العَهد العبّاسي

العَهد العبّاسي

ما كاد المسلمون يلمسون من الاُمويين انحرافهم عن الدين واستهانتهم برجال الاُمة ومحاربتهم أهل البيت، حتى اشتدّ إنكارهم على تلك السيرة الملتوية، وذلك النظام الجائر الذي لا يعرف العدل، ولا عهداً للمسلمين به من قبل.

وكانت نهضة الحسين(عليه السلام)صرخة داوية، فهي على دعاة الجور بركان بلاء ونقمة، ولدعاة الحقّ شعلة هداية، يستنيرون بها في طريق الوصول إلى الدعوة الصالحة، أعقبتها سلسلة ثورات دموية، مهّدت الطريق لحدوث انقلاب الحكم وإبعاد اُولئك القوم الذين تربعوا على دسته، فقد ثقلوا على الناس وطال عهدهم الجائر، فكان اُفقهم مثقلاً بسحب السخط على أعمالهم، فتألّفت الجمعيات السرية التي كان هدفها تحقيق ثورة إصلاحية، لنقل الحكم من اُميّة ـ التي تعتبر في الواقع عدوة للإسلام من البداية إلى  النهاية ـ إلى آل محمد الذين هم دعاة الحقّ وأئمة العدل.

وكان العباسيون في طليعة أنصار العلويين، وكان أشدّ الناس حماساً لتحقيق ذلك الغرض، وكان لمحمد بن عبد اللّه بن الحسن  نشاط سياسيّ في ذلك العهد، وبويع في مؤتمر عقده الهاشميون من العباسيين والعلويين، وأوّل من بايعه السفاح وأخوه المنصور.

ومهما يكن من أمر فقد اندلعت نيران الثورة وهتافات الثوار: الدعوة إلى الرضا من آل محمد، فوقعت الواقعة بأمية ودارت بهم الدوائر، فزال ملكهم وأراح اللّه العباد والبلاد منهم. وتطلّع المسلمون إلى العهد الجديد الذي يأملون به انتشار العدل وتطهير الأرض من الفساد، لا سيّما إذا قام على   رأس الدولة الجديدة زعيم علوي لا شكّ في حقّه بالخلافة، فانتحل العباسيون أحقّيتهم بالأمر، وأنّهم آل محمد وأهله الأدنون.

السفاح

وجرت الحوادث ودارت عجلة الزمن، وانتقل الأمر إلى بني العباس الذين انتحلوا انطباق اسم آل محمد عليهم دون غيرهم، وبويع السفاح(48)، فكان عهده عهد ثورة، وقد شغل الناس بمطاردة الاُمويين وتتبع البقية منهم، واستطاع السفاح بمهارته أن يظهر للناس عطفه على أبناء عمّه بإكرامهم، وعدم التعرّض لهم وهو يحاول بذلك جلب قلوبهم، وإقناع الاُمّة التي ترى أن الحقّ لهم دونه، وأنّه أحد الأفراد المطوّقين بالبيعة لآل علي(عليه السلام) ، فاقتضت سياسة الدولة الفتيّة أن يسير على خطة المجاراة لأبناء عمّه، والتظاهر بأخذ الثأر من قتلة الحسين(عليه السلام)لمصانعة الناس الذين بدأوا يدركون بأنّ العباسيين كانوا يسعون في تحصيل الخلافة لأنفسهم باسم «آل البيت» وما كانوا يقصدون بآل البيت إلاّ أنفسهم دون العلويين، تمويهاً على الرأي العام.

المنصور

ولم تطل أيام السفاح حتى مضى لسبيله، وقد عهد بالأمر لأخيه المنصور(49)وهو ذلك الداهية الذي اعطته التجارب درساً من التيقّظ وجعلته يحذر أشدّ الحذر حتى من أقرب الناس إليه.

فقد قام المنصور والدولة لم ترتكز دعائمها على اُسس قوية، فهي مهددة من نواح شتى: فالعلويون يرون العباسيين دعاتهم وأنصار دعوتهم والاُمة متجهة بأنظارها إليهم، وأنّ الأمر لهم دونهم، وقوّاد الثورة يرون أنّ قيام العباسيين بالأمر كحكومة مؤقتة يستطيعون أن يحولوا الأمر عنهم متى شاؤوا، وبقيّة السيف من الاُمويين يخشى على الدولة من انتشارهم في الآفاق.

