القسم السادس: الاستحسان

الباب الاول القسم السادس الاستحسان تحديد الاستحسان، حجيته ومناشئ الخلاف فيها، الاستحسان وأقوى الدليلين، الاختلاف في الادلة اللفظية: التزاحم، مرجحات باب التزاحم، التعارض  وأقسامه، مرجحات باب التعارض: موافقة الكتاب ومخالفته، مخالفة وموافقة العامة، الاختلاف في الادلة غير اللفظية، الاختلاف بين الادلة اللفظية وغيرها، الاستحسان والعرف، الاستحسان  والمصلحة، الاستحسان وبعض الحالات النفسية، الحجية وأدلتها.
------------------------------------------------------------------
تحديد الاستحسان: الاستحسان في اللغة هو (عد الشئ حسنا سواء كان الشئ من الامور الحسية أو المعنوية (1)). ولكن تحديده لدى الاصوليين مختلف فيه جدا، وأكثر تعاريفهم التي ذكروها أبعد  ما تكون عن فن التعريف وهي أقرب - إلى تسجيعات الادباء التي كان يراعى فيها إخضاع المعنى للمحسنات البديعية - منها إلى تحديدات المنطقيين، واليكم نماذج مما ذكره السرخسي في  مبسوطه من التعاريف، يقول: 1 - الاستحسان ترك القياس والاخذ بما هو أوفق للناس. 2 - الاستحسان طلب السهولة في الاحكام فيما يبتلى به الخاص والعام. 3 - الاستحسان الاخذ بالسعة  وابتغاء الدعة. 4 - الاستحسان الاخذ بالسماحة وانتقاء ما فيه الراحة (2). وقريب منها في البعد عن الفن ما نسب إلى المالكية من انه (الالتفات إلى المصلحة والعدل (3)). ومثل هذه التعاريف  لا تستحق أن يطال فيها الكلام لعدم انتهائها إلى أمور محددة يمكن إخضاعها للحديث عن الحجية وعدمها. والذي يقتضي الوقوف عنده من تعاريفها التي تكاد تكون منطقية من حيث كونها ذات  مفاهيم محددة ما ذكره كل من:
(1) سلم الوصول، ص 296. (2) محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء للخفيف، ص 236 وقد نقل هذه التعاريف عن المبسوط. (3) فلسفة التشريع في الاسلام، ص 174.  (*)
------------------------------------------------------------------
1 - البزدوي من الاحناف من أنه (العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه أو هو تخصيص قياس بدليل أقوى منه (1)). 2 - الشاطبي من المالكية من أنه: (العمل بأقوى الدليلين  (2)). 3 - الطوفي من الحنابلة في مختصره من أنه: (العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص (3)). وقد ذكر له ابن قدامة معاني ثلاثة: (أحدها: العدول بحكم المسألة عن  نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنة). ثانيها: (ما يستحسنه المجتهد بعقله). ثالثها: (دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه (4)). وهذه التعريفات يختلف حالها من حيث التعميم  والتخصيص، فبعضها تخصصه بتقديم قياس على قياس، وبعضها تجعله عاما إلى تقديم مختلف الادلة بعضها على بعض، وبعضها الثالث لا يتعرض إلى عالم تقديم الادلة أصلا بل يأخذ به لمجرد  الاستحسان والانقداحات النفسية وان لم تعرف حدود هذا الاستحسان أو الانقداح الذي لا يقدر على التعبير عنه. وقد حاول بعضهم إرجاع هذه المفاهيم بعضها إلى بعض أي إرجاع الخاص منها  إلى العام، إلا ان هذه المحاولة غير ذات جدوى لاحتمال تقيد أصحابها في مجال الحجية بحدود ما عرضوه لها من مفاهيم بالاضافة إلى ان بعضها غير ناظر إلى عالم تقديم دليل على دليل لينتظم  في هذا السلك من الادلة العامة. فالانسب توزيعها في مجالات التماس الحجية لها على ما أريد لها من تحديدات.
