التأثير والايجاد، فإنه من البديهي انه لا علية ولا اقتضاء لعناوين الافعال في أحكام العقلاء إلا من باب علية الموضوع لمحموله (1)). وبهذا العرض - فيما  اعتقد - يتضح الجواب على استدلالهم هذا بأنه (لو كان الحسن والقبح من الصفات الذاتية، لكان ذلك مضطردا)، لان هذا الاشكال لا يتم إلا على مبنى من يذهب إلى أن الحسن والقبح لا يكونان  إلا ذاتيين - ولست أعرف قائلا به على التحقيق - ومثل هذا الدليل يصلح للنقض إذا أريد اثبات الذاتية لهما على سبيل الموجبة الكلية. أما على ما ذكرناه من التقسيم فلا يبقى له موضوع، والامثلة  التي ذكرها مما تنتظم في القسم الثاني، أي ما فيه اقتضاء التأثير لا عليته. والذي يبدو أن المستدل ينطوي في أعماقه على الايمان بالحسن والقبح العقليين وإن لم ينتبه لذلك تفصيلا وتعبيره بأن ( الكذب قد يكون قبيحا وقد يكون حسنا بل يكون واجبا) من إمارات ذلك الانطواء، وإلا فما معنى حكمه على الكذب بالقبح أو الحسن إن لم يكن هناك حسن وقبح عقليان !. 3 - قولهم: (لو قيل: إن  الحسن والقبح عقليان للزم أن يكون الشارع الحكيم مقيدا في تشريعه للاحكام بهذه الاوصاف وإلا لكان التشريع مخالفا للمعقول، وهذا نفسه قبح ينزه الله عنه (2)). وبطلان اللازم في هذا الكلام  لا أكاد أفهم له وجها ولا أعرف السر في نسبته إلى القبح. وما هو المحذور في ان تكون تشريعاته - عزوجل - جارية على وفق المعقول ؟ ! وهل ينتظر المستدل أن يجري في تشريعه على غير  المعقول مع نسبته إلى الحكمة في لسان الدليل.
(1) أصول الفقه للمظفر، ج 2 ص 24. (2) مباحث الحكم، ج 1 ص 170. (*)
------------------------------------------------------------------
والظاهر أن لفظة التقيد التي ورد مضمونها في تعبيره هي التي أوهمته ببطلان اللازم. وربما كان الوجه في ذلك شعوره أن طبيعة التقيد تنافي الاختيار فيمن تنسب إليه لانطوائها على ضرورة  السير وفق ما تقيد به وفي نسبة عدم الاختيار إليه تعالى قبح ينزه عنه. والحقيقة أن لفظة التقييد لم ترد على لسان العدلية - في حدود ما قرأت من كلماتهم - وإنما ورد ما يعطي نتيجتها، وهو السير  على وفق المعقول واستحالة تخطي الشارع له. وهذا النوع من السير والسلوك لا ينافي طبيعة الاختيار في صاحبه، فالعاقل السوي مثلا لا يقدم على التضحية جزافا وهو مختار، وإحجامه عنها لا  ينافي اختياره بل هو بنفسه اختار ذلك الاحجام. وبما أن الله عزوجل - وهو خالق العقل وواهبه القدرة - بل هو العقل المحض - لو صح هذا التعبير - فسيره على وفق مخططه هو الذي يقتضيه  اختياره، وليس من الممكن بالنسبة إليه اختيار المرجوح وترك الراجح، بل ليس من الممكن لاي عاقل مهما كان شأنه ان يختار المرجوح وهو سليم معافى - فكيف بخالق العقل ومدبره - ؟  فالالتزام بتقيده في تشريعاته على وفق العقل إن أريد به التقيد السالب للاختيار فليس بصحيح وهو - تعالى - مما ينزه عنه، وإن أريد نتيجة التقيد وهو ما يقتضيه عمل العاقل المختار، فليس فيه أي  محذور. 4 - قولهم: (لو لم يكن الحسن والقبح في الافعال بحكم الشارع نفسه، وكان بحكم العقل، لاستحق تارك الحسن وفاعل القبح قبل بعثة