وكان علماء المدينة يجهرون بالفتوى بأنّ بيعة العباسيين غير صحيحة، فتعددت صور معارضة العباسيين على أنّ أهم ما كان يثير القلق في نفس المنصور هو أمر العلويين، وفي طليعتهم جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام)فكان يحذر منه أشدّ الحذر ويحاول زوال تلك العقبات بكلّ حيلة، ولا يقف عند حدّ.

والمنصور عندما يلي الخلافة يرجع بتفكيره إلى الوراء ويتذكّر سالف أيّامه وماضيه المحزن، يوم كان جوّالا، تتقاذفه أمواج الخوف، وتسوقه الحاجة وطلب العيش إلى رواية الحديث، وهو لا ينسى ضرب السياط وظلمة السجن في عهد الدولة الاُموية، ولا ينسى استعطاف الناس بمدح آل محمد، وهو أحد رواة حديث الغدير(50) ، كلّ ذلك لا تنمحي صورته عن مخيّلته فهو أمامه ومعه.

أعمال المنصور

والآن وقد أصبح أمير المؤمنين تُجبى له الأموال من الشرق والغرب، وأودع في خزائنه مايكفي للدولة عشر سنين بعد أن كان لا يجد درهماً واحداً وتحوط به آلاف من الجنود، بعد أن كان يقطع المسافة البعيدة وحده خائفاً، فهو بحكم الغريزة النفسية يشحّ بما أوتي حتى على نفسه، فكان يرقع ثيابه بيده ويحاسب على الدانق، حتى عرف به، ويكون في حذر من أقلّ واهمة يتخيّل بها زوال ملكه، فحصّنه بالسيف، وجعل بينه وبين الخطر سوراً من أشلاء الأبرياء وبحراً من الدماء التي حرم اللّه إراقتها.

وقد اتخذ طبيباً نصرانياً يستعين به على قتل من لا يودّ أن يتظاهر في قتله، فكان يدسّ السمّ بالدواء، فهذا الطبيب النصراني ـ كان زنديقاً معطّلاً ـ لا يبالي بمن قتل. أرسل إليه المنصور يأمره بأن يقتل محمد بن أبي العباس، فاتخذ سمّاً قاتلاً ثم انتظر علة تحدث به، فوجد محمد حرارة، فقال له الطبيب: خذ شربة دواء، فقال: هيئها، فهيأها له وجعل فيها ذلك السمّ، ثم سقاه منها. فكتبت اُمّه تخبر المنصور، فأمر بضرب الطبيب ثلاثين سوطاً خفيفة وسجنه ثم أطلقه وأعطاه ثلاثمائة درهم(51).. هذه دية القتيل في شرع المنصور.

وهناك نوع آخر من ألوان العذاب الذي كان يعذّب بها من وقع تحت قبضته، وهو وضع الأحياء في البناء، فهو أطلال الهاشمية وبغداد، لو تمكنت من الإفصاح عن شيء لكان أوّل شيء تفصح عنه هي جثث الأبرياء الذين دخلوا في بطونها بدون جرم، وعند اللّه تجتمع الخصوم.

لقد سلبت الرحمة من قلبه فلا يعرف لها فيه موضعاً، وكان يقف أمام المشاهد المحزنة موقف رجل لا تؤلمه مناظر البؤس أو تزعجه مواقف الشقاء، وقد جمع بين دمامة الوجه وقبح السيرة.

يمرّ موكبه عندما أراد الحجّ بابنة عبد اللّه بن الحسن(عليه السلام) ، وكان أبوها تحت أسره وقد حمل مع من حمل من العلويين، فأرادت استعطافه، والرفق بحال أبيها فأنشأت:

ارحم كبيراً سنه متهدّم *** في السجن بين سلاسل وقيود

وارحم صغار بني يزيد إنّهم ***  يتموا لفقدك لا لفقد يزيد

إن جدت بالرحم القريبة بيننا *** ما جدّنا من جدكم ببعيد

فكان جواب المنصور: أذكرتنيه. ثم أمر به فأحدر في المطبق وكان آخر العهد به.

