(2) القسم الثاني - السنة

الباب الاول القسم الثاني السنة (4) الطرق القطعية إليها تمهيد، الخبر المتواتر، الخبر المحفوف بقرائن قطعية، الاجماع الكاشف عن رأي المعصوم، بناء العقلاء، سيرة المتشرعة، ارتكاز  المتشرعة.
------------------------------------------------------------------
تمهيد: والسنة بما هي سنة، وإن كان حجيتها - كما قلنا - من الضروريات، إلا أن مجالات الاستفادة منها لبحوثنا الفقهية موقوفة على ركائز أخر بالنسبة الينا. وقد نكون في غنى عن هذه الركائز  لو كان على عهد المعصومين، ولدينا من المؤهلات البيانية ما يرفعنا إلى فهم كلماتهم والاستفادة منها. ولكن بعدنا عن زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته ولد لنا بحوثا لا بد من اعتمادها  ركيزة من ركائز الاستنباط الاساسية بعد دراستها والخروج منها بالثمرة المتوخاة. وهذه البحوث ذات أقسام: يقع بعضها في الطرق والوسائل المثبتة للسنة والموصلة إليها، وتقع الاخرى في كيفية  الاستفادة منها، ثم معرفة مدى نسبتها للكتاب. ولعلنا نرى بعد حين أن اكثر ما أثير من الشبه حول حجية السنة على ألسنة بعض القدامى، فإنما هو منصب على الطرق الموصلة إليها، أو على  كيفيات الاستفادة منها، وإن ضاق ببعضهم التعبير فأداه بما يشعر بإنكار حجية أصل السنة، وسيتضح ذلك من عرض حججهم ومناقشتها وعلى هذا، فالبحوث (حول السنة) إنما تقع في مواقع:  (1) الطرق المثبتة لها بطريق القطع. (2) الطرق المثبتة لها بغير القطع. (3) كيفيات الاستفادة منها.
------------------------------------------------------------------
(4) موقع السنة من الكتاب. ولكل منها أقسام وفيه بحوث. تقسيم الطرق إلى السنة: والذي ينبغي أن يقال جريا على ما أصلناه في مباحث الحجة أن الطرق التي لها أهلية الايصال إليها ذات  قسمين: 1 - قطعية. 2 - وغير قطعية. ولكل منها أقسام لا بد من استقراء المهم منها والتماس أدلته، وحججه، وفحصها وتقييمها على أساس مقارن. الطرق القطعية: وقد ذكروا لها أقساما أهمها  ستة: 1 - الخبر المتواتر. 2 - الخبر المحفوف بقرائن توجب القطع بصدوره. 3 - الاجماع الكاشف عن رأي المعصوم. 4 - بناء العقلاء الكاشف عن رأي المعصوم فيه. 5 - سيرة المتشرعة  الكاشفة عن رأي المعصوم فيها. 6 - ارتكاز المتشرعة. (1) الخبر المتواتر: ويراد به إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب وصدورهم جميعا عن خطأ أو اشتباه أو خداع حواس، على ان  يجري هذا المستوى في الاخبار
------------------------------------------------------------------
في جميع طبقات الرواة، حتى الطبقة التي تنقل عن المعصوم مباشرة. فلو تأخر التعدد في طبقة ما، أو فقد أحد تلكم الشروط، خرج عن كونه متواترا إلى أخبار الآحاد، لان النتائج - كما يقول  علماء الميزان -: تتبع دائما أخس المقدمات. ومثل هذا الخبر - أعني المتواتر - مما يوجب علما بصدور مضمونه، والعلم - كما سبق بيانه -: حجة ذاتية لا تقبل الوضع والرفع. شروطه: وقد جعلوا  له شروطا اختلفوا في تعددها، ويمكن انتزاعها جميعا من نفس التعريف: يقول المقدسي: (وللتواتر ثلاثة شروط): (الاول: أن يخبروا عن علم ضروري مستند إلى محسوس، إذ لو أخبرنا الجم  الغفير عن حدوث العالم وعن صدق الانبياء، لم يحصل لنا العلم بخبرهم). (الثاني: أن يستوي طرف الخبر ووسطه في هذه الصفة وفي كمال العدد، لان كل عصر يستقل بنفسه فلا بد من وجود  الشروط فيه، ولاجل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسى (ع) تكذيب كل ناسخ لشريعته). (الشرط الثالث: في العدد الذي يحصل به التواتر واختلف الناس فيه،  فمنهم من قال: يحصل باثنين، ومنهم من قال: يحصل بأربعة، وقال قوم: بخمسة، وقال قوم: بعشرين، وقال آخرون: بسبعين، وقيل: غير ذلك). (والصحيح أنه ليس له عدد محصور (1)). ويقول  زين الدين العاملي الملقب بالشهيد الثاني في درايته وهو يعرفه
(1) روضة الناظر، ص 50. (*)
------------------------------------------------------------------
ويشير إلى شروطه: (هو ما بلغت رواته في الكثرة مبلغا أحالت العادة تواطؤهم على الكذب، واستمر ذلك الوصف في جميع الطبقات حيث تتعدد، فيكون أوله كآخره، ووسطه كطرفيه، ولا  ينحصر ذلك بعدد خاص (1)). ومثلهما غيرهما من أعلام الشيعة والسنة على غموض في أداء بعضهم ربما أو هم خلاف ذلك. على أن هذه التحديدات، ليست بذات ثمرة إلا في حدود تشخيص  المصطلح للخبر المتواتر وتحديد مفهومه، وكل ما كتب في هذا الشأن، فانما هو لتشخيص صغريات ما يقع به العلم عادة، وهذه الشرائط وأشباهها من موجبات ما يحصل بها التشخيص، وإلا فإن  المدار على العلم فإن حصل منها فهو الحجة، وإن لم يحصل احتجنا إلى التماس دليل على الحجية، وليس في هذه الشرائط ما يشير إليه. وأمثلة المتواتر كثيرة، وقد عدوا منها كل ما يتصل  بضروريات الدين، كالفرائض اليومية وأعدادها وأعداد ركعاتها، وصوم شهر رمضان، وكالذي مر في حديث الثقلين، والغدير، وأشباههما. واعتبروا منها قوله (ع): (من كذب علي متعمدا فليتبوأ  مقعده من النار (2)). (2) الخبر المحفوف بالقرائن القطعية: ويراد به الخبر غير المتواتر، سواء كان مشهورا أم غير مشهور،
(1) الدراية، ص 12، مطبعة النعمان، النجف. (2) سلم الوصول، ص 255. (*)
------------------------------------------------------------------
على ان يحتف بقرائن توجب القطع بصدوره عن المعصوم. والمدار في حجية هذا النوع من الاخبار هو حصول العلم منه كالخبر المتواتر، والعلم بنفسه - كما سبق بيانه - حجة ذاتية، فلا نحتاج  بعده إلى التماس أدلة الحجية. (3) الاجماع: والبحث في الاجماع له استقلاله، وليس موضعه هنا نظرا لاعتباره لدى الاكثر مصدرا مستقلا من مصادر التشريع في مقابل الكتاب والسنة. نعم في  بعض المباني وبخاصة لدى الاكثر من علماء الشيعة هو كشفه عن رأي المعصوم على نحو القطع، فيكون من حقه على هذا المبنى ان يبحث عنه في هذا الموضع، ولا يعتبر من الادلة المستقلة.  وقد آثرنا تأخير البحث عنه إلى موضعه جريا على ما سلكه الاكثر في عده من مصادر التشريع. (4) بناء العقلاء: ويراد به صدور العقلاء عن سلوك معين تجاه واقعة ما صدورا تلقائيا،  ويتساوون في صدورهم عن هذا السلوك على اختلاف في أزمنتهم وأمكنتهم، وتفاوت في ثقافتهم ومعرفتهم، وتعدد في نحلهم وأديانهم.
------------------------------------------------------------------
وأمثلته كثيرة منها: صدور العقلاء جميعا عن الاخذ بظواهر الكلام، وعدم التقيد بالنصوص القطعية منه، على نحو يحمل بعضهم بعضا لوازم ظاهر كلامه، ويحتج به عليه، ومنها: صدور العقلاء  جميعا عن الرجوع إلى أهل الخبرة - فيما يجهلونه من شؤونهم الحياتية وغيرها فالمريض يرجع إلى الطبيب، والجاهل يرجع إلى العالم، وهكذا... وحجية مثل هذا البناء إنما تتم إذا تم كشفه عن  مشاركة المعصوم لهم في هذا الصدور فيما تمكن فيه المشاركة، أو إقراره لهم على ذلك فيما لم تمكن فيه. وسر احتياجنا إلى الكشف عن مشاركة المعصوم، أو إقراره ولو من طريق عدم الردع  فيما يمكنه الردع عنه مع اطلاعه عليه، أن هذا البناء ليس من الحجج القطعية في مقام كشفه عن الواقع، لجواز تخطئة الشارع لهم في هذا السلوك. والفرق بينه وبين حكم العقل، أن حكم العقل  فيما يمكنه الحكم فيه وليد اطلاع على المصلحة أو المفسدة الواقعية، كما يأتي بيانه، وهذا البناء لا يشترط فيه ذلك لكونهم يصدرون عنه، - كما قلنا - صدورا تلقائيا غير معلل، فهو لا يكشف عن  واقع متعلقه من حيث الصلاح والفساد، ولعل قسما كبيرا من الظواهر الاجتماعية منشؤه هذا النوع من البناء. ومع عدم كشفه عن الواقع فهو لا يصلح للاحتجاج به على المولى لكونه غير ملزم  له، ومع اقراره أو عدم ردعه أو صدوره هو عنه يقطع الانسان بصحة الاحتجاج به عليه. وسيأتي مزيد حديث عنه بما أسموه (بالعرف) واعتبروه من الادلة المستقلة مع رجوع قسم كبير منه إلى  حجية هذا البناء.
------------------------------------------------------------------
(5) سيرة المتشرعة: وهي صدور فئة من الناس ينتظمها دين معين أو مذهب معين عن عمل ما أو تركه، فهي من نوع بناء العقلاء مع تضييق في نوع من يصدر عنهم ذلك البناء، وحجية مثل  هذه السيرة إنما تكون بعد اثبات امتدادها تأريخيا إلى زمن المعصوم واثبات مشاركته لهم في السلوك فيما يمكن صدوره منه أو إقرارها من قبله، ولو من قبيل عدم ردعه عنها مع امكان الردع  والاطلاع عليها فيما لم يمكن صدورها منه. ومع عدم اثبات ذلك لا مجال للتمسك بها بحال، وما أكثر السير المنقطعة من وجهة تأريخية لكونها حادثة، أو لا يمكن اثبات امتدادها لذلك الزمن.  والمقياس في حجيتها كشفها عن فعل المعصوم أو إقراره كشفا قطعيا ليصح الاحتجاج بها. وبهذا ندرك قيمة ما يحتج به أحيانا من ادعاء قيام السيرة القطعية على فعل شئ أو تركه مع عدم إمكان  اثبات امتدادها تأريخيا إلى زمن المعصوم، وقد يكون منشؤها فتوى سائدة يمر عليها جيل أو جيلان، تتخذ طابع السيرة لدى الناس. وكثير من الاعراف والعادات التي تشيع في بلد ما، أو بيئة معينة  حسابها نفس هذا الحساب، وإن أصبح لها في نفوس العوام طابع الشعار المقدس. وسيأتي في مبحث العرف ان قسما من الفتاوى التي سادت في بعض المذاهب لا منشأ لها إلا هذا العرف  المستحدث، وهو ما لا يصلح ان يكون حجة.