(1 - 2 - 3 - 4) مصادر التشريع، ص 58. (*)
------------------------------------------------------------------
والذي يلاحظ - بادئ ذي بدأ - ان هذه التعاريف ليس فيها ما يدعو إلى جعل الاستحسان دليلا له استقلاله الذاتي في مقابل بقية الادلة، إذ أن قسما منها يمكن إرجاعه إلى الكتاب والسنة، وقسما  منها إلى القياس، وثالثا إلى حكم العقل، ورابعا إلى المصالح المرسلة - لو صح أنها من الادلة المستقلة وسيتضح الحال فيها -، فلا وجه - فيما يبدو - لعده من الادلة المستقلة في عرضها. حجيته  ومناشئ الخلاف فيها: وقد اختلفوا في حجيته وعدمها على قولين يتضمن أحدهما نفي الحجية وقد تبناه الشافعي وأرسل كلمته المعروفة فيه (من استحسن فقد شرع (1)). ويتضمن الثاني إثبات  الحجية له وإضفاء الاهمية الواسعة عليه، وقد تبناه مالك، وأرسل فيه قوله المعروف: (الاستحسان تسعة أعشار العلم (2)). والمعروف عن الشيعة والظاهرية أنهم من النفاة. وتحقيق الحال في  صحة النسبة وعدمها وبيان مناشئ الخلاف فيه، يقتضينا ان نعود إلى تلكم التعاريف، ونلقي بعض الاضواء عليها. ولعلنا نعود من نتائج الحديث ببعض الثمرات التي تعود في واقعها إلى تضييق  شقة الخلاف وإزالة أكثر معالمها من بين الاعلام. وملخص ما يمكن ان يقال ان تلكم التعاريف مختلفة جدا، وربما عادت في أصولها إلى أربعة، يصعب التقاؤها في قدر جامع، وتصور القدر  الجامع لها لا يخلو من تعسف، فلا بد من استعراضها جميعا.
(1) فلسفة التشريع الاسلامي، ص 174. (2) المدخل إلى الفقه الاسلامي، ص 257. (*)
------------------------------------------------------------------
وتفصيل الحديث فيها بما يتسع له صدر هذه المحاضرات وتشخيص مواقع الحجة منها من غيرها. وهذه الاصول هي: 1 - الاستحسان وأقوى الدليلين: ونريد به ما أخذ في بعض التعاريف من  العمل أو الاخذ بأقوى الدليلين، وهذا التعريف بعمومه شامل لما كان فيه الدليلان لفظيين أو غير لفظيين، أو أحدهما لفظيا والآخر غير لفظي، فالمسائل التي تنتظم في هذا القسم اذن ثلاث: 1 - ما  كان الدليلان فيه لفظيين. 2 - ما كانا فيه غير لفظيين - على تفصيل فيها. 3 - ما كان أحدهما لفظيا والآخر غير لفظي. 1 - الاختلاف في الادلة اللفظية: والاختلاف بين الدليلين اللفظيين قد  تكون له مناشئ أهمها: أ - التزاحم: ويراد بالتزاحم هنا صدور حكمين من الشارع المقدس وتنافيهما في مقام الامتثال اتفاقا، إما لعدم القدرة على الجمع بينهما كما هو الغالب في باب التزاحم، أو  لقيام الدليل من الخارج على عدم إرادة الجمع بينهما، وفي مثل هذا الحال لا بد من الرجوع إلى: مرجحات باب التزاحم: وقد عرضت في كتب الشيعة الامامية في الاصول بتفصيل واسع نشير
------------------------------------------------------------------
