الامام مالك بن أنس

الإمام مالك بن أنس 

 

تمهيد 

تقدمت الإشارة في الجزء الأول لمعركة أهل الحديث وأهل الرأي وما أحدثه ذلك النزاع في صفوف الامة من تصدع وخلافات أدت إلى الهجاء والقول بما لا تحمد عقباه وكان من نتائجه أن تظهر شخصية مالك في الحجاز وشخصية أبي حنيفة في العراق . كما أنه لم تخف أغراض السياسة من وراء انتصارها لأهل الرأي وسخطها على أهل الحديث .

وقد افترق المسلمون إلى فرقتين : أهل الحديث وأهل الرأي وزعيم الفرقة الأولى مالك والثانية أبو حنيفة واتسع بينهما الخلاف حتى أدى إلى الخروج عن حدود العلم وتجاوزها إلى الهجاء والقذف والسباب ولكن تلك المعركة لم تطل أيامها فقد رأينا بعد قليل إلتقاء أطراف ذلك الافتراق واجتماع أهل الحديث وأهل الرأي وكأن القضية كانت لتحقيق أمر وقدحصل ذلك .

وكان مالك بن أنس عرضة لسخط الدولة حتى منعوه من الحديث وضربوه بالسياط لأجل فتوى أفتاها لم توافق غرض الدولة ولكنه بعد قليل من الزمن أصبح مقدما في الدولة ملحوظا بالعناية محفوظا بالكرامة وكانت بابه تزدحم عليها الناس كأنها باب الأمير بل كان الأمراء يتهيبون شخصه وتقصر خطاهم عن الوصول إليه فشملته مظاهرهم.

وهذا التحول الغريب يحملنا على التساؤل : هل أن الدولة كانت تبغضه لشيء فتركه تقية أو تبدل رأيه عن ذلك ؟ أم أنه ثبت على ما يراه وتحملت الدولة له ذلك ووجدت نفسها مضطرة إلى مجاراته ؟ أم أن هناك شيئا آخر .

ويمكننا أن نستحصل الإجابة عن هذه الأسئلة عند دراستنا لحياته ووقوفنا على عوامل شخصيته وبواعث انتشار ذكره; إذا لنتعرف على الإمام مالك وندرس شخصيته دراسة تاريخية ونستعرض حوادث عصره وسياسته لنكون على بينة من الأمر ومعرفة من الواقع .

من هو الإمام مالك ؟

هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمر بن الحارث بن عثمان بن خثيل بن عمر بن الحارث وهو ذو أصبح من حمير بن سباء وهي قبيلة يمنية وامه أزدية وهي العالية بنت شريك الأزدية . فعلى هذا فإن امه وأباه عربيان .

وهنا تقف أمامنا مشكلتان لا يمكن أن نتخطاهما بدون إشارة لهما ليتجلى لنا الأمر ويتضح القول الصحيح .الأولى : إن البعض من كتاب السير ذهبوا إلى عدم صحة هذا النسب وإن مالكا لم يكن عربيا وإنما هو من موالي بني تيم فهو على هذا من موالي قريش وليس بعربي وقد روي عن ابن شهاب أنه قال : حدثني نافع بن مالك وهو عم مالك بن أنس مولى التيميين(316) أن أباه حدثه عن أبي هريرة ... وابن شهاب الزهري هو استاذ مالك وأعرف بحاله فهو يعتبر مالكا من الموالي لأنه اعتبر عمه نافعا كذلك .

وقال ابن عبد البر : إن محمد بن إسحاق الواقدي زعم أن مالكا وأباه وجده وأعمامه موالي لبني تيم بن مرة وهذا هو السبب في تكذيب مالك لمحمد بن إسحاق وطعنه عليه.

فبهذا يصبح مالك هو من الموالي لا من العرب وقد كان شائعا في عصر مالك لذلك وقف تجاه هذه الدعوى مكذبا لها وأنكرها أشد الإنكار وكذب من يدعيها عليه وكذلك أبو سهيل عم مالك قام في إنكارها وقال : نحن قوم من ذي أصبح قدم جدنا المدينة فتزوج في التيميين فكان معهم ونسبناإليهم.(317)

وهذا يدل على خمول ذكرهم وعدم اشتهار عشيرتهم وقد أصر ابن اسحق على عدم صحة هذه الدعوى وتكذيب إنتسابهم إلى العرب .

وقد ادعى أن حصول هذه الشبهة في نسب مالك وعدم كونه عربيا: أن مالك بن أبي عامر قدم المدينة متظلما من بعض ولاة اليمن فمال إلى بعض بني تيم بن مرة فعاقده وصار معهم .

وهذا يختلف مع ما يقوله نافع بن مالك فإنه يدعي أن الحلف كان مع أبي عامر جدهم لا مع ابنه مالك جد مالك بن أنس .

ويروي ابن عبد البر عن البخاري بسند عن نافع بن مالك بن أبي عامر قال: قال ليعبد الرحمن بنعثمان بنعبيدالله التيمي وهو ابن أخي طلحة: هل لك إلى ما دعانا إليه غيرك فأبينا عليه أن يكون هدمنا هدمك ودمنا دمك ترثنا ونرثك(318) ؟ وينسب هذا إلى الربيع بن مالك أيضا(319).ومهما يكن فإن نسب مالك للعرب لم يخل من طاعن فيه وأنه من الموالي فهو بين مثبت وناف .

وكما طعن في أب مالك وعدم صحة عروبته فكذلك الحال في امه العالية فقيل : إنها أزدية يمنية وهي بنت شريك بن عبد الرحمن بن شريك الأزدية وقيل : إنها طليحة مولاة عبيد الله بن معمر حكاه القاضي عياض(320) وعلى هذا يكون نسب مالك من الطرفين إلى الموالي ولا علقة له بالعرب .الثانية : قضية بقائه في بطن امه . قيل : سنتين وقيل : ثلاث سنين وقيل: أربع سنين وقال ابن سعد في الطبقة السادسة من تابعي أهل المدينة : أخبرنا الواقدي قال : سمعت مالك بن أنس يقول: قد يكون الحمل ثلاث سنين وقد حمل ببعض الناس ثلاث سنين يعني نفسه .

وقال ابن عبد البر : وقد ذكر غير الواقدي أن ام مالك حملت به ثلاثسنين(321).وهذا بعيد كل البعد عن الصحة; لأن الطب يقرر أن الحمل لا يمكن أن يمكث في بطن امه أكثر من سنة على أن الاستقراء مع المراقبة الدقيقة يجعلنا نؤمن بأن الحمل لا يمكن أن يمكث في بطن امه أكثر من تسعة أشهر مع أنا لم نقف على تاريخ وفاة أبيه فنقارن النسبة بين الولادة والوفاة وهذه الدعوى من شذوذ الطبيعة ولا نتعرض إلى إقامة البرهان على عدم بقاء الطفل في بطن امه أكثر مما هو المتعارف .

ويذهب بعضهم إلى أن هذه الرواية وضعها المعجبون بمالك لأنهم يريدون أن يقرنوا حياته بالعجائب والغرائب لبيان أنه صنف من الناس ممتاز اقترنت مميزاته بمولده إذ أنه حمل به ثلاث سنين على حين يحمل بكل مولود تسعة أشهر فكانت هذه منقبة(322) اقترنت بميلاده كما كانت حياته كلها مناقب كما سيأتي بعضها .

وليس من البعيد أن يتقبل المعجب بشيء كل ما له علاقة فيه وإن خالف الحق ولم يؤيده العلم وشذ عن العقل وعن مجرى العادة على أن مثل هذا لا يرتفع به مقام مالك وكان الأجدر رفضها دون قبولها .

ولادته

اختلفت الروايات في سنة ولادة مالك كالاختلاف في مدة حمله فقيل : إنه ولد سنة (90 هـ) وقيل : سنة (93 هـ) وقيل : سنة (94 هـ) وقيل : سنة (95 هـ) وقيل : سنة (96 هـ) في المدينة المنورة وتختلف الروايات في أول من نزل المدينة من أسرة مالك فقيل : إن أول من نزل هو أبو عامر وأنه صحابي وشهد المغازي مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما عدا بدرا ولم يذكره أحد في عداد الصحابة. قال الذهبي في التجريد : لم أر من ذكره في الصحابة .(323)

والصحيح أن أول من انتقل إلى المدينة هو مالك بن أبي عامر جد مالك بن أنس وهو من التابعين كما رواه ابن عبد البر(324) وتدل عليه رواية أبي سهيل عم مالك المتقدمة في بيان نسبهم ولكن المالكية ذهبوا إلى إثبات الصحبة لأبي عامر وليس لهم على ذلك دليل لذلك لم يقبله المحققون ولم يثبتوا له صحبة . فابن حجر في الإصابة لم ينقل عنه شيئا إلا أنه نقل عبارة الذهبي وابن عبد البر في الاستيعاب لم يتعرض لذكره . وهذه الدعوى وليدة ظروف متأخرة أثبتتها كتب مناقب مالك كما أن أنس بن مالك والد مالك صاحب المذهب لم يكن له ذكر في كتب الرجال ولم يعرف عنه أنه اشتغل بالعلم وليست له معرفة فيه ولو كان يؤثر عنه شيء ; لكان مالك أولى بروايته . نعم ورد في بعض الكتب رواية مالك عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أنه قال : ثلاث يفرح لهن الجسد فيربو عليهن : الطيب والثوب اللين وشرب العسل ولكن المحققين من علماء الحديث قالوا : إن هذا الخبر لا يصح عن مالك(325).وبهذا لم يكن لأنس رواية في الحديث ولا رواية واحدة .

قال الخطيب في المتفق بعد ذكر الحديث المتقدم : لا أعلم . روي عن مالك من هذا الوجه(326) وفيه نظر فهو يطعن بصحته وقال أيضا : لم يروه عن مالك غير يوسف بن هارون تفرد به القشيري وأخرجه ابن حبان في الضعفاء وقال : هذا لم يأت به عن مالك غير يونس وهو أحد رواة الحديث المتقدم وقد روى عجائب لا تحل الرواية عنه وأخرجه الدارقطني في غرائب مالك وقال : هذا لا يصح عن مالك ويونس ضعيف . وربما يتوهم أن والد مالك بن أنس هو أنس بن مالك الصحابي الشهير لأن المتسمين بأنس بن مالك هم خمسة :

1 أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام الأنصاري أبوحمزة المدني المتوفى سنة (93 هـ) وهو خادم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

2 أنس بن مالك الكعبي القشيري أبو أميعة نزل البصرة وروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)حديثا واحدا .

3 أنس بن مالك شيخ حمصي ذكره أبو بكر أحمد بن محمد بن عيسى البغدادي في تاريخ الحمصيين وليس له من الحديث شيء .

4 أنس بن مالك أبو القاسم الكوفي حدث عن عبد الرحمن بن الأسود وحماد بن أبي سليمان وغيره وأحاديثه قليلة .

5 أنس بن مالك والد الإمام مالك هذا ولم يكن له ذكر في كتب الحديث ولم يفصح التاريخ عن شيء من حياته ولا تاريخ وفاته بل هو مجهول كما إنا لم نقف على شيء من حياته لنتحقق نشأة مالك تحت رعايته وتربيته ولعله مات قبل أن يولد مالك بمدة ويقال : إن مالك نشأ تحت رعاية غيره من أسرته ويدعى أنها مشهورة بالعلم ولا نعرف منهم إلا نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبا سهيل المتوفى في سنة (3435ه).

روى عن ابن عمر وأنس وعنه ابن أخيه مالك بن أنس والزهري ولم يكن له كثير حديث .

وأما أخوه النضر بن أنس أخو مالك فقد روى عن أبيه وابن عباس وعنه بكر المزني ويقال : إن مالكا كان ملازما له ولا يعرف إلا بأخيه فيقال عند تعريفه : أخو النضر لشهرة أخيه دونه ولم يكن غير هؤلاء في أسرة مالك من عرف عنه الحديث ولا يصح أن توصف هذه الأسرة من الأسر العلمية في المدينة فيكون لها الأثر في توجيه مالك إلى طلب الحديث والفتيا لأن الناشئ تتغذى مواهبه ومنازعه من منزع بيته وما يتجه إليه فتزعزع تحت ظلها المواهب وتتجه المنازع على أنهما لم يكونا بتلك المنزلة من الشهرة العلمية ولم تكن لهما كثير رواية .

المناقب

من الامور التي تستدعي النظر والإهتمام هو الغلو في المناقب وذلك لقوة نزعة التعصب وبالأخص عند احتدام النزاع والتخاصم بين الفرق فكل يحاول تأييد مذهبه وتعزيز رأيه ويتخذ شتى الوسائل لتكون له الغلبة على غيره حتى كان الحق في جانب والمغالون في جانب آخر مما أدى إلى حصول عقبات دون الباحث الذي يريد أن يتعرف على شخصية من شخصيات التاريخ . وقد تقدم بعض تلك المناقب التي انتحلوها لأبي حنيفة تعزيزا لمركزه وتقويما لشخصيته حتى ذهبوا إلى أبعد حد من ثبوت العبقرية الادعائية من وفور علمه وعلو منزلته وشرف بيته حتى قالوا : إن أهل الكوفة كلهم موالي لأبي حنيفة أي عبيد فأعتقهم(327) .

وهل ينكر أحد أن أبا حنيفة كان مولى لبيت من بيوت الكوفة ولهم ولاؤه ؟ ولكن المغالطات والادعاءات الفارغة لا حد لها ولا نهاية فهي واسعة بمقدار اتساع الغرض وتسير طيعة للهوى والنزعة التي تقتضيها ويعود ذلك إلى المعركة الجدلية التي جرت في القرن الرابع وبالأخص بين الحنفية والشافعية فملأت كتب المناقب بالإغراق والمبالغة حتى بلغت مغالاة امة من الحنفية أن إمامهم أعلم من رسول الله وحدث علي بن جرير : أن رجلين تماريا في مسألة فقال أحدهما : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الآخر كان أبو حنيفة أعلم بالقضاء(328) وهذا منتهى الإغراق في الغلو وقد مر قسم من ذلك في الجزء الأول .

أما المالكية فإنهم أهون في تقحم الخطر على مركب الغلو من الحنفية في وضع المناقب وقد خلت كتبهم من التحامل والطعن على غيرهم على أنهم لم يخلوا من شائبة الغلو والمدح والإطراء المؤدي الى الاضطراب كما أنهم أكثروا من الأطياف والرؤيا بما يعود لمالك وعلو منزلته ويحصل فيه لشخصيته امتياز عن غيره وتلك مبالغات مصدرها الغلو وحب الغلبة والشهرة . وإليك بعضا من مناقبه :

عالم المدينة

لما كانت المدينة المنورة مهدا للعلم ومصدرا للتشريع ; فلابد أن يكون لعلمائها منزلة دون غيرهم من علماء الأقطار وقد ورد حديث عالم المدينة فجعلوه ينطبق على مالك وحده وكأن المدينة لم ينبغ بها عالم حتى يكون مصداقا للحديث غير مالك بن أنس .

فلابد لنا أن نتكلم عن صحة الحديث وانطباقه على مالك دون غيره .

أخرج الترمذي بطريق عن أبي هريرة مرفوعا : «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة» (329) . وجعلوا المراد به مالك بن أنس دون غيره . قال ابن أبي الحوت في أسنى المطالب: خبر «أبي حنيفة سراج امتي» موضوع باطل ولم يرد في أحد من الأئمة نص لا صحيح ولا ضعيف كخبر : عالم قريش يملأ طباق الأرض علما وحمل على الشافعي وكذا خبر : يكاد يضرب الناس أكباد الإبل .. الحديث . سمعته من المالكية ولم أره وحمل على مالك ويظهر عليه التكلف(330).ولا حاجة بنا إلى نقل الأقوال في تفنيده ومع التسليم لصحة الحديث فمن البعيد حمله على مالك بن أنس . قال الخطيب البغدادي(331) عند ذكر هذا الحديث. قال أبو موسى الأنصاري : قلت لسفيان : إن ابن جريح يقول : نرى أنه مالك فقال سفيان : إنما العالم من يخشى الله . وقد نقل عن ابن عيينة : أن المراد به عبد العزيز العمري(332).ومع هذا فإن الحديث لا يخلو من خدشة في السند إن لم نقل في الواسطة الأولى فإن أبا الزبير وهو أحد رواة هذا الحديث قد تكلموا فيه وطعنوا عليه. وإذا أردنا أن نسلم لصحة هذا الحديث فإن انطباقه على مالك بعيد جدا ودونه خرط القتاد فالمدينة المنورة قد ضمت علماء الإسلام الذين كانوا أعلى درجة من مالك وأرفع منزلة منه ولو راق للسلطة غير مالك لحملوه عليه ولكنهم أرادوا ذلك والناس تبعا لما أرادوا .

وإن في المدينة من العلماء في ذلك العهد قوما هم شيوخ مالك وهم أعلم منه منهم :

عبد العزيز العمري .

وزيد بن أسلم المتوفى سنة (136 هـ) وعنه أخذ مالك .

وأبو حازم سلمة بن دينار المتوفى سنة (140 هـ) وهو من شيوخ مالك .

وصفوان بن سليم المتوفى سنة (132 هـ) وهو من شيوخ مالك .

وعبد الرحمن بن أبي الزناد المتوفى سنة (174 هـ) وهو من شيوخ مالك .

وعبد الله بن ذكران المتوفى سنة (131 هـ) وهو من شيوخ مالك .

وربيعة الرأي المتوفى سنة (136 هـ) وهو من شيوخ مالك .

ويحيى بن سعيد بن قيس المتوفى سنة (143 هـ) وهو من شيوخ مالك .

وأبو الحارث محمد بن عبد الرحمن المتوفى سنة (160 هـ) كان أفضل من مالك وكان يشبه سعيد بن المسيب .

ومحمد بن مسلم الزهري المتوفى سنة (124 هـ) وهو من شيوخ مالك .

وغيرهم من علماء المدينة ممن لم يتعلق غرض السلطة في معارضتهم ولم تقف أمامهم على ربوة العداء والخصومة على أن المسألة لم تكن مسألة علم وعدمه بل حظوظ ودعاية كما يقول ربيعة الرأي وهو استاذ مالك ومعلمه .

قال أبو بكر عبد الله الصنعاني : أتينا مالك بن أنس فحدثنا عن ربيعة الرأي فكنا نستزيده فقال لنا ذات يوم : ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذاك الطاق؟ فأتينا ربيعة فقلنا : كيف يحظى بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك ؟ فقال: أما علمتم أن مثقالا من دولة خير من حملي علم(333). وذلك أن الدولة رفعته بعد غضبها عليه ولذلك نرى مبادلة العواطف بين المنصور ومالك بن أنس .