------------------------------------------------------------------
وربما عرضنا في مبحث العرف جملة من أقوال العلماء بما يكشف عن التقاء في وجهات النظر في مناشئ اعتبار الحجية لها وعدمها. وعلى أي حال فما كشف عن السنة منها قولا أو فعلا أو  إقرارا، كان حجة، وإلا فلا دليل على حجيته قطعا لما سبق ان قلنا في التمهيد الثاني من أن كل حجة لا تنهي إلى القطع فهي ليست بحجة، وان الشك في حجية شئ ما كاف للقطع بعدمها. (6)  ارتكاز المتشرعة: وقد شاع استعمال هذا الاصطلاح على السنة عند بعض أساتذتنا المتأخرين، والظاهر انهم يريدون به بالاضافة إلى توفر السيرة على الفعل أو الترك، بالنسبة إلى شئ ما،  شعور معمق بنوع الحكم الذي يصدر عن فعله أو تركه المتشرعون لا يعلم مصدره على التحقيق. الفارق بينه وبين سيرة العقلاء أو المتشرعة: ان سيرة العقلاء أو المتشرعة بحكم كونها فعلا أو  تركا لا لسان لها، فهي مجملة من حيث تعيين نوع الحكم، وإن دلت على جوازه بالمعنى العام عند الفعل أو عدم وجوبه عند الترك، لكن ارتكاز المتشرعة يعين نوعه من وجوب أو حرمة أو  غيرهما.
------------------------------------------------------------------
حجيته: وحجيته مثل هذا الارتكاز لا تتم الا إذا علمنا بوجوده في زمن المعصومين وإقرارهم لاصحابه عليه، ومثل هذا العلم يندر حصوله جدا، وتكوين الارتكاز في نفوس الرأي العام لا يحتاج من  وجهة نفسية إلى أكثر من إمرار فتوى ما في جيلين أو ثلاث على الحرمة مثلا، ليصبح ارتكازا في نفوس العاملين عليها.
------------------------------------------------------------------
الباب الاول القسم الثاني السنة (5) الطرق غير القطعية خبر الواحد تحديده، أدلة حجيته: الكتاب، السنة، الاجماع، العقل، أدلة المانعين ومناقشتها، شرائط العمل به، تقسيمات. الشهرة تحديدها،  أقسامها: الشهرة في الرواية، الشهرة في الاستناد، الشهرة في الفتوى، أدلة حجيتها: الكتاب، السنة، القياس، ومناقشتها. مطلق الظن في السنة تحديده، أدلة حجيته ومناقشتها.
------------------------------------------------------------------
الطرق غير القطعية: ونريد بها خصوص ما كان له قابلية الكشف عن السنة كشفا ناقصا، وهي على قسمين: 1 - ما قام على اعتباره دليل قطعي. 2 - ما لم يقم على اعتباره دليل. ويكاد ينحصر  الاول منهما باخبار الآحاد على تفصيل فيها. (1) خبر الواحد: وقد عرفوه بتعريفات متعددة ترجع في جوهرها إلى ما يقابل الخبر المتواتر والخبر المحفوف بقرائن توجب القطع واحدا كان أو  أكثر الاختلاف في حجيته: وقد اختلفوا في حجيته على أقوال لا تكاد تلتقي، فمنهم من منع العمل به مطلقا، ومنهم من أجازه (1). والمانعون يختلفون في سبب المنع فمنهم من يعزوه إلى حكم  العقل، وينسب ذلك إلى ابن علية والاصم، ومنهم من ينسبه إلى الشرع كالقاشاني من أهل الظاهر (2). والمجوزون مختلفون بدورهم أيضا فمنهم من يستند في حجيته إلى حكم العقل، وينسب ذلك  إلى أحمد بن حنبل وابن شريح وأبو الحسن البصري والصيرفي من الشافعية (3)، وزاد أحمد بن حنبل: (ان خبر الواحد يفيد
(1 - 2 - 3) ارشاد الفحول، ص 49. (*)
------------------------------------------------------------------
بنفسه العلم، وحكاه ابن حزم في كتاب الاحكام عن داود الظاهري والحسين ابن علي الكرابيسي والحارثي المحاسبي، قال: وبه نقول، وحكاه ابن خواز منداد عن مالك بن انس، واختاره وأطال في  تقريره (1). وأكثر علماء الاسلام على حجيته على اختلاف بينهم في شروط الحجية ومناشئها. ويعرف الوجه في حجيته وعدمها من عرض أدلتها إثباتا ونفيا، فلا حاجة إلى الدخول في تفصيل  الاقوال فيها ومناقشتها بجميع ما لها من خصوصيات. أدلة المثبتين: وقد استدل المثبتون - على اختلاف أدلتهم - بعد ضم بعضها إلى بعض بالادلة الاربعة: الكتاب، السنة، الاجماع، حكم العقل.  وأهم أدلتهم من الكتاب آيتان: أولاهما قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (2)). والظاهر من الآية بقرينة مورد نزولها  أنها واردة مورد الردع عن بناء عقلائي قائم إذ ذاك، وهو الاعتماد على خبر الواحد وان كان غير مؤتمن على النقل. وقد صبت الآية ردعها على خصوص الفاسق - بما أنه غير مؤتمن على  طبيعة ما ينقله بقرينة تعليقها التبيين على نبئه بالخصوص. وتخصيص التبين بخبر الفاسق، يكشف بمفهوم الشروط عن إقرارهم على الاخذ بخبر غيره.
(1) ارشاد الفحول، ص 48. (2) الحجرات / 6. (*)
------------------------------------------------------------------
وليست القضية هنا واردة لبيان الموضوع - كما قد يتخيل ذلك - لكون الجزاء معلقا على المجئ، وانتفاء التبين لانتفائه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع وهي لا تدل على المفهوم. وذلك لان  الموضوع في القضية الشرطية إذا كان مؤلفا من جزءين (أحدهما مما يتوقف عليه الجزاء عقلا دون الآخر، كما إذا قيل: إن ركب الامير، وكان ركوبه يوم الجمعة، فخذ بركابه، فان توقف الجزاء  على أصل الركوب عقلي، وعلى كونه يوم الجمعة شرعي مولوي، ففي ذلك يثبت لها المفهوم بالاضافة إلى خصوص الجزء الذي لا يتوقف عليه تحقق الجزاء عقلا ولا يكون لها مفهوم بالاضافة  إلى الجزء الآخر (1)). والموضوع الذي ركز عليه التبين هنا، كان مركبا من النبأ ومجئ الفاسق به، فإذا انتفى مجئ الفاسق به، انتفى لزوم التبين عنه، فكأنه قال النبأ الذي لا يجئ به الفاسق لا  يجب التبين عنه، وهو معنى حجية النبأ الذي يجئ به غير الفاسق، والظاهر أن انطواء الآية على تخصيص الردع بقسم من الاخبار التي قام بناؤهم على الاخذ بها مطلقا واقرار الباقي مما لا ينبغي  ان يكون موضعا لكلام، وظهورها في ذلك لا تزعزعه كثرة ما أورد عليها من إشكالات قد يخضع أكثرها لفلسفة لغوية، ولكنه لا يقوى مهما كانت قيمته على زلزلة ما لها من ظهور عرفي وهو  الاساس في الحجية، وبخاصة إذا لاحظنا اسلوب عرضها للفكرة وألقينا عليها الاضواء من أسباب النزول. ولكن الآية في ظاهرها واردة لاقرار بناء عقلائي ورادعة عن قسم منه، وهو الاخذ  بأخبار الفاسق - بما أنه غير مؤتمن على خبره كما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع، ويقتضيه التعليل - فهي من مكملات
(1) دراسات الاستاذ المحقق الخوئي، ص 97. (*)
------------------------------------------------------------------
الدليل القادم، أعني بناء العقلاء. الآية الثانية وهي قوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون  (1)). والذي يبدو لي من صدر الآية أن شبهة عرضت لبعض من هم خارج المدينة من المسلمين في أن لزوم التفقه المباشر من النبي صلى الله عليه وآله انما هو من قبيل الواجبات العينية التي  لا يسقطها قيام البعض بها عنهم، ففكروا بالنفر جميعا إلى المدينة ليأخذوا الاحكام عنه مباشرة، فنزلت هذه الآية لتفهمهم بأن هذا النوع من النفر الجماعي لا ضرورة له، وليس هو مما ينبغي أن  يكون لما ينطوي عليه من شل لحركتهم الاجتماعية وتعطيل لاعمالهم، فاكتفى الشارع بمجئ طائفة من كل فرقة منهم للتفقه في الدين والقيام بمهمة تعليمهم إذا رجعوا إليهم. والظاهر من أمثال هذه  الآيات التي يقع فيها تقابل الجمع بالجمع انها واردة على نحو الجموع الانحلالية لا المجموعية، بمعنى أن كل واحد من هذه الطائفة مسؤول عن تعليم بعض المكلفين لا ان المجموع مسؤولون عن  تعليم المجموع، ونظيره في تعبيراتنا المتعارفة ما لو أصدرت وزارة التعليم مثلا بيانا إلى المعلمين في الدولة في ان يكافحوا الامية بتعليم المواطنين الاميين، فليس معنى ذلك ان يجتمع المعلمون  جميعا ليعلموا دفعة واحدة مجموع الاميين، بل معناه أن على كل واحد ان يجند نفسه لتعليم غيره فردا كان أو أكثر. والعمومات المجموعية نادرة فلا يصار إليها إلا بدليل. والذي أتصوره أن  الطريقة السائدة في عصورنا من الهجرة إلى مراكز
(1) التوبة / 122. (*)
------------------------------------------------------------------
التفقه كالنجف الاشرف، وقم، والقاهرة من بعض من يسكنون بعيدا عنها، ثم العودة إلى بلادهم ليعلموا إخوانهم أحكام دينهم هي نفس الطريقة التي دأبوا عليها في عصر النبي صلى الله عليه وآله  ودعت إليها الآية. وليس في هذه الطريقة اجتماع المبلغين والمرشدين في مقام الاداء ليكونوا لمستمعيهم مقدار ما يتحقق به التواتر، بل يكتفون بالواحد الموثوق به منهم، فالآية على هذا واردة في  مقام جعل الحجة لاخبار آحاد الطائفة، وإن شئت ان تقول انها واردة لامضاء بناء عقلائي في ذلك كسابقتها. وإذا صحت هذه الاستفادة لم تبق حاجة بعد إلى استعراض ما يراد من كلمة (لعل) في  الآية، أو كلمة (الحذر) فيها، لعدم توقف دلالة الآية عليها، ويكفي في الالزام بالرجوع إليهم لاخذ الاحكام تشريع ذلك، وان كان بلسان الترخيص ومن لوازم الترخيص في مثله جعل الحجية لما  يحدثون به فلا يسوغ تجاهلها مع قيامها بداهة. واحتمال ان يراد بالطائفة ما يبلغ به حد التواتر على أن يجتمع الكل لتبليغ كل واحد منهم احتمال يأباه ظاهر الآية، وكيفية الاستفادة من نظائرها كما  يأباه الواقع العملي لما درج عليه المبلغون في جميع العهود بما فيها عهد الرسول صلى الله عليه وآله على أن لفظ طائفة أوسع منه فتضييقها إلى ما يخصه بالخصوص لا ملجأ له ولا شاهد عليه.  وبهذا يتضح واقع ما أثاره الآمدي وغيره من التشكيكات حول دلالة الآية على حجية خبر الواحد (1)، فلا حاجة إلى الدخول في تفصيلاته.