------------------------------------------------------------------
الرسل العقاب، وهذا مخالف لصريح الكتاب، يقول الله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (1))، ويقول: (ولولا ان تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت الينا رسولا  فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى (2))، فإن احتجاج الكافرين برسالة محمد على إيقاع العذاب من غير إرسال رسل، لو فرض  وقوعه، وعدم النكير من الله تعالى دليل على أنه لا عقاب ولا ثواب دون إرسال الرسل كما يدل على قوله تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (3))  (4)). وللاجابة على هذا الدليل وهو من أهم أدلتهم نحتاج إلى تمهيد أمور: 1 - التذكير بما سبق أن ذكرناه من ان موضع الخلاف في معنى الحسن والقبح هو المعنى الثالث، وهو إدراك العقل  أن هذا الشئ مما ينبغي أن يفعل أو لا ينبغي، ومدح الفاعل أو ذمه على ذلك. ولازم هذا الادراك الصادر منه - بما أنه عقل - هو تطابق العقلاء - بما أنهم عقلاء - على ذلك بما فيهم الشارع  المقدس. 2 - إن إدراكنا لهذا اللازم وتصديقنا به، ليس هو من القضايا الضرورية، وإنما هو من الآراء المحمودة والتأديبات الصلاحية. والقضايا التأديبية لا يجب أن يحكم بها العقل إذا لم يتأدب  بقبولها والاعتراف بها بخلاف القضايا الضرورية التي يكفي في الحكم بها تصور طرفيها، ومقتضى ذلك ان الحكم بتطابق العقلاء في مسألة ما، يحتاج إلى تأدب به، ولا يجب ان يحكم به كل  عاقل لو خلي ونفسه. 3 - التفرقة بين مدح الشارع وذمه - بما أنه سيد العقلاء - وبين ثوابه
(1) الاسراء / 15. (2) القصص / 47. (3) النساء / 164. (4) مباحث الحكم، ج 1 ص 170 وقد آثرنا نقل أدلتهم عن هذا المصدر نظرا لوفائه بالتأدية مع يسر التعبير  وسهولته. (*)
------------------------------------------------------------------
على الفعل وعقابه، فالذم والمدح يكفي فيهما صدور نفس الفعل من الفاعل بمنأى عن أي انتساب إلى جهة، والثواب والعقاب لا يكفي فيهما ذلك بل يحتاجان إلى ان يكون صدور الفعل أو تركه  منتسبا إلى المولى ليتحقق فيهما معنى الاطاعة أو العصيان، وهما لا يكونان عادة بدون أن تتنجز التكاليف بالوصول، وتوفر شرائطها بما فيها القدرة على الاداء، ومن هنا حكم العقل بقبح العقاب  بلا بيان واصل من المشرع. فالثواب والعقاب، وليدا إطاعة أو عصيان التكاليف الواصلة من المشرع كما هو واضح بالبداهة. 