فكان المنصور يقول لمالك : أنت والله أعقل الناس وأعلم لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف ولأبعثن به إلى الآفاق فاحملهم عليه . وهذا غاية في التعظيم والإجلال وأقوى عامل لرفع مالك وعلو منزلته وكان مالك يقول : وجدت المنصور أعلم بكتاب الله وسنة رسوله وآثار منمضى.(334)

وبالجملة فإن هذا الحديث لا ينطبق على مالك ولم يعتن به أكثر من كتب عن مالك ولكن المالكية جعلوه دليلا لهم على لزوم الأخذ عن مالك وهو كما ترى يبنى على الظنون والتكهن وهذا لا يجدي ولئن صح الحديث فلا مصداق له سوى حملة العلم وأعلام الامة وورثة الرسول الأعظم فهم أئمة الهدى وإن لهم في صحيح الآثار وأصدق الأخبار عن الصادق الأمين كفاية عن التمحل والتكلف بأمثال هذا ونحوه .

أمين زمانه

ليس من الغريب أن تصل يد الوضع والانتحال إلى ارتكاب ما لا يقبله العقل ولا يقره الوجدان والتتبع ولا يتسق مع الواقع وقد ورد ذلك في منقبة لمالك هي بعيدة كل البعد عن الصحة ولا يمكن قبولها بالمرة .

وذلك أنهم ادعوا أن الإمام الصادق (عليه السلام) أوصى إلى مالك عند وفاته وإليك نص هذا الافتعال :

روى الشيخ عيسى بن مسعود الزواوي بلا سند ومستند في كتاب مناقب مالك قال : دخل على الإمام الصادق قوم من أهل الكوفة في مرضه الذي توفي فيه فسألوه أن ينصب لهم رجلا يرجعون إليه في أمر دينهم فقال :

عليكم بقول أهل المدينة فإنها تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد عليكم بآثار من مضى فإني أعلمكم أني متبع غير مبتدع عليكم بفقه أهل الحجاز عليكم بالميمون المبارك في الإسلام المتبع آثار رسول الله فقد امتحنته فوجدته فقيها فاضلا متبعا مريدا لا يميل به الهوى ولا تزدريه الحاجة ولا يروي إلا عن أهل الفضل من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فإن اتبعتموه أخذتم بحظكم من الإسلام وإن خالفتموه ضللتم وهلكتم فإنه قد أخذ عني كل ما يحتاج إليه فلا يميل بكم الهوى فتهلكوا أي احذركم عذاب الله يوم القيامة (يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم)(335) احذركم فقد أرشدتكم إلى رجل نصبته لكم فإنه أمين مولود في زمانه . قالوا : من هو بينه لنا؟ قال : «ذلك مالك بن أنس» عليكم بقول مالك(336).

هكذا قال الزواوي وهكذا نقل . ولا أقول أنه هو الذي وضعها أو افتعلها ولكنه ناقل عن غيره ونحن لا ننكر أثر الخلافات التي حصلت بين الطوائف ووجود قوة عاملة على إيجاد الخلاف وإيقاد نار الفرقة فأصبح كل يذهب لتأييد مذهبه بشتى الوسائل والاجتهاد في تحصيل ما ينال به الظفر على خصمه وأي ظفر أعظم من الحصول على شهادة أعظم شخصية علمية كان مالك يسارع لاستماع حديثه ويغتنم فرصة الحضور عنده ويتلقى تعاليمه في مدرسته كما مر بيانه. تلك هي شخصية الإمام الصادق الذي ترأس أعظم مدرسة إسلامية شهدها التشريع الإسلامي وبقيت آثاره مفخرة الدهر وحديث الأجيال فكانت أقواله تؤخذ بيد القبول والاعتبار. فقوله مسموح وحكمه نافذ . لذلك نرى كثيرا من الأقوال تنسب إليه طلبا لتأييد رأي أو ثبوت حكم وقد حققها المنقبون من متبعي آثاره والذين يرجعون إليه في أخذ الأحكام الشرعية .

ومن هذا القبيل تلك الافتعالات التي انتحلها أصحاب المذاهب وقد سبق للحنفية مثل ذلك في مدح أبي حنيفة كما مر بيانه في رواية أبي البختري وهذه المنقبة التي ذكرها الزواوي من ذلك النمط . ويمكنك أن تقف على سيرة الإمام مالك لتعرف ابتعاده عن الصادق في آخر عهده لإنحيازه لجانب السلطة مما لا يتفق مع آراء الإمام الصادق (عليه السلام)وسيرته التي سار عليها مدة حياته. من مجانبته الحكام والابتعاد عنهم . كما أنه هجر كل من اتصل بالسلطة ومنهم مالك بن أنس فإنه كان عند وفاة الإمام الصادق (عليه السلام) في أول مرحلة من التقرب للسلطان. وأظهر مالك حرصه على الاتصال بالحكام مؤذنا بتغييره.

ولا حاجة لنا في إطالة الوقوف عند مناقب مالك وإعطائها مزيدا من البحث كقولهم مكتوب على فخذ مالك بقلم القدرة : مالك حجة الله في أرضه . وقولهم في ورعه : إنه لا يدخل الخلاء إلا في كل ثلاثة أيام مرة بينما يقول هو عن نفسه: استحييت من كثرة دخولي للخلاء(337).

وهذا أمر لا دخل له تحت قدرة الإنسان وسلطته فيه إذ هو من الامور القهرية على البشر وقد أرادوا أن يسووه بالملائكة أو من شرفهم الله لحكمة فجعلهم يأكلون الطعام ولا يغوطون. ولو تأتى ذلك لكل أحد لفعل ولكن شذوذ الآراء يثبت شذوذ الطبيعة كما ادعوا أنه ألقى كتابه الموطأ في الماء عندما اتهم نفسه فيه فألقاه في الماء وقال : إن ابتل فلا حاجة لي به فلم يبتل منه شيء(338) إلى غير ذلك من الخرافات والأقوال الفارغة التي تدل بنفسها على نفسها بالكذب .

أطياف حول مالك

ما أكثر وضع المنامات لتأييد رأي أو رفعة شخص أو حط كرامة من آخر! إنها دعايات كما قلنا وافتراءات كما ذكرنا اتخذها القصاصون ليسيطروا على عقول السذج من الناس واستعملها كثير ممن كتب في أكثر الشخصيات حتى اتخذوا تلك الخرافات وهي أكثر من أن تحصى دليلا لتأييد المذهب .

وقد وضع المالكية منامات في تأييد مذهب مالك وعلو شأنه نذكر البعض منها :

قال العدوي : لما مات شيخنا شيخ الإسلام اللقاني رآه بعض الصالحين في المنام فقال: ما صنع الله بك ؟ فقال : لما أجلسني الملكان في القبر يسألاني أتاني الإمام مالك فقال : مثل هذا يحتاج إلى سؤال في إيمانه ؟ تنحيا عنه فتنحيا عني(339).ومنها : أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي سمى كتاب مالك بالموطأ وأنه سئل (صلى الله عليه وآله وسلم)في المنام : إن مالك والليث يختلفان في المسألة فأيهما أعلم ؟ فقال : مالك وارث جدي يعني إبراهيم(عليه السلام)(340).وأنه سئل (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة اخرى في المنام : من نسأل بعدك يا رسول الله ؟ فقال : مالك بن أنس . كما وضع أهل الأندلس في تأييد مذهبه وتشجيع عالمهم سحنون وهو ناشر مذهب مالك في الأندلس : إن القيسي رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)يمشي في طريق وأبو بكر خلفه وعمر خلف أبي بكر ومالك بن أنس خلف عمر وسحنون خلف مالك . وفي هذا إشارة للاتباع والاقتداء(341).وكثير من هذا النمط ولا حاجة إلى ذكره ولا اعتبار بإثباته أو نفيه . وإنما المعتبر معرفة شخصيته من قبل معاصريه ومن هم أدرى الناس به فإن لأقوالهم تمام الأثر في التعرف عليه فلننظر الواقع في مرآة الماضي لأن هذه الامور المستحدثة إنما هي وليدة عصور متأخرة لا نستطيع منها استخلاص صورة متناسقة لأنها نتيجة جدل وخصام وإثارة فتن وتطاحن بين المذاهب . قال أبو عمر(342) : قد ألف الناس في فضائل مالك وأكثروا وأتوا بما لا فضيلة في بعضه حشوا بها كتبهم .

مالك وأقوال العلماء

وهنا نقف بين طائفتين من الأقوال المأثورة عن علماء عصر مالك فبعضها من نسق ماذكرناه وهي كثيرة مثبتة والبعض الآخر لم يكن بدرجة من الحط بكرامته وانتقاصه وإنما هي مؤاخذات علمية وأقوال صريحة وآراء حرة . واليك منها :

قال الشافعي : الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به .(343)

وقال سعيد بن أيوب : لو أن الليث ومالكا اجتمعا لكان مالك عند الليث أبكم ولباع الليث مالكا فيمن يريد(344).وسأل علي بن المديني يحيى بن سعيد : أيما أحب إليك رأي مالك أو رأي سفيان ؟ قال : رأي سفيان لا يشك في هذا .

وقال : سفيان فوق مالك في كل شيء .(345)

وقال يحيى بن معين : سفيان أحب إلي من مالك في كل شيء(346).وقال سفيان الثوري : ليس له حفظ . يعني مالكا .

وقال ابن عبد البر : تكلم ابن ذويب فيمالك بن أنس بكلام فيه جفاء وخشونة كرهت ذكرها(347).وتكلم في مالك إبراهيم بن سعد وكان يدعو عليه وكذلك تكلم فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن أبي يحيى ومحمد بن إسحاق الواقدي وابن أبي الزناد وعابوا أشياء من مذهبه .

وقال سلمة بن سليمان لابن المبارك : وضعت شيئا في رأي أبي حنيفة ولم تضع في رأي مالك ؟ قال : لم أره علما(348).وقال ابن عبد البر في مالك : إنهم عابوا أشياء من مذهبه .

وعن عبد الله بن إدريس قال : قدم علينا محمد بن إسحاق فذكرنا له شيئا عن مالك . فقال : هاتوا علمه فأنا بيطاره .

وعابه قوم في إنكاره المسح على الخفين في الحضر والسفر وفي كلامه في علي وعثمان .

وقال يحيى بن صالح : قال لي ابن اكثم : قد رأيت مالكا وسمعت منه ورافقت محمدبن الحسن فأيهما كان أفقه ؟ فقلت : محمد بن الحسن فيما يأخذه لنفسه أفقه من مالك(349).

وكان أبو محمد بن أبي حاتم يقول : عن أبي زرعة عن يحيى بن بكير أنه قال : الليث أفقه من مالك إلا أنه كانت الحظوة لمالك . وفي رسالة الليث بن سعد التي بعث بها إلى مالك يناقشه فيها في بعض آرائه مناقشة قوية ويرد عليه فيقول في بعضها :

ومن ذلك إنك تذكر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعط الزبير بن العوام إلا لفرس واحد والناس كلهم يحدثون أنه أعطاه أربعة أسهم لفرسين ومنعه الفرس الثالث . والامة كلهم على هذا الحديث : أهل الشام وأهل مصر وأهل العراق وأهل أفريقية لا يختلف فيه اثنان فلم يكن ينبغي لك وإن كنت سمعته من رجل مرضي أن تخالف الامة أجمعين .

وقال أحمد بن حنبل : كان ابن أبي ذويب يشبه سعيد بن المسيب وكان أفضل من مالك إلا أن مالكا أشد تنقية للرجال منه(350).وقال أيضا : هو أورع وأقوم بالحق يعني ابن أبي ذويب من مالك دخل على المنصور فلم يهبه أن قال له الحق وقال الظلم ببابك فاش وأبو جعفر أبو جعفر(351) يعني في قوته وجبروته واشتداد سلطانه وعظمته وبطشه .

ونقف عند هذا الحد من استعراض آراء العلماء وأقوالهم في مالك مما تدل على عدم امتيازه بموهبة يصبح بها أهلا للمرجعية دون غيره . ولا حاجة بنا إلى غربلة الأقوال الاخر ومناقشتها . وإنما ذكرنا هذا كانموذج ومقدمة لما نريد أن نذكره في الموازنة فيما بعد عند انتهائنا من التعرف على شخصيات أئمة المذاهب .

مع الخلفاء والولاة

أدرك مالك بن أنس من العهد الاموي أربعين سنة ومن العهد العباسي ستا وأربعين سنة لأن ولادته سنة (93 هـ) ووفاته سنة (179 هـ) على اختلاف الأقوال في ذلك وبهذا فقد أدرك الدولتين الاموية والعباسية وقد كانت ولادة مالك في عهد الوليد بن عبد الملك .

ولم نعرف عن نشأته الأولى شيئا حتى نتكلم عن حياته في العهد الاموي لأن مالكا لم يكن من المبرزين في ذلك العصر فيسجل التاريخ قضاياه في العهد الاموي ولم يكن لبيته نشاط سياسي ولا علمي حتى يكون معرضا لأخطار الدولة وإنما يأتي الحديث عنه في العهد العباسي الذي يبتدئ من سنة (133 هـ) وهو تاريخ سقوط الدولة الاموية وانهيارها كما أن عهد أبي العباس السفاح خال عن ذكره وإنما يبتدئ حديثه من آخر خلافة المنصور .

ولم يكن لمالك بن أنس شهرة إلا بعد اشتداد الخلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث وبعد وقوعه فيالمحنة . والشيء المهم الذي يجب أن يلحظ هو تطور حياة مالك وانتقاله من دور الغضب عليه من قبل الدولة إلى دور الرضا عنه ومن عهد المحنة والشدة إلى عهد التبجيل والرفاهة . وقد اختلفت الأقوال في سبب محنته وضربه بالسياط .

فمن قائل : إن مالكا كان يجاهر بمخالفة ابن عباس في جواز نكاح المتعة ويقول : إنه حرام . ويروون أنه حمل إلى بغداد وسئل عن نكاح المتعة فقال : هو حرام فقيل له في قول ابن عباس فيها فقال : كلام غيره فيها أوفق لكتاب الله وأصر على القول بتحريمها فطيف به على ثور مشوها فكان يرفع القذر عن وجهه ويقول : يا أهل بغداد ! أنا مالك بن أنس فعل بي ما ترون لأقول بجواز المتعة(352).وهذا بعيد عن الواقع لأن ضرب مالك بالسياط أو محنته كما يقولون كانت في المدينة لا في بغداد ولئن كان سبب محنته قوله بجواز المتعة الأمر الذي أوجب الغضب عليه من الدولة فهل أصر مالك على رأيه فيما بعد ؟ ووافقته الدولة وعرفت خطأها فقربته ؟ أم أنه وافق رأيها وتنازل عن اصراره وترك ما وافق كتاب الله لما وافق آراءهم ؟ فهذا أمر يبعث على الاستغراب ولعلهم أرادوا اتساع دائرة ذكره بتعدد صورها .

ومنها ما يذكره بعضهم : أن السبب هو عدم رضا بعض الطالبيين عنه لتفضيله عثمان على علي (عليه السلام) . وهذا بعيد كالأول وإن كان يذهب مالك لذلك .

والصحيح في ذلك وإن اختلفت الأقوال فيه أن سبب ضربه بالسياط هو فتواه بما لا يوافق غرض السلطة بأي صورة كان وبأي سبب حصل وذلك في زمن ولاية جعفر بن سليمان سنة (146 هـ) فإنه جرد مالكا ومده وضربه بالسياط حتى انخلعت كتفاه وقيل: إن المنصور قد نهى مالكا عن الحديث «ليس على مستكره طلاق» ثم دس إليه من يسأله عنه فحدث به مالك فضربه بالسياط(353) حتى انخلعت كتفه . قال إبراهيم بن حماد : كنت أنظر إلى مالك إذ اقيم من مجلسه حمل يده اليمنى أو يده اليسرى بالاخرى .

كما أن مالكا قد تظاهر بالدعوى لمحمد بن عبد الله ذي النفس الزكية . وبالجملة فإنه إلى حدود سنة (146 هـ) هو في دوره الأول ثم انتقل بعد ذلك إلى دور الحفاوة والتجلة .

مع المنصور

لمالك مع المنصور أخبار كثيرة منها قبل اتصاله الوثيق به ومنها بعد ذلك. ونأتي بالبعض من الطرفين في ذلك :

دخل عبد الله بن طاووس اليماني(354) على المنصور ومعه مالك بن أنس فقال المنصور : حدثني عن أبيك . قال حدثني أبي : أن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله في سلطانه فأدخل عليه الجور في حكمه . فأمسك المنصور .

قال مالك : فضممت ثيابي خوفا من أن يصيبني دمه . ثم قال المنصور: ناولني الدواة . فلم يفعل فقال : لم لا تناولني الدواة ؟ فقال : أخاف أن تكتب بها معصية . قال المنصور : قوما عني .

قال عبد الله : ذلك ما كنا نبغيه . قال : مالك فما زلت أعرف فضله(355).ودخل مالك هو وابن أبي ذؤيب وابن سمعان على المنصور عندما ولي الخلافة وكان منظر المجلس يملأ القلب رعبا كما يحدث مالك ويصف ما دخله من الخوف عندما نظر إلى الجلاوزة يحملون السلاح .

فألقى المنصور سؤالا مشتركا فقال بعد كلام طويل : أي الرجال أنا عندكم؟ أمن أئمة العدل أم من أئمة الجور ؟ قال مالك بن أنس : فقلت : يا أمير المؤمنين أنا متوسل إليك بالله تعالى وأتشفع إليك بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبقرابتك منه إلا ما أعفيتني من الكلام في هذا .

قال : قد أعفاك أمير المؤمنين من هذا ثم التفت إلى ابن سمعان فقال له أيها القاضي : ناشدتك الله تعالى أي الرجال أنا عندك ؟ فقال ابن سمعان : أنت والله خير الرجال والله يا أمير المؤمنين تحج بيت الله الحرام وتجاهد العدو وتؤمن السبل ويأمن الضعيف بك أن يأكله القوي وبك قوام الدين فأنت خير الرجال وأعدل الامة .

ثم التفت إلى ابن أبي ذؤيب(356) فقال له : ناشدتك الله أي الرجال أنا عندك ؟

قال : أنت والله عندي شر الرجال استأثرت بمال الله ورسوله وسهم ذي القربى واليتامى والمساكين وأهلكت الضعيف وأتعبت القوي وأمسكت أموالهم فما حجتك غدا بين يدي الله ؟ فقال أبو جعفر: ويحك ما تقول انظر ما أمامك؟! قال : نعم رأيت أسيافا وإنما هو الموت ولابد منه عاجله خير من آجله(357) وخرج آمنا لم ينله شيء .