(1) اقرأ ما كتبه الآمدي، ج 1 ص 171 من الاحكام وما ورد في الكفاية وشروحها ورسائل الشيخ حول هذه التشكيكات. (*)
------------------------------------------------------------------
أدلتهم من السنة: وقد استغرقت أدلتهم من السنة جوانبها الثلاث قولا وفعلا وتقريرا. السنة القولية: أما السنة القولية فهناك طوائف من الروايات عن أهل البيت إذا لوحظت مجتمعة فهي متواترة  المضمون. اولاها: ما ورد عنهم (ع) من إرجاعهم بعض أصحابهم إلى البعض كارجاعه (ع) إلى زرارة بقوله: (إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس وأشار إلى زرارة) وقوله (ع) (العمري ثقة،  فما أدى اليك، فعني يؤدي) وكثير من أمثالها. ثانيها: ما دل على وجوب الرجوع إلى الرواة كخبر الاحتجاج: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فانهم حجتي عليكم، وأنا حجة  الله عليهم). ثالثها: ما ورد عنهم (ع) من الحث على كتابة الحديث وإبلاغه كقوله صلى الله عليه وآله: (من حفظ على أمتي أربعين حديثا، بعثه الله فقيها عالما يوم القيامة) وقوله عليه السلام لاحد  الرواة: (واكتب وبث علمك في بني عمك، فانه يأتي زمان هرج لا يأنسون إلا بكتبهم). رابعها: ما دل على ذم الكذب عليهم والتحذير من الكذابين، مثل الحديث المتواتر عن النبي صلى الله عليه  وآله: (من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار) مما يدل على المفروغية عن حجية خبر الآحاد، إذ لو كانوا مقتصرين في مجال الحجية على خصوص الخبر المتواتر لما كان مجال للكذب  عليهم، ولما كان أثر لاولئك الكذابين يخشى منه. خامسها: الاخبار الواردة في باب التعارض من الاخذ بالمرجحات
------------------------------------------------------------------
كالاعدلية، والاصدقية، والشهرة، والقول بالتخيير عند التساوي، ومع فرض عدم حجية خبر الآحاد لا يتصور فرض التعارض في أخبار المعصومين. سادسها: الاخبار الواردة في تسويغ الرجوع  إلى كتب الشلمغاني وبني فضال والاخذ بروايتها وترك آرائهم (1). ومن استعراض جميع هذه الطوائف نرى أن الحجية مجعولة فيها لخبر الثقة بما أنه ثقة، وليس لنحلته أو مذهبه أثر في الاخذ  بحديثه أو تركه كما هو الشأن في كتب بني فضال والشلمغاني، وهم من غير الشيعة الامامية، ومناسبة الحكم والموضوع تقتضيه لذلك فلا خصوصية للعدالة أو غيرها من الشروط. السنة العملية:  وحسبنا منها (ما تواتر من انفاذ رسول الله صلى الله عليه وآله أمراءه وقضاته ورسله وسعاته إلى الاطراف، وهم آحاد، ولا يرسلهم إلا لقبض الصدقات، وحل العهود وتقريرها، وتبليغ أحكام  الشرع (2)). وشواهده أكثر من ان تحصى، فلو كان خبر الثقة ليس بحجة لما كان معنى لهذا الارسال الملازم لتكليف المسلمين بالاخذ عنهم وإلزامهم بذلك، ودعوى أن أحاديث أمثال هؤلاء مما  يكتنفها من القرائن ما يوجب القطع بمطابقتها للواقع، لا تعتمد على دليل، لان رسله ليسوا كلهم بهذا المستوى، ولا الاحاديث التي يحدثون بها كذلك.
(1) تلاحظ هذه الاحاديث - بمختلف طوائفها - ولعلها تبلغ العشرات في الوسائل - كتاب القضاء - وفي رسائل الشيخ في مبحث حجية خبر الواحد. (2) المستصفى، ح 1 ص 96. (*)
------------------------------------------------------------------
السنة التقريرية: وهي قائمة بإقراره لبناء العقلاء على الاخذ بأخبار الآحاد إذا كانوا ثقات في النقل، يقول شيخنا النائني: (وأما طريقة العقلاء فهي عمدة أدلة الباب بحيث لو فرض أنه كان سبيل  إلى المناقشة في بقية الادلة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على الاعتماد بخبر الثقة، والاتكال عليهم في محاوراتهم، بل على ذلك يدور رحى نظامهم، ويمكن ان يكون ما ورد  من الاخبار المتكفلة لبيان جواز العمل بخبر الثقة من الطوائف المتقدمة كلها إمضاء لما عليه بناء العقلاء وليست في مقام تأسيس جواز العمل به لما تقدم من أنه ليس للشارع في تبليغ أوامره  طريق خاص بل طريق تبليغها هو الطريق الجاري (1)) لدى الناس جميعا، وهم يعتمدون أخبار الآحاد، ويرتبون عليها جميع آثار العلم وإن لم تكن علما في واقعها. وامتداد هذا البناء إلى زمن  النبي صلى الله عليه وآله من الواضحات، وقد حكى الغزالي في المسلك الاول (ما تواتر واشتهر من عمل الصحابة بخبر الواحد في وقائع شتى لا تنحصر (2))، وقد ضرب لها بعشرات الامثلة،  وبالطبع انه لو كانت للنبي طريقة خاصة في تبليغ الاحكام لا تعتمد أخبار الآحاد لبينها ولردع صحابته عن العمل بغيرها، وهذا ما لم يتحدث فيه التأريخ، ومثله ما يشتهر عادة ويطول الحديث فيه.  الاجماع: وقد حكاه في إرشاد الفحول عن الصحابة والتابعين (3)، وحكاه الشيخ الطوسي عن الامامية وغيرهما.
(1) فوائد الاصول، ج 3 ص 68. (2) المستصفى للغزالي، ج 1 ص 95. (3) إرشاد الفحول، ص 49. (*)
------------------------------------------------------------------
ولكن الاستدلال بالاجماع لا يتضح له وجه لعدم الطريق إليه بالنسبة الينا غير أخبار الآحاد لبداهة عدم إمكان تحصيله من قبلنا، ولعدم إمكان استيعاب الصحابة والتابعين كما هو الشأن في الدعوى  الاولى، وعدم إمكان التعرف على آراء الامامية جميعا بالنسبة للدعوى الثانية، والاجماع المنقول متوقفة حجيته على حجية خبر الناقل له، فلو كانت حجية خبر الناقل له موقوفة عليه لزم الدور،  وهناك مناقشات أخرى له لا داعي للاطالة في عرضها فلتراجع في المطولات (1). العقل: وقد صور بصور عدة، نذكر بعضها، ونحيل البعض الآخر على الكتب المطولة لعدم الجدوى بعرضها  ومناقشتها جميعا. أولاها: ما ذكره الغزالي من أن (المفتي إذا لم يجد دليلا قاطعا من كتاب أو إجماع أو سنة متواترة، ووجد خبر الواحد، فلو لم يحكم به لتعطلت الاحكام، ولان النبي صلى الله  عليه وسلم، إذا كان مبعوثا إلى اهل عصر يحتاج إلى إنفاذ الرسل إذ لا يقدر على مشافهة الجميع، ولا إشاعة جميع أحكامه على التواتر إلى كل أحد، إذ لو أنفذ عدد التواتر إلى كل قطر لم يف  بذلك اهل مدينته (2)). وقد أجاب الغزالي على الشق الاول بأن (المفتي إذا فقد الادلة القاطعة، يرجع إلى البراءة الاصلية والاستصحاب، كما لو فقد خبر الواحد أيضا (3))، ولكن هذا الجواب  غير واضح لان الرجوع إلى البراءة الاصلية في غير ما يقطع فيه محق للرسالة من أساسها، لبداهة أن
(1) اقرأ حقائق الاصول، ج 2 ص 136، وغيره. (2) المستصفى، ج 1 ص 94. (3) المستصفى، ج 1 ص 94. (*)
------------------------------------------------------------------
الاحكام القطعية محدودة جدا إن لم تكن معدومة. والاحكام المعروفة بضروريات الدين كالصوم، والصلاة، والحج، وأمثالها، وإن ثبتت لها الضرورة القطعية، إلا أن ثبوتها لها إنما هو ثبوت في  الجملة لا في جميع الخصوصيات، ولو جردت من الخصوصيات الثابتة بالامارات المعتبرة لتحولت إلى واقع لا تقره جميع المذاهب الاسلامية، فضلا عن إنكار كونه من الضروريات، على أن  الاسلام ليس هو هذه الضروريات فحسب كما هو ثابت بالبداهة. والرجوع إلى الاستصحاب وهو في رتبة سابقة على البراءة كما سبق بيانه، ويأتي مناقش صغرى وكبرى، أما الصغرى فلاحتياجه  إلى حالة سابقة معلومة وشك طارئ عليها، وهو نادر ما يقع في الاحكام الكلية الثابتة بالضرورة، وفي غيرها لا علم بحالة سابقة، كما هو الفرض، وأما الكبرى فللشك في حجية مثل هذا  الاستصحاب لرجوعه إلى ما يدور أمره بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع، لان الحكم المجعول إن كان واسع المنطقة إلى هذا الزمان، فهو مقطوع البقاء، وإن كان ضيق المنطقة فهو مقطوع  الارتفاع، فما هو الحكم المعلوم اذن ليستصحب بقاؤه ؟ وأصالة عدم النسخ إن رجعت إلى الاستصحاب فحسابها نفس هذا الحساب، وسيأتي فيها الكلام مفصلا. اللهم إلا ان يدعي أن مراده هنا  من الاستصحاب استصحاب عدم الجعل قبل البعثة، أو استصحاب عدم الحكم المجعول في حقه حال الصغر، ولكن الاشكال في جريان هذين الاستصحابين جار أيضا إما لعدم الموضوع فعلا لعدم  مشاهدتنا للحالتين: حالة ما قبل البعثة، وحالة ما بعدها، لنجري في حقنا استصحاب الحالة السابقة، لو أريد استصحاب العدم بالنسبة لحكمنا الخاص، أما لو أريد استصحاب عدم
------------------------------------------------------------------
الجعل الكلي فهو مثبت بالنسبة الينا، واستصحاب عدم الجعل حال الصغر يشكل جريانه للشك في تبدل الموضوع، فنحن حال الصغر غيرنا عندما نقع تحت التكاليف، وللاعلام في هذه الانواع من  الاستصحابات حديث يأتي في موضعه ولعل لنا في بعضها رأيا. على أن استصحاب عدم الجعل هنا، لا يجري في جميع المشكوكات للعلم الاجمالي بجعل الكثير منها لبداهة أن الاسلام لم يأت  بهذه المقطوعات أو الضروريات فحسب، ومع قيام العلم الاجمالي لا يمكن جريان الاستصحاب ولا البراءة الاصلية في أطرافه، إما لعدم إمكان جريانها أصلا، أو انها تجري وتتساقط للمعارضة،  وسيأتي إيضاح ذلك في مبحث الاحتياط العقلي. والانسب ان يجاب عنه بأن هذا الدليل لو تم فهو لا يعين العمل بأخبار الآحاد إلا بضميمة مقدمات أجنبية عن حكم العقل لجواز ان تكون هناك  طرق مجعولة من قبله تؤمن هذا الغرض الخاص أو الايكال إلى الاحتياط فيها مثلا. وأجاب عن الشق الثاني بقوله: (أما الرسول صلى الله عليه وسلم، فليقتصر على من يقدر على تبليغه، فمن  الناس في الجزائر من لم يبلغه الشرع فلا يكلف به، فليس تكليف الجميع واجبا (1)). وهذا الجواب غريب في بابه أيضا لمنافاته للشمولية التي جاءت بها رسالة النبي صلى الله عليه وآله،  وعمومها لجميع البشر (وما أرسلناك الا كافة للناس (2)) ولان فرض الاقتصار على البعض يوجب اختصاص الرسالة بهم وحرمان غيرهم مع فرض احتياجهم إلى مثلها، وأين قاعدة اللطف  منها إذن ؟
(1) المستصفى، ج 1 ص 94. (2) سبأ / 28. (*)
------------------------------------------------------------------
ولماذا لا يبعث لكل أمة نبيا يفي بحاجتها إذا تعذر قيام نبي واحد بهذه المهمة ؟ فلا بد إذن أن يفرض - بعد ثبوت الجانب الشمولي فيها - أن طرق التبليغ المعتمدة لدى النبي صلى الله عليه وآله  كافية بأيصال صوته إليها بالوسائل المتعارفة، وبذلك يتم ما قال المستدل. ثم عقب - أعني الغزالي - بعد ذلك بقوله: (نعم لو تعبد نبي بان يكلف جميع الخلق، ولا يخلي واقعة عن حكم الله تعالى،  ولا شخصا عن التكليف، فربما يكون خبر الواحد ضرورة في حقه (1)). وهذا الاستدراك عين ما أراده المستدل لتحدثه عن نبينا صلى الله عليه وآله بالخصوص ورسالته، لانها موضع حاجتنا  الفعلية. ومن البديهي ان شريعتنا عامة لجميع البشر، وما من واقعة إلا ولها فيها حكم، إلا أن قوله: (فربما يكون الاكتفاء بخبر الواحد ضرورة) لا يتم إلا بضميمة مقدمات أخرى تحصر الطريق  فيه، وهو ما لم يذكر في الدليل، كما لم يذكره في استدراكه عليه. الصورة الثانية: ما ذكره صاحب الوافية (وحاصله إنا نعلم تفصيلا ببقاء التكليف بالصلاة والصوم ونحوهما من الضروريات،  وليس لنا علم تفصيلي بأجزائها وشرائطها، فإذا تركنا العمل بمؤديات الامارات، واقتصرنا على خصوص ما علمناه من الاجزاء والشرائط، خرجت هذه الامور عن حقائقها، لان الضرورية من  الاجزاء والشرائط ليست إلا أمورا معدودة بحيث نقطع بعدم صدق العناوين المزبورة على ما هو المتفق دخله فيها. فلا مناص من الرجوع إلى الاخبار المودعة في الكتب المعتبرة (2)).