هذه صورة من جور المنصور وقساوته لم تعطفه عاطفة الرحم، ولم تدعه الإنسانيّة إلى الرحمة بهذه المسكينة، ولم يراقب القربى وحرمة النسب، وذل موقفها بين يديه، وكيف يؤمل منه العطف على أهل بيت ينظر إليهم نظر خصم، ملأ قلبه عليهم حقداً، ونفخ في أوداجه غضباً.

مع  المنصور وبني الحسن

إنّه لا يرى لملكه بقاءً إن بقي منهم أحد في الوجود، وكان الفتك بهم هو شغله الشاغل ولا يتوقف في تنفيذ إرادته مهما كلّفه الأمر، فقام بذلك العمل الإرهابي وفتك بهم فتكاً ذريعاً يوم دخل المدينة محتجّاً بأداء فريضة الحج، وما الحجّ أراد، ولكنه أراد أن يعرف حقيقة الأمر عندما يقوم بمهمة الفتك بآل محمد.

وها هو يدخل المدينة وبنو الحسن في سجن رباح، فأمر بالقبض على من بقي منهم فترى شرطته وقواده يعلوهم الغضب، ويرتكبون الشدّة، يأتون بأبناء علي واحداً بعد واحداً ويودعونهم في السجن بأشدّ ما يتصور من القسوة.

وكان العباس بن الحسن بن الحسن(52) واقفاً على باب داره واُمّه تراقبه وقلبها كجناح الطير من الخوف، فقبض عليه الشرطة، فأخذتها الدهشة ولم تستطع شيئاً في الدفاع عنه، إلاّ أنّها طلبت منهم أن تشمّ ولدها وتودعه، فكان الجواب بشدة وغلظة: لا يكون ذلك، وقبض على محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان أخو بني الحسن لاُمّهم، فأحضره أمامه وكلّمه بما لا يليق ذكره، وأمر بأن يشقّ إزاره لتبدو عورته، وأمر بضربه بالسياط فضرب حتى سال دمه، وأرجعه لإخوانه فأقعد إلى جنب أخيه عبد اللّه بن الحسن، وكان قد أخذ العطش منه مأخذاً فاستقى ماءً فلم يجسر أحد أن يسقيه إلا خراساني رقّ عليه فسقاه ماءً.

ثم أصدر المنصور أمره بحملهم من المدينة إلى العراق، بعد أن أثقلوا بالحديد وضربوا بالسياط، وهو مطرب لنغمة السلاسل، وأنين المعذبين، فسار ذلك الموكب في شوارع المدينة محاطاً بالجند، وهو يسرع الخطى من المدينة إلى الكوفة، إلى مقرّهم الأخير، فاُودعوا ذلك السجن المظلم، الذي لا يعرف فيه الليل من النهار.

لقد أودعهم المنصور في بطن الأرض، وفعل بهم ما لا يفعل الحيوان المفترس بفريسته، وعاملهم بأقسى ما يتصور من الشدة، فهم لا يعرفون الليل من النهار، وكان الواحد إذا مات من شدّة العذاب بقيت جثته ما بينهم، وهم صابرون محتسبون، يتلون الكتاب، ويقيمون الصلاة ولا يعرفون أوقاتها إلاّ بأجزاء من القرآن يقرأونها ، وكانت خاتمة مطافهم أن هدم عليهم السجن فماتوا تحت أنقاضه(53).

الإمام الصادق(عليه السلام) ومشاكل العهدين

وعلى أيّ حال فقد لقي أبو عبد اللّه في هذين العهدين كثيراً من المشاكل، فهو في العهد الاُموي عرضة لأخطار اُولئك القوم الذين يكيدون آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)ويتوقعون الفرص للفتك بهم، وهو في عصره عميد البيت النبويّ وسيّد الهاشميين، والمبرز من آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومن رجال الاُمة الذين كانوا يهمّ الدولة أمرهم باتجاه الأنظار إليهم، ولا يستبعد من الاُمويين أن يقابلوه بكلّ أذى وشدة، ولكنّ اللّه سبحانه وتعالى عصمه منهم، ورد كيدهم عنه. ولمّا دب الضعف في جسم الدولة كانت فترة مريحة استطاع الإمام أن يركن إلى الراحة والاطمئنان مدة من الزمن فتوافد عليه طلاب العلم من رجال الاُمة كما مر ذكره.

أمّا في العهد العباسي فهو قذى في عيونهم; لأنه زعيم أهل بيت ثارت الاُمة لأجلهم، وانهارت الدولة الاُموية بالدعوة لهم، ورفعت شعارات البيعة لهم.