أما مالك فبقي عند المنصور ويا ليت مالكا أجاب المنصور بجواب وسط لا كابن سمعان الذي خالف الحق ولا يستبعد منه فهو يعيش على بساط الدولة ويشغل وظيفة القضاء ويتمنى بقاء المنصور .

ويعد أيام الشهور *** ليوم تعداد النقود

ولا كجواب ابن أبي ذؤيب الذي هو بكامل الصراحة والجرأة الأدبية التي فقدها مالك.

ولم يحدثنا التاريخ بموقف مشهود له تتجلى به شجاعته واقدامه كغيره من العلماء الذين واجهوا المنصور في أحرج المواقف كعبد الله بن مرزوق عندما إلتقى بأبي جعفر في الطواف وقد تنحى الناس عنه فقال له عبد الله: من جعلك أحق بهذا البيت من الناس تحول بينه وبينهم وتنحيهم منه؟ فظهر أبوجعفر في وجهه فعرفه. فقال: يا عبد الله بن مرزوق من جرأك على هذا ومن أقدمك عليه؟ فقال عبد الله : و ما تصنع بي؟ أبيدك ضرر أو نفع ؟ والله ما أخاف ضرك ولا أرجو نفعك حتى يكون الله عز وجل يأذن لك فيه.

فقال المنصور : إنك أحللت بنفسك وأهلكتها.

فقال عبد الله: اللهم إن كان بيد أبي جعفر ضري فلا تدع من الضر شيئا إلا أنزلته علي وإن كان بيده منفعتي فاقطع عني كل منفعة منه أنت يارب بيدك كل شيء وأنت مليك كل شيء فأمر به أبو جعفر فحمله إلى بغداد فسجنه بها ثم أطلقه(358).

هكذا كان موقف ذوي الصراحة والجرأة الأدبية. أما مالك فلم يحدثنا التاريخ أنه أقدم على شيء من ذلك مع المنصور وغيره لكن يقال عنه: بأنه كان يدخل على الامراء والخلفاء ويعظهم ويرشدهم ويدعوهم إلى الخير وأنه كان يحث العلماء على إرشاد الخلفاء والامراء وقول الحق لهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

نعم يمكن أن ذلك كان يصدر منه مع امراء المدينة بعد ما حظي بإقبال المنصور عليه وقربه منه فقد نقل أنه كان يطلب من مالك أن يبدي رأيه في ولاته على الحجاز وقال له في ذلك:

إن رابك ريب من عامل المدينة أو عامل مكة أو أحد من عمال الحجاز في ذاتك أو ذات غيرك أو سوء أو شر في الرعية; فاكتب إلي بذلك أنزل بهم ما يستحقون(359).

ولذلك نرى أن الولاة كانوا يحترمونه غاية الاحترام ويخشونه كخشيتهم من المنصور فعظمت بذلك منزلة مالك وتقرب الناس إليه وازدحموا على بابه كازدحامهم على أبواب الامراء.

 

 

 (316) الانتقاء ص11 .

(317) الديباج المذهب ص57 .

(318) الانتقاء ص11 .

(319) تزيين الممالك للسيوطي ص3 .

(320) مناقب مالك للسيوطي ص5 .

(321) الانتقاء ص12 ومناقب مالك للسيوطي ص6 .

(322) وكيف تكون هذه منقبة له ووجهها غير صحيح ؟!

(323) تجريد أسماء الصحابة ج2 ص181 182 / 2107 .

(324) تنوير الحوالك لجلال الدين السيوطي ص 3 ذكر أسماء التابعين للدارقطني ج1 ص353 رقم 1080.

(325) تزيين الممالك ص5 .

(326) المتفق والمتفرق ج1 ص146 / 3 .

(327) مناقب أبي حنيفة للمكي ج1 ص174 .

(328) تاريخ بغداد ج13 ص413 414 .

(329) صحيح الترمذي ج4 ص412 ح2680 .

(330) أسنى المطالب ص24 ح 31 .

(331) تاريخ بغداد ج6 ص374 / 3409 .

(332) تاريخ بغداد ج6 ص374 / 3409 .

(333) طبقات الفقهاء لأبي إسحاق ص42 .

(334) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص143 و 149 150 .

(335) الشعراء: 88 89 .

(336) انظر مناقب مالك ص10 .

(337) تنوير الحوالك للسيوطي ص 4 .

(338) شرح الزرقاني على الموطأ ج1 ص6 .

(339) مشارق الأنوار للعدوي ص288 .

(340) مناقب مالك للزواوي ص18 .

(341) مناقب مالك للزواوي ص17 18 .

(342) انظر فتح الممالك ج1 ص71 .

(343) سير أعلام النبلاء ج7 ص452 / 1182 .

(344) الرحمة الغيثية لابن حجر ص6 .

(345) سير أعلام النبلاء ج7 ص400 / 1180 .

(346) تاريخ بغداد ج10 ص164 .

(347) جامع بيان العلم وفضله ج2 ص158 .

(348) جامع بيان العلم وفضله ج2 ص157 .

(349) تاريخ بغداد للخطيب ج2 ص175 .

(350) تذكرة الحفاظ ج1 ص176 .

(351) تاريخ بغداد ج2 ص302 .

(352) الشذرات ج1 ص290 .

(353) الانتقاء لابن عبد البر ص43 44 .

(354) عبد الله بن طاووس اليماني أبو محمد اليماني روى عن أبيه وعكرمة بن خالد وروى عنه خلق كثير وهو من رجال الصحاح . وقد أخطأوا في تعيين سنة وفاته في سنة (133 هـ) وبهذا لا تصح هذه الحكاية . والصحيح انه متأخر عن هذا الوقت .

(355) الشذرات ج2 ص188 .

(356) هو أبو الحارث محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب أو ذويب العامري المدني المتوفى ؤأ سنة (159 هـ) . قال الواقدي ولد سنة (80 هـ) وكان من أورع الناس وأفضلهم وقيل : إن المهدي حج فدخل مسجد النبي فقام الناس إلا ابن أبي ذئب فقيل له : قم فهذا أمير المؤمنين فقال : إنما يقوم الناس لرب العالمين فقال المهدي : دعوه فقد قامت كل شعرة على بدني .

(357) الإمامة والسياسة ج2 ص153 .

(358) الإمامة والسياسة ج2 ص156.

(359) مالك بن أنس إمام دار الهجرة لعبدالحليم الجندي: 254 .

 

الإمام مالك بن أنس

وهذا هو السبب في هيبة مالك في النفوس، لأنّ الحكام كانوا يهابونه حتى أنّهم يحسون بالصغر في حضرته، كما حدّث الشافعي عندما قدم المدينة يحمل كتاباً لواليها من والي مكّة، ويطلب منه أن يوصله إلى مالك، فقال الوالي: يافتى، إنّ مشيي من جوف المدينة إلى جوف مكّة حافياً راجلاً أهون عليّ من المشي إلى باب مالك، فلست أرى الذلة حتى أقف على باب داره(1)، فإذا كان الولاة هذه حالتهم معه، فالناس أولى بذلك. وكيف لا يهابه الولاة وبيده أمرهم من عزل وتعيين؟ هذا هو سر هيبة مالك مرجعها لقوّة المنصور التنفيذية.

اتّصاله بالمنصور

والذي يظهر أن اتّصال مالك بالمنصور وتقريبه إياه كان في السنة التي حجّ فيها المنصور على ما يرويه ابن قتيبة: أنّ المنصور كتب إلى مالك: أن واف الموسم في العام القابل إن شاء اللّه، فإني خارج إلى الموسم. فلما حجّ المنصور (153 هـ) ودخل عليه مالك، فاعتذر المنصور إليه ممّا ناله من الضرب والإهانة وقال له ـ بعد كلام طويل ـ : ولقد أمرت أن يؤتى بعدوّ اللّه من المدينة على قتب ـ يعني جعفر بن سليمان الذي ضرب مالكاً ـ وأمرت بضيق مجلسه، والمبالغة في إمتهانه، ولا بدّ أن أنزل فيه من العقوبة أضعاف ما نالك منه.

فقال مالك: عافى اللّه أمير المؤمنين ، وأكرم مثواه، قد عفوت عنه لقرابته من رسولاللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ثم منك(2).

وبهذا يتّضح أنّ هذا الاجتماع هو أوّل اجتماع بعد ضرب مالك وإهانته، ثم أمره أن يضع كتاباً يحمل الناس عليه، ويبثّه في الأمصار ويأمر الناس بالعمل به ، وأن لا يقضى بسواه. فقال مالك: إنّ أهل العراق لا يرضون علمنا، ولا يرون في علمهم رأينا.

فقال أبو جعفر: يحملون عليه ونضرب عليه هاماتهم بالسيف وتقطع طي ظهورهم بالسياط، فعجل بذلك وسيأتي المهدي في العام المقبل. وقد فرغتمن ذلك.

ثم أمر له بألف دينار عيناً ذهباً وكسوة عظيمة، ثم أمر لابنه بألف دينار(3).

وطلب المنصور من مالك أن يذهب معه إلى مدينة السلام، وقال له: اذهب معي فلا اُقدّم عليك أحداً، فقال مالك: إن تكن عزيمة من أمير المؤمنين ـ يعني شيئاً واجباً ـ فلا سبيل إلى مخالفته ، وان تكن غير ذلك، فقد قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، فقال له المنصور : فلا أحمل عليك شيئاً تكرهه، ثم أجازه بثلاث صرر: كل صرة ألف دينار، فلما خرج مالك ، قال ولد المنصور لأبيه: أتدني رجلاً من رعيّتك حتى يجلس منك هذا المجلس؟ ! فقال له المنصور: ما على وجه الأرض اليوم رجل يستحيى منه إلاّ مالك وسفيان الثوري(4).

وقال المنصور لمالك: يا أبا عبد اللّه، ذهب الناس ولم يبق غيري وغيرك . ودخل مالك بن أنس على المنصور فقال: يا مالك مالي أراك تعتمد على قول ابن عمر دون أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ فقال مالك: يا أمير المؤمنين، إنّه آخر من بقي عندنا من أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فاحتاج الناس إليه، فسألوه وتمسكوا بقوله. فقال : يا مالك، عليك بما تعرف إنه الحق عندك، ولا تقلدنّ عليّاً وابن عباس(5).

ويمكن أن تكون كلمة ابن عباس من الزوائد التي ألحقت بالعبارة لتبرير موقف المنصور عن النهي عن تقليد عليّ في الأحكام الشرعية، لأنّه بعد أن كان علم عليّ مفخرة لبني العباس ، ويجاهرون بفضله وبعلمه، أصبح عند اشتداد ملكهم وقوة سلطانهم لا يروقهم أن يروي أحد عن عليّ وأهل بيته، وقد شاركوا الاُمويين في هذه النزعة، بل بصورة أشدّ وأعظم في المؤاخذة.

وما من شك في أنّ المنصور اتجه لمالك بتمام العناية، واشتدت بينهم الروابط والصلات، تلك الروابط التي أوجدت في مالك شخصية له حقّ رعاية حكام الحجاز وولاته; مما جعلهم يخشون مخالفته، ويتهيبون مقامه، وبذلك اتجهت الأنظار إليه وتكوّنت شخصيته ، وعلت منزلته دون غيره من علماء دار الهجرة، وغيرهم من علماء المسلمين.

ونحن لا نريد أن نظلم مالكاً إن قلنا: إنّ من الظلم تقديمه على علماء المدينة، وجعل الفتوى منوطة به دون غيره، فما هي المؤهلات التي جعلته أن يكون كذلك ؟ فقد كان مالك لا يعرف عن نفسه ما يقول المنصور بأنه أعلم أهل الأرض.

حدّث مالك قال: قال لي أبو جعفر يوماً: أعلى ظهرها أحد أعلم منك ؟ قلت: بلى. قال: فسمّهم لي. قلت: لا أحفظ أسماءهم ، قال أبو جعفر: قد طلبت هذا الشأن ـ أي العلم ـ في زمن بني اُمية وقد عرفته.

وبهذا رأينا مالكاً يعترف بوجود من هو أعلم منه، ولكن لا يصرّح باسمه، لعلمه بما وراء ذلك.

وقد كان مالك يسأل عن كثير من المسائل الشرعية، فكان أكثر جوابه بلاأدري.

وقد قصده رجل من العراق بأربعين مسألة، فأجاب عن خمس وثلاثين بلا أدري ، وقد أنكر مالك على أهل مصر بأنّهم عرفوا البيوع وهو لا يعرفها، إذا كانوا يرجعون إليه، على أننا نجد في علماء المالكية من يتعجّب من قول لا أدري.

فهذا محمد بن عبد الحكم المتوفى سنة (268هـ) كان يقول : أتعجب ممّن يقول : لا أدري، وله كتاب في الرد على الشافعي فيما خالف الكتاب والسنة.

وقال عبد الرحمن بن المهدي: كنا عند مالك، فجاءه رجل فسأله، فقال: لا أحسن ، فقال الرجل: وأيّ شيء أقول إذا رجعت إلى بلادي؟ قال تقول لهم: قال مالك بن أنس : لاأحسن(6).

والغرض أنّ مالكاً نال حظّاً وافراً في آخر دولة المنصور ممّا جعله يحاول أن يجمع الناس على علمه، ومن يخالف تضرب عنقه.

وجاء من بعده المهدي، فكانت منزلة مالك في دولته عظيمة، وقد أمره بأن يضع للناس كتباً يحملهم عليها. وكان يحترمه ويجلّه ويوصله بهدايا جزيلة وعطاء وافر، ويقرّب مجلسه، ويظهر للناس شأنه وعلوّ منزلته. وكان المهدي يطلب من مالك أن يزوده بوصاياه لينتفع بها.

فقال له مالك: أوصيك بتقوى اللّه وحده، والعطف على أهل بلد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)وجيرانه، فإنّه بلغنا أن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «المدينة مهجري، وبها قبري، وبها مبعثي ، وأهلها جيراني، وحقيق على اُمّتي حفظي في جيراني، فمن حفظهم كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة» (7)

وعلى أثر هذه الوصيّة أخرج المهدي عطاء كثيراً، وطاف بنفسه على دور المدينة، ولما أراد الخروج ، دخل عليه مالك فقال له : إنّي محتفظ بوصيّتك التي حدثتني بها.

ولما جاء دور الرشيد، سار على تلك الخطة التي سار عليها آباؤه، فاحتفظ بمكانة مالك، وعظّمه غاية التعظيم، ولما قدم المدينة جاء الرشيد إلى منزل مالك بنفسه، فأجلسه مالك على منصته التي كان يجلس عليها للحديث، ثم أراد مالك أن يظهر من الرشيد فيه للملأ أعظم من ذلك، فقال له: يا أمير المؤمنين ما أدركت أهل بلدنا إلاّ وهم يحبّون أن يتواضعوا للّه، فنزل الرشيد عن المنصة، وجلس بين يدي مالك، تواضعاً لعلمه وانقياداً لقوله(8).

ويطول بنا الحديث إذا حاولنا أن نشبع الموضوع في علاقة مالك بالخلفاء والولاة، وأردنا أن نقيس حياته الأولى التي قضاها في خمول، لبعده عن سلطان عصره، مع حياته الثانية التي خطا بها إلى ميدان الشهرة والتفوّق على غيره، حتى أصبح موضع عناية الدولة، وكان المنصور يطلب منه مزاملته للحج، ويسمّيه بركن الإسلام، وينوط أمر ولاته به، والرشيد يأمر عامله بأن لا يقطع أمراً دون مالك، فوقعت هيبته في النفوس ، وهابته تلامذته، حتى أنّه ليدخل عليه الرجل إلى مجلسه فيلقي السلام عليه، فلا يرد عليه أحد إلاّ همهمة وإشارة، ويشيرون إليه ألاّ يتكلم مهابة وإجلالاً، ولا يستطيع أحد أن يستفهمه أو يدنو منه، وكان على رأسه سودان يأتمرون بأمره، فإذا أشار إليهم بإخراج أحد أخرجوه(9).

وكان على بابه حجّاب يمنعون الناس من الدخول عليه فإذا أذن لهم ازدحموا على الباب .

قال أبو مصيب: كانوا يزدحمون على باب مالك بن أنس فيقتتلون على الباب من الزحام، وكنّا عند مالك فلا يكلم هذا هذا، ولا يلتفت ذا إلى ذا والناس قائلون برؤوسهم هكذا ـ مبالغة في الانصات ـ وكان السلاطين تهابه، وهم قائلون ومستمعون، وكان يقول في المسألة لا أو نعم فلا يقال له من أين لك هذا؟

وكان لمالك بن أنس سلطة تنفيذية فهو يضرب ويسجن، وقد ذكرت كتب مناقب مالك كثيراً من ذلك، فمنها:

أنّ رجلاً كان عند مالك فقال: أليس قد أمر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بدفن الشعر والأظفار؟ فغضب مالك وأمر بضربه وسجنه.

فقيل له: إنّه جاهل.

فقال : يقول قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار(10)

وقد أعلن مالك غضبه عمّن يروي عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فيضربه أو يحبسه حتى يصحّ عنده ذلك فيطلقه فما كان يتهيأ لأهل المدينة أن يقولوا قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم).

وكان المشايخ الذين سمعوا الحديث مع مالك قد تركوا الحديث هيبة لمالك أو خشية منه إلى أن مات حدّثوا بما عندهم.

وسأله هشام بن القاري عن حديث وهو واقف، فضربه عشرين سوطاً ثم أشفق عليه فحدثه. ودخل عليه رجل فقال: ما تقول فيمن قال: القرآن مخلوق؟ فقال مالك: زنديق اقتلوه. فقال الرجل : يا أبا عبد اللّه إنّما أحكي كلاماً سمعته. قال مالك: لم اسمعه من أحد إنّما سمعته منك. إلى غير ذلك مما حدّثتنا به كتب مناقبه(11)، ويجب ألا يغيب من بالنا مقاصد الدولة من وراء هذاالاتجاه.

إذاً فليس من الغريب أن تتّسع أقوال المدح فيه، وأن يتقرّب الناس إليه برؤيا النبي; فهذا يأتي إليه ويقول له: كنت راقداً في الروضة فرأيت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) متوكئاً على أبي بكر وعمر فقلت: يارسول اللّه، من أين أقبلت؟ فقال مضيت إلى مالك فأقمت له الصراط المستقيم(12).