(1) المستصفى، ج 1 ص 94. (2) دراسات الاستاذ المحقق الخوئي، ص 125. (*)
------------------------------------------------------------------
ولكن هذا الدليل أضيق من المدعى لعدم اقتضائه اثبات الحجية لمطلق الاخبار بل لخصوص ما اثبت منها الاجزاء والشرائط للتكاليف المعلومة. أما الاخبار النافية التي ورد على خلافها عموم  مثبت للتكليف أو اطلاق أو اصل عملي فلا تتعرض لها باثبات، ومقتضاه عدم الحجية فيها، والتحقيق ان العقل لا يلزم باخبار الآحاد، وحسبنا في ذلك ما مر من الادلة السمعية (فما ذهبت إليه  الجماهير من سلف الامة من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين، إنه لا يستحيل التعبد بخبر الواحد عقلا، ولا يجب التعبد به عقلا، وإن التعبد واقع به سمعا (1) هو الحق في المسألة، وهو  الذي اختاره جل علماء الشيعة كما يظهر مما أوردوه في كتبهم المطولة. ادلة المانعين: أما المانعون فقد استدلوا على المنع بالادلة السمعية، كالآيات الناهية عن العمل بالظن أو بغير العلم، باعتبار  أن أخبار الآحاد لا تفيد علما بمدلولها. والجواب على ذلك ان هذه الآيات مخصصة بما دل على جواز العمل باخبار الآحاد لانها أخص منها إن لم تكن هذه الادلة حاكمة عليها. وقد اعتبروا هذه  الآيات أيضا رادعة عن بناء العقلاء بعد التغافل عن تخصيصها بما دل على الجواز. وأجيب عن ذلك أيضا بحكومة بناء العقلاء عليها لاعتبار العقلاء هذا النوع من أخبار الآحاد علما من حيث  ترتيب جميع آثار العلم عليه، ومع اعتباره علما، فهو خارج عن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم
(1) المستصفى، ج 1 ص 95. (*)
------------------------------------------------------------------
موضوعا، فلا يكون مشمولا لها بحال. واستدلوا أيضا بالاجماع على المنع من العمل بها، وهو مناقش صغرى وكبرى، أما الصغرى فلعدم حصوله لما سمعت من أن جل العلماء يذهبون إلى  جواز العمل بها، فأين موقع الاجماع منها ؟ وأما الكبرى فلمعارضته بمثله، وهو ما سبق حكايته عن الشيخ الطوسي، على ان هذا النوع من الاجماع يستحيل أن يكون حجة لانه يلزم من اثبات  حجيته عدمها بداهة أن معنى قيامه على عدم العمل بأخبار الآحاد أن لا يكون هو بنفسه حجة لانه منقول بأخبار الآحاد، وما يلزم من وجوده عدمه لا يصلح للدليلية أصلا. أما أدلتهم من العقل،  فأركزها ما سبق ان عرضناه من دعوى استحالة جعل الاحكام الظاهرية من قبل الشارع للزوم تناقضها أو تماثلها مع الاحكام الواقعية، وقد عرفت في البحوث التمهيدية مناقشتها فلا نعيد. وكأن  بعض المانعين لهذه الاسباب أو ما يشبهها أو همت كلماتهم نفي الحجية عن نفس السنة، وهم لا يريدون ذلك قطعا، وكان ذلك من نتائج الضيق في الاداء كما يوحي به تفصيل كلماتهم وضم بعضها  إلى بعض (1). شرائط العمل به: وقد اختلفوا في الشرائط المعتبرة للعمل بأخبار الآحاد، وفي مقدار اعتبارها، على أقوال قد لا يكون في عرضها وتعدادها والاستدلال عليها أي جدوى ما دمنا قد  انتهينا في استدلالنا السابق إلى أن المدار في الحجية وعدمها هي وثاقة الراوي والاطمئنان بعدم كذبه، كما هو مقتضى ما يدل عليه بناء العقلاء، وبعض الادلة اللفظية التي تسأل عن
(1) راجع تاريخ الفقه الاسلامي، لمحمد يوسف موسى، ص 227 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
وثاقة الراوي، ومناسبات الحكم والموضوع، وما سبق من إرجاع الائمة إلى كتب بني فضال. فالظاهر أن الحديث في هذه الشرائط كالحديث عن اعتبار العدالة أو البلوغ أو الذكورية أو غيرها،  إنما هو من قبيل اتخاذ الاحتياطات من قبل بعض الاصوليين للحد من الفوضى والتسامح في قبول جميع الاخبار، أو هي من قبل بعضهم اعتقاد بعدم إمكان تشخيص الصغريات لما هو حجة من  الاخبار إلا من هذه الطريق. وعلى هذا فافتقاد بعض شرائط العدالة في الراوي وعلى الاخص فيما تختلف المذاهب في اعتباره منها، لا يضر باعتماد الخبر إذا كان راويه من الثقات. واختلاف  المذاهب في الرواة إذا عرف من حالهم عدم التأثر والانفعال بمسبقات مذهبهم في مجال النقل، لا يمنع من اعتماد خبرهم والاخذ به ما لم تكن هناك قرائن أخر توجب التوقف عن العمل به. ومن  هنا اعتبر الشيعة الامامية - خلافا لما نقل عنهم من قبل بعض المتأخرين من الكتاب غير المتورعين - أخبار مخالفيهم في العقيدة حجة إذا ثبت أنهم من الثقات، وأسموا أخبارهم بالموثقات، وهي  في الحجية كسائر الاخبار وقد طفحت بذلك جل كتب الدراية لديهم، فلتراجع في مظانها المختلفة. وما يقال عن اعتبار هذه الشرائط ونظائرها، يقال عن تقسيماتهم للخبر غير المتواتر. تقسيمات  فقد قسموه إلى مشهور، أو مستفيض، وغير مشهور، وقسموا غير
------------------------------------------------------------------
المشهور إلى صحيح، وحسن، وموثق، وضعيف، ثم قسموه إلى مرسل، ومقطوع، ومرفوع، ومسند. وجل هذه التقسيمات منصب على تشخيص صغريات ما يحصل به الاطمئنان بالصدور. وقسم  منها لا يجدي إلا في مجال الترجيح عند تعارض الاخبار، ولا يهم فعلا الدخول في تفصيلاتها ما دمنا نملك المقياس في الحجية، وهو التوثق والاطمئنان بصدور الخبر من قبل المعصوم. وحتى  اعتبارهم هجر الاصحاب للخبر الصحيح من قبيل الموهنات له، وعمل الاصحاب بالخبر الضعيف جابرا له انما هو من قبيل تشخيص الصغرى لما يوجب الثقة بالصدور لا للتعبد المحض بذلك.  وعلى هذا فالدخول هنا في الاقسام وتحديدها لا يهم الآن بحثه، وهو من شؤون علماء الحديث، وموضعا في كتب الدراية، فلتراجع في مظانها الخاصة. (2) أما ما لم يقم عليه دليل قطعي فأهمه  أمران، أولهما: الشهرة: وربما عللت حجيتها بما لها من كشف عن رأي المعصوم مما اقتضى ان تعرض ضمن الادلة الكاشفة عن رأيه. ويراد من الشهرة انتشار الخبر، أو الاستناد، أو الفتوى،  انتشارا مستوعبا لجل الفقهاء أو المحدثين، فهي دون مرتبة الاجماع من حيث
------------------------------------------------------------------
الانتشار، وقد قسموها إلى ثلاثة أقسام قد تختلف من حيث الحجية وعدمها. اولاها: الشهرة في الرواية. ومؤداها انتشار رواية ما، وتدوالها بين الرواة على نحو مستوعب في الجملة ومقابلها الندرة  والشذوذ. وقد اعتبروها من مرجحات باب التعارض بين الروايات، وأدلتها من السنة كثيرة، بالاضافة إلى ان كثرة النقل عن حس مما يوجب الوثوق بالصدور بخلاف الندرة والشذوذ، فالقول  بحجيتها وصلوحها للترجيح مما لا ينبغي ان يكون موضعا لكلام. ثانيها: الشهرة في الاستناد. ويراد بها انتشار الاستناد في مقام استنباط الحكم إلى رواية ما من قبل أكثر المجتهدين. وهذه الرواية  قد لا تكون مستوفية لشرائط القبول، الا ان استناد الفقهاء إليها يكون جابرا لضعفها، كما ان إعراضهم عن رواية ما، وان كانت صحيحة، يكون من موجبات تركها وعدم العمل بها. وهذا النوع  من الاستناد أو الاعراض لا دليل على اعتباره من المرجحات، اللهم الا أن يولد وثوقا للانسان بصدور ما استندوا إليه وعدم صدور ما هجروه أو صدروه لا لغاية بيان الحكم الواقعي باعتبار أن  إصرار أكثرية الفقهاء على الاخذ برواية مع ضعفها، أو هجر رواية وهي بأيديهم مع صحتها، لا يكون بلا مستند جابر أو موهن عادة. وعلى أي فالمدار - كما سبقت الاشارة إليه - في ذلك كله  على حصول الوثوق بالصدور وعدمه، ولا خصوصية للاستناد أو الهجران، ولا يبعد ان يكون الوثوق بالصدور حاصلا في أكثر ما استندوا إليه وبعدم صدوره فيما هجروه من الروايات وهو  العمدة في مقام الحجية للاخبار وعدمها.