إلى أهم خطوطه وهي: 1 - تقديم الحكم المضيق على الحكم الموسع إذا كان في التكليفين مضيق وموسع، ومثاله ما لو تزاحم الامر بالصلاة وكانت في أول أوقاتها مع الامر بازالة نجاسة ما عن  المسجد الحرام، وكانت الاولى موسعة. 2 - تقديم ما ليس له البدل على ما كان له بدل كما لو تزاحم الامر بانقاذ نفس محترمة، كاد ان يودي بها الظمأ، والامر بالوضوء مع فرض وجود ماء لا  يتسع لهما معا، وبما أن الوضوء له بدل وهو التيمم وانقاذ النفس لا بدل له، فلا بد من تقديم الانقاذ. 3 - تقديم ما كان أمره معينا على ما كان مخيرا، كتقديم الوفاء بالنذر على الكفارة، فيما لو نذر  عتق رقبة مؤمنة، وتحقق نذره وكان لديه رقبة واحدة، وهو مطالب بعتقها للنذر ومطالب من ناحية أخرى بعتقها للكفارة، إفطار عمدي في شهر رمضان باعتبارها احدى خصال الكفارة، وحيث  يمكن تعويضها بالخصال الاخرى في الكفارة، فلا بد من عتقها للوفاء بالنذر. 4 - تقديم ما كان مشروطا بالقدرة العقلية، على ما كان مشروطا بالقدرة الشرعية كتقديم الامر بوفاء الدين على  الامر بالحج لاخذ الاستطاعة فيه شرطا بلسان الدليل، والقدرة إن اخذت بلسان الدليل سميت شرعية، لان أخذها بلسانه يكشف عن مدخليتها في الملاك، وان لم تؤخذ بلسانه سميت عقلية. والدليل  الذي لا يأخذ القدرة بلسانه، يكشف عن وجود ملاكه حتى مع عدهما، وتكون القدرة بالنسبة له دخيلة في تحقق الامتثال لا في أصل الملاك، ولهذا قدم ما كان مشروطا بالقدرة العقلية على ما كان  مشروطا بالقدرة الشرعية لتوفر ملاكه.
------------------------------------------------------------------
5 - تقديم ما كان أهم منهما على غيره، ومقياس الاهمية احساس المجتهد بان أحد الدليلين أهم في نظر الشارع من غيره كتقديم الصلاة التي لا تترك بحال بآخر مراتبها على أي واجب آخر. 6 -  تقديم أسبقهما في زمان امتثاله مع تساويهما من حيث الاهمية كتقديم صلاة الظهر على صلاة العصر فيما لو انحصرت قدرته على الاداء في الاتيان بإحدى الصلاتين مثلا. والانسب - فيما أخال -  هو حصر المقياس في التقديم بالمرجحين الاخيرين والمرجحات الاخرى مما ذكر، أو يمكن ان تذكر، لا يزيد ما يتم منها على كونه منقحا لصغريات إدراك العقل للاهمية في أحد الامرين ذاتا أو  عرضا. إذ أن إدراك الانسان للاهمية في تقديم أحدهما قد يكون منشؤه المحافظة على التكليفين معا، كاختياره المضيق وتقديمه على الموسع، أو اختياره المعين وتقديمه على المخير، أو تقديمه لما  ليس له البدل على ما له البدل، وقد يكون المنشأ غير ذلك. والمقياس - كما سبق ان ذكرنا - هو إدراكه لاهمية أحد التكليفين وترجيحه على الآخر. ومع هذا الادراك، فتقديم الاهم في باب تزاحم  الادلة اللفظية، لا يعدو كونه من قبيل تعيين الحجة الفعلية من بينها، إذ لا نحتمل في حق الشارع المقدس ان يلزمنا بالمهم ويرفع اليد عن التكليف بالاهم، لاستحالة ترجيحه للمرجوح على الراجح،  ومع استحالة امتثالهما - كما هو الفرض - فإنه يتعين ان يكون المرتفع هو التكليف بالمهم. هذا إذا كان هناك أهم ومهم، أما إذا تساويا فإن كان أحدهما أقدم زمانا من حيث ظرف الامتثال، قدم  الاقدم - بحكم العقل -
------------------------------------------------------------------
وإلا فان المكلف مخير في امتثال أيهما شاء. ب - التعارض وأقسامه: وقد يكون منشأ الاختلاف بين الادلة اللفظية هو التعارض، وأمره يختلف باختلاف صور المسألة فقد يكون بدويا يزول بأدنى  ملاحظة، وينتظم في هذا القسم: أ - تعارض العام والخاص كنهي الشارع عن بيع كل معدوم، وترخيصه به في السلم حيث التزموا بتقديم الخاص على العام وتخصيص العام به. ولقد سبق أن قلنا:  ان هذا النوع من التقديم مما يقتضيه الجمع العرفي المقتضى للاخذ بالدليلين معا