المذاهب الأربعةالتزام وآراء

المذاهب الأربعةالتزام وآراء 

 

تمهيد

إنّ أهمّ موضوع في تاريخ التشريع الإسلامي هو موضوع غلق باب الاجتهاد، وادعاء استحالته لأحد غير أئمّة المذاهب الأربعة: أبي حنيفة ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وأنّ تقليدهم لازم، ولا يصحّ العمل إلاّ بما جاء عنهم، وأنّ من المستحيل حصول ملكة الاجتهاد لأحد غيرهم; حتى أنّ البعض يرى أنّ من يقلّد غيرهم زنديق، وأنّ العمل لا يصحّ إلاّ بالأخذ عن واحد من هؤلاء الأئمة، فهم أعلمالاُمة وسادات الأئمة الى غير ذلك من الإدّعاءات.

وقد تقدّم الكلام عن أسباب نشأة المذاهب وعوامل انتشارها، ولإيضاح مالعلّه لم يتّضح من هذا الموضوع، نستعرض هنا لما يتعلّق فيه من بيان تاريخ الالتزام، بالأخذ عن الأئمة الأربعة، وبيان العوامل التي أدّت إلى الجمود الفكري، فأغلق باب الاجتهاد في وجوه المسلمين، وادّعي استحالته بعد ذلك الزمن، وأنّ من يدّعي ذلك يوصم بالجهل، ويؤاخذ بدعواه، وربّما رمي بالزندقة، ومع ذلك فإنّ البعض من أهل السنة يعارضون هذه الفكرة، ويقفون أمام هذه الدعوة بشدّة إن ساعدتهم الظروف على ذلك، فهم يوافقون الشيعة في حريّة الرأي، وعدم القول بغلق باب الاجتهاد.

ولقد أثّر هذا الالتزام بوحدة المسلمين، ففرّق كلمتهم، ونشبت بين معتنقي المذاهب حروب دموية، نتيجة للخلافات المذهبية وادعاء كلّ فريق أنّ الحقّ له دون غيره، وأنّ إمامه هو المنفرد بمنزلة العلم وأهليّة الاتباع، واندفعوا بكلّ وسيلة لرفع مقام رئيس المذهب إلى منزلة لا يدانيه فيها أحد، وتحكّم التعصّب الطائفي، وكثر الجدل، وعظم الخلاف بين أتباع أئمّة المذاهب، ودبّ التقليد في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون، وكان سبب ذلك تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم.(116)

وبلغ الأمر بهم في صوغ عبارات المدح والثناء الى ما يقف العقل أمامه موقف الردّ والإنكار، كما ذهبوا الى أعلميّة هؤلاء الأئمة على جميع المسلمين، وأنّهم بلغوا درجة العصمة عن الخطأ، وأنّ الله لايقبل عمل عامل إلاّ من طريقهم وكلٌ يعتقد أفضلية إمامه على بقيّة الأئمة، وأنّ مذهبه هو الصواب.

إلى غير ذلك من التفريط والغلوّ، ممّا لم يعرفه معاصرو أولئك، ولم يجدوه هم في أنفسهم.

الالتزام بالمذاهب الأربعة

تطوّرت الدعوة الى المذاهب الأربعة وتكثرت العوامل لاتباعهم بصورة خاصة، وقد ذكرنا في الجزء الأول أسباب نشأتها وعوامل انتشارها بما لا حاجة إلى اعادته.

والغرض: أنّ الالتزام بهذه المذاهب الأربعة كان بصورة تدريجيّة، حتى أدّى ذلك على مرور الزمن إلى أن ينحصر أخذ الأحكام عنها دون غيرها من المذاهب الإسلامية على كثرتها وانتشارها.

والشيء المحصّل من جميع الأقوال أنّ الأخذ بها ولزوم التقليد كان في القرن الرابع، أمّا الالتزام بها دون غيرها ووجوب أخذ أقوالهم وترك أقوال الآخرين وعدم السماح بالاجتهاد والاستنباط يرجع تاريخه إلى سنة (645 هـ)، وذلك عندما رأت السلطة أن تحصر الأخذ عن المشايخ الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، فأحضر مدرسو المدرسة المستنصرية إلى دار الوزير، وتقدّم إليهم أن لا يذكروا شيئاً من تصانيفهم، ولا يلزموا الفقهاء بحفظ شيء منها، بل يذكرون كلام المشايخ تأدّباً وتبركاً بهم، وأجاب جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي ـ مدرس الحنابلة ـ بالسمع والطاعة، ثم مدرس المالكية سراج الدين عبد الله الشرمساحي، وقال: ليس لأصحابنا تعليقة، فأمّا النقط من مسائل الخلاف فما أرتبه.