------------------------------------------------------------------
ثالثها: الشهرة في الفتوى. ومضمونها انتشار فتوى ما بين الفقهاء انتشارا يكاد يكون مستوعبا دون ان يعلم لها أي مستند. وقد استدلوا على حجيتها بأدلة ثلاثة: الكتاب، السنة، والقياس. أدلتهم من  الكتاب: وأهمها التعليل الوارد في آية النبأ السابقة (ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) حيث ركزت الآية في وجوب التبين على التعليل بإصابة قوم  بجهالة، ومقتضى ذلك دوران هذا الحكم مدارها وجودا وعدما، وبما أن الاستناد إلى الشهرة الفتوائية لا يعد من الجهالة والسفه، فلا يجب التبين معه في هذا الحال وهو معنى حجيته. والجواب  على ذلك: أن دوران حكم مع علة ما وجودا وعدما، لا يكون إلا مع فرض انحصار العلة، ولا دليل على انحصارها في أمثال هذه التعابير، فإذا قال الشارع - مثلا -: حرمت الخمرة لاسكارها،  فغاية ما يدل عليه هذا التعبير تعميم العلة في الحرمة إلى غير الخمر من المسكرات لا ارتفاع الحرمة عن شئ عند ارتفاع الاسكار لجواز ثبوتها له لعلة أخرى كالنجاسة، أو الغصبية، أو غيرهما  من موجبات التحريم، وانما التزمنا بدوران التبين مدار خبر الفاسق وجودا وعدما في صدر الآية، لدلالة مفهوم الشرط عليها لا أخذا بهذا التعليل، فارتفاع السفاهة هنا لا يدل على ارتفاع التبين  لجواز ثبوته بعلة أخرى غيرها.
------------------------------------------------------------------
أدلتهم من السنة: وهي كثيرة، وقد وردت رواياتها في باب تعارض الخبرين كمرفوعة زرارة، قال: (قلت: جعلت فداك ! يأتي عنكما الخبران، والحديثان المتعارضان، فبأيهما نعمل ؟ قال عليه  السلام: خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذ النادر). وقد قربوا الاستدلال بها أن الموصول في قوله (ما اشتهر) مبهم، وصلته معرفة له، وبما أن الشهرة التي اعتبرت في الصلة مطلقة، فهي  شاملة للشهرة في الفتوى بمقتضى ذلك الاطلاق. وقد أجيب عليها بأن المراد من الشهرة هنا، الشهرة بمدلولها اللغوي، وهي الوضوح والابانة، أخذا من شهر السيف إذا جرده من غمده وأبانه،  وهي مختصة بهذا المعنى بما علم صدوره من الشارع، لا ما ظن أو شك فيه، فكأنه قال (ع): خذ بما وضح وبان انتسابه الينا لدى أصحابك، على أن طبيعة السؤال والجواب تقتضي أن يكون  الجواب على قدر السؤال ولا يتجاوزه إلى غيره، والمسؤول عنه هنا هو خصوص الخبرين المتعارضين، فلا معنى للاجابة بما يعمهما ويعم الشهرة الفتوائية، لانها غير داخلة في السؤال، ومن  شرائط الاطلاق أن يعلم أن الشارع كان في مقام البيان من هذه الجهة ولم يقم قرينة على الخلاف ليصح التمسك به، فكونه في مقام البيان من حيث التعميم لها، تأباه طبيعة التطابق بين السؤال  والجواب الذي يقتضي السنخية بينهما حتى مع فرض التعميم لغير المورد. ولو تنزلنا فلا محرز له إن لم نقل ان التطابق يصلح للقرينية على الخلاف.
------------------------------------------------------------------
ثالثها - القياس: وقد قربوه بما ادعى استفادته في خبر الواحد من كون العلة في حجيته هو حصول الظن بمدلوله، وهي متوفرة في الشهرة الفتوائية، بل هي فيها أقوى منها في خبر الآحاد. وهذا  الاستدلال من أمتنها لو كان المنشأ في حجية أخبار الآحاد هو الظن الحاصل منه. ولكن سبق لنا ان استعرضنا جل أدلة أخبار الآحاد، فلم نجد فيها ما يشير إلى هذه العلة، وهي اعتبار الظن، لذلك  عممنا حجيته إلى ما لم يفد الظن منه، ولم نجعل الظن مقياسا لنلجأ إليه، فأركان القياس إذن لم تتوفر في هذا الموضع ليصح الاخذ به. وعلى هذا، فالشهرة الفتوائية لا مستند لها ليؤخذ بها، فهي  ليست بحجة كما ذهب إلى ذلك كثير من الفقهاء. (3) حجية مطلق الظن بالسنة: ويراد به العمل بكل ظن يتولد للانسان من أي سبب كان، إذا كان متعلقا بحكم شرعي يظن انه ثبت بالسنة. وقد  استدل له بأدلة كلها عقلية، وليس فيها ما ينهض بالدليلية، وجل أدلته مما ترجع إلى ما يسمى بدليل (الانسداد الكبير) وقد عرضناه وناقشناه في مبحث القياس لاستدلال بعضهم به على حجيته  باعتباره من مصاديق ما يحصل به الظن، والذي يرتبط من أدلته ببحوثنا هذه
------------------------------------------------------------------
ما ذكره صاحب الحاشية من عده في جملة ما تثبت به السنة بمقتضى فحوى دليله، وحاصل ما استدل به: (إنا نعلم علما قطعيا بلزوم الرجوع إلى السنة بحديث الثقلين وغيره مما دل على ذلك،  فيجب علينا العمل بما صدر عن المعصومين، فإن أحرز ذلك بالقطع فهو، وإلا فلا بد من الرجوع إلى الظن في تعيينه، ونتيجة ذلك وجوب الاخذ بما يظن بصدوره (1))، ومن الواضح ان الظن  هنا لم يقيد بكونه حاصلا من الاخبار ليكون دليلا على حجية ما يفيد الظن منها كما أفيد، بل أطلق لما يشمل كل ظن بالسنة ومن أي سبب كان، لذلك آثرنا عده من أدلة مطلق الظن بالسنة.  والجواب على هذا أن دعوى القطع بالعمل بمطلق الظن بالسنة مع عدم إحرازها بالقطع - كما هو مقتضى مفاد دليله - لا تخلو من مصادرة، لان الظن بما هو ظن ليس من الحجج الذاتية التي لا  تحتاج إلى جعل أو إمضاء، وهذا الدليل لا يثبت جعلا ولا إمضاء شرعيا له بل لا تعرض فيه لهذه الجهة أصلا. ووجوب العمل بالسنة - وإن كان ضروريا - إلا أنه لا يتنجز على الملكف إلا بعد  إحرازها بمحرز ذاتي أو مجعول، وهذا الترديد الذي ورد في الدليل لا يتم إلا إذا ثبت من الخارج أن الظن محرز للسنة في عرض القطع أو في طوله على الاقل، وإثبات محرزتيه بهذا الدليل  دوري كما هو واضح. وحسبنا من الادلة الرادعة عن العمل بالظن حجة في الردع عن مثله ما دام لم يثبت لنا بهذا الدليل ما يخصصها أو يحكم عليها لعدم تماميته وصلوحه لاثبات ما أريد له.
(1) الدراسات، ص 125. (*)
------------------------------------------------------------------
الباب الاول القسم الثاني السنة (6) السنة وكيفية الاستفادة منها السنة كلها تشريع، كيفيات الاستفادة منها: دلالة القول: حجية أقوال أهل الفن، الاصول اللفظية، دلالة الفعل، دلالة الترك، دلالة  التقرير.