4 - إن العقل وان كانت له وظيفة الادراك، إلا ان إدراكه محدد  بحدود خاصة لا تتجاوز الكليات من ناحية، ولا تعنى كثيرا بمجالات التطبيق والقضايا الجزئية من ناحية أخرى. وفي البشر قوى أخرى كالحواس، والغرائز، وغيرها، مسؤولة عن ذلك، وهذه  القوى عرضة لكثير من الاخطاء، وكثير من تصرفاتها لا منطقية. ومن هنا نرى كثرة الاخطاء في مجالات التطبيق لبعض المدركات العقلية، فالعدالة مثلا مما تطابق على حسنها العقلاء، وأقاموا  عليها دساتيرهم وأنظمتهم وشرائعهم، ولكنك لو حاولت التعرف عليها في مجالات التطبيق، لرأيت التفاوت الكبير بينهم، فالشيوعية - مثلا - ترى ان العدالة لا تتحقق إلا إذا ألغيت الملكية الفردية  إلغاء تاما، وعوضت بالملكية الجماعية، بينما يرى دعاة الحرية الاقتصادية فسح المجال للفرد في ان يتملك ما يشاء ويعمل مواهبه في إنماء ملكيته دون تعرض لتحكم السلطات في شأنه، وكل  يدعي تحقيق العدل فيما تبناه من تشريعات، وقد يكون بعضهم مخلصا في ذلك. ولكن النظرة التجزيئية للانسان وتركيز النظر على بعض جوانبه
------------------------------------------------------------------
الفردية أو الاجتماعية مع غفلة أو تغافل عن بقية الجوانب، وقصور عن استيعاب النظرة وشمولها، كل ذلك مما أوقعه بهذه التناقضات. ومن هنا كان احتياج الانسان إلى من يضمن له العدل في  تشريعاته على أن تستوعب مختلف ابعاده المتشابكة، سواء ما يتصل منها بتحديد علائق الفرد بربه، أم بنفسه، أم بمجتمعه، أم المجتمعات بعضها ببعض. وبالطبع لا يمكن أن يضمن ذلك غير  خالق الانسان، لان خالق الشئ أخبر بمخلوقاته، وأعرف من غيره بمتطلبات حياتها. فالاحكام - كما يقول العدلية بل جميع المسلمين على اختلاف في منشأ القول ومبناه - وليدة مصالح ومفاسد في  المتعلقات والعقول لو استشرفتها واطلعت على واقعها لاقرتها حتما. ولكن قصورها عن ذلك الادراك وتطفلها على ما لا تحسن القول فيه، هو الذي أوقع بعض أربابها في كثير من المفارقات.  ومن هنا ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) أن دين الله لا يصاب بالعقول، أي ما ثبت أنه من الدين لا يمكن للعقول أن تدرك فلسفته ككل لقصور إمكاناتها عنها في مجالات الادراك. ولكن هذا لا  يمنع، من أن يدرك العقل شيئا - على سبيل الموجبة الجزئية - ومن إدراكه يدرك حكم الشارع فيه إذا كان إدراكه على سبيل القطع. وإذا تمت هذه التمهيدات اتضح عدم الوجه في دعوى التلازم  بين المقدم والتالي في قولهم: (لو لم يكن الحسن والقبح في الافعال بحكم الشارع نفسه وكان بحكم العقل، لاستحق تارك الحسن وفاعل القبح قبل بعثة الرسول العقاب).
------------------------------------------------------------------