وأما شهاب الدين الزنجاني مدرس الشافعية، وأقضى القضاة عبد الرحمن ابن اللمغاني مدرس الحنفية فإنّهما قالا ما معناه: "إنّ المشايخ كانوا رجالاً ونحن رجال" ونحو ذلك من إبهام المساواة فانتهت صورة الحال، فتقدّم الخليفة أن يلتزموا بذكر كلام المشايخ واحترامهم فأجابوه بالسمع والطاعة (117).

وبذلك أصبح الالتزام بهذه المذاهب أمراً رسمياً لا يمكن خلافه، وقضي على غيرها من المذاهب المعمول بها في ذلك الوقت - على قلّة اتباعها - كمذهب سفيان الثوري، ومذهب داود بن علي الظاهري، حتى أدّت الحالة الى محو الجميع، وبقاء المذاهب الأربعة نظراً لما اظهرته السلطة من تهديد وتوعيد، وترغيب وترهيب "ولم يبقَ لأهل السُنة إلاّ المذاهب الأربعة السابقة، لأنّها وجدت الملوك والوزراء من يحمل الناس عليها، وينشيء لها تلك المدارس، ويحبس عليها تلك الأوقاف، فلما طال العهد بها على الناس أخذوا يتعصّبون لها وينكرون ما عداها من المذاهب السابقة".(118)

التطرّف بالتزام المذهب

واتسع الخلاف وكثر الجدل، وعظمت الفرقة، وذهب كلٌ إلى تأييد مذهبه وصواب رأيه، وإبراز صورة إمام مذهبه في صفحة الوجود بإطار الغلو والعبقرية الإدعائية لا العبقرية الواقعية، جهلاً منهم بعاقبة الأمر واتباعاً لهوى سلطان لا يروق له اتحاد الاُمة.

وقد اندفع المتطرّفون إلى أبعد حدّ من الشذوذ، ولم يصغوا لأهل الاعتدال والتوازن منهم، ولم يجعلوا وزناً لأقوال أئمّتهم، وما هو مأثور عنهم بأنّهم لم يصلوا إلى تلك الدرجة التي يدّعونها لهم فإنّهم بشر يخطئون ويصيبون، وأنّ أقوالهم لا قيمة لها تجاه الأثر والنصوص النبويّة، كما يأتي بيانه. ولكنّهم لم يسمعوا ذلك ووصفوهم بما تهوى انفسهم، كما وصفوا أبا حنيفة بأنّه سراج الاُمة، وسيد الأئمة، ومحيي السنة، وأنّه إذا تكلّم خيّل إليك أنّ ملكاً يلقّنه، وما كلّم أحداً في باب من أبواب الفقه إلا ذل له، وإذا أشكلت مسألة على أعلم الناس سهلها عليه. كما تجد ذلك في كتب مناقبه للمكي(119)، والكردري(120)وغيرهما.

وإنّك لتدهش من تلك الألفاظ الفارغة، التي لا تجد فيها سوى التهجّم على الحقائق، ومخالفة الحق والواقع، إذ هي وليدة عصور متأخرة لا يعرفها معاصروه، ولم يشهد له بذلك علماء عصره، وقد كان أكثرهم ينكرون عليه ويردون فتاواه. منهم : أيوب السجستاني، وجرير بن حازم، وهمام بن يحيى وحماد بن سلمة، وأبو عوانة، وعلي بن عاصم، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، و مالك بن أنس وغيرهم، وكلماتهم في الردّ عليه مشهورة مدوّنة(121).

وكان هو بنفسه لا يرى ذلك، ويعترف بأنه يخطئ ويصيب، كما يتضح ذلك من أقواله المدونة والمشهورة عنه .(122)

والشيء الذي يلفت النظر هو تكرارهم لكلمة تنسب إلى الشافعي، وقد جعلوها من أعظم المؤيّدات لأتباع مذهب أبي حنيفة وهي أنّه كان يقول: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة. مع أنّ المشهور غير هذا. والعبارة لم تصدر إلاّ من قبل دعاة مذهب، إذ المعروف عن الشافعي أنّه كان يقول: أبوحنيفة يضع أول المسألة خطأً ثم يقيس الكتاب كله عليه.

ويقول: ما أشبه رأي أبي حنيفة إلا بخيط سحارة، وهي شيء يلعب به الصبيان، تمده هكذا فيجيء أصفر، وتمده فيجيء أخضر.

ويقول: رأيت أبا حنيفة في النوم وعليه ثياب وسخة فقال: مالي ولك؟.(123)

وكان الشافعي يفضل مالكاً على أبي حنيفة. واشتهرت مناظرته لمحمد ابن الحسن الشيباني.