------------------------------------------------------------------
(1) السنة كلها تشريع: والحديث حول كيفيات الاستفادة منها يدعونا ان نمهد له بالحديث عن تشخيص نفس السنة التي تقع موقع التشريع، فهي وإن اتفقوا على تعريفها بقول المعصوم وفعله  وتقريره إلا أنهم قيدوا حجيتها بما أحرز أنها واردة مورد التشريع، ولذا قسموها إلى أقسام، يقول في سلم الوصول - وهو كلام جار نظيره على السنة الكثير -: (ليس كل ما روي عن الرسول عليه  الصلاة والسلام، من أقواله وأفعاله وتقريراته تشريعا يطالب به المكلفون، لان الرسول بشر كسائر الناس اصطفاه الله رسولا لهداية الناس وإرشادهم، قال تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى  إلي (1)) فما صدر منه ينتظم الاقسام الآتية: (1) ما صدر منه بحسب طبيعته البشرية كالاكل، والشرب، والنوم، وما إلى ذلك من الامور التي مرجعها طبيعة الانسان وحاجته. (2) ما صدر منه  بحسب خبرته وتجاربه في الحياة وفي الامور الدنيوية، وبحسب تقديره الشخصي للظروف والاحوال الخاصة، وذلك مثل شؤون التجارة والزراعة والمسائل المتعلقة بالتدبيرات الحربية، وما إلى  ذلك من الامور التي يعتمد فيها على مقتضيات الاحوال ومراعاة الظروف. وهذان القسمان ليسا تشريعا، لان مرجع القسم الاول الطبيعة والحاجة البشرية، ومرد القسم الثاني الخبرة والتجارب  في الحياة والتقدير الشخصي
(1) الكهف / 110. (*)
------------------------------------------------------------------
للظروف الخاصة من غير ان يكون هناك دخل للوحي الالهي ولا للنبوة والرسالة. (3) ما صدر منه على وجه التبليغ عن الله تعالى، بصفته رسولا يجب الاقتداء به والعمل بما سنه من الاحكام  مثل تحليل شئ أو تحريمه، والامر بفعل أو النهي عنه، وكبيان العبادات، وتنظيم المعاملات، والحكم بين الناس. فهذا القسم الاخير تشريع عام يجب على كل مكلف العمل به. والاحاديث الواردة في  هذا القسم تسمى بأحاديث الاحكام. وبالجملة فإن أقوال الرسول وأفعاله وتقريراته إنما تكون دليلا من الادلة، ومصدرا من المصادر التشريعية التي تستمد منها الاحكام الشرعية ذا صدرت منه  بمقتضى رسالته لسن القوانين وتشريع الاحكام أو بيانها (1)). ولكن هذه التفرقة بين أقسام ما يصدر عنه من قول أو فعل أو تقرير، لا تخلو من غرابة إذا علمنا أنه ما من واقعة إلا ولها حكم في  الشريعة الاسلامية كما هو مقتضى شموليتها، ولا يفرق في ذلك بين ما تقتضيه طبيعته البشرية كالاكل والشرب وغيره، إذا كان صادرا منه عن إرادة، وبين غيره من تجارب. وإذا تم ما سبق أن  عرضناه من أدلة العصمة له، فإن كل ما يصدر عنه بطبيعة الحال يكون موافقا لاحكام الشريعة ومعبرا عنها، وما دام الاكل والنوم والشرب من أفعاله الارادية، فهي محكومة حتما بأحد الاحكام،  فأصل الاكل محكوم بالجواز بالمعنى العام، وأكله لنوع معين يدل على جوازه، كما أن تركه لانواع أخرى يدل على جواز الترك لها،
(1) سلم الوصول، ص 262 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
فالقول بأن ما كان من شؤون طبيعته البشرية لا يعبر عن حكم، لا يتضح له وجه. كما أن ما يتصل بالقسم الثاني من شؤون خبرته وتجاربه هو الآخر معبر عن حكمه، وحكمه هنا جواز التعبير  عنه - وإن أخطأ الواقع لو صح جواز خطئه في الموضوعات، ولنا التأسي به في الاخبار عن تجاربنا وخبراتنا في حدود ما نعلم منها، وحتى قوله - لو صح عنه -: أنتم أعلم بشؤون دنياكم، فهو  إمضاء لهم على جواز إعمال تجاربهم وخبراتهم الخاصة، فهو لا يخرج عن الدلالة على التشريع. نعم ما كان من مختصات النبي صلى الله عليه وآله كالزواج بأكثر من أربع، أو ما كان من  أفعاله الطبيعية غير الارادية، فهو لا يعبر عن حكم عام. والخلاصة ان تقييد السنة بما صدر عنه على وجه التشريع كما صنع غير واحد في غير موضعه، لان كل ما يصدر عنه من أفعاله  الارادية فهو تشريع عام عدا مختصاته الخاصة، اللهم إلا ان يريدوا به الايضاح لا الاحتراز وهو بعيد عن مساق كلامهم. اقصاه ان بعض افعاله تختلف عن البعض الآخر من حيث دلالتها على  الحكم بعنوانه الاولي أو العنوان الثانوي، ودلالتها أحيانا على جواز العمل بالحكم الظاهري، وهكذا... (2) كيفيات الاستفادة منها: وما دمنا قد علمنا أن السنة هي القول والفعل والتقرير، فلا بد من  التحدث عن مدى دلالة كل منها.
------------------------------------------------------------------
دلالة القول: واستفادة ما له من دلالة انما تكون بحسب ما تدل عليه الالفاظ بمفاهيمها اللغوية - أو الاصطلاحية فيما ثبتت فيه الحقيقة الشرعية من قبله - لما سبق ان أكدناه من أن الشارع لم  يخترع لنفسه ولاتباعه طريقة جديدة خاصة للتفاهم، وانما جرى على وفق ما عند العرب منها. وهذه الالفاظ إن كانت نصا في مدلولها أو ظاهرة فيه أخذ بها، وإلا فلا بد من الاستعانة - في  غوامض اللغة وغرائبها - بالرجوع إلى اهل الفن في ذلك كاللغويين في المفرادت اللغوية، والنحويين، والصرفيين، والبلاغيين في الهيئات وتراكيب اللغة وخصائص الاساليب، واستشارتهم في  هذه الجوانب والصدور عما يقولون. حجية أقوال أهل الفن: والظاهر أن المنشأ في حجية أقوالهم، هو البناء العقلائي في رجوع الجاهل إلى العالم الممضي من قبل الشارع قطعا، وربما اعتبره  بعضهم من الاحكام العقلية التي تطابق عليها العقلاء بما فيهم الشارع المقدس. نعم يعتبر في هؤلاء ان يكونوا خبراء في فنهم، وأن يكونوا موثوقين في أداء ما ينتهون إليه، لانه هو المتيقن من ذلك  البناء أو الحكم العقلي. فالتشكيك اذن في حجية أقوال اللغويين أو غيرهم من أهل الفن في غير موضعه. الاصول اللفظية: وهناك أصول لفظية يرجع إليها عند الشك في المراد بسبب بعض  الطوارئ التي تولد احتمالا على خلاف الظاهر كأصالة عدم التخصيص عند
------------------------------------------------------------------
الشك في طرو مخصص على العام، وأصالة عدم التقييد عند الشك في طرو المقيد على المطلق، وأصالة عدم القرينة عند الشك في إقامتها على خلاف الحقيقة وتجمعها اصالة الظهور، وهذه  الاصول ونظائرها، انما تجري لدى أهل العرف - وهم منشأ حجيتها مع العلم باقرار الشارع لهم عليها، لما قلناه من عدم اختراعه طريقة للتفاهم خاصة به - عند الشك في تعيين المراد، ولا تجري  فيما إذا علم المراد وشك في كيفية الارادة، فأصالة عدم القرينة - مثلا - لا تجري فيما إذا علم باستعمال لفظة ما في أحد المعاني، وشك في كون الاستعمال كان على نحو الحقيقة أو المجاز لتثبت  أنه على نحو الحقيقة باعتبار أن المجاز مما يحتاج إلى قرينة، وأصالة عدم القرينة تدفعها بل تجري إذا احتملنا إرادة أحد معنيين حقيقي ومجازي ولم نستطع تعيينه بالذات، فأصالة عدم القرينة  تعين المعنى الحقيقي منهما. دلالة الفعل: وقد اختلفوا في مقدار ما يستفاد من افعاله، فالذي عليه أبو اليسر هو التفصيل بين أن يكون الفعل معاملة، فالاباحة إجماعا، وبين ان يكون قربة فهو محل  الخلاف، والذي نقل عن مالك: (الوجوب عليه وعلينا، وقال الكرخي: مباح في حقه لتيقنها بالفعل، وليس للامة اتباعه إلا بدليل، وقال جمع من الحنفية: الاباحة في حقه، ولنا اتباعه إلا بدليل (1)).  (وهذان المذهبان، يعكران على نقل أبي اليسر إلاجماع على الاباحة في المعاملات، فانهما لم يفرقا بين قربة ومعاملة، وقال المحققون: إن الخلاف إنما هو بالنسبة إلى الامة، فمن قائل بالوجوب،  ومن قائل بالندب، ومن قائل بالاباحة، ومن قائل بالوقف (2)).
(1 - 2) أصول الفقه للخضري، ص 232 وما بعدها. (*)
------------------------------------------------------------------
والذي عليه من نعرف من محققي الشيعة عدم دلالته على أكثر من الاباحة بالمعنى العام لا الاباحة في مقابل الوجوب والحرمة باستثناء ما كان قريبا منه، لان التقرب يصلح للقرينية على رجحان  ما أتى به، ولا يعين نوعه من وجوب أو استحباب إذ لا معنى للتقرب بالمكروه أو المباح. وعمدة ما يصلح للدليلية لهم هو كون الفعل مجملا بنفسه لا لسان له ليتعبد بمقتضى ما يدل عليه لسانه،  وغاية ما تدل عليه أدلة العصمة أن المعصوم لا يرتكب الذنب، فمجرد صدور الفعل منه، يدل على أن ما أتى به ليس بمحرم عليه وإنما هو مباح بالمعنى الاعم للاباحة، وأوامر الاقتداء به تدل على  مشاركتنا له في جميع الاحكام إلا ما كان من مختصاته، فهو إذن مباح لنا ايضا، ودعوى أن النبي صلى الله عليه وآله لا يصدر منه إلا ما كان راجحا، فلا يعمل المكروه ولا المباحات مع توفر  العناوين الثانوية التي يمكن أن تحول ما كان مباحا بالاصل إلى مستحب بالعنوان الثانوي - وإن كان مما يقتضيها مقام النبوة - إلا أن أدلة العصمة لا تلزم بها أصلا. واستدلال بعضهم على  الوجوب علينا بأوامر الاقتداء - الدالة على لزوم متابعته صلى الله عليه وآله في كل ما يفعله حتى المباحات حيث تتحول مباحاته إلى واجبات في حقنا بحكم لزوم المتابعة - لا يخلو من غرابة لان  أوامر الاقتداء لا تقتضي أكثر من الاتيان بالافعال على الوجه الذي أتى به، فإذا افترضناها مباحة أو مستحبة، فتحويلها إلى الوجوب في حقنا ينافي طبيعة الاقتداء والالتزام بما التزم به الرسول  صلى الله عليه وآله لان معنى اقتدائنا به في المباحات، هو كوننا مخيرين بين الفعل والترك كما هو مخير بينهما، فاضفاء صفة الوجوب عليها، ينهي بنا إلى الخلف طبعا.
------------------------------------------------------------------
والظاهر ان الآمدي، وابن الحاجب، والخضري من المتأخرين، ممن تبنوا هذا الرأي الذي انتهى إليه المحققون من الشيعة، يقول الخضري: (ومختار الآمدي وابن الحاجب ما ذكرنا أولا وهو  الظاهر، لان المتيقن من صدور الفعل منه اباحته فلا يثبت الزائد على ذلك إلا بدليل). (وظهور قصد القربة دليل على أن الفعل مطلوب، والمتيقن من الطلب الندب، فلا يثبت ما زاد عنه). (أما  ادعاء ان الفعل يثبت بنفسه مع جهل صفته حكما شرعيا فوق الاباحة، فهو قول بلا دليل، وكل ما ذكروه من أدلتهم إنما يتجه إذا علمت صفة الفعل، وفرض المسألة انها مجهولة (1)). إلا أن الذي  يؤخذ على الخضري عدم تقييده الاباحة بكونها بالمعنى العام مما يوهم ارادة الاباحة الاصطلاحية، أي تساوي الطرفين، وهي لا معين لها أيضا، كما ان تعبيره بعد ذلك ان المتيقن من الطلب  الندب، لا يخلو من من مسامحة أيضا، لان الندب نوع من أنواع الطلب في مقابل الوجوب وله فصله الخاص، فتعيينه بالذات يحتاج إلى معين لان نسبة الطلب اليهما نسبة واحدة ما دام معتبرا من  قبيل الجنس لهما. نعم لو كان هو مرتبة من الوجوب لامكن ان يقال بالقدر المتيقن بالنسبة له، ولكنه ليس كذلك بداهة، بل هو نوع في مقابله له حدوده الخاصة فلا معنى لاعتباره قدرا متيقنا له.  دلالة الترك: ولا يستفاد منها أكثر من عدم الوجوب، أما تعيين الحرمة أو
(1) أصول الفقه، ص 233. (*)
------------------------------------------------------------------
الاستحباب أو الكراهة أو الاباحة، فلا معين لها لان القدر المتيقن من أدلة العصمة انه لا يرتكب الذنب، فتركه للشئ إذن لا يكون تركا لواجب كما هو مقتضى ما تدل عليه وتلزم به، وإن كان في  ما يقتضيه مقام النبوة ان لا يواظب النبي صلى الله عليه وآله على ترك مستحب، كما سبقت الاشارة إليه. دلالة التقرير: والظاهر أن ما يفيده الاقرار على الشئ لا يدل على أكثر من الجواز  بالمعنى العام سواء كان متعلقه فعلا عابرا، أم عادة متحكمة، أم عرفا خاصا، أم بناء عقلائيا، اللهم إلا ان يكون البناء أو العرف قائما على حجة ملزمة فإقراره يستلزم ثبوت حجيتها عند الشارع  المساوق للالزام بها في مواقع الالزام كما هو الشأن في الاخذ بأخبار الثقات وبالبناء العقلائي على الاخذ بالظواهر والعمل بالاستصحاب وأمثالها. هذا إذا لم تكن هناك قرينة تبين نوع الحكم المقر  كما لو كانت بعض العادات مثلا قد اتخذت طابع الحكم الالزامي عندهم، فإقرارهم عليه يدل على الالزام به، أما الاقرار على عدم الفعل فهو لا يدل على أكثر من عدم وجوبه. والقول بأن التقرير  يدل (على الاباحة (1)) إذا أريد من الاباحة تساوي الطرفين مشكل إذ لا معين لها من بين أنواع الجواز والتقرير كالفعل لا لسان له فهو مجمل، والقدر المتيقن منه الاباحة بالمعنى العام فتعيين  فصلها يحتاج إلى معين.