إذ لا تنافي بين القول بأن الحسن بحكم العقل وبين عدم استحقاق العقاب. فالعقول وإن قلنا بأن لها قابلية الادراك إلا أن إدراكها منحصر في الكليات ولا يتناول الامور الجزئية كما لا يتناول  مجالات التطبيق إلا نادرا، والكليات لا تستوعب شريعة ولا تفي بحاجات البشر ومع ذلك فالعقاب والثواب انما يتولدان عن التكاليف الواصلة، ومجرد إدراك العاقل أن هذا الشئ مما ينبغي ان  يفعل أو لا يفعل، لا يستكشف منه رأي الشارع إلا إذا انتبه إلى أن العقلاء متطابقون على هذا المعنى بما فيهم الشارع، وإدراكه لتطابق العقلاء ليس من الامور البديهية كما سبق أن قلنا، وإنما هو  من الآراء المحمودة التي تحتاج إلى تنبه وتأدب، وأين التأدب في أمثال هذه القضايا قبل بعثة الرسل ؟ ! فالتكليف اذن، بالنسبة إلى نوع الناس غير واصل قبل البعثة، ولا تتم الحجة إلا بوصوله ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا). ومن أوليات العقل تقبيحه للعقاب قبل وصول البيان، وعلى هذا فليس هناك ما يمنع من الالتزام بإدراك العقل للحسن وعدم الالتزام بالعقاب والثواب. والذي يبدو  من بعض الاحاديث أن هناك من أدرك حكم الشارع من طريق العقل وخالفه فاستحق لذلك العقاب، ففي بعض الاحاديث: (امرؤ القيس قائد الشعراء إلى النار)، وفي بعضها الآخر (رأيت عمر بن  لحي يجر قصبه - أي أمعاءه - في النار) لانه أول من بحر البحائر وسيب السوائب. ومن المعلوم انه لا عقاب بلا تكليف واصل اللهم إلا ان يدعى وصول التكليف إليهم من الرسل السابقين على  الاسلام. وعلى أي حال فالثواب والعقاب وليدا وصول التكاليف وإدراك تطابق
------------------------------------------------------------------
العقلاء الكاشف عن رأي المولى والموصل للتكاليف ليس من البديهيات وكونه من الآراء المحمودة مما يحتاج إلى التأدب، وهو غير حاصل نوعا في تلكم العصور السابقة على بعثة الرسل قطعا،  فلا تلازم اذن بين ادراك العقل وعدم العقاب، والقول بأن مدح الشارع ثوابه وذمه عقابه لا أعرف له وجها، فمدحه وذمه باعتباره سيد العقلاء شئ، وباعتباره مشرعا شئ آخر، فالاول لا يتوقف  على وصول حكمه بخلاف الثاني، إذ الثواب والعقاب موقوف على وصوله وامتثاله أو عصيانه، ولا يكتفي فيه بصدور الفعل وعدمه. رأي المعتزلة: والمعتزلة في الوقت الذي اتفقوا فيه على أن  للافعال في أنفسها حسنا وقبحا اختلفوا في كونهما ذاتيين فيها أو لصفة عارضة عليها، فالذي عليه قدامى المعتزلة هو الاول منهما. وذهب الجبائية، وهم أتباع أبي علي الجبائي إلى الثاني، وقد  عرفت من مناقشة الاشاعرة وجه الحق في المسألة، فقد ذكرنا أن ادراكنا للشئ بأنه مما ينبغي ان يفعل أو لا ينبغي يختلف باختلاف مناشئه من حيث العلية والاقتضاء وعدمهما، وان كلا من  القولين هنا له منشأ سليم ولكن لا على سبيل الموجبة الكلية، وانما يصدقان على سبيل الموجبة الجزئية فقط. أقسام الحسن والقبح عندهم: ولقد قسموا الحسن والقبح من حيث نوعية الادراك إلى  أقسام ثلاثة: 1 - (ما يدرك بضرورة العقل كحسن انقاذ الغرقى والهلكى، وشكر المنعم، ومعرفة حسن الصدق وكقبح الكفران، وإيلام البرئ، والكذب
------------------------------------------------------------------