قال محمد بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم، صاحبنا أو صاحبكم؟ - يعني مالكاً وأبا حنيفة - قلت على الإنصاف؟ قال: نعم... قلت فانشدك الله من أعلم بالقرآن صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: صاحبكم - يعني مالكاً.

قلت فمن أعلم بالسنّة، صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم.

قلت فانشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمتقدّمين، صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: صاحبكم.

قال الشافعي: قلت فلم يبق إلاّ القياس والقياس لا يكون إلاّ على هذه الأشياء، فمن لم يعرف الاُصول على أيّ شيء يقيس؟(124)

هذه هي أقوال الشافعي في أبي حنيفة. وتدلّنا بكل وضوح على بطلان ما نسبوه إليه "أنّ الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة".

وكذلك أقوال أحمد بن حنبل في مدح أبي حنيفة فإنّ التتبع يرفع الوثوق بها، وقد اشتهر عنه قوله: إذا رأيت الرجل يتجنّب أبا حنيفة ورأيه والنظر فيه، ولا يطمئن إليه ولا إلى من يذهب مذهبه، ويغلو، ولا يتخذه إماما، فارجُ خيره.(125)

وكان يشتدّ على أصحاب الرأي في استعمال الحيل فيقول: هذه الحيل التي وضعها هؤلاء - أبو حنيفة وأصحابه - عمدوا إلى السنن فاحتالوا في نقضها. أتوا الذي قيل لهم أنّه حرام، فاحتالوا فيه حتى أحلوه.

وقال أيضاً: انّهم يحتالون لنقض سنن رسول الله (صلى الله عليه وآله) .(126)

وسئل أحمد عن مالك فقال: حديث صحيح ورأي ضعيف. وسئل عن أبي حنيفة فقال: رأي ضعيف وحديث ضعيف.(127)

وما أكثر الشواهد التي تدلّ على خلاف ما يذهبون إليه، من الإفراط والاندفاع وراء العاطفة، والتمسّك بأشياء بعيدة عن الصواب. فقد كثر الجدل وعظم الخلاف "حتى آل بهم التعصّب إلى أنّ أحدهم إذا ورد عليه شيء من الكتاب والسنة على خلاف مذهبه يجتهد في دفعه بكلّ وسيلة من التأويلات البعيدة، نصرة لمذهبه ولقوله".(128)

ونقل الرازي عن أكبر شيوخه في تفسير قوله تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ القُرآنَ) أنّه قال : قد شاهدت جماعة من مقلّدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله في بعض مسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوها، ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون إليَّ كالمتعجب - يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها؟ ولو تأمّلت حقّ التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا.(129)

قال أبو شامة:(130) وكانت تلك الأزمنة مملوءة بالمجتهدين، فكلّ صنف على ما رأى، وتعقّب بعضهم بعضاً مستمدّين من الأصلين: الكتاب والسنّة، وترجيح الراجح أقوال السلف المختلفة بغير هدى، ولم يزل الأمر على ماوصفت إلى أن استقرّت المذاهب المدوّنة ثم اشتهرت المذاهب الأربعة وهجر غيرها، فقصرت همم أتباعهم إلاّ قليلاً منهم فقلّدوا بعد ما كان التقليد حراماً لغير الرسل، بل صارت أقوال أئمّتهم بمنزلة الأصلين ـ الكتاب والسنةـ وذلك معنى قوله تعالى: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ)(131) فعدم المجتهدون وغلب المتقلّدون، وكثر التعصّب وكفروا بالرسول حيث قال: "يبعث الله في كل مائة سنة من ينفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين"، وحجروا على ربِّ العالمين، مثل اليهود، أن لا يبعث بعد أئمّتهم وليّاً مجتهداً حتى آل بهم التعصّب إلى أنّ أحدهم إذا أورد عليه شيء من الكتاب والسنة على خلافه يجتهد في دفعه بكلّ سبيل من التأويلات البعيدة نصرة لمذهبه ولقوله . الخ(132).

وهنا يستوقفني الفكر طويلاً عندما أتامّل أقوال العلماء المبرّزين، الذين ينتسبون لأحد المذاهب، وأنّهم كيف كانوا يتشدّدون في النهي عن التقليد ومضارّه، وكيف كانوا يخالفون رئيس المذهب في اجتهادهم، وانّهم لم يعرفوا عن أئمة المذاهب ما يدعيه المتأخّرون عنهم من المبالغات، وذلك التشديد في وجوب تقليد إمام بعينه.