(1) أصول الفقه، ص 233. (*)
------------------------------------------------------------------
وقد اشترط غير واحد اعتبار القدرة على الانكار في حجية التقرير وهو شرط سار في جميع أنواع السنة، لان القدرة على التبليغ شرط فيها جميعا. نعم يستفاد من السكوت مع عدم القدرة على  الانكار أن ذلك - أعني السكوت - مشروع للتقية، بل هو من أدلة مشروعية التقية التي لا مدفع لها.
------------------------------------------------------------------
الباب الاول القسم الثاني السنة (7) السنة والكتاب السنة وعلائقها بالكتاب، نوعية أحكامها، تخصيص الكتاب بها وعدمه، نسخ الكتاب بالسنة، رتبة السنة من الكتاب.
------------------------------------------------------------------
السنة وعلائقها بالكتاب: وإذا عرفنا مفهوم السنة وتعرفنا على حجيتها، واستطعنا التوصل إليها من طرقها الذاتية أو المجعولة، وعرفنا مضامينها حسب الكيفيات المجعولة لذلك كان علينا بعدها ان  نبحث علائقها بالكتاب العزيز والحديث حول ذلك يقع في مواقع أهمها أربعة: 1 - نوعية ما ترد به من أحكام ونسبته إلى الكتاب العزيز. 2 - امكان تخصيص الكتاب بها وعدمه. 3 - امكان نسخ  الكتاب بها وعدمه. 4 - رتبتها من الكتاب عند الاستدلال والمعارضة. 1 - نوعية أحكامها: أما نوعية أحكامها فهي حسبما يدل عليه استقراؤها في مصادرها لا تخرج عن احد ثلاثة: أ - تأكيد ما  ورد في الكتاب من أحكام عامة كالاحاديث الآمرة بأصل الصلاة والصيام والزكاة والحج، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وكالاحاديث الناهية عن الخمر والميسر والانصاب والازلام وما  أهل به لغير الله، وحسابها حساب الآيات المتعددة الدالة على حكم واحد. ب - شرح ما ورد من آيات عامة في القرآن، وبيان أساليب ادائها وامتثالها والتعرض لكل ما يتصل بها من أجزاء  وشرائط وموانع، كالاحاديث المحددة للمراد من الصلاة والصيام والحج، والمبينة لاجزائها
------------------------------------------------------------------
وشرائطها وموانعها وكل ما يرتبط بها من شؤون الاداء. ج - تأسيس أحكام جديدة لم يتعرض لها الكتاب فيما نعرف من آيات أحكامه مثل حرمان القاتل من الميراث إذا قتل مورثه، وتحريم الجمع  بين نكاح العمة وابنة أخيها أو الخالة وابنة أختها إلا باذنهما، وكتحريم لبس الحرير للرجال وأمثالها، يقول ابن القيم: (والسنة مع القرآن ثلاثة أوجه: احدها ان تكون موافقة له من كل وجه فيكون  توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الادلة وتظافرها، والثاني ان تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيرا له، والثالث ان تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن ايجابه أو محرمة لما  سكت عن تحريمه (1)). 2 - تخصيص الكتاب بها وعدمه: ومن اعتبار صفة الشرح والبيان لها يتضح أنه ليس هناك ما يمنع من تخصيص الكتاب بها ما دام المخصص بمنزلة القرينة  الكاشفة عن المراد من العام، والظاهر أنه بهذا المقدار موضع اتفاق المسلمين، ولذلك أرسلوا - إرسال المسلمات - إمكان تخصيص الكتاب بما تواتر من السنة، ولكن موضع الخلاف في السنة  التي تثبت باخبار الآحاد، فالذي عليه الجمهور ان (خبر الواحد يخص عام الكتاب كما يخصه المتواتر (2)) وفصل الحنفية بين ان يكون العام الكتابي قد خصص من قبل بقطعي حتى صار بذلك  التخصيص ظنيا، وبين ما لم يخصص فجوزوه في الاول ومنعوه في الثاني (3)، وذهب البعض إلى المنع مطلقا. وعمدة ما استدلوا به دليلان: أولهما دعوى ان الخبر الواحد لا
(1) سلم الوصول، ص 259 نقلا عن أعلام الموقعين، ج 2 ص 232. (2 - 3) أصول الفقه للخضري، ص 184. (*)
------------------------------------------------------------------
يقوى على معارضة الكتاب، لان الكتاب قطعي وخبر الواحد ظني. وثانيهما موقف عمر بن الخطاب من حديث فاطمة بنت قيس: (حينما روت انه عليه الصلاة والسلام لم يجعل لها نفقة، ولا  سكنى وهي بائن فقال عمر: لا نترك كتاب ربنا، ولا سنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصابت أم أخطأت (1)) وكلاهما لا يصلحان للدلالة على المقصود، أما الاول منهما فلأن نسبة الخاص إلى  العام نسبة القرينة إلى ذي القرينة، وليس بينهما تعارض كما هو فحوى الدليل، وحيث يمكن الجمع بين الدليلين لا مجال لطرح أحدهما وإلغائه ولو فرض التعارض، وعدم إمكان الجمع بينهما عرفا  لما أمكن رفع اليد عن الكتاب بالتخصيص حتى في السنة المتواترة بينما لم يلتزم أحد منهم بذلك، بل لما أمكن ورود الخاص من الشارع أصلا لاستحالة تناقضه على نفسه كما هو الشأن في  المتباينين أو العامين من وجه عندما يلتقي الحكمان في موضع التقائهما حيث حكموا بالتساقط في الاخبار الحاكية لذلك فيهما. وبعد افتراض حجية الخاص في نفسه وإن كان مرويا بأخبار الآحاد،  فأي مانع من إعطائه صفة الشرح لما أريد من العام الكتابي ؟ ومع التنزل فان التعارض في الحقيقة ليس بين سنديهما ليقدم القطعي على الظني، وإنما هو بين ظنية الطريق في خبر الآحاد، وظنية  الدلالة في العام الكتابي، فالكتاب وإن كان قطعي الصدور إلا أنه ظني الدلالة بحكم ما له من ظهور في العموم، ولا موجب لاسقاط أحدهما بالآخر. نعم لو كان العموم الكتابي مما لا يقبل  التخصيص لكونه نصا في مدلوله لا يحتمل الخلاف، ولا يتقبل قرينة عليه، لتعين القول بإسقاط
(1) أصول الفقه للخضري، ص 184. (*)
------------------------------------------------------------------
الخبر وتكذيبه لاستحالة صدور التناقض من الشارع، وحيث ان الكتاب مقطوع الصدور ومقطوع الدلالة، فلا بد ان يكون الكذب منسوبا إلى الخبر ويتعين لذلك طرحه. وبهذا العرض يتضح معنى  الاخبار الواردة عن المعصومين في اعتبار ما خالف كتاب الله زخرفا، أو يرمى به عرض الجدار، وجعل الكتاب مقياسا لصحة الخبر عند المعارضة في الاحكام التي تعرض لها الكتاب. واتهام  الزنادقة بوضع هذا الاخبار - كما ورد على لسان الاصوليين - منشؤه عدم إدراك معنى الحديث. نعم قد يقال ان النسخ يقتضي أحيانا مصادمة الحديث الناسخ للكتاب، فكيف يجعل الكتاب مقياسا  لصحته، وهذا الاشكال صحيح لو كانت هذه الاحاديث واردة في غير أبواب التعادل المستدعي لتعارض الاخبار، والتعارض لا يكون إلا في أخبار الآحاد، وسيأتي أن النسخ لا يكون بخبر الواحد  إجماعا على أن النسخ - لولا الاجماع على عدم وقوعه بخبر الآحاد - لامكن القول به هنا أيضا، لحكومة الدليل الناسخ على الدليل المنسوخ، ولا تصادم بين الدليل الحاكم والدليل المحكوم فلا  تصدق المخالفة مع عدم التصادم، وسيأتي إيضاح ذلك عما قليل. أما الدليل الثاني - أعني رأي الخليفة عمر - فإن أريد من الاستدلال به أنه سنة واجبة الاتباع أخذا بما ذهب إليه الشاطبي، فقد  عرفت ما فيه في مبحث سنة الصحابة، وإن أريد الاستدلال به بما أنه (مذهب الصحابي) واجتهاده، فسيأتي ما فيه، وأنه لا يصلح ان يكون حجة إلا عليه وعلى مقلديه لا على المجتهدين، كما هو  التحقيق، على أن الذي يبدو من الرواية المذكورة تشكيك الخليفة في قيمة روايتها وهو أجنبي
------------------------------------------------------------------
عن جواز التخصيص بخبر الثقة وعدمه، فلا تصلح للاستدلال بها أصلا، والذي يظهر من إقرار الخليفة عمر للخليفة الاول في تخصيصه لآية المواريث بخبره الذي انفرد بنقله: (نحن معاشر  الانبياء لا نورث)، وعدم الانكار عليه أنه من القائلين بجواز التخصيص بخبر الآحاد. ودعوى الخضري (1) أن هذا الحديث ونظائره قد يكون مستفيضا إلى درجة توجب القطع غريبة لانها  تصادم كلما صح نقله في هذا الباب من انفراد الخليفة بنقله (2). وما يقال عن التخصيص يقال عن التقييد بأخبار الآحاد لمطلقات الكتاب، والحديث فيهما واحد. وإذا صح هذا لم نعد بحاجة إلى  استعراض - ما طرأ - على آية (وأحل لكم ما وراء ذلكم)، ونظائرها من الآيات - من التخصيصات المأثورة بأخبار الآحاد، والمقرة من قبل الصحابة، كما أنا لم نعد بحاجة إلى مناقشة الحنفية في  تفصيلهم الذي لا يعرف له مأخذ يمكن الركون إليه. 3 - نسخ الكتاب بالسنة: ويراد من النسخ على ما هو التحقيق في مفهومه - رفع الحكم في مقام الاثبات عن الازمنة اللاحقة مع ارتفاعه في  مقام الثبوت لارتفاع ملاكه، وهو لا يتأتى إلا في الاحكام التي تؤدي بصيغ العموم، أو كل ما يدل عليه - ولو بمعونة القرائن - من حيث التعميم لجميع الازمنة. وارتفاع الاحكام التي تقيد بوقت  معين لانتهاء وقتها لا يسمى نسخا اصطلاحا، وقد أحاله فريق لادلة عقلية لا تنهض بذلك وسرها الجهل
(1) أصول الفقه للخضري، ص 184. (2) راجع مصادره في النص والاجتهاد في قصة فدك وغيره. (*)
------------------------------------------------------------------
بحقيقته بتخيل ان الرفع واقع في مقام الثبوت بعد وضع الحكم على الازمان اللاحقة للعلم الحادث بتبدل المصلحة مما يوجب نسبة الجهل إلى الله تعالى وتقدس عما يتخيلون، بينما هو في واقعه لا  يتجاوز مقام الاثبات لمصلحة التدرج في التبليغ، والحكم ابتداء لم يجعل إلا على قدر توفر الملاك فيه، والمصلحة والمفسدة اللذان هما ملاكا الاحكام مما يتأثران بعوامل الزمان والمكان قطعا،  وسيأتي ايضاح أنهما ليسا من قبيل الحسن والقبح الذاتيين دائما ليلزم الخلف والحكم في الازمنة اللاحقة لم يثبت في مقام الجعل ليقال كيف يرتفع الحكم الثابت مع ما يلزم من فرض اثبات صفة  الثبوت له. والحقيقة ان النسخ لا يتجاوز الاخبار عن عدم تحقق الملاك في الازمنة اللاحقة، الملازم لارتفاع الحكم ثبوتا وان أدي بصيغ الرفع في مقام التبليغ. ولقد أشار القرآن الكريم إلى امكانه  وأجمع المسلمون على وقوعه، ولم ينقل الخلاف الا عن أبي مسلم الاصفهاني (ولم يحقق الناقلون مذهبه (1)) وقد استظهر الخضري (ان خلاف أبي مسلم انما هو في نسخ نصوص القرآن، فهو  يرى أن القرآن كله محكم لا تبديل لكلمات الله (2)) وما أدري ما قيمة هذا الكلام بعد تصريح القرآن بامكان النسخ في آياته (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها (3)) على ان  النسخ المدعى هنا ليس هو تبديلا لكلمات الله وانما هو شرح للمراد منها وتقييد أو تخصيص لظهوراتها، ثم ليس فيها مصادمة لنص لا يحتمل الخلاف، وحاشا لله ان يكذب نفسه أو وليا من أوليائه  المبلغين عنه (4)، وما قلناه أو قالوه عن التخصيص يقال عن النسخ.