الذي لا غرض فيه (1)). 2 - (ما يدرك بنظر العقل كحسن الصدق الذي فيه ضرر، وقبح الكذب الذي فيه نفع (2)). 3 - (ما يدرك بالسمع كحسن الصلاة والحج وسائر العبادات  (3)) واعتبروها (متميزة لصفة ذاتها عن غيرها بما فيها من اللطف المانع من الفحشاء الداعي إلى الطاعة، لكن العقل لا يستقل بدركه (4)). أدلة ونقاش: واستدلوا - أو استدل لهم - على  نظريتهم في الحسن والقبح بعدة أدلة نذكر أهمها. 1 - قولهم: (ان الحسن والقبح لو لم يكونا عقليين لجاز الكذب على الله وأنبيائه، لان الكذب ليس قبيحا في ذاته وانما صفة القبح ثبتت له بالشرع،  وهذا باطل ويترتب عليه فساد الرسالات والاحكام (5)). وقد أجاب الاستاذ سلام على هذا الاستدلال بقوله: (ويمكن رد هذا الدليل، بأن الصدق والكذب ليسا من الحسن والقبح بالاطلاق الثالث  الذي وقع فيه الخلاف، وانما هو يدخل في الاطلاق الثاني وهو متفق عليه فالملازمة غير صحيحة (6)). والسؤال الذي يوجه إلى سلام، هل ان الكذب مما ينبغي صدوره من المولى مهما كانت  مناشئه أو لا ينبغي، أو ان العقل لا يقول كلمته في ذلك، والظاهر ان القول بأن العقل لا يستطيع ان يقول كلمته في ذلك لا يخلو من مصادرة، وإذا افترضنا له القول فقد تمت الملازمة وصح  الاستدلال لان الحسن والقبح بالمعنى الثالث ليس هو الا ادراك ان هذا
(1 - 2 - 3 - 4) المستصفى، ج 1 ص 36. (5 - 6) مباحث الحكم، ج 1 ص 173. (*)
------------------------------------------------------------------
الشئ مما ينبغي صدوره أو لا ينبغي من الفاعل كما سبقت الاشارة إليه. 2 - ما استدل به الماتريدية على ذلك من: (ان الحسن والقبح لو كانا شرعيين، ولم يكن ذلك وصفا في الفعل، لكانت  الصلاة والصوم والزنا والسرقة وغير ذلك أمورا متساوية قبل ورود الشرع فجعل الشارع بعضها مأمورا به، والآخر منهيا عنه ترجيح لاحد المتساويين دون مرجح (1))، وقالوا (إنهما لو كانا  شرعيين لكانت بعثة الرسل والاديان بلاء على الناس ومثار نزاع، وسببا في المتاعب والمشاق والصد عن بعض الامور والالزام بالاخرى وترتب الثواب والعقاب على ذلك. وقد كان الناس قبلها  في حرية مطلقة، يفعلون ما يرغبون في فعله ويحجمون عما لا يشتهون دون مخافة عقاب أو ترتب ثواب، وكون بعثة الرسل ضارة بالناس باطل منقوض. بقول الله تعالى: (وما أرسلناك إلا  رحمة للعالمين (2)). ولكن هذا النوع من الاستدلال - بعد الغض عما يوهمه من الخلط بين اقسام الحسن والقبح - لا يتم إلا إذا افترض المفروغية عن ان فساد الرسالات أو الاحكام أو كونها  ضارة بالناس، وليست رحمة لهم، والكذب وأمثالها مما لا ينبغي صدوره منه بحكم العقل وإلا فلا يبطل اللازم بداهة. ولعل محاولة اثبات ذلك بهذه الادلة لا يخلو من شبهة الدور. نعم، هذه الادلة  إنما تصلح لالزام الاشاعرة ببطلان ما انتهوا إليه من المبنى في اعتبار الحسن والقبح شرعيين لبطلان اللوازم الفاسدة التي تترتب عليها، لا في اثبات أصل المبنى لدى المعتزلة، ولعلها سيقت  لهذا الغرض كما هو غير بعيد.