فكم الفرق بين الفريقين؟ وإن الأمر ليبعث على الاستغراب، وإنّ المتتبع يقطع ببطلان ما يذهب إليه المتأخرون، وأنّهم قد خالفوا أئمّتهم ورؤساء مذاهبهم في اتّباع تلك الاُمور المبتدعة، وتعصّبهم لمذاهبهم بما لا يرضى به اُولئك الأئمة الذين ادّعوا أنّهم لهم متّبعون، ووصفوهم بأقصى ما يتصور من المدح والثناء، وجعلوا تقليدهم والرجوع لأقوالهم أمراً إلزاميّاً. ولا نعلم من أين جاء هذا الالتزام، والأئمة أنفسهم ينهون عن ذلك ؟

ولجلاء الأمر نضع صورة موجزة من أقوال أئمة المذاهب .

الإمام أبو حنيفة لا يلزم بالرجوع إليه

إنّ أقوال أبي حنيفة وآثاره تدلّ على عدم الإلزام بالرجوع إليه، وأخذ قوله دون غيره، وأنّ حكمه هو الصواب لا غير، حتى أدّى الأمر إلى أن يتعصّب أكثر اتباعه في تقديم قوله على الآثار الصحيحة. وكيف ساغ لهم ذلك وهو ينهى عنه؟ كما كان ينهى عن تقليده، بما اشتهر عنه أنّه كان يقول : "إذا صحّ الحديث فهو مذهبي" (133)

وقوله: لا ينبغي لمن لا يعرف دليلي أن يفتي بكلامي. وفي رواية: حرام على من لا يعرف دليلي.(134)

وكان يقول: هذا رأي النعمان بن ثابت - يعني نفسه - وهو أحسن ما رأيت فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب .(135)

وقال: هذا الذي نحن فيه رأي لا يجبر أحد عليه ولا نقول يجب على أحد قبوله بكراهية، فمن كان عنده شيء أحسن منه فليأت به(136).وقيل لأبي حنيفة: إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي بكتاب الله، فقيل: إذا كان خبر الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: اتركوا قولي لقول رسول الله(صلى الله عليه وآله). فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لقول الصحابة(137).

وقد اشتهر منع الفتوى بدون معرفة الدليل عن أكابر اصحاب أبي حنيفة.

قال عصام بن يوسف: كنت في مأتم فاجتمع فيه أربعة من أصحاب أبي حنيفة : زفر بن الهذيل، وأبو يوسف، وعافية بن يزيد، وآخر، فكلّهم أجمعوا على أنّه قال: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه. قال الشيخ صالح بن محمد العمري: إن هؤلاء الأئمة لا يبيحون لغيرهم أن يقلّدهم بغير أن يعلموا دليل قولهم .(138)

وقال أبو الليث السمرقندي: باب من يصلح للفتوى. قال الفقيه: لا ينبغي لأحد أن يفتي الا أن يعرف أقاويل العلماء - يعني أبا حنيفة وصاحبيه - ويعلم من أين قالوا، ويعرف معاملات الناس، فإن عرف أقاويل العلماء ولم يعرف مذاهبهم.. الخ .

وقال أبو يوسف بمثل قول أبي حنيفة وهو قوله: حرام على من لم يعرف دليلنا أن يفتي بقولنا.(139)

الإمام مالك ينهى عن التقليد

وقد اشتهر عن مالك: أنّه كان ينهى عن التقليد والرجوع لقول أيّ أحد دون كتاب الله وسنّة رسوله. ويعلن معارضته لمن كان يتعصّب له ويدّعي أعلميته على جميعا لاُمة.

ويتّضح من مطاوي كلماته أنّ الحديث الذي ادّعوه في فضله، وهو حديث عالم المدينة، لم يكن يعرفه مالك، وإن كان معروفاً فلا يرى انطباقه عليه لوجود من هو أعلم منه، والمأثور عن مالك في ذلك كثير، كقوله: إنّما أنا بشر اُخطئ واُصيب، فانظروا في رأيي فكلّ ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكلّ ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه(140).

وكان مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة ، ويصرّح في موطنه بأنّه أدرك العمل على هذا، وهو الذي عليه أهل العلم ببلدنا. ويقول في غير موضع إذا سئل عن شيء: ما رأيت أحداً أقتدي به يفعله(141) أي يفعل ذلك الشيء المسؤول عنه.

وروى محمد بن محمد بن سنه بسنده عن مالك أنه قال: إنّما أنا بشر اُخطئ واُصيب، فانظروا في رأيي، فكلّ ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق فاتركوه. وروى مثله عنه أحمد بن مروان المالكي.(142)

وكان رأي مالك: أنّ من ترك قول أحد من الصحابة لقول تابعي أنّه يستتاب. وقد صرّح مالك بأنّ من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب. فكيف بمن ترك قول الله والرسول لقول من هو دون إبراهيم أو مثله(143)، وهذا على سبيل المثال لا التشخيص منه.