وقد كان في أيام السفاح برفاهية نظراً للظروف والأوضاع التي سايرها السفاح بمقتضى سياسة الدولة. وفي زمن المنصور كانت المشكلة أشدّ ممّا هي عليه من قبل، فقد كان المنصور يقظاً لا يفوته ما لجعفر بن محمد من المنزلة في المجتمع، ويعظم عليه اتجاه الأنظار إليه، وقد عاشره من قبل وعرف منزلته وعلمه، لذلك كان حذراً منه أشدّ الحذر، والمخاوف تحيط به والأوهام والشكوك تساوره، كما أنّ الوشاة ملأوا سمع المنصور من الأكاذيب على جعفر بن محمد(عليهما السلام) مما جعله يحاول الفتك به، وكانت سياسة جعفر بن محمد وانعزاله ونظره إلى الاُمور بعين الواقع برهنت على كذب أولئك الوشاة، وخفّفت من سورة غضب المنصور قليلاً، ولكنها لم ترفع أصل الاتهام، فهو على حذر دائم، لأنّه يعرف مقام الإمام جعفر بن محمد ومنزلته العلمية ومكانته الاجتماعية.

اتّهامات المنصور للإمام الصادق

ومهما يكن من أمر فقد كثرت الوشاة على أبي عبد اللّه(عليه السلام)فأثارت من المنصور كوامن ضغنه; وحركت عوامل غيظه، فحجّ في سنة ( 147 هـ ) . ودخل المدينة وأمر الربيع بإحضار الإمام جعفر الصادق، وقال له: ابعث إلى جعفر من يأتينا به تعباً، قتلني اللّه إن لم أقتله، فتغافل عنه الربيع لينساه، ثمّ أعاد ذكره وقال: أرسل إليه من يأتيني به متعباً، فلما حضر الصادق(عليه السلام)أعلم أبا جعفر حضوره، فلما دخل عليه قابله بوحشية وكلام لا مجال لذكره.

وقال: اتخذك أهل العراق إماماً، يجبون إليك زكاة أموالهم، وتلحد في سلطاني وتبغي الغوائل، قتلني اللّه إن لم اقتلك، فقال الصادق(عليه السلام): يا أمير، إنّ سليمان اُعطيَ فشكر، وإنّ أيوب ابتليَ فصبر، وإنّ يوسف ظلم فغفر. فقال أبو جعفر: إلي وأنت عندي يا أبا عبد اللّه البريء الساحة السليم الناحية، القليل الغائلة، جزاك اللّه من ذي رحم أفضل ما جزى ذوي الأرحام عن أرحامهم، ثم تناول يده فأجلسه معه، ثم قال: عليّ بالمتحفة فاُتي بدهن فيه غالية فخلقه بيده. ثمّ قال: في حفظ اللّه وفي كلاءته. ثم قال: يا ربيع ألحق أبا عبد اللّه جائزة وكسوة.

قال الربيع: فلحقته فقلت له: إنّي قد رأيت قبل ذلك ما لم تره ورأيت بعد ذلك ما قد رأيت، فما قلت يا أبا عبد اللّه حين دخلت؟ قال(عليه السلام)قلت: اللّهمّ احرسني بعينك التي لاتنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام، واغفر لي بقدرتك عليّ، لا أهلك وأنت رجائي، اللهمّ إنّك أكبر وأجلّ ممن أخاف وأحذر، اللهمّ بك أدفع في نحره واستعيذ بك من شره(54).

وتركّزت في ذهن المنصور فكرة الفتك بجعفر بن محمد، لأنّه يعلم أنّ مئات الآلاف يقولون بإمامته وتجبى له الأموال، وينظر بعين العظمة والاحترام، كما أنّ أكثر الملتفين حول المنصور والمؤازرين له يذهبون إلى القول بإمامته.