ويقدم عليه آخر وهو جالس في المسجد، فيقول: أيّكم مالك بن أنس؟ فقالوا: هذا . فسلم عليه. فاعتنقه وقبّله بين عينيه وضمّه إلى صدره وقال: رأيت البارحة رسولاللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)في هذا الموضع فقال: هاتوا مالكاً فاُتي بك ترعد فرائصك فقال: ليس بك بأس أبا عبد اللّه وكنّاك. وقال : اجلس: وقال افتح حجرك فملأه مسكاً منثوراً ، وقال : بثه في اُمّتي. فبكى مالك طويلاً وقال: الرؤيا تسرّ ولا تضرّ إن صدقت رؤياك، فهو هذا العلم الذي أودعني اللّه(13).

ومن هذا ونحوه ممّا يتقرّب به المتقرّبون، أو يفتعله المغالون فيه ويجعلونه من دواعي أهليّته، بل مؤهلاته.

ولو أردنا استقصاء ما اُحيطت به شخصية مالك من الزوائد والمبالغات، فانّنا نخرج عن خطّة الاختصار .

شيوخ مالك

ازدهر عصر مالك برجال العلم ولمعت فيه أسماء رجال تحدّث الناس عنهم لشهرتهم العلمية، ومكانتهم في المجتمع الإسلامي وأصبحت المدينة يؤمّها طلاب العلم من مختلف الأقطار الإسلامية، وامتازت بالتمسك بالحديث ومحاربة الرأي والقياس، كما كانت صبغة الكوفة هي الميل إلى الرأي والقياس وعظم بين البلدين انشقاق أدّى إلى خصومة وعداء، خرج عن نطاق البحث العلمي إذ تعصّب كلّ لبلده.

وكانت المدينة تزدهر بمدرسة الإمام الصادق(عليه السلام)، وقد تهافتت الوفود إليها عندما وجد الناس فرصة الاتصال بأهل البيت(عليهم السلام)، ورفع عراقيل المؤاخذة على ذلك، وكانت مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام) متمسكة بالحديث، لا تجعل للرأي والقياس دخلاً في الأحكام الشرعية كما مرّ بيان ذلك.

وكان مالك بن أنس هو أحد المنتمين لمدرسة الإمام الصادق مدة من الزمن، وعنه أخذ الحديث، فالإمام الصادق هو من أكبر شيوخ مالك بن أنس كما مرّ بيانه.

وقد أخذ مالك أيضاً عن عدة شيوخ من علماء المدينة وغيرهم: منهم عامر ابن عبداللّه بن الزبير بن العوام وزيد بن أسلم، وسعيد المقبري، وأبي حازم، وصفوان بن سليم، وصالح بن كيسان، وإسماعيل بن أبي حكيم، وحميد بن قيس المكي.

واختصّ مالك بالأخذ عن جماعة منهم، ولازمهم ملازمة تامة، وهم: ابن هرمز، ونافع مولى ابن عمر، وابن شهاب الزهري ، وربيعة بن عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي، وأبو الزناد، فهؤلاء أخصّ مشايخ مالك، ولا بدّ من الإشارة إلى كل واحد من هؤلاء:

ابن هرمز

وتطلق هذه الكنية ـ ابن هرمز ـ على رجلين: أحدهما عبد الرحمن بن هرمز، ولقبه الأعرج وكنيته أبو داود، وكان قارئاً محدّثاً توفي سنة (117 هـ). وثانيهما عبد اللّه بن يزيد بن هرمز وكنيته أبو بكر توفي سنة (148 هـ ).

أما الأول : فهو عبد الرحمن بن هرمز مولى بني هاشم أبو داود توفي سنة (117 هـ) بالإسكندرية، روى عن أبي هريرة ومعاوية وأبي سعيد، وعنه الزهري، وأبو الزبير، وأبو الزناد، وروى له أصحاب الصحاح الستة.

وقد اختلف فيمن اختصّ مالكاً من هذين، هل هو ابن هرمز المتقدّم أم هذا؟ وقد حقّق ذلك بعض الباحثين وانتهى إلى أنّه الأول(14)، ولم يكن هو هذا، ويمكن أن يكون هو الصحيح، لأنّ ولادة مالك سنة (98هـ) على الاختلاف، فيكون عمره عند وفاة اُستاذه 19 سنة، وفي هذا الدور لم يتّجه مالك لطلب علم الحديث فلا يمكن أن يوصف بالملازمة له وكسب المواهب التامة منه على أنّه يمكن أن خروج ابن هرمز للاسكندرية متقدم، فيكون عمر مالك أقل.

نـافــع

نافع العدوي مولى عبد اللّه بن عمر المتوفى سنة (117 ـ 120هـ). روى عن مولاه عبداللّه بن عمر، وأبي لبابة وأبي هريرة وعائشة، وعنه ابناه وابن جريح ومالك. وهو أحد حلقات السلسلة الذهبية، كما يقولون إن أصحّ الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر فهو شيخ مالك، وعنه أخذ قضايا ابن عمر وفقهه، ونافع من رجال الصحاح الستة.

الزهـري

ابن شهاب الزهري هو محمد بن مسلم بن عبد اللّه بن شهاب المتوفى سنة (124 هـ).

وكانت له منزلة عند خلفاء بني اُمية، وولاه يزيد بن عبد الملك القضاء، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: عليكم بابن شهاب فإنّكم لا تجدون أعلم بالسنة الماضية منه، وقد روى مالك أنّه أوّل من دون أحاديث رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)بأمر من عمر بن عبد العزيز، وهو أحد تلامذة الإمام زين العابدين والإمام الباقر(عليهما السلام)(15)، ولكنّه على انحراف لعلقته ببني اُمية.

وقد كتب إليه الإمام زين العابدين(عليه السلام) رسالة يعظه بها ويحذّره اُولئك الحكام الذين استمالوه وقرّبوه لأغراضهم ، ونرى من المهم ذكر بعض تلك الرسالة الحكمية الخالدة:رسالة الإمام زين العابدين(عليه السلام) للزهري «كفانا اللّه وإياك من الفتن، ورحمك من النار، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يرحمك. فقد أثقلتك نعم اللّه بما أصحّ من بدنك ، وأطال من عمرك. وقامت عليك حجج اللّه بما حملك من كتابه، وفقهك فيه من دينه وعرفك فيه من سنة نبيه. فانظر أي رجل تكون غداً إذا وقفت بين يدي اللّه فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها... ولا تحسبنّ اللّه قابلاً منك بالتعذير، ولا راضياً منك بالتقصير، هيهات هيهات ليس كذلك، أخذ على العلماء في كتابه إذ قال : (لتبينّنه للناس ولا تكتمونه).واعلم أن أدنى ما كتمت وأخف ما احتملت أن آنست وحشة الظالم. وسهلت له طريق الغي بدنوك منه حين دنوت. وإجابتك له حين دعيت. فما أخوفني بإثمك غداً مع الخونة! وأن تسأل عما أخذت باعانتك على ظلم الظلمة. إنك أخذت ماليس لك ممن أعطاك. ودنوت ممن لم يرد على أحد حقاً ولم ترد باطلاً حين أدناك، وأحببت من حاد اللّه. أو ليس بدعائه إياك حين دعاك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسلّماً إلى ضلالهم، داعياً إلى غيهم ، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، وما أيسر ما عمروا لك فكيف ما خربوا عليك! فانظر لنفسك فإنّه لا ينظر إليها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول، وانظر كيف شكرك لمن غذاك في نعمه صغيراً أو كبيراً، فما أخوفني عليك أن تكون كما قال اللّه تعالى في كتابه: (فخلف من بعدهم خلف... )الآية. إلى آخر الرسالة الخالدة(16).

والرسالة تعبّر عن اتجاه الإمام زين العابدين الى إبعاد رجال الدين وأصحاب المنزلة الدينية عن دوائر الحكام ورجال الجور والباطل، فإنّما احتلّ العلماء هذه المنزلة في نفوس الناس لمكان العقيدة في النفوس، وتمجيد كل ما يمتّ الى الدين بصلة، خاصة حملة العلم وأصحاب الفقه الذين يجب أن يكونوا دعائم للحقّ لا دعائم للباطل والجور، وقد لمست الاُمة بُعد الحكام عن العقيدة وإن لم تكن مبادئ الإسلام هي التي قررت مضمون العدالة والمساواة، فإن نواميس الحياة تؤكد تأثّر المجتمع بالعلماء والاُمراء، فإذا صلحا صلح المجتمع، فكيف إذا كان الزهري في غمار الملوك الطغاة البغاة، وصفة الزهري الدينية ومنزلته العلمية يفترض أن تحمله الى شاطئ الإمامة لا إلى خضم السلطان فاختار الإمام زين العابدين(عليه السلام) أن يتّجه بالخطاب الى الزهري في فترة اختطّ فيها الإمام نهج الدعوة الدينية لبناء النفوس، وتنزيه الدين من الالتقاء مع الجائرين، وتأكيد سياسة عدم التعاون مع الظلمة التي سار عليها أهل البيت، وحرصوا على إلزام الاُمة مقاطعة الظالمين وهجرهم. وإنّ من أشدّ معوّقات ذلك أن يكون من يفترض فيهم الصلاح جسراً للبلاء وسلّماً للضلال.

والجدير بالذكر أنّ الإمام زين العابدين وجّه عنايته الى الزهري كواحد من تلاميذه لمّا كان الزهري يغشى مجلسه فيقوم الإمام زين العابدين بإسداء النصح والإرشاد. دخل الزهري على الإمام زين العابدين وهو كئيب حزين، فقال له زين العابدين(عليه السلام): ما بالك مغموماً؟ قال ياابن رسول الله، غموم وهموم تتوالى عليّ لما امتحنت به من جهة حساد نعمي والطامعين فيّ، وممّن أرجو، وممّن أحسنت إليه فيخلف ظنّي. فقال له الإمام: اضغط عليك لسانك تملك به إخوانك، قال الزهري: يا ابن رسول الله، إنّي أحسن إليهم بما يبدر من كلامي. قال الإمام زين العابدين: هيهات هيهات، إياك أن تعجب من نفسك بذلك، وإيّاك أن تتكلّم بما يسبق الى القلوب إنكاره، وإن عندك اعتذاره، فليس كلّ من تسمعه شراً يمكنك أن توسعه عذراً. ثم قال: يا زهري، من لم يكن عقله من أكمل ما فيه كان هلاكه من أيسر ما فيه. ثم قال: يا زهري: أما عليك أن تجعل المسلمين بمنزلة أهل بيتك فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك، وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك، وتجعل تربك منهم بمنزلة أخيك، فأيّ هؤلاء تحبّ أن تظلم، وأيّ هؤلاء تحبّ أن تدعو عليه، وأيّ هؤلاء تحبّ أن تهتك ستره، وإن عرض لك إبليس لعنه الله بأنّ لك فضلاً على أحد من أهل القبلة فانظر إن كان أكبر منك فقل: قد سبقني بالإيمان والعلم الصالح فهو خير مني. وإن كان أصغر منك فقل: قد سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني. وإن كان تربك فقل: أنا على يقين من ذنبي في شك من أمره فمالي أدع يقيني لشكّي. وإن رأيت المسلمين يعظمونك ويوقرونك ويبجلونك فقل: هذا فضل أخذوا به. وإن رأيت منهم جفاءً وانقباضاً فقل: هذا الذنب أحدثته، فإنّك إذا فعلت ذلك سهّل الله عليك عيشك وكثّر اصدقاؤك وفرحت بما يكون من برّهم ولم تأسف على ما يكون من جفائهم(17).

أبو الزناد

عبد اللّه بن ذكوان مولى بني اُمية أبو الزناد المدني المتوفى سنة (120 هـ)، روى عن ابن عمر مرسلاً، وعن الأعرج فأكثر، قال الليث: رأيت أبا الزناد وخلفه ثلاثمائة طالب، وقد ولي بعض اُمور بني اُميّة، وكان من الموالي الذين رفعت الدولة الاُموية شأنهم، وقدّمتهم على غيرهم وقد أخذ عنه مالك قليلاً وكان أكثر اتصاله وأخذه عن ابن هرمز والزهري(18).

ربيعة الرأي

ربيعة بن عبد الرحمن بن فروخ، ويكنّى أبا عثمان وهو من موالي آل المنكدر توفي بالأنبار سنة (136 هـ) في مدينة الهاشمية، تقدّمت ترجمته في الجزء الأوّل من هذا الكتاب .

وقد أخذ مالك عن ربيعة وحضر عنده وهو صغير السن، عندما وجهته اُمّه لطلب العلم، كما أنّ آراء ربيعة واضحة في فقه مالك(19).

تلامذة مالك

لقد بالغ كتاب المناقب بالكثرة لتلامذة مالك، واضافوا إليهم من ليسوا منهم، وأخذوا يعدّون من هم أكبر منه سناً ومن تقدّم بهم الزمن عليه، ويعدّون أحياناً اُخرى من رواته شيوخه الذين تلقّى عليهم وروى عنهم.

ولا غرابة أن يروي الشيخ عن تلميذه، ولكن إذا كان لذلك حقيقة واقعة فلا غضاضة في قبولها، وإن كان لمجرّد المبالغة في التقدير والتوثيق فليس من العلم قبوله، بل يجب ردّه(20).

ولقد أدعوا أن الزهري قد روى عنه، فيذكر القاضي عياض: أنّ من التابعين الذين رووا عنه محمد بن مسلم الزهري، وقد نفى ذلك ابن عبد البر. ولعلّ الذي أوقعهم في هذا الخطأ: هو الاشتباه بين اسم الزهري هذا وبين الزهري أحمد بن أبي بكر قاضي المدينة، فإنّه من رواة الموطأ وتفقه بأصحاب مالك وتوفي سنة (242 هـ)، كما قالوا إنّ أبا حنيفة من تلامذته لرواية أشهب أنّه قال: رأيت أبا حنيفة بين يدي مالك كالصبي بين يدي أبيه.

واستدلوا بما أخرجه ابن شاهين والدارقطني في غرائب مالك بسند عن حماد بن أبي حنيفة عن أبي حنيفة عن مالك في حديث : «الأيم أحقّ بنفسها». وأخرج الخطيب البغدادي بسند عن أبي حنيفة عن مالك في حديث راعية الغنم(21).

وقد اُجيب عن ذلك بأنّ الرواية الأولى هي عن حمّاد بن أبي حنيفة دون ذكر أبيه.

وأنّ الرواية الثانية هي عن أبي حنيفة عن عبد الملك هو ابن عمير فصحّفوه بمالك.

وقال ابن حجر لم تثبت رواية أبي حنيفة عن مالك، وهو الصحيح لأنّ أبا حنيفة أكبر من مالك بخمس عشرة سنة ومات قبله بأكثر من ثلاثين ولم تكن لمالك شهرة آنذاك(22).

وعلى أيّ حال فإنّهم ذكروا رواة عن مالك تجاوز عددهم الألف، وأكثرهم لم يدرك مالكاً، وبعضهم لم يدركه مالك. ولم يصحّ ذلك، ونحن هنا نذكر بعض تلامذته والرواة عنه.

وعلى أيّ حال فنحن نذكر كبار تلامذته وناشري علمه وفقهه.

ابن وهب

عبد اللّه بن وهب بن مسلم البربري نسباً القرشيّ ولاءً، أبو محمد المصري المتوفى سنة (199هـ) . روى عن يونس بن يزيد، واُسامة الليثي، ومالك، والثوري ، رحل إلى مالك سنة (148هـ) ، ولم يزل في صحبته إلى أن توفي مالك، وكان أعلم أصحاب مالك، إلاّ أنه يروي عن الضعفاء، وكان مالك يكرمه ويجله وما أحد من تلامذة مالك إلاّ وزجره مالك، إلاّ ابن وهب ، وقد رحل لمصر ونشر مذهب مالك هناك، وفي المغرب أيضاً(23).

ابن القاسم

عبد الرحمن بن القاسم أبو عبد اللّه العتكي مولاهم المتوفى سنة (191 هـ) روى عن مالك، والليث وابن الماجشون، ومسلم بن خالد، وغيرهم، رحل إلى مالك بعد ابن وهب، ببضع عشرة سنة وطالت صحبته له ، واختص بعلم مالك دون غيره، حتى كان أثبت أصحابه به، وكانت له آراء يخالف بها شيخه مالكاً.

قال ابن عبد البر: كان فقيهاً قد غلب عليه الرأي، كما أنّه خالف مالكاً في ابتعاده عن السلطان وعدم قبول جوائزهم ، وكان يقول : ليس في قرب الولاة ولا في الدنوّ منهمخير(24).

أشهــب

أشهب بن عبد العزيز القيسي أبو عمرو العامري المتوفى سنة (204هـ) انتهت إليه الرئاسة بمصر بعد ابن القاسم، صحب مالكاً ولازمه وتفقّه عليه، وله مدوّنة تسمى مدوّنة أشهب أو كتب أشهب، وكان يدعو على الشافعي ويتمنّى موته، وتوفي بعد الشافعي بأيام(25).عبد اللّه بن الحكم

عبد اللّه بن الحكم بن الليث مولى عثمان بن عفان المتوفى سنة (210 هـ)، وإليه أفضت الرئاسة بعد أشهب(26).

ابن الفرات

أسد بن الفرات بن سنان المتوفى سنة (213 هـ) . أصله من خراسان ، وولد بحرّان من ديار بكر، ورحل لمالك وسمع موطأه ، ثمّ رحل إلى العراق فلقي أبايوسف ، ومحمد بن الحسن، وأسد بن عمرو، وأصحاب أبي حنيفة، فتفقه بهم، وسمع أبو يوسف منه موطأ مالك، وتولى قضاء القيروان واقتصر في العمل على مذهب أبي حنيفة، فانتشر بسببه مذهب أبي حنيفة هناك، وله مدوّنة على مذهب مالك(27).

الليثي

يحيى بن يحيى بن كثير الليثي المتوفى سنة (224هـ) ، كان أصله من البربر وأسلم جدهم ـ وسلاس ـ على يد يزيد بن عامر الليثي، فهو من موالي الليثيين، وسمع يحيى من مالك بن أنس وهو أحد رواة الموطأ، وسمع من الليث بن سعد وغيره وتفقّه بأصحاب مالك كابن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم العتكي، وانتهت إليه الرئاسة في الاندلس، وبه اشتهر مذهب مالك، لمكانته من السلطان . قال ابن حزم:

مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنّه لما ولي القضاء أبو يوسف كانت القضاة من قبله من أقصى المشرق إلى أقصى عمل أفريقية ، فكان لا يولّي إلاّ أصحابه، والمنتسبين لمذهبه، ومذهب مالك عندنا بالاندلس، فإنّ يحيى بن يحيى كان مكيناً عند السلطان، مقبول القول في القضاة، وكان لا يولّى قاض في أقطار الأندلس إلاّ بمشورته واختياره، ولا يشير إلاّ بأصحابه ومن كان على مذهبه ـ والناس سراع إلى الدنيا ـ فأقبلوا على ما يرجون بلوغ اغراضهم به(28).