وقد اشتهر عن مالك كثرة قوله: لا أدري، في كثير من المسائل، وقد سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنين وثلاثين منها: لا أدري.

وسئل من العراق عن أربعين مسألة فما أجاب منها إلاّ في خمس.

قال أبو مصعب: قال لنا المغيرة: تعالوا نجمع كلّ ما نريد ان نسأل عنه مالكاً. فمكثنانجمع ذلك، ووجّه به المغيرة إليه، وسأله الجواب، فأجاب مالك في بعضه، وكتب في الكثير منه لا أدري.(144)

والروايات عنه في "لا أدري" و "لا اُحسن" كثيرة، حتى قيل لو شاء رجل أن يملأ صحيفة من قول مالك: "لا أدري" لفعل.

وقيل لمالك إذا قلت - أنت - يا أبا عبد الله: لا أدري، فمن يدري؟ قال: ويحك؟ أعرفتني؟ ومن أنا؟ وأيش منزلتي حتى أدري مالا تدرون؟ ثم أخذ يحتّج وقال: قد ابتلي عمر بن الخطاب بهذه الأشياء فلم يجب فيها.

وقال عبد الله بن مسلمة: دخلت على مالك - أنا ورجل آخر - فوجدناه يبكي، فسلمت عليه، فرد عليَّ ثم سكت عني وهو يبكي، فقلت: يا أبا عبد الله، ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا ابن قعنب، أبكي لله على مافرط مني من هذا الرأي وهذه المسائل. وقد كان لي سعة فيما سبقت، فقلنا له: ارجع عن ذلك، فقال: وكيف لي بذلك وقد سارت به الركبان (145).

وسأل رجل مالكاً عن مسألة، وذكر أنّه أرسل فيها من مسيرة ستة أشهر من المغرب فقال له: أخبر الذي أرسلك أنّه لا علم لي بها، قال: ومن يعلمها؟ قال مالك: من علّمه الله.

وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب، فقال: ما أدري، ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا، ولا سمعنا أحداً من أشياخنا تكلّم فيها ولكن تعود، فلما كان من الغد جاء الرجل وقد حمل ثقله على بغله يقوده، فقال: مسألتي. فقال مالك: ما أدري ما هي؟ فقال الرجل: يا أبا عبد الله، تركت خلفي من يقول: ليس على وجه الأرض أعلم منك، فقال مالك غير مستوحش: إذا رجعت إليهم فاخبرهم إني لا اُحسن.(146)

وهذا مما يدلّ على خطأ ذلك الاعتقاد الذي كوّنته عوامل غير مشروعة، وأيّدته ظروف خاصة، لذلك انكر عليهم مالك، إذ هو لم يعرف من نفسه ما قد ادعاه فيه غيره، وكذلك لم يكن يعرف المتصلون بمالك، والذين عرفوا منزلته كما عرفه الناؤون عنه، وأخذوا عنه صورة مكبّرة رسمتها يد المبالغة والغلو فأنكر مالك عليهم ما يدّعونه فيه من العصمة والوصول الى درجة الإحاطة بكلّ العلوم. واتسع الأمر بعد زمن مالك حتى أصبح قوله يقدّم على الكتاب والسنة كما أشرنا لذلك.

الإمام الشافعي ينهى عن التقليد 

وكذلك الإمام الشافعي كان ينهى عن التقليد، ويدعو إلى العلم من طريقه. وقد روي عنه انّه قال: مثل الذي يطلب العلم بلا حجّة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه، وهو لا يدري. ذكره البيهقي.(147)

وقال إسماعيل بن يحيى المزني في أول مختصره: اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله: لاُقرّبه على من أراده، مع إعلامية نهيه - أي الشافعي - عن تقليده وتقليده غيره، لينظر فيه لدينه، ويحتاط فيه لنفسه.(148)

ومختصر المزني هذا قد أصبح للشافعية فيه اعتقاد وتمسّك شديد، وامتلأت به البلدان، حتى أنّ المرأة كانت إذا جهزت للدخول على زوجها حمل في جهازها مصحف ونسخة من مختصر المزني.(149)

وقال ابن حجر في توالي التأسيس(150): قد اشتهر عن الشافعي: "إذا صحّ الحديث فهو مذهبي". قال ابن القيم: هذا صريح في مدلوله، وأنّ مذهبه مادلّ عليه الحديث لا قول له غيره، ولا يجوز ان ينسب إليه ما خالف الحديث، فيقال: هذا مذهب الشافعي، ولا يحلّ الإفتاء بما خالف الحديث على انّه مذهب الشافعي، ولا الحكم به، صرّح بذلك جماعة من أئمّة أتباعه.