(1) أصول الفقه للخضري، ص 246. (2) أصول الفقه، ص 246. (3) البقرة / 105. (4) ومن هنا صرحوا ان أمثال هذه الآيات لا تقبل نسخا (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا)  كما صرحوا ان الآيات المخبرة عن أمور تقع لا تقبل النسخ لانتهائها إلى التكذيب، راجع سلم الوصول، ص 337. (*)
------------------------------------------------------------------
وهذا من الامور التي تكاد تكون بديهية بين المسلمين فلا تحتاج إلى اطالة حديث، والظاهر ان النسخ واقع في الكتاب من الكتاب ومن السنة على خلاف في قلة وكثرة الاحكام التي يدعى لها  النسخ، وقد استعرض استاذنا الخوئي في كتابه (البيان) كل ما قيل عن الآيات المنسوخة وحاكمه بجهد ولم يجد فيها ما يصلح ان يكون منسوخا الا أقل القليل. والخلاف الذي وقع انما هو في امكان  نسخ الاحكام - المقطوعة أسانيدها كالاحكام الكتابية والمتواترة من السنة - بأخبار الآحاد، وأكثرية المسلمين على المنع وربما ادعي عليه الاجماع، وأهم ما لديهم من الشبه هي شبهة ان الظني لا  يقاوم القطعي فيبطله، وهي شبهة عرفت قيمتها في الحديث عن التخصيص لعدم المعارضة بينهما، لان الدليل الناسخ لا يزيد على كونه شارحا للمراد من الدليل المنسوخ، وقرينة على عدم ارادة  الظهور وحاله حال التخصيص، على ان الخبر وان كان ظنيا في طريقة، الا أنه مقطوع الحجية للادلة السابقة ومع الغض وافتراض المعارضة فانها في الحقيقة قائمة بين ظنين لا بين قطعي  وظني، أي بين ظنية الدلالة في مقطوع السند وظنية الطريق. ولعل منشأ الاجماع المدعى أو اتفاق الاكثرية، انما هو في وضع حد لما يمكن ان يقع من التسامح في دعوى النسخ وإبطال الاحكام  لمجرد ورود خبر ما، وهو عمل في موضعه وربما استدعته صيانة الشريعة عن عبث المتلاعبين بأحكام الله والوقوف دون تصرفاتهم، وعلى الاخص وان في الدخلاء على الاسلام من تمثل  بصورة القديسين ليتسنى له هدم الاسلام وتقويض قواعده.
------------------------------------------------------------------
4 - رتبة السنة من الكتاب: من الكلمات المألوفة على السنة كثير من الاصوليين ان رتبة السنة متأخرة عن رتبة الكتاب في الاعتبار. وهو كلام لا أعرف له مدلولا يمكن الاطمئنان إليه  لاضطراب في تحديد معنى الرتبة هنا، فالذي يظهر من بعض أقوالهم ان مرادهم بها ان تقدم الكتاب على السنة من قبيل تقدم الحاكم على المحكوم، أي مع وجود دليل من الكتاب لا ينظر إلى السنة  ولا تلتمس كدليل، وهي أشبه بما ذكرنا من التقدم الرتبي لادلة الامارات على الاصول ولكن بعضها الآخر يبدو منه ان المراد منها هو السبق الرتبي من حيث الشرف والاهمية، ووجودها أقرب  إلى الوجود الظلي بالنسبة للكتاب، وفي ثالث من الاقوال ان الكتاب يقدم عليها عند التعارض فسبقه الرتبي من حيث أرجحيته في هذا الباب. ومن أدلتهم على هذا السبق الرتبي تتضح وجهات  النظر، وان كان قد جمع بعض المتأخرين بين هذه الادلة وكأنها مساقة لمبنى واحد، في تفسيرها لا لمباني متعددة. وأول هذه الادلة قولهم: (ان الكتاب مقطوع والسنة مظنونة، والقطع فيها انما  يصح على الجملة لا على التفصيل بخلاف الكتاب، فانه مقطوع به على الجملة والتفصيل والمقطوع به مقدم على المظنون، ولعله لا يوجد من متواترها القولي شئ (1)). وهذا الدليل يصلح  للقول الثالث أي تقديم الكتاب على السنة عند المعارضة لا مطلقا، إذ لا معنى لرفع اليد عن المظنون بالمقطوع مع عدم
(1) أصول الفقه، ص 237 للخضري. (*)
------------------------------------------------------------------
المعارضة، وكلاهما حجة كما هو الفرض. والمعارضة لا تتعقل بين الكتاب والسنة بما هي قول أو فعل أو تقرير، لاستحالة تناقض الشارع على نفسه، وإنما تمكن في الاخبار الحاكية لها، وعليها  يقتضي أن تحرر المسألة في تقدم الكتاب على أخبار الآحاد لا على السنة. وقد سبق أن أيدنا دعوى من يذهب إلى طرح الاخبار، إذا خالفت الكتاب ولم يمكن الجمع بينها وبينه لنفس هذا الدليل  وللاخبار الآمرة بطرح ما يخالف الكتاب. ثانيها: قولهم: (إن السنة، إما بيان للكتاب أو زيادة على ذلك، فإن كانت بيانا فالبيان تال للمبين في الاعتبار، إذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان لا  العكس، وما شأنه هذا فهو أولى بالتقدم وإن لم يكن بيانا فلا يعتبر إلا بعد ألا يوجد في الكتاب، وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب (1))، وهذا الدليل يصلح للاستدلال به على التقديم من حيث  الشرف والاولوية، لا من حيث الاقتصار على الكتاب، مع وجوده لعدم إمكان الاستغناء عن البيان بحال، وما دامت السنة بيانا للكتاب فهي متممة للاستدلال به، بل كلاهما يكونان دليلا واحدا لبداهة  أن ما يحتاج إلى البيان لا ينهض بالدليلية إلا به، ولكن اعتبار التقدم في الرتبة على أساس التفاضل في المكانة، لا معنى لادراجه في مباحث الاصول والتماس الادلة له لعدم إعطائه أية ثمرة عملية  في مجالات الاستنباط. ثالثها: (ما دل على ذلك من الاخبار كحديث معاذ وأثر عمر، اللذين تقدم ذكرهما، ومثله عن ابن مسعود: (من عرض له منكم قضاء
(1) أصول الفقه للخضري، ص 237. (*)
------------------------------------------------------------------
فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، ومثل ذلك عن ابن عباس وهو كثير في كلام السلف والعلماء وهو الوجه في تفرقة الحنفية  بين الفرض والواجب (1)) وهذا الدليل صالح للدلالة على المبنى الاول في التقدم الرتبي، أي مع قيامه لا ينظر إلى السنة، ولا تعتبر دليلا. وهذا المذهب من أغرب المذاهب إذ كيف يعقل  الاستغناء بالكتاب عن السنة ومنها بيانه وشروحه وشروط أحكامه وأدلتها، فهل يكتفي ابن مسعود أو عمر أو ابن عباس، لو صح عنهم ذلك، بالرجوع إلى الكتاب والاكتفاء به في حكم واحد من  الاحكام فضلا عن جميع ما ورد فيه منها، وهم يعلمون من طريقة الكتاب في البيان هي الاتكال على القرائن المنفصلة، والسنة هي الكفيلة ببيانها، وكيف يسوغ لهم العمل بظواهره مع هذا  الاحتمال ؟ على أن هذه الاقوال لا تصلح للاستدلال بها لانها لا تمثل أكثر من رأى أصحابها لو أرادوا ظواهرها، وهو بعيد وهم ليسوا بمعصومين ليجب علينا التعبد بها نعم في اقرار النبي (صلى  الله عليه وآله) لمعاذ ما يصلح للاستدلال، باعتباد ان الاقرار من السنة، فالاستدلال بها استدلال بالسنة، إلا أن الكلام في صحة رواية معاذ، وسيأتي في مبحث القياس إثبات أنها من الموضوعات.  فالحق ان السنة في مجالات الاستدلال صنو للكتاب وفي رتبته، بل هما واحد من حيث انتسابهما إلى المشرع الاول وهو الله عزوجل، ولا
(1) أصول الفقه للخضري، ص 237. (*)
------------------------------------------------------------------
يمكن الاستغناء به عنها، وما أروع ما قاله الاوزاعي: (الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب، وذلك لانها تبين المراد منه (1)). وقال رجل لمطرف بن عبد الله: لا تحدثونا إلا بالقرآن،  فقال: (والله ما نريد بالقرآن بدلا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا (2)). ومن هذا العرض ندرك أن هذه الادلة لا تصلح ان تكون لمبنى واحد.
(1 - 2) أصول الفقه للخضري، ص 234. (*)