حتى قيل: إنّه لم يعطِ أحد من أهل الأندلس ـ منذ دخلها الإسلام ـ ما اُعطي يحيى من الحظوة وعظيم القدر وجلالة الذكر. وقالوا: إنّه كان مجاب الدعوة وقبره يستسقى به بقرطبة(29).

ابن الماجشون

عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون مولى بني تيم المتوفى سنة (212هـ)، كان أبوه قريناً لمالك، وهو الذي قيل إنّه كتب موطأ قبل مالك، ودارت الفتوى على عبد الملك في زمانه، تفقه بأبيه وبمالك ، قال يحيى بن أكثم: عبد الملك بحر لا تكدّره الدلاء! وأثنى عليه ابن حبيب كثيراً، وهو من أهل مذهبه، وتفقّه به خلق كثير: كأحمد بن المعدل وابن حبيب وسحنون، وكان مولعاً بسماع الغناء.

هؤلاء هم عظماء أصحاب مالك وناشرو مذهبه، ونسبتهم إليه نسبة المعلم من المتعلم. وله تلامذة آخرون ليس لهم مزيد أثر في نشر مذهبه. وقد ذكر السيوطي عنهم عدداً كثيراً نسبتهم إليه بالأخذ والرواية فقط.

كتب المذهب المالكي

للفقه المالكي طريقان: أحدهما: كتابه الموطأ الذي رواه عنه الكثيرون ممّن تلقوا عنه إلاّ أنّ في رواياتهم اختلافاً من زيادة ونقص، وأشهر رواة الموطأ يحيى بن يحيى الليثي، وهي المطبوعة بمصر، وهناك موطأ يرويه محمد بن الحسن، وهو مطبوع ببلاد الهند(30)، وقد روى الموطأ بروايات مختلفة عدّها بعضهم ثلاثين(31).

وثانيهما: تلاميذه، فقد كانوا هم المصدر الثاني لفقهه، وكانوا يدوّنون مايفتي به في المسائل ، قال القاضي عياض في المدارك: كان مالك إذا تكلّم بمسألة كتبها أصحابه.

وأشهر كتب المذهب أربعة: المدوّنة، والواضحة، والعتيبية ، والموازية.

المدوّنــة

فالمدوّنة: هي أصح الكتب المعتبرة في المذهب، وأصل هذه المدوّنة هي الأسدية التي دونها أسد بن الفرات بالتلقي عن أبن القاسم، وذلك أنّ ابن الفرات رحل إلى مالك وتلقّى عليه، ثم رحل إلى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ، وأخذ عنه كتبه وتعلّم فقه العراقيين، ولما عاد إلى مصر; كان مالك قد مات. فأراد أن يجمع بين الفقه المالكي والفقه الحنفي، فأتى بالمسائل إلى أصحاب مالك الذين لازموه، فالتجأ أولاً إلى ابن وهب وقال له: هذه كتب أبي حنيفة، وسأله أن يجيب فيها على مذهب مالك، فتورع ابن وهب وأبى، فالتجأ الى ابن القاسم، فأجابه إلى ماطلب، فأجابه فيما حفظ عن مالك بقول مالك، وفيما شكّ من حفظه قال: اخال، وأحسب ، وأظن. ومنها ما كان يقول فيه بالقياس على رأي له في مثله، فكان يقول: سمعته يقول في مسألة كذا كذا، ومسألتك مثله، ومنه ما قال فيه باجتهاده على أصل قول مالك. وجمع تلك الأجوبة وسماها الأسدية.

والأسدية هذه هي الأصل لمدوّنة سحنون، لأنّه تلقاها عن أسد بن الفرات. وقد تكلّم بعض الناس فيها، لاشتمالها على أخال، وأظن، وأحسب. وقالوا له : جئتنا بأخال وأظن وأحسب، وتركت الآثار وما عليه السلف.

ولمّا تلقى سحنون الأسدية، ارتحل إلى ابن القاسم وعرضها عليه. وأسقط ما كان ظنياً، فأقبل الناس على كتب سحنون ، وهجروا كتب أسد بن الفرات، ونظر سحنون بعد ذلك في كتبه بعد أن أستوثق برواية ما هو رواية منها، وما هو رأي مخرج على أصل مالك ورتّبها وزاد عليها خلاف كبار أصحاب مالك له، وذيّل أبوابها بالحديث والآثار، فأصبحت المدوّنة هي الأصل الثاني للفقهالمالكي(32).

وأنت ترى أنّ الفقه المالكي تأثّر بالفقه الحنفي، ودخله الرأي من أصحاب أبي حنيفة، كما أنّ مالكاً نفسه كان يلجأ إلى الرأي، ويعمل بالقياس ، كما يأتي بيانه.

ثم جاء علماء المالكية، فشرحوا المدونة ووسّعوها بما علّقوا عليها. فالمدونة هي مجموعة لمسائل عن مالك، واجتهاد من تلاميذه وتلاميذ تلاميذه في وضع أحكام المسائل على قواعد مالك ومبادئه، وقد احتج سحنون لبعض مسائلها بالآثار، من روايته من موطأ ابن وهب وغيره، وبقيت منها بقيّة لم يتمّ سحنون فيها هذا العمل(33)، واتبع الناس مدونة سحنون على ما كان فيها من اختلاط المسائل في الأبواب ، فكانت تسمّى المدونة والمختلطة، وعكف أهل القيروان على هذه المدوّنة، وأهل الأندلس على الواضحة والعتيبية، وكذلك اعتمد أهل الأندلس على العتيبية، وهجروا الواضحة وماسواها(34).

والواضحة:

ألّفها عبد الملك بن حبيب(35) وقد أخذ عن أبن القاسم وطبقته، وبثّ مذهب مالك في الأندلس.

والعتيبية:

ألّفها محمد بن أحمد العتبي القرطبي المتوفى سنة (255 هـ)، وقد أكثر فيها من الروايات المطروحة، والمسائل الشاذة، وكان يأتي بالمسائل الغريبة، فإذا أعجبته قال: أدخلوها في المستخرجة. قال ابن وضاح: في المستخرجة خطأ كثير. وقال محمد بن عبد الحكم: رأيت جلّها كذباً ومسائل لا أصل لها. ولكنها مع هذا الطعن وما فيها من الكذب والخطأ; فإنّ لها عند أهل العلم بافريقية القدر العالي والطيران الحثيث، قاله ابنحزم(36).

والموازية:

هي لمحمد بن إبراهيم بن زياد الاسكندري المعروف بابن المواز المتوفى سنة (269هـ). قال القاضي عياض عن كتاب الموازية: هو أجلّ كتاب ألّفه المالكيون، وأصحّه مسائل، وأبسطه كلاماً ، وأوعبه، وذكره أبو الحسن القابسي، ورجحه على سائر الاُمهات(37).

هذه هي اُمّهات كتب المذهب المالكي، والمعوّل عليها في العمل. وقد خالف أصحاب مالك في أكثر المسائل ما ذهب إليه مالك، كما خالف أبويوسف ومحمد بن الحسن الشيباني أبا حنيفة، وكما خالف المزني والبويطي الشافعي.

فأنت ترى أنّ مجموع ما عليه العمل في المذهب لم يكن من قول صاحب المذهب وحده، وإنّما هو مجموع آراء. وقد كانوا مستقلين في تفكيرهم. ويوضح لنا ابن خلدون حالة هذه الكتب واستعمالها بقوله:

رحل من الأندلس عبد الملك بن حبيب، فأخذ عن ابن القاسم وطبقته، وبثّ مذهب مالك في الأندلس، ودوّن فيه كتاب الواضحة، ثم دوّن العتبي من تلامذته كتاب العتيبية.

ورحل من أفريقية أسد بن الفرات، فكتب عن أصحاب أبي حنيفة أوّلاً، ثمّ انتقل إلى مذهب مالك، وكتب عن ابن القاسم في سائر أبواب الفقه، وجاء إلى القيروان بكتابه وسماه الأسدية نسبة إلى أسد بن الفرات، فقرأها سحنون على أسد، ثم ارتحل إلى المشرق، ولقي ابن القاسم وأخذ عنه، وعارضه بمسائل الأسدية ، فرجع عن كثير منها، وكتب سحنون مسائلها، ودوّنها وأثبت مارجع عنه، وكتب لأسد أن يأخذ بكتاب سحنون فأنف من ذلك، فترك الناس كتابه واتبعوا مدوّنة سحنون على ما كان فيها من اختلاط المسائل في الأبواب، فكانت تسمّى المدونة والمختلطة، وعكف أهل القيروان على هذه المدونة وأهل الأندلس على الواضحة والعتيبية، ثم اختصر ابن أبي زيد المدوّنة والمختلفة في كتابه المسمى بالمختصر، ولخصه أيضاً أبو سعيد البرادعي من فقهاء القيروان في كتابه المسمّى بالتهذيب، واعتمده المشيخة من أهل أفريقية، وأخذوا به وتركوا ما سواه. وكذلك اعتمد أهل الأندلس كتاب العتيبية، وهجروا الواضحة وما سواها.

ولم يزل علماء المذهب يتعاهدون هذه الاُمّهات بالشرح، والإيضاح والجمع، فكتب أهل أفريقية على المدونة ما شاء اللّه أن يكتبوا مثل ابن يونس، واللخمي، وابن محرز التونسي، وابن بشير وأمثالهم. وكتب أهل الأندلس على العتيبية ما شاء اللّه أن يكتبوا مثل ابن رشد وأمثاله. وجمع ابن أبي زيد جميع ما في الاُمّهات من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب النوادر فاشتمل على جميع أقوال المذهب وفروع الاُمّهات كلّها في هذا الكتاب، ونقل ابن يونس معظمه في كتابه على المدوّنة، وزخرت بحار المذهب المالكي في الاُفقين إلى انقراض دولة قرطبة والقيروان ، ثم تمسّك بهما أهل المغرب بعد ذلك إلى أن جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب لخص فيه طرق أهل المذهب في كلّ باب، وتعديد أقوالهم في كل مسألة فجاء كالبرنامجللمذهب(38).

ولقد كان أهل الأندلس يغالون في مالك وفقهه: قال البيهقي : إنّ الشافعي إنّما وضع الكتب على مالك: أنّه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يستسقى بها، وكان يقال لهم: قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فيقولون: قال مالك، فقال الشافعي: إنّ مالكاً بشر يخطئ، فدعاه ذلك إلى تصنيف الكتاب في اختلافه معه(39).

وعلى الجملة فإنّ انتشار مذهب مالك في الأندلس يعود أمره إلى قوّة السلطان، فإنّه قد حمل أهل مملكته عليه(40)، وقد كانوا يعملون بمذهب الأوزاعي. وكان يحيى بن يحيى الليثي مقدّماً مكيناً عند السلطان فنشر المذهب هناك، إذ جعل إليه تعيين القضاة، فلم يولّ إلاّ من كان على مذهبه، حتى اضطر القضاة الذين كانوا على غير مذهب مالك أن يلتزموا الفتوى به، نظراً لإلزام السلطة.

فهذا القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الجماعة بقرطبة المتوفى سنة(355هـ) كان يتفقه بمذهب الظاهري، ويقضي بمذهب مالك وأصحابه، لأنّه اُلزم بالعمل به من قبل السلطان(41).

ويعود ذلك إلى ثناء مالك على ملك الأندلس عندما سئل عن سيرة الملك، فذكر له عنها ما أعجبه، فقال مالك: نسأل اللّه أن يزين حرمنا بملككم، فلمّا بلغ قوله إلى الملك حمل الناس على مذهبه بالقهر (42).

ويقول المقريزي: لمّا ولي المعز باديس حمل جميع أهل أفريقيا وأهل الأندلس على التمسك بمذهب مالك وترك ما عداه، فرجع أهل أفريقيا وأهل الأندلس كلهم إلى مذهبه رغبة فيما عند السلطان وحرصاً على طلب الدنيا، إذ كان القضاء والافتاء في جميع تلك المدن لمن سمّي بمذهب مالك، فاضطرّت العامة إلى أحكامهم وفتاواهم ففشي هذا المذهب هناك(43).

فالمذهب المالكي محفوف بعناية السلطة وعوامل السياسة من جميع جوانبه. وقد قام القضاة بنشره، ولما خمل ذكر مذهب مالك في المدينة المنورة وعين إبراهيم بن علي اليعمري قاضياً على المدينة قام بنشر مذهب مالك بقوّة سلطانه وسطوته وذلك في القرن السابع.

ولابدّ أن نلحظ الشبه بين المذهب المالكي والمذهب الحنفي .

1 ـ إنّ كلاً منهما انتشر بالقوّة والقهر من قبل السلطان على أيدي القضاة.

2 ـ وإنّ كلاً من رئيسي المذهب قد أسعده الحظ بالقبول عند سلطان عصره، فكانت له المنزلة الرفيعة والدرجة العظيمة، فأبو حنيفة انتصر المنصور له وقرّبه وأدناه لغاية في نفسه، ولكنّه فشل في محاولته فآل أمره إلى أن يغضب عليه ويقتله، لمؤثرات في نفس أبي حنيفة وأسباب منعته من الاستجابة تماماً للسلطان، وبعدُ، اندفع أصحابه كما يشاؤون.

ومالك قد حظي برضا المنصور والمهدي والهادي والرشيد، ورفعوا من شأنه في حياته كما مرّ بيانه.

3 ـ إنّ كلّ واحد منهما تأثر بالآخر، فالمذهب الحنفي دخلت فيه آراء مالك ورواياته أدخلها أبو يوسف ومحمد بن الحسن وطبّقوا أراءهم على الموطأ واستخرجوا لها شواهد من الآثار. وكذلك المذهب المالكي تأثّر بالرأي الحنفي، أدخله عليه أسد بن الفرات، كما مرّ ذكراه.

4 ـ إنّ اُصول المذهبين ومسائلهما هما مجموعة آراء علماء كلّ من المذهبين التي قام عليها تخريج المسائل، وينسب ذلك إلى رئيس المذهب، فأصبحت تلك المسائل هي الاُسس التي يقوم بها وإن كان فيها خلاف لمن نسب المذهب إليه، فإنّ لتلاميذ مالك آراء بجوار آرائه، ومنزلتهم منه كمنزلة المزني من الشافعي، وكمنزلة محمد وأبي يوسف من أبي حنيفة.

وهنا لا بدّ لنا من الإشارة إلى بعض اُصول فقه المذهب المالكي.

اُصول الفقه المالكي

يختلف المذهب المالكي عن بقية المذاهب بكثرة اُصول الفقه، فإنّ الاُصول عند الحنيفة الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستحسان والعرف. والاُصول عند الشافعية: الكتاب ، والسنة، والإجماع، والقياس. أمّا الاُصول عند المالكية فأقل عدد أحصوه له تسعة: الكتاب، والسنة ، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعرف، وإجماع أهل المدينة، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، وقيل أكثر من ذلك.

ولقد ذكر القاضي عياض في المدارك الاُصول العامة للفقه الإسلامي: وهي القرآن الكريم نصوصه وظواهره ومفهوماته، والسنة متواترها ومشهورها وآحادها، ويؤخذ أيضاً بنصوصها ثم ظواهرها ثم مفهوماتها ثم الإجماع ثم القياس. وبعد ذلك ذكر اُصول مالك، ومقامها من تلك الاُصول العامة فقال:

وأنت إذا نظرت لأول وهلة منازع هؤلاء الاُمة ومآخذهم في الفقه واجتهادهم في الشرع وجدت مالكاً رحمه اللّه ناهجاً في هذه الاُصول منهاجها مرتباً لها مراتبها ومدارجها، مقدماً كتاب اللّه على الآثار، ثم مقدّماً لها على القياس والاعتبار، تاركاً منها ما لم يتحمله الثقاة العارفون لما تحمّلوه، أو ما يجهلونه، أو ما وجد الجمهور الجمّ الغفير من أهل المدينة قد عملوا بغيره وخالفوه، ولا يلتفت إلى من تأول عليه بظنه في هذا الوجه سوء التأويل وقوله ما لا يقوله بل صرّح بأنه من الأباطيل(44).

هذا ماذكره القاضي عياض في اُصول مذهب مالك، ذكر الكتاب والسنة، وعمل أهل المدينة والقياس ولم يذكر غيرها، فلم يذكر الإجماع، ولم يذكر القواعد التي امتاز بها مذهب مالك، وهي المصالح المرسلة وسد الذرائع، والعرف، والعادات، وغيرها واُحصيت إلى ستة عشر أصلاً. ومهما يكن من شيء فإنّ مالكاً لم يدوّن اُصوله التي بنى عليها مذهبه في منحاه الاجتهادي الذي استخرج فروع مذهبه منها، فهو كأبي حنيفة في ذلك. ولقد صنع فقهاء المذهب المالكي في فقه مالك ما صنعه فقهاء المذهب الحنفي، فجاءوا إلى الفروع وتتبعوها واستخرجوا منها ما يصحّ أن يكون اُصولاً قام عليها الاستنباط في ذلك المذهب العظيم، ودوّنوا تلك الاُصول التي استنبطوها على أنّها اُصول مالك، فيقولون مثلاً: مالك يأخذ بمفهوم المخالفة وبفحوى الخطاب وبظاهر القرآن، ويقول في العموم كذا، والحقيقة أنّ هذه ليست أقوالاً له مأثورة قد ذكرها ورويت عنه، بل هي مستخرجة من الفروع التي أثرت عنه، وأدلّتها التفصيلية التي ذكرت بجوارها أو ذكرها الفقهاء من بعده لها ولا يمكن الاستدلال بسواها(45).

فأصبح ذلك المجهود الذي بذله علماء المالكية هو مجموع اُصول المذهب المالكي، وفي أكثرها مخالفة لرأي مالك، أو تفردهم بما لم يرد من مالك أثر فيه، فقد ظهر بعد وفاته آراء لكبار تلاميذه خالفوه فيها، ودوّنوا تلك المخالفة.