وقد اعترف الشافعي بعدم إحاطته بالأخبار الصحيحة، كما روي عن أحمد بن حنبل أنّه قال: قال الشافعي: أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى أذهب إليه(151)، ولذلك قال أبو ثور: إنّ الشافعي ما كان يعرف الحديث وإنّما كنّا نوقفه عليه ونكتبه.

وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: ما من أحد إلاّ وتذهب عليه سنة لرسول الله(صلى الله عليه وآله) وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، وأصّلت من أصل فيه عن رسول الله خلاف ما قلت، فالقول ما قاله رسول الله وهو قولي، وجعل يردّد هذه الكلمات; وقال أيضاً: أجمع الناس على أنّ من استبانت له سُنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)لم يكن ليدعها لقول أحد(152)، وستأتي زيادة بيان لهذه الأقوال عند بحثنا عنه.

الإمام أحمد يحارب التقليد 

وكذلك الإمام أحمد بن حنبل فإنّ المأثور عنه والمشهور من أقواله أنّه كان يحارب التقليد، ويحثّ الناس على طلب الحكم من دليله، ويقول: كثرة التقليد عمى في البصيرة.(153)

وقال أبو دواد، قلت لأحمد: الأوزاعي هو اتبع من مالك؟ فقال أحمد: لا تقلّد دينك هؤلاء، ماجاء عن النبيّ وأصحابه فخذ به .(154)

وكان ينهى عن الكتابة عنه ويقول: لا تكتبوا عني ولا تقلدوني، ولا تقلّدوا فلاناً وفلاناً، وخذوا من حيث أخذوا.(155)

وقال أحمد أيضاً : لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا. وقال : من قلة فقه الرجل ان يقلّد دينه الرجال .(156)

قال صاحب المنار : وقد كان هذا الإمام الجليل متأخراً قليلاً عن "الأئمة الثلاثة" وإن أدرك بعضهم وصحب أحدهم وكان قد رأى بوادر التزام تقليد الذين تكلّموا في الأحكام وكتبوا فيها، وعلم أنّ مالكاً "رحمه الله" قد ندم قبل موته إذ نقلت أقواله وفتاواه قبل موته، ولذلك لم يدون مذهباً واقتصر على كتابة الحديث، ولكن أصحابه جمعوا من أقواله وأجوبته وأعماله ما كان مجموعه مذهباً، كما قال العلاّمة ابن القيم .(157)

وقال سلمة بن المسيّب: سمعت أحمد بن حنبل يقول: رأي الأوزاعي ورأي مالك، ورأي أبي حنيفة كله رأي، وهو عندي سواء وإنّما الحجة في الآثار!(158)

يقول السيد صديق حسن، بعد نقله لأقوال أئمة المذاهب في النهي عن تقليدهم: فإنّهم - رضي الله عنهم - قد نهوا عن الرأي والتقليد، وصرّح بعضهم بأن الاستحسان بدعة ولكنّ مقلّديهم باللسان دون الجنان، لم يرضوا بهذا النهي; وقالوا نحن مقلدوكم شئتم أو أبيتم - وهم والله يعلم - أنّهم كاذبون.(159)

والشيء الذي نودّ التنبيه عليه هنا أنّ أتباع أحمد قد تمسّكوا بتقليده والأخذ بأقواله، بل جعلها بعضهم كأقوال النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وهي بمثابات ما يُروى عن النبي(صلى الله عليه وآله) من الآثار .(160)

هذا ما أردنا ذكره في هذا العرض الموجز عن أئمة المذاهب، ونحن لا نريد أن نحطّ من كرامة واحد منهم، أو نتعصّب عليه، ولكنّي كما قلت سابقاً : إنّ من الحقّ والإنصاف أن نعطي شخصيّة كلّ واحد من أئمة المذاهب حقّها من الدراسة المتجردة عن التعصّب والتحيّز، وأن لا ننقاد للعواطف ولننظر الواقع بعين تبصر الحقائق كما هي.

وبدون شك أنّ ذلك التعصب الطائفي قد أوجد مشاكل اجتماعية فرّقت الكلمة وكدّرت صفو الاُخوة. وما أحوج المسلمين الى الإلفة والاتحاد! وهي دعوة رفع الأئمة بها أصواتهم، وكانت تعاليمهم تحثّ على الوحدة والاتفاق. فالتعصّب ينافي المبادئ الصحيحة ويدعو الى الفرقة. ونحن بأمسّ الحاجة الى التفاهم من طريق العلم والواقع.