وأراد امتحانه مرة ليكون له طريق في المؤاخذة. فدعا ابن مهاجر، وقال: خذ هذا المال وآت المدينة والق عبد اللّه بن  الحسن وجعفر بن محمد وأهل بيتهم وقل لهم: إنّي رجل غريب من أهل خراسان من شيعتكم، وقد وجّهوا إليكم بهذا المال، فادفع إلى كلِّ واحد منهم على هذا الشرط كذا وكذا، فإذا قبض المال فقل: إنّي رسول وأحبّ أن يكون معي خطوطكم بقبض ما قبضتم مني. ومضى، فلما رجع قال له أبو جعفر: ماوراءك؟ فقال: أتيت القوم وهذه خطوطهم ما خلا جعفر بن محمد فإنّي أتيته وهو يصلّي في مسجد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فجلست خلفه وقلت: ينصرف وأذكر له فعجل وانصرف، فالتفت إليّ فقال: ياهذا، اتق اللّه ولا تغرّن أهل بيت محمد، وقل لصاحبك اتّق اللّه ولا تغرّن أهل بيت محمد، فإنهم قريبو العهد بدولة بني مروان وكلّهم محتاج، فقلت: وما ذاك أصلحك اللّه؟ فقال: اُدن مني فدنوت، فأخبرني بجميع ما جرى بيني وبينك حتى كأنّه ثالثنا، فقال له: يا ابن مهاجر إنّه ليس من أهل بيت نبوّة إلاّ وفيهم محدث وإنّ جعفر بن محمد محدّثنا اليوم(55).

وصعبت على المنصور تلك الطرق التي اتخذها جعفر بن محمد في حذره واحتياطه عن أيِّ مؤاخذة من المنصور له ليستحلّ بها دمه فإنّه لم يبق طريقاً إلاّ سلكه، من إرسال الكتب المزوّرة عن لسان شيعة جعفر بن محمد يدعونه للنهوض وارسال الأموال الكثيرة مع أناس استخدمهم المنصور لهذه الغاية عساه أن ينجح بموافقة جعفر(عليه السلام) في قبض المال أو جواب الكتب، لتكون له وسيلة للقضاء على الإمام، ولكن تلك المحاولات ذهبت بدون جدوى وكان نصيبها الفشل.

وإنّ المنصور ليهمّه أمر جعفر بن محمد أكثر من غيره، وله معه أخبار أهمل كثير من المؤرخين ذكرها، وكانت بينهما صلة أيام بني اُمية وعاشره في خلافته أكثر من عشر سنين، ولقي في هذه المدة جهداً وامتحن غير مرة، وكان الخطر محدقاً به، والمنصور لا يجهل مكانته(عليه السلام)، فهو الشخصية التي كان يتطلع إليها الناس يوم طلع فجر النهضة العلميّة، وكان لمدرسته حركة واسعة ونشاط علمي، وازدحم عليه طلاب العلم، واشتهر ذكره، وكان زعيم أهل الحديث في معركة أهل الرأي وأهل الحديث كما يأتي بيانه. فكان المنصور يخشى خطر هذه الشهرة، ويحذّر من حدوث انقلاب مفاجئ من قبل العلويين ينضمّ إليه علماء الاُمة الذين اتصلوا بجعفر بن محمد وعرفوا منزلة أهل البيت، مع علمه بمعارضته لبيعة محمد بن عبد اللّه فإنّه اعترض على هذه البيعة معلناً أنّها جاءت سابقة لأوانها، ولكنّ المنصور يخشى أن يترأس الإمام الصادق دعوة العلويين فيشتدّ الخطر على الدولة الجديدة.

ولكن جعفر بن محمد كان بحدسه الصائب ونظره الثاقب يخترق الحجب ويستشف أحداث المستقبل ويخبر بكثير من الكوائن قبل وقوعها.

فكان من رأيه عدم التعرض لطلب الأمر، ونهى قومه عن عقد تلك البيعة، وكان ينصحهم في التجافي عن شؤون الدولة في عصره، وقد عرض عليه الخلافة أبو سلمة الخلال وزير آل محمد في بدء الدعوة، قبل وصول الجند إليه فأبى الإمام قبولها، ولم يقنع أبو سلمة بهذا الرد وحاول إقناع الإمام بكلّ صورة، وعندما أقبلت الرايات كتب أبو سلمة إليه: إن سبعين ألف مقاتل وصل إلينا فانظر أمرك(56)، فأجابه بالرد، وأن الأمر للسفاح وللمنصور من بعده.