والشواهد كثيرة على مخالفة أصحاب مالك له من بعده، فهذا يحيى الأندلسي يخالفه في مسألة الشاهد ويمين صاحب الحقّ، وهذا أشهب تُروى مخالفته حتى أن أسد بن الفرات لما أراد أن يدون آراء مالك ولجأ إلى أشهب لم يستطع عند التدوين التفرقة بين آراء التلميذ وشيخه مالك فعدل عنه وعاب مسلكه، ولجأ إلى عبد الرحمن بن القاسم يأخذ منه، فقد جاء في مقدّمات ابن رشد ما نصّه :

قدم أسد يسأل مالكاً رحمه اللّه فألفاه قد توفي، فأتى أشهب ليسأله، فسمعه يقول: أخطأ مالك في مسألة كذا، وأخطأ في مسألة كذا فتنقصه بذلك وعابه ولم يرض قوله، والتجأ إلى ابن القاسم ليأخذ عنه آراء مالك وفقهه، فقد كان أيضاً يخالف مالكاً، وقد دوّن ذلك، فقد جاء في مدونة سحنون آراء صريحة في مخالفة مالك(46).

وأهمّ الاُصول التي كان يعتمد عليها مالك في منحاه الاجتهادي كثيرة، منها:

عمل أهل المدينة

كان مالك قد أعطى ما جرى عليه العمل في المدينة أهميّة كبرى، وهو يرد الحديث لأنّه لم يجر عليه عمل، ويرى أنّ أهل المدينة أدرى بالسنة وبالناسخ والمنسوخ، كما أشار لذلك في رسالته إلى الليث بن سعد إذ يقول فيها: فإنّما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن وأحلّ الحلال وحرّم الحرام، إذ رسول اللّه بين أظهرهم، إلى أن يقول : فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به، لم أر لأحد خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لايجوز انتحالها ولا ادعاؤها، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون: هذا العمل ببلدنا، وهذا الذي مضى عليه من مضى منّا، لم يكونوا فيه من ذلك على ثقة، ولم يكن من ذلك الذي جاز لهم... إلى آخر الرسالة.

وقد رد عليه الليث برسالة طويلة ناقشه فيها بمناقشة علميّة، ذكرها ابن القيم الجوزية في أعلام الموقعين بكاملها(47).

وقال في بعض فصولها: وكان من خلاف ربيعة لبعض من قد مضى ما قد عرفت وحضرت قولك فيه، وقول ذوي الرأي من أهل المدينة، يحيى بن سعيد، وعبيد اللّه بن عمر، وكثير بن فرقد، وغيره كثير ممّن هو أسن منه حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه، وذاكرتك أنت وعبد العزيز بعض مانعيب على ربيعة من ذلك فكنتما من الموافقين فيما أنكرت.

وكان من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه، وإذا كاتبه بعضنا فربّما كتب إليه في الشيء الواحد على فضل رأيه وعلمه بثلاثة أنواع ينقض بعضها بعضاً، ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك... إلى آخر الرسالة، وقد ناقشه فيها بكثير من المسائل العلمية التي نقض بها قول مالك. وكذلك الشافعي ناقش مالكاً مناقشة علمية قيّمة في كتاب الاُم، لأنّ مالكاً لا يفرق في لزوم اتباع أهل المدينة بين العمل النقلي، والعمل الاجتهادي، لذلك وجّهوا إليه تلك المؤاخذات المعقولة.

أمّا العمل النقلي فلا خلاف في حجّيته عند مفسري مذهب مالك، كنقل أهل المدينة تعيين محل منبر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقبره ومحل وقوفه للصلاة، وتعيينهم مقدار المدّ والصاع والأوقية في عهد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ونقلهم كيفية الأذان والإقامة. أمّا المسائل الاجتهادية، فالأمر فيها سواء بين مجتهدي الصحابة، والتابعين من المدنيين والكوفيين والشاميين ، والمصريين(48).

وقد ردّ ابن حزم على هذه القاعدة بقوله: وأمّا من قال: إنّ الإجماع إجماع أهل المدينة لفضلها، ولأنّ أهلها شهدوا نزول الوحي فقول خطأ من وجوه، نذكر منها:

1 ـ إنّ الذين شهدوا الوحي، إنّما هم الصحابة رضي اللّه عنهم لا من جاء بعدهم من أهل المدينة، وعن الصحابة أخذ التابعون من أهل كلّ مصر.

2 ـ إنّ الخلفاء الذين كانوا لا يخلو حالهم من أحد وجهين لا ثالث لهما: إمّا أن يكونوا قد بيّنوا لأهل الأمصار من رعيتهم حكم الدين أو لم يبينوا. فإن كانوا قد بيّنوا لهم الدين فقد استوى أهل المدينة وغيرهم في ذلك. وإن كانوا لم يبيّنوا لهم فهذه صفة سوء أعاذهم اللّه تعالى منها، فبطل قول هؤلاء بيقين.

3 ـ إنّه إنّما قال ذلك قوم من المتأخرين ليتوصلوا بذلك إلى تقليد مالك بن أنس دون علماء المدينة جميعاً ولا سبيل لهم إلى مسألة واحدة أجمع عليها جميع فقهاء أهل المدينة المعروفين من الصحابة والتابعين خالفهم فيها سائرالأمصار(49).

المصالح المرسلة

ومن اُصول مذهب مالك: القول بالمصالح المرسلة، كما نسب الى الحنفية القول بالاستحسان ، وقد تسمى هذه المصالح بالاستصلاح، ومعنى المصالح المرسلة، المصالح التي لم يشهد لها من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نصّ معين، ومحل النزاع في العمل بها إذا صادمت دليلاً آخر من نص أو قياس، ومثال ذلك الضرب بالتهمة للاستنطاق بالسرقة، فقد قال بجوازه مالك ويخالفه غيره. لأنّ هذه المصلحة تعارضها اُخرى، وهي مصلحة المضروب ، لأنّه ربّما يكون بريئاً، وترك الضرب في مذنب أهون من ضرب بريء، فإن كان فيه فتح باب يعسر معه انتزاع الأموال، ففي الضرب فتح باب إلى تعذيب البريء.

ومن ذلك المفقود زوجها إذا اندرس خبر موته وحياته وقد انتظرت سنين وتضررت بالعزوبة، والمرأة تباعد حيضها سنين وتعوقت عدّتها في النكاح وبقيت ممنوعة منه، أخذ مالك برأي عمر فيهما فقال: تنكح زوجة المفقود بعد أربع سنين من انقطاع الخبر مراعاة لمصلحة الزوجة، وعدم الالتفات إلى مصلحة الغائب، وفي المتباعد حيضها تعتد بثلاثة أشهر بعد أن تمرّ عليها مدة الحمل وهي تسعة أشهر، فالمجموع سنة راعوا مصلحة الزوجة مع المخالفة للنصّ الصريح ، وهو قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء)(50) وهي لم تصل لسن اليأس حتى تعتد بالأشهر.

والخلاصة أنّ المصلحة المرسلة مصلحة ترجع إلى حفظ مقصود شرعي بالكتاب أو السنة أو الإجماع إلاّ أنّها لا يشهد لها أصل معين بالاعتبار، وإنّما يعلم كونها مقصودة لا بدليل واحد بل بمجموع أدلة وقرائن أحوال وتفاريق الإمارات. ومن أجل ذلك تسمى مصلحة مرسلة، ولا خلاف عندهم في اتباعها إلاّ عندما تعارضها مصلحة اُخرى، وعند ذلك يكون الخلاف في ترجيح أحد المصلحتين(51).

الاستحسان

كان مالك بن أنس يأخذ بالاستحسان، وروى ابن القاسم عن مالك أنّه قال: الاستحسان تسعة أعشار العلم، وفي رواية اُخرى عن مالك أنّه قال: تسعة أعشار العلم الاستحسان. وكان القرافي يفتي بالاستحسان ويقول فيه: «قال به مالك رحمه اللّه في عدّة مسائل في تضمين الصناع المؤثرين في الأعيان بصنعهم وتضمين الحمالين للطعام والإدام دون غيرهم» (52).

وقد عرّفه ابن العربي: إنّ الاستحسان إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخيص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته، وأقسامهأربعة:

1 ـ ترك الدليل للعرف. 2 ـ تركه للإجماع. 3 ـ تركه للمصلحة. 4 ـ للتيسير ورفع المشقة وإيثار التوسعة(53).

ويقول ابن الأنباري: الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان لا على المعنى السابق ـ أي تعريف ابن العربي له ـ بل هو استعمال مصلحة جزئية في مقابل قياس كلي، فهو يقدّم الاستدلال المرسل على القياس، ومثاله لو اشترى سلعة بالخيار ثم مات فاختلف ورثته في الإمضاء والرد، قال أشهب: القياس الفسخ، ولكنّا نستحسن إذا قبل البعض الممضي نصيب الراد إذا امتنع البائع من قبوله أن نمضيه(54).

وعلى أيّ حال فإنّ الاستحسان في الفقه المالكي قد استعمل بكثرة، ونقلوا ذلك من مالك، وقد اختلفوا في تعريفه وفي بيان المواضع التي يجيز مالك الأخذ به ويعتمد عليه في بناء الأحكام، وسيأتي بيان ذلك بصورة واسعة عند حديثنا عن اُصول الفقه الجعفري ومقارنته مع غيره.

وقد حمل الشافعي على مالك في مسألة الاستحسان وعقد باباً في الاُم سمّاه: كتاب إبطال الاستحسان . ولقد بنى إبطال الاستحسان:أولاً: على أنّ الشارع ما ترك أمر الإنسان سُدىً، بل جاء في الشريعة بما فيه صلاحه، ونصّ على الأحكام الشرعية الواجبة الاتباع، وما لم ينصّ عليه قد أشير إليه، وحمل على النصوص بالقياس فلا شيء لم يبينه الشارع، وترك بيانه للاستحسان، وإلاّ كان ثمة نقص في البيان.ثانياً: لأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا نزلت به حادثة لم يجد بها نصّاً ولا حملاً على نص سكت حتى ينزل وحي بالبيان، كما فعل عندما جاءه من ينكر نسب ولد جاءت به امرأته فسكت حتى نزلت آية اللعان، لأنّه لم يجد نصّاً، ولا حملاً على نص فانتظر، ولو كان الافتاء بغير النص أو الحمل عليه جائزاً من أحد لجاز من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).ثالثاً: إنّ اللّه سبحانه أمر باطاعته سبحانه وتعالى واطاعة رسوله، وذلك باتباع ما جاء في كتاب اللّه تعالى، ثم ما جاء في سنّة رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) وان لم يكن نص فيهما كان الاتباع بالحمل على النص في أحدهما، والاستحسان ليس واحداً منهما.رابعاً: إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد استنكر تصرّف من اعتمد على استحسانه من الصحابة; لأنّه لم يعتمد على نص.خامساً: إنّ الاستحسان لا ضابط له ولا مقاييس يقاس بها الحقّ من الباطل. فلو جاز لكلّ مفت أو مجتهد أن يستحسن فيما لا نصّ فيه لكان الأمر فرطاً، ولا ختلفت الأحكام في النازلة الواحدة على حسب استحسان كلّ مفت، فيقال في الشيء ضروب من الفتيا والأحكام، وما هكذا تُفهم الشرايع ولا تُفسّر الأحكام الدينية(55).

القيــاس

وهو أصل من اُصول الفقه المالكي، وقد أجمع المالكيون أنّ مالكاً كان يقيس بعض المسائل التي تقع على مسائل قد علم فيها أقضية الصحابة كما قاس حال زوجة المفقود إذا حكم بموته فاعتدت عدة الوفاة وتزوجت بغيره ثمّ ظهر حيّاً ، بحال من طلّقها زوجها وأعلمها بالطلاق ثم راجعها ولم تعلم بالرجعة، فتزوجت بعد انتهاء العدّة، وذلك لأنّ عمر أفتى في هذه بأنّها لزوجها الثاني دخل أو لم يدخل، لأنّ الحالتين متماثلتان، فلا بدّ أن يكون الحكم متّحداً، وكثيراً ما كان يقيس على القضايا، وأكثر قياسه على قضايا عمر، لأنّه يجعل ذلك نصّاً في الحكم، كما على سائر الأدلة، إذ لم يقتصر قياسهم على الأحكام الثابتة من الكتاب والسنة بل يقيسون على الفروع المستنبطة، والقياس حجة عند المالكية، كما هو حجّة عند الحنفية، ولكنّ هناك فرقاً بين القياسين وإن كان المدرك واحداً إذ لا يختلفان إلاّ في اتساع الدائرة وضيقها. فأبو حنيفة كان يتّسع في استنباطه فيبحث عن أحكام المسائل التي لم تقع، ويتصوّر وقوعها، فهو يستنبط العلل الباعثة للأحكام، والغايات المناسبة لشرعيتها، ويبني عليها ويجعل العلل مطردة في كل ما تنطبق عليه، وعلى هذا فأخذه بالرأي لابدّ وأن يجعل علة في القياس، لأنّ قلة حديثه وسعت دائرة الرأي والقياس عنده، كما يأتي بيانه إن شاء اللّه.

وقد كان أبو حنيفة يقدّم القياس على خبر الواحد، فكذلك كان مالك بن أنس كما في كثير من فتاواه التي نقلها أصحابه.

الـرأي

والشيء الذي يجب الالتفات إليه: أنّ الذين كتبوا في تاريخ الفقه الإسلامي قد قسّموا الفقه إلى فقه أثر، وفقه رأي، ويعدّون مالكاً فقيه أثر، وأبا حنيفة فقيه رأي.

وقد رأينا ابن قتيبة في معارفه يعدّ مالك بن أنس فقيه رأي كما ذكر منهم: ربيعة الرأي اُستاذ مالك، والأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى، وزفر، وأبو يوسف، وعدّ مالكاً من جملتهم(56)، كما أنّه لم يذكره في أصحاب الحديث إذ عدّ منهم: شعبة وجرير بن حازم، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة وغيرهم.

وزيادة على ذلك أنّ اشتهار مالك بالرأي كان معروفاً في عصره، ويعتبرونه فقيه رأي، حتى ليسأل بعضهم من للرأي في المدينة بعد ربيعة ويحيى بن سعيد؟ فيجاب بأنّ مالكاً من بعدهما.

يقول الاُستاذ محمد أبو زهرة: وإنّ مقدار أخذ مالك بالرأي ليبدو جليّاً في أمرين: أحدهما: في مقدار المسائل التي اعتمد فيها على الرأي سواء أكان بالقياس، أم بالاستحسان، أم بالمصالح المرسلة أم بالاستصحاب، أم بسدّ الذرائع... إلى أن يقول: وإنّ ذلك لكثير وافتح المدوّنة تجد الكثرة بيّنة واضحة بل انّ تعدد طرائق الرأي عنده أكثر من غيره، ليجعل له القدح المعلّى فيه، فإنّ كثرتها تشير إشارة واضحة إلى كثرة اعتماده على الرأي لا إلى قلّته.ثانيهما: عند تعارض خبر الآحاد مع القياس وهو أحد وجوه الرأي، وهنا نجد أنّه يقرر الكثيرون من المالكية أنّه يقدّم القياس، وأنّهم بالاجماع يذكرون أنّه أحياناً قد أخذ بالقياس، وردّ خبر الآحاد، ولقد أحصى الشاطبي في الموافقات(57) طائفة من المسائل أخذ فيها مالك بالقياس أو المصلحة أو القاعدة العامة وترك خبر الآحاد، لأنّه رأى الاُصول التي أخذ بها قطعيّة، أو تعود إلى أصل قطعيّ والخبر الذي ردّه ظنّي.

ومن ذلك حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً، إحداهنّ بالتراب، فقد قال فيه مالك: جاء الحديث ولا أدري ما حقيقته وكان يضعّفه ويقول: يؤكل صيده فكيف يكره لعابه(58)؟ !

وقد ردّ خيار المجلس الذي يوجب أن يكون لكلا العاقدين الحقّ في فسخ الخيار مادام المجلس لم يتفرّق، فقد قال مالك بعد روايته الحديث ليس لهذا عندنا معروف ولا أمر معمول فيه(59).

ولم يأخذ بخبر من مات وعليه صيام صام عنه وليّه، ولا بالخبر الذي جاء عن ابن عباس: أن امرأة أتت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يارسول اللّه إن اُمي ماتت وعليها صوم شهر، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): أفرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه ؟ قالت: نعم، قال: فدين اللّه أحقّ أن يُقضى ، وقد ردّ مالك ذلك إستناداً لقوله تعالى: (َلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )(60).

ولم يعتبر للرضاع نصاباً مقرراً عشراً ولا خمساً إطلاقاً للقاعدة المستفادة من الآية الكريمة: (وَأُمَّهاتُكُمُ اللآتِي أَرْضَعْنَكُمْ)(61) فالرضاع عنده على القليل، والكثير فليس له حدّ أدنى .

وردّ خبر المصراة وهو ماروي عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا تصرّ وا الإبل والغنم ومن ابتاعها بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك، وإن شاء ردّها، وصاعاً من تمر(62)

وبهذا يتّضح أنّ مالكاً كان يعمل بالرأي والقياس ولم يكن الاختصاص فيه لأبي حنيفة. فالقول بأنّ مالكاً كان متمسّكاً بالحديث حتى عرف به غير وجيه. ومن هذا يتّضح أنّ معركة أهل الرأي وأهل الحديث كانت تحوم حول نقطة سياسية لا شرعية وهي معارضة مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) التي انهال الناس عليها في عصر الإمام الصادق(عليه السلام)، وقد تمسّكت بالحديث ولم تجعل للقياس والرأي دخلاً في الأحكام الشرعية.

إنكار الإمام الصادق(عليه السلام) للقياس

وكان الإمام الصادق(عليه السلام) ينكر أشدّ الإنكار على ذلك، كما مرّ بيانه في أقواله لأبي حنيفة ونهيه له عن القياس والقول بالرأي .

ومن أقواله المأثورة: إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلاّ بعداً.