(1) مباحث الحكم، ج 1 ص 174. (2) مباحث الحكم، ج 1 ص 174. (*)
------------------------------------------------------------------
3 - وأكثر منها إلزاما لهم ما ذكره العلامة المظفر وهو يصحح للعدلية بعض أدلتهم فيقول: (انه من المسلم عند الطرفين وجوب طاعة الاوامر والنواهي الشرعية وكذلك وجوب المعرفة، وهذا  الوجوب عند الاشاعرة وجوب شرعي حسب دعواهم، فنقول لهم: من أين يثبت هذا الوجوب، لا بد ان يثبت بأمر من الشارع فننقل الكلام إلى هذا الامر فنقول لهم: من أين تجب طاعة هذا الامر،  فان كان هذا الوجوب عقليا فهو المطلوب وان كان شرعيا أيضا فلا بد له من أمر ولا بد له من طاعة فننقل الكلام إليه وهكذا نمضي إلى غير النهاية ولا نقف حتى ننتهي إلى طاعة وجوبها عقلي  لا تتوقف على أمر الشارع وهو المطلوب. بل ثبوت الشرائع من أصلها يتوقف على التحسين والتقبيح العقليين، ولو كان ثبوتها من طريق شرعي لاستحال ثبوتها لانا ننقل الكلام إلى هذا الطريق  الشرعي فيتسلسل إلى غير النهاية، والنتيجة ان ثبوت الحسن والقبح شرعا يتوقف على ثبوتهما عقلا (1)). وخير ما يستدل به على أصل المبنى هو البداهة العقلية، وكل شبهة في مقابلها فهي  شبهة في مقابل البديهة، وقد رأيت مثار الشبهة لدى الاشاعرة فيما عرضوه من دليل وعرفت الجواب عليه، وما أحسن ما قاله الشوكاني بعد عرضه لادلتهم، وبالجملة (فالكلام في هذا البحث  يطول، وانكار مجرد إدراك العقل لكون الفعل حسنا أو قبيحا، مكابرة ومباهتة (2)). حجيته: وإذا صح ما عرضناه من إمكان إدراك العقل للحسن والقبح - بما أنه عقل - الملازم لادراكه لتطابق  العقلاء عليه - بعد تأدبه بذلك -
(1) أصول الفقه، ج 2 ص 29. (2) إرشاد الفحول، ص 9. (*)
------------------------------------------------------------------
- بما فيهم سيدهم - فقد أدركنا قطعا حكم الشارع فيها، وليس وراء القطع حجة كما سبق التأكيد على ذلك ولا حاجة لاعادة الكلام فيه. وبهذا يتضح الجواب على: مذهب الماتريدية: وهم أتباع أبي  منصور محمد الماتريدي من الاحناف حيث أنكروا (ترتب حكم الشرع على حكم العقل لان العقول مهما نضجت قد تخطئ، ولان بعض الافعال مما تشتبه فيه العقول (1))، وذلك لان العقول -  بما هي عقول - لا تخطئ ولا تشتبه. نعم هناك تخيلات لاحكام عقلية وهي صادرة عن قوى أخرى في النفس وفيها يقع الخطأ والاشتباه. على أن القطع مصدر الحجج ومنتهاها ومع فرض قيامه  فلا يعقل تصور الخطأ والاشتباه من القاطع إذ ليس وراء الرؤية الكاملة شك أو احتمال اشتباه - نعم ربما أرادوا بذلك المناقشة من حيث تحقق الصغرى، أي انكار حصول القطع بحكم الشارع  على الدوام، وهذا صحيح كما سبق بيانه مفصلا - ولكن ضيق التعبير هو الذي أدى بهم إلى نسبة الخطأ والاشتباه إلى العقول، وما يقال عن مذهب الماتريدية يقال عن: مذهب بعض الاخباريين من  الشيعة: من القول: (بعدم جواز الاعتماد على شئ من الادراكات العقلية في اثبات الاحكام الشرعية، وقد فسر هذا القول بأحد وجوه ثلاثة حسب اختلاف عبارات الباحثين منهم): (1 - إنكار إدراك  العقل للحسن والقبح الواقعيين...) (2 - بعد الاعتراف بثبوت إدراك العقل انكار الملازمة بينه وبين حكم الشرع).