ولا يتسنى لنا حصول الغرض إلاّ برفع تلك الزوائد التي أوجدتها عوامل التعصب، وأن لا نقيم وزناً لعوامل السياسة التي قضت على المسلمين باتساع شقّة الخلاف، فهي تساعد الضعيف ليقوى على مقابلة خصمه، فإذا ما بلغ الغاية أو كاد سحبت يد المساعدة خلسة لتضمّها للجانب الآخر، وهكذا على ممرّ الزمن واختلاف العصور.

أسباب التعصب المذهبي وتطور الدعوة 

والغرض أنّ التعصب قد شوّه وجه الحقيقة، وقلب الاُمور عن واقعها، ولعلّ أسباب ذلك تعود الى ما يلي :

1 - كان لتطور الدعوة إلى الالتزام بالمذاهب الأربعة، أثر في تحيّز كلّ جانب إلى المذهب الذي يعتنقه، ممّا يؤدّي إلى الاندفاع بنوع من التعصّب وراء طلب المؤيدات لذلك المذهب، بدون التفات إلى مؤاخذة، أو إستناد لأمر ملموس. وكانت الظروف تساعد على تنمية تلك الاندفاعات، إذ وجدت نشاطاً ساذجاً في المجتمع، وقبولاً في العقول المتبلبلة فكالت المدحلها جزافاً ما شاءت بدون حساب.

2 - إنّ التزاحم على مناصب الدولة من قضاء وتولي حسبة، كان يؤدي إلى المجادلة والمناضلة والتحزّب، ولا يحصل من وراء ذلك إلا خلاف وتباعد، وادعاء كلّ الحقّ في جانبه، وأنّ مذهبه هو المذهب الذي لا يقبل الله عملاً إلاّ به، وأنّ رئيس المذهب هو المتفرد بعلوم الإسلام لا غير، لتكون له الغلبة على غيره. وقد تزلّفوا للأمراء والخلفاء طلباً للحصول على ذلك المنصب "ولذلك تجد الوطيس لم يُحم إلاّ بين الحنفية والشافعية، لأنّ المناصب كانت محصورة فيهم"(161)

3 - مزاحمة المذهب الجعفري وانتشاره في المجتمع الإسلامي، مع بذل الجهد من السلطات في معارضته، والقضاء على المنتمين إليه مرّةً، وبتشجيع غيره من المذاهب تارةً اُخرى، مما يبعث معتنقيها على التفاني في التعصّب لها، والتحامل على هذا المذهب الذي فرض نفسه على المجتمع بدون مشجّع مادي.

وقد أفصح التاريخ عن كثير من ذلك ممّا لا حاجة لذكره الآن. ومن المناسب أن نختم هذا الفصل بما ذكره الاُستاذ السيد محمد رشيد رضا، في جواب الأسئلة التالية الموجّهة إليه من باريس، من صديقه أحمد زكي بك وهي :

1 - متى اُقفل باب الاجتهاد؟ وماذا ترتب على هذا الإقفال من المنافع والمضارّ ؟

الجواب: زعموا أنه اُقفل بعد القرن الخامس، ولكنّ كثيراً من العلماء اجتهدوا بعد ذلك، فلم يكونوا يعملون إلاّ بما يقوم عندهم من الأدلة، ولا يخلو زمن من هؤلاء، كما صرّح بذلك علماء الشافعية.

ولولا خوفهم من حكومات الجهل; لبيّنوا للناس مفاسد التقليد الذي حرّمه الله. ودعوهم إلى العمل بالدليل كما أمر الله، وقد علمت الحكومة العثمانية - منذ عهد قريب - بأنّ بعض علماء الشام يحملون تلاميذهم على ترك التقليد والعمل بالدليل، فشدّدت عليهم النكير حتى سكتوا عن

الجهر بذلك .

ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وأما مضاره فكثيرة وكلّها ترجع الى إهمال العقل وقطع طريق العلم، والحرمان من استقلال الفكر. وقد أهمل المسلمون كلّ علم بترك الاجتهاد فصاروا الى ما نرى.

2 - ما معنى قولهم اُقفل باب الاجتهاد ؟

الجواب: معناه انّه لم يبق في الناس من تتوفر فيه شروط المجتهد، ولا يرجى أن يكون ذلك في المستقبل، وإنّما قال هذا القول بعض المقلّدين، لضعف ثقتهم بأنفسهم، وسوء ظنّهم بالناس، وزعمهم أنّ العقول دائماً في تدلَّ وانحاط، وغلوّ في تعظيم السابقين.