مع تضييق لاحدهما عما هو ظاهر فيه. ومنشأ التقديم لدى بعض أساتذتنا هو حكومة النص على الظاهر فيما لو  كان الخاص نصا في مدلوله، أو الاظهر على الظاهر فيما إذا لم يكن نصا فيه لبداهة أن ظهور الخاص في مدلوله أكثر من ظهور العام في مدلول الخاص، فيكون بمنزلة القرينة على المراد منه،  وهي حاكمة بلسان شرح المراد من ذيها عليه، ولكن هذا الشرح ليس مما يقتضيه لسانه لو خلي وطبعه لينتظم في مبحث الحكومة في حدود ما شرحناها في بحوث التمهيد، وانما اقتضته طبيعة  الجمع بين الادلة وإيضاح بعضها ببعض. ب - ان يكون بين الدليلين حاكم ومحكوم، وقد سبق بيان السر في تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم (1). ج - أن يكون فيهما ناسخ ومنسوخ، وقد  تقدم الحديث حول مفهوم
(1) ص 88 من هذا الكتاب. (*)
------------------------------------------------------------------
النسخ وسر التقديم فيه في (مبحث السنة). هذا كله في التعارض البدوي الذي يعود إلى المضامين، بعد المفروغية عن صدور الدليلين من الشارع المقدس، أما التعارض المستحكم الذي لا يزول  بأدنى ملاحظة ولا يرى العرف طريقا للجمع بين مضامين ما تحقق فيه، كما في المتباينين أو العامين من وجه فالمرجع فيه. مرجحات باب التعارض: وقد عرضت لها صحيحة وردت عن الامام  الصادق (عليه السلام): (إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه، فإن لم تجدوه في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار  العامة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه (1))، وهذه الرواية عرضت للمرجحات المضمونية وهي لا تفترض عادة، إلا بعد تساوي الروايتين المتعارضتين من حيث السند  وليس في إحداهما ما يوجب الاطمئنان بالصدور، وقد ذكرت روايات غيرها الترجيح بالاعدلية والافقهية والاصدقية من صفات الراوي، وهي مناقشة سندا ودلالة وليس هنا موضع تفصيلها (2).  ومن هذه الصحيحة ندرك أن الترجيح المضموني لا يتجاوز: 1 - موافقة الكتاب ومخالفته. 2 - موافقة العامة ومخالفتها. موافقة الكتاب ومخالفته: ويراد بموافقة الكتاب ان يكون الحكم داخلا  ضمن إطار أحكامه
(1) مصباح الاصول، ص 415. (2) راجع مصباح الاصول، ص 414. (*)
------------------------------------------------------------------
العامة أو الخاصة، وبالمخالفة ان يصادمها على نحو التباين أو العموم والخصوص من وجه، أي في المواضع التي لا يمكن فيها الجمع العرفي أصلا، والسر في إسقاط الرواية عند المخالفة هو  ما سبق أن أشرنا إليه من أن النسخ لا يثبت بأخبار الآحاد، والاخبار المتعارضة تعطي في نتائجها ما تعطيه أخبار الآحاد من حيث عدم القطع بها سندا أو مضمونا، والنسخ لا يكون إلا بقاطع.  ومن تقديم هذا المرجح على موافقة العامة وجعل المرجح الثاني في طوله، ندرك ان موافقة الكتاب وعدم مخالفته هي المقياس الاول، كانت هناك موافقة للعامة أو مخالفة لها، فالحديث الموافق  للكتاب أو غير المخالف يؤخذ به على كل حال وافق العامة أم لم يوافقها، والحديث المخالف للكتاب يطرح سواء وافق العامة أم خالفها. مخالفة وموافقة العامة: والمراد بالعامة هنا أولئك الرعاع  وقادتهم من الفقهاء الذين كانوا يسيرون بركاب الحكام ويبررون لهم جملة تصرفاتهم بما يضعون لهم من حديث حتى انتشر الوضع على عهدهم انتشارا فظيعا صحح لمثل يحيى بن سعيد القطان  ان يقول: (لو لم أرو إلا عمن أرضى ما رويت إلا عن خمسة (1)) وليحيى بن معين قوله: (كتبنا عن الكذابين وسجرنا به التنور وأخرجنا خبزا نضيجا (2)) إلى غيرها من آراء وأقوال أرباب  الجرح والتعديل. وليس المراد بالعامة في الصحيحة وأمثالها أولئك الائمة الذين عرفوا بعد حين بأئمة المذاهب الاربعة وأتباعهم، لان هؤلاء الائمة ما كان بعضهم