كما أنه(عليه السلام) لم يستجب لما دعاه إليه أبو مسلم الخراساني قائد الثورة في بلاد فارس وصاحب السلطان في ذلك الدور، فإنّ أبا مسلم كان يدعو الناس إلى الرضا من آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأعلن غضبه على بني اُمية لأنهم ظلموا أهل البيت، وأراقوا دماءهم، وأراد إسناد الأمر لآل عليّ(عليه السلام) لأنّهم أحقّ بهذه الدعوة من غيرهم، فكتب إلى الإمام الصادق(عليه السلام)وهو زعيم أهل البيت وسيدهم في عصره، وإليه تطلعت الأنظار، واتجهت القلوب، وقال في كتابه للإمام الصادق(عليه السلام):

إنّي قد اظهرت الكلمة، ودعوت الناس عن موالاة بني اُمية إلى موالاة أهل البيت، فإن رغبت فلا مزيد عليك.

فأجاب الإمام الصادق(عليه السلام): ما أنت من رجالي، ولا الزمان زماني(57).

فهو(عليه السلام) بنظره الصائب ومنهجه السديد، وعلمه بما وراء الحوادث، لا يرى أن يستجيب لدعوة لا تتركز على ما يؤمل فيه تحقيق أهداف الاُمة الإسلامية وإصلاح الأوضاع الفاسدة، لعلمه بأنّ هؤلاء الذين اظهروا الولاء لم يكونوا مخلصين في ذلك، وإنّما هناك غايات لا يمكنه أن يوافقهم على تحقيقها فهو ينظر إلى الاُمور بمنظار الواقع، ويسير على خطط حكيمة وآراء سديدة في تقدير الظروف ومناسباتها.

وقد أخبر(عليه السلام) من قبل بصيرورة الخلافة لبني العباس دون غيرهم من الهاشميين، ولذلك كان أسدّ الهاشميين رأياً بمعارضته لبيعة النفس الزكية، والواقع أن أئمة أهل البيت كثر تحدّثهم قبل عصر الإمام الصادق عن الدولة الهاشمية وتعدّدت إشاراتهم إلى ملك بني العباس، وأنّهم سيطأون أعناق الرجال، ويملكون الشرق والغرب ويجمعون من الأموال ما لم يجتمع لأحد من قبلهم، وأنّ مدة ملكهم ستطول، وتكون أضعاف مدة الدولة الاُموية، وقد أخبروا  بهذه الحوادث قبل وقوعها(58).

كما أنّهم كانوا ذوي تجارب سياسية، واختبارات اجتماعية تقيض لخواطرهم نوعاً من الفراسة واستطلاع الحوادث التي لا بدّ لها أن تقع في ميادين الانقلابات الحزبية والثورات المتشابكة في طول الدولة الإسلامية وعرضها.

 

 

(48) السفاح هو أبو العباس عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس بويع له بالخلافة سنة (132هـ ) وتوفي بالجدري في الأنبار يوم الأحد 11 ذو الحجة سنة ( 136هـ ) وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر.

(49)  هو عبد اللّه بن محمد بن عليّ بن عبد اللّه بن العباس، وهو أكبر من أخيه السفاح واُمه اُم ولد أسمها سلامة. بويع له بالخلافة سنة (136هـ ) وكانت خلافته 22 سنة وتوفي سنة ( 158 هـ ).

(50) تاريخ بغداد ج12 ص344 .

(51) تاريخ الطبري ج7 ص309 .

(52) هو العباس بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن أبي طالب واُمه عائشة بنت طلحة الجود بن عمر بن عبد اللّه التيمي، وكان العباس أحد فتيان بني هاشم وله يقول إبراهيم بن علي الشاعر:

لما تعرضت للحاجات واعتلجت *** عندي وعاد ضمير القلب وسواسا

جعلت أسعى لحاجاتي ومصدرها *** برّاً كريماً لثوب المجد لبّاسا

توفي في سجن المنصور سنة (145هـ ) لسبع بقين من شهر رمضان وهو ابن خمس وثلاثين سنة.

(53) تذكرة الخواص ص219 ـ 220.

(54) صفوة الصفوة لابن الجوزي: ج2 ص96، الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص207، الإرشاد للمفيد ص25.

(55) ابن شهرآشوب ج2 ص302 .

(56) مناقب ابن شهرآشوب ج2 ص310 .

(57) الملل والنحل ج1 ص241 .

(58) مؤرخ العراق ابن الفوطي لفضيلة العلامة الشبيبي.