وقال في ردّه على ابن شبرمة: لو علم ابن شبرمة من أين هلك الناس مادان بالمقاييس ولا عمل بها؟

وقال(عليه السلام) لأبي حنيفة : ويحك إن أوّل من قاس إبليس لما أمره اللّه بالسجود لآدم قال خلقتني من نار وخلقته من طين(63)

وقال(عليه السلام) لأبي حنيفة مرّةً اُخرى: اتق اللّه ولا تقس ، فإنا نقف غداً بين يدي اللّه فنقول : قال اللّه وقال رسوله، وتقول أنت وأصحابك سمعنا ورأينا(64)

ودخل عليه أبان بن تغلب فقال: يا أبا عبد اللّه، رجل قطع أصبع امرأة؟ فقال فيها عشرة من الإبل. فقال أبان: قطع اثنين. قال الصادق: فيهما عشرون من الإبل. قال: قطع ثلاث أصابع. قال الصادق: فيهنّ ثلاثون من الإبل . قال: قطع أربعاً. قال الصادق: فيهن عشرون. قال أبان: أيقطع ثلاثاً وفيهنّ ثلاثون من الإبل ، ويقطع اربعاً وفيها عشرون من الإبل ؟! قال: نعم إنّ المرأة إذا بلغت الثلث من ديّة الرجل سفلت المرأة وارتفع الرجل، إنّ السنّة لا تُقاس، ألا ترى أنّها تؤمر بقضاء صومها، ولا تؤمر بقضاء صلاتها يا أبان أخذتني بالقياس وإنّ السنّة إذا قيست محق الدين(65). إلى كثير ممّا ورد عنه(عليه السلام) في شدّة الانكار على العمل بالقياس والأخذ بالرأي، وقد انتشر ذلك في عصره فوجّه إليهم رسالة ينهاهم عن ذلك، وبيّن لهم الأخطاء التي يؤدي إليها العمل بالرأي والقياس ، وإليك نص الرسالة:

رسالة الإمام الصادق(عليه السلام) حول القياس

أمّا بعد فإنّه من دعا غيره إلى دينه بالارتياء والمقاييس لم ينصف ولم يصب حظه; لأنّ المدعو إلى ذلك لا يخلو من الارتياء والمقاييس ، ومتى ما لم يكن بالداعي قوّة في دعائه على المدعو لم يؤمن على الداعي أن يحتاج إلى المدعو بعد قليل، لأنّا قد رأينا المتعلم الطالب ربّما كان فائقاً لمعلم ولو بعد حين!ورأينا المعلم الداعي ربّما احتاج في رأية إلى رأي من يدعو، وفي ذلك تحيّر الجاهلون وشكّ المرتابون، وظنّ الظانون! ولو كان ذلك عند اللّه جائزاً; لم يبعث الرسل بما فيه الفصل، ولم ينه عن الهزل ولم يعب الجهل، ولكنّ الناس لمّا سفهوا الحقّ وغمطوا النعمة، واستغنوا بجهلهم وتدابيرهم عن علم اللّه، واكتفوا بذلك دون رسله، والقوامين بأمره قالوا: لا شيء إلاّ ما أدركته عقولنا وعرفته ألبابنا، فولاهم اللّه ما تولّوا، وخذلهم حتى صاروا عبدة أنفسهم من حيث لا يعلمون.ولو كان اللّه رضي منهم اجتهادهم وارتياءهم فيما ادعوا من ذلك; لم يبعث إليه فاصلاً لما بينهم ولا زاجراً عن وصفهم ، وإنّما استدللنا أنّ رضى اللّه غير ذلك، ببعثه الرسل بالاُمور القيّمة الصحيحة والتحذير عن الاُمور المشكلة المفسدة، ثم جعلهم أبوابه وصراطه والأدلاء عليه باُمور محجوبة عن الرأي والقياس. فمن طلب ما عند اللّه بقياس ورأي لم يزدد من اللّه إلاّ بعداً، ولم يبعث رسولا قط وإن طال عمره قابلاً من الناس خلاف ما جاء به حتى يكون متبوعاً مرة ، وتابعاً اُخرى، ولم ير أيضاً فيما جاء به استعمل رأياً أو مقياساً حتى يكون واضحاً عنده كالوحي من اللّه، وفي ذلك لكلّ ذي لبّ وحجى أنّ أصحاب الرأي والقياس مخطئون مدحضون... الخ الرسالة(66).

والغرض أنّ مالكاً كان يعدّ من أهل الرأي وقد نهاه اُستاذه ابن هرمز عن الأخذ به كما حدّث مالك عنه. قال مطرف: سمعت مالكاً يقول : قال ابن هرمز: لا تستمسك على شيء ممّا سمعته من هذا الرأي إنّما افتجرته أنا وربيعة فلاتتمسك.

وكما صرّح مالك بذلك في قوله: إن نظنّ إلاّ ظناً وما نحن بمستيقنين(67). وكذلك كان تلاميذه وحملة حديثه وناشرو مذهبه يحذرون من الأخذ بآرائهم. قال عبيد اللّه بن يحيىبن يحيى: كنت آتي ابن القاسم فيقول لي: من أين جئت؟ فأقول من عند وهب فيقول: اتّق اللّه فإنّ أكثر هذه الأحاديث ليس عليها العلم، ثم آتي ابن وهب فيقول: من أين؟ فأقول: من عند ابن القاسم. فيقول: اتّق اللّه فإنّ أكثر هذه المسائل رأي(68).

وقال العقبي: دخلت على مالك في مرضه الذي مات فيه فسلمت عليه فرأيته يبكي، فقلت: يا أبا عبد اللّه، ما الذي يبكيك ؟ فقال لي: يابن قعنب ومالي لا أبكي ومن أحقّ بالبكاء منّي واللّه لوددت أني ضربت بكلّ مسألة سوطاً وقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه وليتني لم أفت بالرأي(69).

وعلى كلّ حال فإنّ المذهب المالكي توسّع في استعمال القياس كالمذهب الحنفي، كما أنّه توسّع في اعتبار المصلحة وجعلها أصلا قائماً بذاته.

وكذلك مذهب أحمد بن حنبل كما يأتي بيانه ، فقد قرّر أن نصوص الشارع لم تأت في أحكامها إلاّ بما هو المصلحة، وما كان بالنص عرف به. بل لقد زاد بعض الحنابلة والمالكية فخصص النصوص القرآنية والنبوية بالمصالح، إذا كان موضوع هذه النصوص من المعاملات الإنسانية، لا من العبادات.

وقال الطوفي(70) ـ وهو أحد علماء الحنابلة ـ إنّ رعاية المصلحة إذا أدّت إلى مخالفة حكم مجمع عليه أو نصّ من الكتاب والسنة وجب تقديم رعاية المصلحة بطريق التخصيص لهما بطريق البيان(71).

وقد ردّ الإمام كاشف الغطاء ـ تغمّده اللّه برحمته ـ على ذلك بمقال قيّم ذكر فيه: أنّ تقديم المصلحة على إطلاقها ففيها توسّع غريب أدهى من توسع بعضهم في القول بالمصالح المرسلة، وربّما جرّ ذلك إلى الهرج والمرج والفوضى في أحكام الشريعة الإسلامية، والتلاعب حسب الأهواء فيتسنى للفقيه على هذا أن يحكم بحليّة الربا مثلاً، لأنّ فيه مصلحة، والفائدة والمصلحة تعارض النص وتقدّم عليه في المعاملات، وهل ذلك إلاّ الفوضى والتلاعب بأحكام الشريعة؟(72) إلى آخر مقاله القيّم الذي اقتصرنا منه على هذه الجملة.

هذا ما يتعلق ببيان بعض اُصول الفقه المالكي، وسيأتي الكلام على ذكر بعض المسائل الفقهية عند حديثنا عن فقه المذاهب .

ولا بدّ لنا من الإشارة لعصر مالك وما فيه من التطوّر الذي نستطيع أن نعرف موقفه عند تلك الحوادث، فقد كان سابقاً من المنكرين على العباسيين اختصاصهم بالأمر دون بني علي وهو كغيره من المفكّرين الذين أنكروا ذلك ونالوا جزاءهم.

عصر مالك وحوادثه

كانت ولادة مالك في عهد الوليد بن عبد الملك في سنة (93 ـ 99 هـ) ووفاته في عهد الرشيد هارون سنة (179 هـ) فهو قد أدرك شطراً من العهد الاُموي ومثله في العهد العباسي، وقد شاهد الكثير من حوادث العصر الاُموي، ممّا لا حاجة إلى بيانه فقد مرت الإشارة إليه.

ولا بدّ أن نشير هنا إلى العهد العباسي إشارة موجزة لحوادث عصره فإنّه قد عاصر منهم: السفاح، والمنصور، والمهدي، والهادي وطرفاً من عصر الرشيد، فهذا هو أهمّ عهد في العصر العباسي الأوّل ، ففيه تمّ انتقال الحكم من الاُمويين إلى العباسيين بعد اضطراب وحروب طاحنة ذهبت بكثير من النفوس والأرواح ، وقد شاهد مالك أهمّ حوادث ذلك العهد، وعرف نصيب المدينة المنورة من تلك الثورة الماحقة ، وذاك الانقلاب الهائل، كما أنّه طمع كما طمع كثير من الناس أن ينال المجتمع سعادة تحت ظلّ دولة جاءت ساخطة على ظلم الاُمويين، وسوء سيرتهم وجور عمّالهم ، وانتهاكهم لحرمات الإسلام، واعتدائهم على مقدّسات الدين، ومعاملتهم السيئة لأهل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وشاهد كما شاهد كثير من الناس اتحاد العباسيين والعلويين واتفاقهم على محاربة عدو مشترك، ليعالجوا الوضع الذي عظم على المسلمين تحمله.

وكان العباسيون ينضمّون لجانب أهل البيت(عليهم السلام)، وينظمون حزبهم وسط ذلك الجوّ، وهم أشدّ الناس انتقاداً لوضع الدولة الجائر، ويتألّمون لما نال المسلمين بصورة عامة ولأبناء عمّهم بصورة خاصة وهم موتورون من الاُمويين، وناهيك بما في قلب الموتور من واتره، وكانت الهتافات باسم الرضا من آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد اتّجهت الأنظار لآل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وحامت عليهم الآمال، واتّسع نطاق الثورة باسمهم وتمّت بيعة محمد بن عبد اللّه بن الحسن ، وقد بايعه السفاح والمنصور وبقية العباسيين ، وكثير من العلويين ، وكان مالك ممّن يرى لزوم تلك البيعة وصحّتها.

وعلي أيّ حال فقد استقر حكم بني العباس بعد ذلك الاضطراب وقامت دولتهم على أساس الانتماء لأهل البيت(عليهم السلام) والانتقام من اُمية الظالمة .

وبطبيعة الحال أن يكون ذلك العصر مقروناً بتطورات وحوادث هامة، وقد شاهد مالك أكثرها، ولعلّنا نستطيع أن نستكشف رأيه وموقفه عندما ننظر إلى مظاهر الدولة الجديدة التي كانت تنتقد أعمال الاُمويين وإقامة عرشها على اطلال دولتهم .

فهل تبدّل ذلك الوضع الذي بعث الاستياء في نفوس العباسيين من الاُمويين في معاملتهم القاسية مع أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وهل وجدوا في ظلّ دولة أبناء عمّهم راحة بعد ذلك العناء الذي شاهدوه في عهد الاُمويين؟ وهل ظفر الناس ببغيتهم في إقامة دولة عادلة تحكم بكتاب اللّه وسنّة نبيّه حتى يصبح مالك بن أنس من مؤازري الدولة وأعوانها؟ ويسعد برضاها لأنّها دولة عادلة تسير على كتاب اللّه وسنّة رسوله، كلّ ذلك لم يكن بل كان الأمر معكوساً. وقد تضاعف الجور وازداد العنف.

كان عهد السفاح عهد حروب ومذابح، ولكنّه يعد في الواقع أحسن العهود، وعصره خير عصر على أهل البيت وأنصارهم ، وذلك واضح بيانه، لأنّ الدولة في عهدها الجديد لا يمكنها ارتكاب ما يكدّر الصفو ويغيّر الوضع، وتكشف عن وجهها فيحدث من ذلك خطر لا يمكن تلافيه، ومع هذا فقد أعطانا أبومسلم صورة عن سياسة السفاح بكتابه للمنصور:

أمّا بعد: فقد كنت اتخذت أخاك ـ يعني السفاح ـ إماماً وجعلته على الدين دليلاً لقرابته، والوصية التي زعم أنّها صارت إليه، فأوطأ بي عشوة الضلالة، وأرهقني في ربقة الفتنة، وأمرني أن آخذ بالظنّة، وأقتل على التهمة، ولا أقبل المعذرة، فهتكت بأمره حرمات حتم اللّه صونها، وسفكت دماء فرض اللّه حقنها وزويت الأمر عن أهله، ووضعته في غير محله(73).

ويقول في كتاب آخر للمنصور أيضاً:

أمّا بعد: فإنّي اتخذت رجلاً إماماً ودليلاً على ماافترض اللّه على خلقه، وكان في محلة العلم نازلاً، وفي قرابته من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قريباً، فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه طمعاً في قليل قد تعافاه اللّه إلى خلقه، وكان كالذي دلى بغرور، وأمرني أن أجرّد السيف وأرفع المرحمة، ولا أقبل المعذرة، ولا أقيل العثرة، ففعلت توطيداً لسلطانكم ، حتى عرفكم الله من كان يجهلكم ، وأطاعكم من كان عدوكم، وأظهركم اللّه بي بعد الإخفاء والحقارة والذل، ثم استنقذني الله بالتوبة...(74).

والشيء الذي يلفت النظر في هذه المراسلة هو اعتراف أبي مسلم بخطئه في تأويل الآيات التي حاول العباسيون انطباقها عليهم تمويهاً على الناس، كآية التطهير التي نزلت في آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) دون غيرهم، وادّعى العباسيون أنّهم أهل البيت الذين تنطبق عليهم هذه الآية، وغيرها كآية المودّة، لذلك تنبّه أبو مسلم لهذا الخطأ في التأويل، وحاول أن يتدارك أمره بالتوبة، وإرجاع الأمر لآل عليّ(عليه السلام)، فراسل الإمام الصادق(عليه السلام) ـ كما ذكره غير واحد ـ بأن يدعو له، ويرجع الأمر إليه، ولكنّ الإمام رفض طلبه للاُمور التي مرّ بيانها، فكان ذلك أعظم شيء على المنصور وقامت قيامته حتى استطاع أن يعجل على أبي مسلم قبل اتساع الخرق، وانتشار الأمر. وهذا هو السبب الوحيد في قتله بتلك الصورة كما قتل من قبله أبا سلمة الخلال المعروف بوزير آل محمد، لأنّه حاول إرجاع الأمر لآل علي، فقتله السفاح غيلة.

وجاء المنصور من بعده وهو اليقظ الذي أعطته المشاكل درساً، فكان قويّ السطوة عظيم البطش، يخشى زوال ملكه، وتتصور أمامه أيام محنته وكده ونكده، يوم كان خائفاً متخفياً يسعى في الأرض لإثارة الشعور، وتحريك عواطف الاُمة بما نال أهل البيت(عليهم السلام)من الجور الاُموي، فسفكوا دماءهم ولم يراعوا بهم حرمة الدين وقرابة النسب من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان يتوجّع لمصائب الاُمة ومحنها في عهدهم.

فلمّا نال غرضه وما يقصده من وراء ذلك فكان مثالاً للظلم والعدوان، وفتح على الاُمة أبواب الجور، وأطلق عليهم عقالالفتنة وخالف بأعماله أقواله حتىانتشر الجور في عهده، وقد أسرف في إراقة الدماء حتى قال له عمّه عبدالصمد:

لقد لججت في العقوبة حتى كأنّك لم تسمع بالعفو. فقال المنصور: لأنّ بني مروان لم تبل رممهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم ، ونحن بين قوم قد رأونا بالأمس سوقة فكيف تتمهد هيبتنا في صدورهم إلاّ بنسيان العفو(75)؟

فهو يحاول تركيز دعائم ملكه بتلك القسوة الهائلة من جهة، وبالتظاهر بالتدين من جهة اُخرى، ليدفع عن نفسه خطر المؤاخذات، وقد كثرت عليه لإسرافه في القتل وسوء معاملته لأهل البيت حتى قال أكثر الناس : ما على هذا بايعنا آل محمد أن نسفك الدماء التي حرّمها اللّه .

وأنكر جماعة من القواد سياسة المنصور وقسوته فأظهروا الدعوة لآلعلي(عليه السلام) فحاربهم عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي عامل خراسان سنة (140هـ) فقتلهم وحبس منهم آخرين(76) وعظم الأمر على الاُمة وسار العمال في العسف والجور، كما كان في العهد الاُموي.

وقال عمرو بن عبيد للمنصور: «إنّه ما عمل وراء بابك بشيء من كتاب اللّه ولا سنّة نبيه. قال المنصور: فما أصنع ؟ قد قلت لك: خاتمي بيدك فتعال وأصحابك فاكفني، قال عمرو: ادعنا بعدلك تسخ أنفسنا بعونك، إنّ ببابك ألف مظلمة أردد منها شيئاً نعلم أنّك صادق(77).

وعلى أيّ حال فإنّ الإمام مالكاً قد عاصر من خلفاء العباسيين: السفاح والمنصور، والمهدي، وموسى الهادي، وهارون الرشيد، وقد طلع نجمه في عهد المنصور، وكان ذلك العصر الذي عاش فيه مالك هو من أزهر العصور، ولكن لم يجد الناس فيه ما كانوا يأملونه من الأمن والاستقرار والعدل والمساواة، بل كانت هناك أثرة واستبداد وتحكّم في مقدرات الاُمّة وكبتللحريات.الخراج في عهد مالك

أما مسألة الخراج التي عظم أمرها في العهد الاُموي، وانتقد العباسيون سياسة الاُمويين فيها ووعدوا الناس خيراً، وقطعوا على أنفسهم عهوداً في تخفيفها، والعمل فيها بما أمر اللّه ورسوله، فكانت نتيجة الأمر أن يتضاعف البلاء ويكون الحال فيها أعظم ممّا كان في العهد الاُموي، حتى التجأ بعضهم إلى الاحتماء باسم رجال الدولة كالوزير مقابل ذلك مقدار من المال في السنة.

يقول الجهشياري: إنّ من أهل الخراج من يلجئ أرضه وضياعه إلى خاصة الملك وبطانته لأحد أمرين: إمّا للامتناع من جور العمال وظلم الولاة، وإمّا لدفع ما يلزمهم من الحقّ والكسر له. ويعطي الجهشياري مثلاً لذلك بقوله: جاء رجل من أهل الأهواز إلى أبي أيوب المورياني وهو وزير المنصور فقال له: إنّ ضيعتي بالأهواز قد حمل عليّ فيها العمال، فإنّ رأى الوزير أن يعيرني اسمه أجعله عليها، وأحمل له كلّ سنة مائة ألف درهم.

فقال له: «قد وهبت لك اسمي فافعل ما بدا لك». وفي العام التالي أحضر الرجل المال ودخل على أبي أيوب وأعلمه أنّه قد انتفع باسمه، وأنّه قد حمل المال فسر أبو أيوب كثيراً(78).