(1 - 2) الغدير، ج 5 ص 291. (*)
------------------------------------------------------------------
على عهد الامام الصادق (عليه السلام) كالشافعي، وابن حنبل، والذين كانوا على عهده ما كان لهم ذلك الشأن، بحيث يكونون رأيا عاما ليصح إطلاق لفظ العامة عليهم وعلى أتباعهم. وعامة الناس  من السنة لم تجمع كلمتهم عليهم - بواسطة السلطة - إلا في عصور متأخرة جدا عن عصر الامام الصادق (عليه السلام) حيث أبطل (الظاهر بيبرس البندقداري) غيرها من المذاهب في مصر  وقصرها عليها (1) ومنه انتشرت في بقية الامصار. وعلى هذا فان كلمة الامام الصادق (عليه السلام) لم توجه إلا إلى أولئك الكذابين من أذناب الحكام فقهاء ومحدثين ممن يستسيغون الكذب  والدس مراعاة لعواطفهم وميولهم السياسية وغيرها. ووجود حديثين لا تعرض للكتاب لمضمونهما أحدهما موافق للعامة وهم ممن يستسيغون الكذب على المعصوم، والآخر مخالف لهم لا بد وان  يكون الموافق هو الذي يستحق وضع علامات الاستفهام عليه. على ان الامام ربما صدرت عنه فتاوى توافق ما انتشر عند العامة، ومبعثها على الاكثر ان الامام كان يجيب السائل على وفق ما  يدين به، فيقول له: انهم يرون في العراق كذا وفي الحجاز كذا، ونقول نحن كذا، وللسائل ان يختار ما يدين به وربما نقل السائل ما يختاره عن الامام كفتوى له، بينما تكون فتوى الامام - ان صح  تسميتها فتوى - على خلافها فتتكون لدى الآخرين فتويان متعاكستان عنه، وبهذا صح جعل المقياس من قبله بأن ما وافق العامة مما نقل عنه هو الذي يجب طرحه عند المعارضة. والخلاصة ان  مرجحات باب التعارض - من وجهة مضمونية هي: موافقة
(1) دراسات في الفلسفة الاسلامية للتفتازاني الغنيمي، ص 122. (*)
------------------------------------------------------------------
الكتاب أولا - سواء وافقت هذه الروايات ما عند العامة أم خالفتها ومخالفة العامة ثانيا. وإذا لم تتوفر هذه المرجحات كلا أو بعضا فالمرجع التساقط كما هو مقتضى القاعدة لدوران الامر بين  الحجة واللاحجة فيهما أو التخيير على قول، ولم نعرف من الفقهاء من عمل به، ورواياته ليست وافية الدلالة كما ذهب إلى ذلك بعض أساتذتنا. هذا كله في الاختلاف في الادلة اللفظية. الاختلاف  في الادلة غير اللفظية: والامر فيها مختلف، فان كان الدليلان في رتبتين كما هو الشأن في الاستصحاب وأصل البراءة قدم السابق رتبة واعتبر أقوى من لاحقه - ان صح هذا التعبير - وان كانا  في رتبة واحدة وكان أحدهما أقوى من الآخر كما هو الشأن في التماس علل الاحكام في القياس إذا كانت مستنبطة قدم القياس ذو العلة الاقوى بناء على حجية أصل القياس، وقد قصر تعريف  الاستحسان في بعض الالسنة على تقديم قياس أقوى على قياس، ولكن عده - لو صح التعريف - أصلا في مقابل القياس لا يتضح له وجه إذ تعيين أقوى القياسين لا يعدو عن تشخيص القياس  الحجة منهما فما الموجب لعده في عرضه ؟ ومع تساوي الادلة غير اللفظية في الرتبة وتعارضها، تتساقط حتما ويرجع إلى الادلة اللاحقة لها في الرتبة، وهكذا... الاختلاف بين الادلة اللفظية  وغيرها: وفي هذا الحال، لا بد من تقديم الدليل اللفظي وما هو برتبته على