(1) مباحث الحكم، ج 1 ص 174. (*)
------------------------------------------------------------------
(3 - بعد الاعتراف بثبوت إدراك العقل وثبوت الملازمة انكار وجوب إطاعة الحكم الشرعي الثابت من طريق العقل، ومرجع ذلك إلى انكار حجية العقل (1)). لان انكار الادراك العقلي  للحسن والقبح مصادرة، كما سبق بيانه، وانكاره الملازمة بينه وبين حكم الشرع بعد فرض تطابق العقلاء بما فيهم الشارع مصادرة أخرى. وانكار حجية العقل إن كان من طريق العقل لزم من  وجوده عدمه، لان الانكار - لو تم - فهو رافع لحجية العقل فلا يصلح العقل للدليلية عليه ولا على غيره، وان كان من غير العقل فما هو المستند في حجية الدليل، فان كان من غير العقل لزم  التسلسل، وإن كان من العقل لزم من وجوده عدمه لانتهائه إلى انكار حجيته ايضا، لفرض قيامه بالاخرة على انكار ثبوت الحجية له، هذا بالاضافة إلى ما سبق ان ذكرناه من ذاتية حجية القطع  وعدم امكان تصرف الشارع فيها رفعا أو وضعا. والاحكام العقلية - موضع الحديث - كلها مقطوعة. خلاصة البحث: وخلاصة ما انتهينا إليه من مجموع البحث: 1 - ان العقل مصدر الحجج  واليه تنتهي، فهو المرجع الوحيد في أصول الدين وفي بعض الفروع التي لا يمكن للشارع المقدس ان يصدر حكمه فيها كأوامر الاطاعة وكالانقسامات اللاحقة للتكاليف من قبيل العلم والجهل بها  أو اعتبار التقرب بها إذا أريد اعتبارها بجعل واحد شروطا
(1) أصول الفقه للمظفر، ج 2 ص 30، ويحسن الرجوع إلى هذا الكتاب لاستعراض حججهم والاجابة عليها فهو من خير ما كتب في موضوعه استيعابا وعمق نظر. (*)
------------------------------------------------------------------
للتكاليف للزوم الدور أو التسلسل فيها بداهة ان اطاعة أوامر الاطاعة مثلا اما ان ترجع إلى العقل أو تتسلسل إلى غير النهاية، إذ لو كانت شرعية لتوجه السؤال عن لزوم اطاعتها، فان كان  شرعيا توجه السؤال عن لزوم اطاعته، وهكذا فلا بد ان يفترض فيها ان تكون عقلية، وما ورد من الاوامر الشرعية بالاطاعة فإنما هو إرشاد وتأكيد لحكم العقل، لا انها أوامر تأسيسية. 2 -  قابليته لادراك الاحكام الكلية الشرعية الفرعية بتوسط - نظرية التحسين والتقبيح العقليين - ولكن على سبيل الموجبة الجزئية وعدم قابليته لادراك جزئياتها وبعض مجالات تطبيقها، لعجزه عن  إدراك الجزئيات وتحكم بعض القوى الاخرى وتأثيرها في مجالات التطبيق. 3 - عدم إدراكه - وحده - لكثير من الاحكام الكلية كالعبادات وغيرها لعدم ابتناء ملاكاتها - على نحو الموجبة الكلية -  على ما كان ذاتيا من معاني الحسن والقبح. وما كان فيه اقتضاء التأثير أو ليس فيه حتى الاقتضاء لا طريق له غالبا إلى احراز عدم المانع فيه أو احراز عروض بعض العناوين الملزمة عليه ومع  عدم الاحراز لا يحصل له القطع فلا يسوغ له الاعتماد عليه لعدم توفر عنصر الحجية فيه على ان هناك ما لا يمكن ان يدركه العقل من الملاكات لاتصاله بتنظيم قوى أخرى لا تسلط له عليها في  مجالات الادراك. 4 - الالتزام بالتحسين والتقبيح لا ينهي إلى انكار الشرائع بل الاحتياج قائم على أتم صوره إليها لتدارك ما يعجز العقل عن الولوج إليه وهو أكثر الاحكام بل كلها مع استثناء  القليل على اختلاف سبق عرضه في سبب هذا العجز.