وكان أبو أيوب عبداً للمنصور اشتراه صبيّاً قبل الخلافة، وقلّده الوزارة في خلافته، ثم غضب عليه فقتله سنة (153 هـ) واستصفى أمواله، وقلّد الوزارة من بعده للربيع بن يونس مولى آل عثمان بن عفان، ولم يزال وزيراً إلى أن مات المنصور(79).

وليس في وسعنا أن نتوسّع في قضية الخراج وتلاعب الجباة في ذلك، وما نال أهل الخراج من الشدّة والتعذيب ، بالسباع والزنابير والسنانير(80)، وذلك في عهد المهدي العباسي.

واشتدّ الأمر كلّما امتدّ الزمن بالدولة العباسية ، فقد كان عمال الخراج يستعملون وسائل الشدّة وأنواع التعذيب، كما وصفوا بأنّهم: عتاة ليس في قلوبهم رحمة ولا إيمان، شر من الأفاعي يضربون الناس ويحبسونهم ، ويعلقون الرجل البدين من ذراع واحد حتى يموت.

ومن أظرف ماجرى في عهد الوزير ابن الفرات قصة ملخّصها: أنّه أراد إجراء الحساب مع محمد بن جعفر بن الحجاج سنة (296 هـ) فطلب رجلاً لايؤمن باللّه واليوم الآخر، فانتدب له رجل يكنّى بأبي منصور فأحضر ابن الحجاج بين يديه وشتمه أبو منصور وافترى عليه، ثم أمر بتجريده وإيقاع المكروه به، وابن الحجاج يقول: يكفي اللّه، ثم أمر أبو منصور بنصب دقل وجعل في رأسه بكرة فيها حبل، وأمر برفع ابن الحجاج إلى أعلى الدقل وهو يستغيث ويقول: يكفي اللّه، فما زال معلّقاً وأبو منصور يقول: المال المال، وهو غضبان حتى اختلط من شدّة الغضب ، وقال لمن يمسك الحبال: أرسلوا ابن الفاعلة وهو يرى أنّهم يتوقّفون ، وهو يحاول بذلك تهديده فأرسلوا ابن الحجّاج وكان بديناً فسقط على عنق أبي المنصور، فدقها وخرّ على وجهه وسقط ابن الحجاج مغشياً عليه، فحمل أبو منصور إلى منزله في محمل فمات في الطريق، ورد ابن الحجاج إلى محبسه وقد تخلّص من التلف (81).

وكان أحد عمالهم يشتدّ في المطالبة بالأموال، فكان يضع على بطون الناس أطسات الجمر، ومنهم من يستعمل الدبابيس يضربون بها رؤوس أهل الخراج، إلى غير ذلك من أعمال القسوة والشدّة ممّا لم يكن أكثره في العهدالاُموي.

هذه نظرة موجزة لسياسة العباسيين وسيرتهم التي ساروا فيها بالرعية، وهي أمتداد لسيرة الاُمويين بل فيها ما هو أشدّ من ذلك.

والغرض أنّ الاُمّة لم تحقق أمانيها في ظلّ الدولة العباسية ، وقد أنكر الناس سوء المعاملة ، وكانت ظلمة السجن قد حجبت شعاع الحرية، ولغة السيف أخرست المتظلم، وقد وقف أهل البيت(عليهم السلام) وأتباعهم موقف الحزم والبطولة، ولم يتنازلوا عن المعارضة وشدّة الانكار، فكانت معاملة بني العباس لهم ولأنصارهم بقسوة متجردة عن معاني الرحمة، وراقبوهم أشدّ المراقبة وضيّقوا عليهم سعة الدنيا ليحملوهم على التنازل عن مبادئهم.

فكان نصيب بني العباس وأعوانهم التمتع بمسرّات الحياة ولذائذ الدنيا وجمع الأموال ونشر السلطان، وإزهاق النفوس وحصد الرقاب .

وكان نصيب أهل البيت(عليهم السلام) وأنصارهم ألم الحديد ، وثقل القيود، وظلمة السجون، والتحلّي بأبراد الشهادة وهي مطرّزة بدمائهم الزكية.

رسالة مالك

ولا نحتاج إلى أكثر من هذا البيان لذلك العصر وما فيه من تبدّل وتطوّر .

هذا ولم يؤثر عن مالك بن أنس معارضة للوضع، ولا دعوة إلى إصلاحه; نعم هناك رسالة تنسب إلى الإمام مالك تحتوي على جملة من المواعظ والسنن، يقال: أرسلها مالك إلى الرشيد أو إلى يحيى البرمكي، فلما وصلت أمر الرشيد بكتابتها بالذهب(82).

وقد ذكرها القاضي عياض في ضمن ماذكره من كتب مالك ، وأول من حدّث عنها بالأندلس ابن حبيب(83).

وينحصر سند هذه الرسالة بأبي بكر بن عبد العزيز بن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب عن مالك بن أنس ، أنّه كتب بهذه الرسالة إلى يحيى البرمكي، ومرة اُخرى إلى هارون الرشيد، فالذي عن أبي بكر مختلف في من وجهت إليه. فمرّةً إلى خالد ومرّةً إلى هارون، وقد حاولوا الجمع لذلك بتكرارها وأنّها وجّهت لكل منهما، وهو أمر غير مستساغ من فحوى الرسالة، وبالإعراض عن مناقشة السند، فقد أراحنا كثير من علماء المالكية عن فحصه ونقاشه منهم: القاضي إسماعيل المالكي، والأبهري، وأبو محمد بن أبي زيد، فقد قالوا: إنّها لا تصح وأنّ طريقها إلى مالك ضعيف، وفيها أحاديث لا نعرفها.

وقال الأبهري: فيها أحاديث لو سمع مالك من يحدّث بها لأدّبه، وأحاديث منكرة تخالف اُصوله، وقالوا فيها أشياء اُخرى لا تعرف من مذهب مالك، وقد أنكرها أصبغ بن الفرج أيضاً، وحلف ما هي من وضع مالك(84).

والحقيقة أنّ الرسالة موضوعة ، لأنّها خالية عمّا يخص العدل والالتزام به وترك الظلم اللذين هما أخصّ مايخاطب به الملوك إلاّ قليلا، بل الرسالة تذكر المستحبات، كقوله في الصفحة الرابعة: وصلّ من النهار اثنتي عشر ركعة واقرأ فيهنّ ما أحببت إن شئت صلهنّ جميعاً وإن شئت متفرقات، وقوله : وصم ثلاثة أيام من كلّ شهر، ويتعرّض للغسل في الحمام وسائر المستحبات ، وقوله في الصفحة السابعة: أقلل طلب الحوائج من الناس فإنّ في ذلك غضاضة، وبلغني عن النبي أنّه قال لرجل: لا تسأل الناس. ومثل هذا كيف يخاطب به الملوك؟ ويقول : لتكن يدك العليا على كلّ من خالطت، فإنّه بلغني عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: اليد العليا خير من اليد السفلى، ثم يتعرّض إلى سنن الأكل والشرب واستحباب الجلوس في المسجد، إلى غير ذلك من الاُمور التي تدلّ بكلّ وضوح على أنّ الرسالة منتحلة ولا أصل لها، ويقرأها الوعّاظ والمرشدون.

ومهما يكن من أمر فإنّ عصر مالك اشتدّ فيه الوضع المؤلم والجور على الرعية، ولم يرد عن مالك ـ مع عظمته ونفوذ سلطته ـ ما يدل على إنكاره لتلك الأوضاع .

وكان العباسيون يعتمدون على ما يفتي به مالك، حتى حملوا الناس على الأخذ بأقواله ومناديهم ينادي: ألاّ يفتي إلاّ مالك.

ولما قدم إبراهيم بن سعد الزهري العراق سنة (184 هـ) فأكرمه الرشيد وأظهر برّه. وقال له الرشيد: من كان من فقهائكم يكره السماع؟ قال: من ربطه اللّه. قال : فهل بلغك عن مالك بن أنس في هذا شيء ؟ قال: لا واللّه إلاّ أن أبي أخبرني أنّهم اجتمعوا في مدعاة كانت في بني يربوع ، وهم يومئذ جلة ومالك أقلّهم في فقهه وقدره، ومعهم دفوف ومعازف وعيدان يغنون ويلعبون ، ومع مالك دف مربع وهو يغنيهم:

سليما أجمعت بينا *** فأين لقاؤها أينا

وقد قالت لأتراب *** لها زهر تلاقينا

تعالين فقد طاب لـ *** ـنا العيش تعالينا(85)

وكان المنصور يعظّمه ويوجه الأنظار إليه، ويعلن بأنّ مالكاً هو أعلم الناس، كما أنّ مالكاً يعلن بأنّ المنصور أعلم الناس بالكتاب والسنة.

وكذلك المهدي، والهادي، والرشيد لحظوه بالعناية والتقدير، فتوجّهت إليه أنظار الناس، وازدحموا على بابه، وانتشرت أقواله في الحجاز وكثر المنتمون لمدرسته، واستماع الموطأ منه، ولهذا اختلفت روايات الموطأ لكثرة رواته .

وقد حمل مذهب مالك في الحجاز فأظهره القاضي إبراهيم المعروف بابنفرحون(86).

كما أنّ مذهب مالك دخل الأندلس بواسطة زياد بن عبد الرحمن المتوفى سنة (193هـ) وتولى الاُمويون نشره هناك، وتزلف الناس إليهم بقبوله، وكان قاضي القضاة يحيى بن يحيى لا يولي قاضياً إلاّ من كان ينتمي للمذهب المالكي كما كان أبو يوسف بالعراق بالنسبة لمذهب أبي حنيفة.

وقد أشرنا من قبل لعوامل انتشار المذاهب أنّ القضاة هم الذين يتولون نصرة المذهب وانتشاره.

والخلاصة: أنّ الإمام مالك بن أنس قد أرتفع شأنه وعلت منزلته عندما اتجهت إليه الدولة بالعناية بعد محنته وتعذيبه وطلبوا وضع كتاب تقرّره الدولة ويحملون الناس عليه بالسيف(87) وهو كتاب الموطأ الذي سنتكلم عنه الآن تحت عنوان «تدوين العلم» لنرى هل أنّ مالكاً هو أسبق من دوّن في العلم أم غيره؟ وما هو نصيب الشيعة في تدوين العلم؟ وما هو أثرهم في نشاط الحركة العلمية؟

ولا بدّ لنا قبل الشروع في ذلك من القول : بأنّنا قد تركنا التعرّض لآراء مالك وأقواله، فإنّ له آراءً في السياسة وأقوالاً في اُمور مختلفة، لأن ذلك يستدعي الإطالة في القول والتوسع في البحث.

ولكنّنا سنتكلم حول رأيه في التفضيل فإنّ له رأياً يكاد ينفرد به عن علماء الإسلام، وذلك أنّه يذهب إلى تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان، ويسكت، ويقول: هنا يتساوى الناس، وهذا أمر غريب وسنبحث هذه المسألة قريباً تحت عنوان مشكلة التفضيل. ومن اللّه التوفيق والسداد .

 

(1) معجم الاُدباء ج17 ص275.

(2) الإمامة والسياسة ج2 ص 202.

(3) الإمامة والسياسة ج2 ص195 .

(4) مناقب مالك للزواوي ص25.

(5) انظر اوجز المسالك إلى موطأ مالك ج1 ص30 ـ 31.

(6) مالك لمحمد أبو زهرة ص47.

(7) مالك لمحمد أبو زهرة ص65 ـ 66.

(8) مالك بن أنس لعبد الغني الدقر ص141 .

(9) مناقب مالك للزاوي ص18 و الانتقاء لابن عبد البر ص12.

(10) كنز العمال ج10 ص237 ، ح 29257.

(11) مناقب مالك للزواوي ص30، وتزيين الممالك للسيوطي ص14.

(12) تزيين الممالك للسيوطي ص44.

(13) مناقب مالك للزواوي ص17.

(14) مالك بن أنس لعبد الغني الدقر ص63. مالك بن أنس لمحمد أبو زهرة ص88.

(15) تنقيح المقال ج3 ص186/11372.

(16) تحف العقول ص281 ـ 284.

(17) الاحتجاج للطبرسي ج2 ص 159 .

(18) تهذيب الكمال ج14 ص476 / 3253.

(19) تهذيب الكمال ج9 ص 123 / 1881.

(20) محمد أبو زهرة في حياة مالك ص229.

(21) مالك بن أنس لمحمد أبو زهرة ص196.

(22) التعليق الممجد على موطأ محمد ج1 ص78 ـ 79.

(23) الديباج المذهب ص215.

(24) الديباج المذهب ص239.

(25) الديباج المذهب ص162.

(26) مالك لـمحمد أبو زهرة ص 202 .

(27) الديباج المذهب ص161 .

(28) نفح الطيب ج6 ص20 .

(29) نفح الطيب ج6 ص23.

(30) تاريخ التشريع الإسلامي ص305 .

(31) شرح الموطأ للزرقاني ج1 ص7.

(32) مالك لمحمد أبو زهرة ص210 ـ 211.

(33) التشريع الإسلامي ص306 .

(34) تاريخ ابن خلدون ص245.

(35) عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون بن جلهمة بن عباس بن مرداس السلمي أبو مروان المتوفى سنة (239هـ) له تآليف كثيرة غير الواضحة: منها غريب الحديث، وتفسير الموطأ، وطبقات الفقهاء، وغيرها. قال ابن لبابة: لم يكن له علم بالحديث يعرف به صحيحه من سقيمه، ويفرق مستقيمه من مختلفه، وكان غرضه الإجازة، وكان يعرف بعالم الأندلس، ترجمته في نفح الطيب ج 6 ص 15 والديباج المذهبص 154.

(36) مالك لمحمد أبو زهرة ص207.

(37) الديباج المذهب ص331 ـ 332 .

(38) مقدمة ابن خلدون ص377.

(39) توالي التأسيس للحافظ ابن حجر ص76.

(40) نفح الطيب ج6 ص45.

(41) نفح الطيب ج6 ص45.

(42) اُنظر المدوّنة الكبرى ج1 ص 52 .

(43) الخطط للمقريزي ج4 ص150.

(44) الديباج المذهب ص16 ، مالك بن أنس لمحمد أبو زهرة ص217.

(45) مالك بن أنس لمحمد أبو زهرة ص255.

(46) مالك بن أنس لمحمد أبو زهرة ص208 ـ 212 .

(47) أعلام الموقعين ج3 ص69 ـ 73.

(48) ضحى الإسلام ج2 ص212 والتشريع الإسلامي ص241.

(49) النبذ لابن حزم ص16.

(50) البقرة : 228.

(51) تاريخ التشريعي الإسلامي ص242.

(52) مالك بن أنس لمحمد أبو زهرة ص296.

(53) الاعتصام ج2 ص 320 ـ 321 مالك بن أنس لمحمد أبو زهرة ص300.

(54) مالك بن أنس لمحمد أبو زهرة ص301.

(55) مالك لمحمد أبو زهرة ص356 ـ 357.

(56) المعارف لابن قتيبة ص218.

(57) انظر الموافقات ج1 ص12 ـ 15. وج4 ص97 و 208.

(58) ومن هذا الباب قضية أكل الكلاب، فقد اشتهر عن المالكية جوازه كما يقول المقدسي في أحسن التقاسيم: إنها تباع في المغرب جهراً وتطرح في عرائس مصر، وقال ابن حزم في المحل بعد ذكر حرمة أكل السباع ومنها الكلب: وأنكر المالكيون تحريم أكل السباع، وموهوا بأن قالوا: قد صحّ عن عائشة أنها سئلت عن أكل لحوم السباع؟ فقرأت: (قل لاأجد فيما أوحي إلى محرماً...) الآية. وقال القرطبي: روى ابن القاسم عن مالك أنها مكروهة، وعلى هذا القول عول جمهور أصحابه وهو الرأي المنصور عندهم، وقد فرق أصحاب مالك بين كلب الماشية والزرع فاتفقوا على أن ما لا يجوز اتخاذه لا يجوز بيعه، أما من أراد للأكل فاختلفوا فيه فمن أجاز أكله أجاز بيعه فهو عندهم طاهر العين غير محرم الأكل.

اُنظر بداية المجتهد والمحلى في باب الأطعمة وكتاب الطهارة والبيوع تجد هناك الأقيسة المعارضة للآثار الصحيحة.

(59) الموطأ ج2 ص94.

(60) الأنعام: 164، وفاطر: 18 .

(61) النساء: 23 .

(62) مالك لمحمد أبو زهرة ص300 ـ 301.

(63) المحاسن ج1 ص334 ، ح 678.

(64) إبطال القياس لابن حزم ص71 .

(65) المحاسن ج1 ص339 ، ح 694.

(66) المحاسن ج1 ص331 ـ 332، ح 674.

(67) جامع بيان العلم : ج2، ص 33.

(68) جامع بيان العلم ج2 ص159.

(69) وفيات الأعيان لابن خلكان ج3 ص246.

(70) هو نجم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي الحنبلي البغدادي المتوفى سنة (716هـ). وقد اتهم في التشيع لتأليفه كتاب العذاب الواصب على ارواح النواصب، ولقوله الشعر في مدح عليّ ، فعذّب لذلك وعزّر وطرد من وظيفة التدريس. شذرات الذهب ج2 ص39.

(71) رسالة الإسلام السنة الثانية العدد الأوّل ص94 تحت عنوان «من ذخائر الفكر الإسلامي».

(72) رسالة الإسلام، العدد الثاني ص193.

(73) تاريخ بغداد ج10 ص208.

(74) البداية والنهاية ج10 ص14.

(75) سير أعلام النبلاء ج7 ص69/1038.

(76) تاريخ ابن كثير ج10 ص75.

(77) عيون الأخبار ج2 ص337.

(78) الوزراء والكتاب ص83.

(79) أبو أيوب: اسمه سليمان المورياني من قرية موريان من قرى الأهواز.

(80) الجهشياري ص 103.

(81) الحضارة الإسلامية ص326.

(82) طبعت هذه الرسالة في مصر مستقلة في المطبعة الأميرية سنة 1311هـ وطبعت بالمطبعة المحمودية سنة (1343 هـ) وطبعت في خاتمة كتاب سعد الشموس وهي لا تتجاوز 28 صفحة.

(83) مالك بن أنس لمحمد أبو زهرة ص171 ـ 175.

(84) مالك بن أنس لمحمد أبو زهرة ص172.

(85) تاريخ بغداد ج6 ص84.

(86) نيل الابتهاج بهامش الديباج المذهب ص24.

(87) الديباج المذهب لابن فرحون ص25.