------------------------------------------------------------------
غيره من الادلة لما سبق من بيان حكومته على غيرها من الاصول، ما لم يكن بعض هذه الاصول مزيلا لموضوعها، كما هو الشأن في الاستصحابات الموضوعية بالنسبة إلى بعض الادلة  اللفظية. 2 - الاستحسان والعرف: وينتظم فيه ما أخذ في الاستحسان من رجوعه إلى العرف كالاستحسان في عقد الاستصناع (وهو عقد على معدوم وصح استحسانا لاخذ العرف به)، وهذا  النوع من الاستحسان من صغريات مسألة (العرف) وحجيته، وسيأتي أنه لا يكون حجة ودليلا إلا إذا وصل الحكم الذي يقوم عليه إلى زمن المعصومين وأقر من قبلهم، وعندها يكون إقرار  المعصوم هو الدليل لا الاستحسان العرفي وإقرار المعصوم من السنة كما مر. الاستحسان والمصلحة: ويدخل ضمن هذا النوع ما يرجع منه إلى إدراك العقل لمصلحة توجب جعل حكم من  الشارع له على وفقها، وهذا ما يرجع إلى (الاستصلاح) وسيأتي الحديث عنه في مبحث (المصالح المرسلة) وتشخيص ما يصلح للحجية منه وعده في مقابله لا وجه له، وسيأتي ارجاع المصالح  المرسلة إلى صغريات حجية العقل وانها ليست من الاصول القائمة بذاتها. 4 - الاستحسان وبعض الحالات النفسية: وينتظم فيه من تعاريف الاستحسان أمثال قولهم: (دليل ينقدح في نفس المجتهد  لا يقدر على التعبير عنه). ومثل هذا النوع من الاستحسان لا يمكن عده من مصادر التشريع لكونه عرضة لتحكم الاهواء فيه بسبب من عدم ذكر الضوابط له، حتى
------------------------------------------------------------------
في أنفس المستحسنين، كما هو الفرض، على أنه لا دليل عليه اللهم إلا أن يدعي بعض اصحابه حصول القطع منه أحيانا، وربما كانت وجهة نظر القائلين (بالذوق الفقهي)، تلتقي هذا النوع من  الاستحسان، إلا أن حجيته مقصورة على مدعي القطع به من الفقهاء ومقلديهم خاصة، وهي ليست من القواعد المحددة ليمكن أن تكون أصلا قائما برأسه كسائر الاصول، وما ذكر له من الادلة  لا يصلح لاثبات ذلك فلا بد من استعراضها جميعا ومناقشتها. حجيته: وقد استدلوا على حجية الاستحسان بعدة أدلة، بعضها من الكتاب وبعضها الآخر من السنة والثالث الاجماع. أدلتهم من  الكتاب: وأهمها: 1 - قوله تعالى (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه (1)). 2 - قوله تعالى: (واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم (2)). بتقريب انه تعالى مدحهم على اتباع أحسن ما  يستمعونه من القول في الآية الاولى، وألزمهم باتباع أحسن ما أنزل إليهم من ربهم في الآية الثانية، والمدح والالزام إمارة جعل الحجية له. ويرد على الاستدلال بهاتين الآيتين ونظائرهما: 1 - ان  هذه الآيات استعملت لفظة (الاحسن) في مفهومه اللغوي، وهو أجنبي عما ذكروه لها من المعاني الاصطلاحية، ولو سلم فعلى أيها ينزل ليصلح للدليلية عليه، مع أنها متباينة وليس بينها قدر جامع،  بل لا يمكن تصوره إلا بضرب من التعسف كما سبقت الاشارة إليه، وحمله على بعضها
(1) الزمر / 18. (2) الزمر / 55. (*)
------------------------------------------------------------------
دون بعض مصادرة واضحة. نعم القائلون بأن الاستحسان هو الاخذ بأقوى الدليلين يمكنهم التمسك بهذه الآيات. 2 - ان الآية الاولى وان مدحت هؤلاء المستمعين على اتباع أحسن الاقوال، إلا  أنها افترضت ان هناك أقوالا بعضها أحسن من بعض وترجيح بعض الاقوال على بعض إذا كانت صادرة من شارع، نظرا لاهميتها - كما هو مقتضى التعبير عنها بكونها أحسن - انما هو من  شؤون الكتاب والسنة. وقد سبق ان قلنا ان ترجيح دليل لفظي على دليل عند المزاحمة أو المعارضة، يعود في واقعه إلى تعيين الحجة الفعلية من بين الاقوال، فهو راجع إليها، فعد الاستحسان  دليلا في مقابلها - بأمثال هذه الآيات لا يتضح وجهه، ومن الواضح ان الاخذ بأقوى الدليلين لا يتعدى الاخذ بأحدهما فهو ليس دليلا في مقابلهما. وما يقال عن هذه الآية، يقال عن الآية الاخرى  مضافا إلى أنها اعتبرت اتباع الاحسن في خصوص ما أنزل عليهم، لان الاحسن بعض ما أنزل - بحكم إضافته إلى ما - فإثبات ان الاستحسان مما أنزل أو مما لم ينزل، لا يرجع تعيينه إلى هذه  الآية لبداهة ان القضية لا تثبت موضوعها. 3 - ان الآيتين أجنبيتان عن عوالم جعل الحجية للاستحسان أو غيره لانهما غير واردتين لبيان هذه الجهة، ولذا لو بدلت لفظة الاحسن بلفظة أنهم  يعملون بالاستحسان في مجالات الاستنباط لا يستقيم المعنى بحال. أدلتهم من السنة: وقد استدلوا منها بما روي عن عبد الله بن مسعود من أنه قال:
------------------------------------------------------------------
(ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن (1)) ويرد على الاستدلال بها: 1 - انها موقوفة على ابن مسعود ولم يروها أحد عنه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2)، وربما كانت كلاما له  لا حديثا عن النبي (صلى الله عليه وآله) ومع هذا الاحتمال لا تصلح للدليلية أصلا. 2 - اطلاق لفظ الحسن على الاستحسان بالمعنى المصطلح في هذه الرواية لا دليل عليه لكون الاستحسان من  المعاني المستحدثة لدى المتأخرين، فكيف يصح نسبة مضمونها إلى ابن مسعود ؟ ومع الغض عن ذلك فأي معاني الاستحسان التي عرضناها ينطبق عليه هذا التعبير، وهل يتسع لها جميعا وهي  متباينة، كما سبق شرحه، وليس حمله على بعضها بأولى من حمله على الآخر ؟. والظاهر أن هذه الرواية - لو صح ورودها عن النبي (صلى الله عليه وآله) - فإنما هي لتأكيد قاعدة الملازمة بين  حكم العقل وحكم الشرع، أي ما أطبق العقلاء على حسنه فهو عند الله حسن، وهذا إنما يتم إذا أردنا من لفظة المسلمين المسلمين - بما أنهم عقلاء -. وأما إذا اعتبرنا خصوصية لهذه اللفظة ( المسلمين) فهي تصلح ان تكون من أدلة الاجماع بعد حملها على العموم المجموعي. ومن الواضح أن العموم الاستغراقي لا يمكن ان يراد منها، وإلا لاوقعتنا بألف مفارقة لانهائها إلى أن  استحسان أي مسلم، ولو كان عاميا، لا يحسن اقامة الرأي يكون تشريعا وكاشفا عن الحكم الواقعي (فهو عند الله حسن) مع ما في ذلك من فوضى لا حد لها. الاجماع: وذلك بدعوى إجماع الامة  باستحسانهم دخول الحمام وشرب الماء من
(1) إبطال القياس والرأي، ص 50. (2) إبطال القياس، ص 50 (هامش). (*)
------------------------------------------------------------------
أيدي السقائين، من غير تقدير لزمان المكث وتقدير الماء والاجرة. ولكن هذا الاجماع - لو صح وجود مثله - فهو قائم على هذه الاحكام بالخصوص لا على استحسانها، فضلا عن قيامها على كل  استحسان ولا أقل من اقتصاره على هذه الموارد بحكم كونه من الادلة اللبية التي يقتصر فيها على القدر المتيقن. والظاهر أن مثل هذا الاجماع لا أساس له، وإنما قامت السيرة على هذه الاحكام،  وهي مستمرة على (جريان ذلك إلى زمن النبي عليه الصلاة والسلام، ومع علمه به وتقريره لهم عليه (1)). والذي أتصوره أن أصلا هذه، حججه وأدلته، لا يستحق ان يعطى له أهمية كالتي  أعطاها له مالك حين قال: (الاستحسان تسعة أعشار العلم) اللهم إلا ان يريد به معناه السليم من تقديم دليل على دليل. نفاة الاستحسان وأدلتهم: أما نفاة الاستحسان فأظهرهم الشافعي، وقد علل  وجهة نظره بقوله: (أفرأيت إذا قال المفتي في النازلة ليس فيها نص خبر ولا قياس، وقال استحسن فلا بد أن يزعم أن جائزا لغيره ان يستحسن خلافه فيقول كل: حاكم في بلد ومفت بما يستحسن،  فيقال في الشئ الواحد: بضروب من الحكم والفتيا، فإن كان هذا جائزا عندهم فقد أهملوا أنفسهم فحكموا حيث شاؤوا، وإن كان ضيقا فلا يجوز أن يدخلوا فيه (2)). ومثل هذا الكلام غريب على  الفن لانتهائه - لو تم - إلى حضر الاجتهاد مطلقا، مهما كانت مصادره، لان الاختلاف واقع في الاستنباط
(1) الاحكام للآمدي، ج 3 ص 38. (2) فلسفة التشريع الاسلامي، ص 174 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
منها، إلا نادرا، ولا خصوصية للاستحسان في ذلك. وإذن فمتى جاز لحاكم أن يجتهد، فقد أجاز لغيره أن يجتهد، وعندها ينتهي الامر إلى ضروب من الاحكام والفتاوى المختلفة، ولازم ذلك أن  نمنع الاجتهاد بجميع مصادره، وهو مما لا يمكن أن يلتزم به مثله، بالاضافة إلى وروده عليه نقضا في اجتهاده بمنع الاستحسان مثلا إذ يقال له: إذا أجزت لنفسك الاجتهاد في منعه، فقد أجزت  لغيرك أن يجتهد في تجويزه، فيلزم الاختلاف في الشئ الواحد بضروب من الحكم والفتيا والظاهر أن مراده هو الردع عن خصوص القسم الرابع من الاقسام التى ذكرناها، كما تومئ إليه بقية  أقواله، مما لا تخضع لضوابط من شأنها أن تقلل من وقوع الاختلاف وتفسح المجال أمام المتطفلين على منصب الافتاء ليرسلوا كلماتهم بسهولة استنادا إلى ما يدعونه لانفسهم من انقداحات نفسية  وأدلة لا يقدرون على التعبير عنها مما يسبب إشاعة الفوضى في عوالم الفقه والتشريع. ولكن هذا النوع من الاستدلال أقرب إلى النهج الخطابي منه إلى الروح العلمية، فالانسب ان يدفع هذا  القسم بعدم قيام الدليل على حجيته لان ما ذكروه من الادلة لا يصلح - على الاقل - لاثبات ذلك على الخصوص، ويكفي شكنا في الحجية للقطع بعدمها. والخلاصة: إن كان المراد بالاستحسان، هو  خصوص الاخذ بأقوى الدليلين فهو حسن ولا مانع من الاخذ به، إلا أن عده أصلا في مقابل الكتاب والسنة ودليل العقل لا وجه له (وان كان - كما يقول ابن القفال - ما يقع في الوهم من استقباح  الشئ واستحسانه من غير حجة دلت عليه من أصل ونظير فهو محظور والقول به غير سائغ (1)).
(1) ارشاد الفحول، ص 241. (*)