وقد رأيت أن تلك الشروط - أي شروط الاجتهاد - ليست بالأمر الذي يعزّ مثاله، وتعلم أنّ سُنّة الله تعالى في الخلق الترقّي إلا أن يعرض مانع، كما يعرض لنمو الطفل مرض يرجعه القهقرى. كان آخر الأديان أكملها.

3 - مامعنى هذه العبارة: قفل باب الاجتهاد، عند العامة وعند أهل التحقيق؟

الجواب : العامة يقلّدون آباءهم ورؤساءهم في قولهم: إنّ أهل السنة ينتمون إلى أربعة مذاهب من شذّ عنها فقد شذّ عن الإسلام. ولا يفهمون أكثر من هذا.

وأمّا المشتغلون بالعلم أو السياسة، فالضعفاء المقلّدون منهم يفهمون من الكلمة ما فسرناها به في جواب السؤال السابق، ويحتجّون على ذلك بأنّ الناس قد أجمعت كلمتهم على هذه المذاهب، فلو اُجيز للعلماء الاجتهاد لجاؤونا بمذاهب كثيرة، تزيدالاُمة تفريقاً، وتذهب بها في طرق الفوضى.

والمحقّقون، يعلمون أنّ منشأ هذا الحجر هو السياسة، فالسلاطين والاُمراء المستبدّون لا يخافون إلاّ من العلم، ولا علم إلاّ بالاجتهاد فقد نقل الحافظ ابن عبد البر وغيره الاجماع على أنّ المقلد ليس بعالم، ونقله عنه ابن القيم في (أعلام الموقعين) وهو ظاهر، إذ العالم بالشيء هو من يعرفه بدليله، وإنّما يعرف المقلد أنّ فلاناً قال كذا فهو ناقل لا عالم. وربما كانت آلة (الفوتغراف) خيراً منه.(162)

 

آراء حول الاجتهادوالتقليد

 

حول الاجتهاد والتقليد

اُغلق باب الاجتهاد في وجوه المسلمين، وأصبح الالتزام بالمذاهب الأربعة لازماً، حتى جعلت أحكام الإسلام مقصورة على الأئمة الأربعة دون غيرهم، لأنّ درجة الاجتهاد مستحيلة على أيّ أحد من علماء الاُمة - كما يقولون - مع سهولة الوصول إليها، وقد اتّضحت لنا الأسباب التي دعت الى هذا الالتزام وقد وقفنا على الاُمور التي أدّت الى قفل باب الاجتهاد. ومعناه الضربة القاضية على حرّية الفكر بل على الإسلام، الذي جاء للناس كافة ليساير مختلف العصور والشعوب.

يقول الاُستاذ عبد المتعال الصعيدي: وإنّي أستطيع أن أحكم بعد هذا بأنّ منع الاجتهاد قد حصل بطرق ظالمة، وبوسائل القهر والإغراء بالمال، ولاشكّ أنّ هذه الوسائل لو قدرت لغير المذاهب الأربعة - التى نقلّدها اليوم - لبقي جمهور يقلدها أيضاً، ولكانت الآن مقبولة عند من ينكرها، فنحن إذاً في حلّ من التقيّد بهذه المذاهب الأربعة التي فرضت علينا بتلك الوسائل الفاسدة، وفي حلّ من العود الى الاجتهاد في أحكام ديننا لأنّ منعه لم يكن إلاّ بطريق القهر، والإسلام لايرضى إلاّ بما يحصل بطريق الرضى والشورى بين المسلمين، كما قال تعالى: (وأمرُهُم شُورَى بَيْنَهُم).(163)

وقد ذكرنا فيما سبق عرضاً موجزاً لأقوال العلماء الأعلام من الاُمة في الإنكار على غلق باب الاجتهاد، ومنع المسلمين من الاهتداء بهدى القرآن وصحيح الحديث، والاقتصار على أقوال المذاهب الأربعة، وليس من الصحيح الاعتقاد بأنّهم أحاطوا بأسرار القرآن وعلوم الحديث، فدوّنوها فى كتبهم أو لقنوها لتلامذتهم، مع انّ كلماتهم تدل على عدم بلوغهم تلك الدرجة من الكمال، ولا ارتياب بأنّه لو فسح في أجل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وعاشوا الى اليوم، لداموا مجتهدين مجدّين يستنبطون لكلّ قضيّة حكماً، وكلّما زاد تعمّقهم زادوا فهماً وتدقيقاً.

إلى آخر ما تعرضنا لذكره من الآراء والأقوال في الإنكار على غلق باب الاجتهاد، ومنعه وهو سرّ تأخّر المسلمين، وهو الباب المرن الذي عندما قفل تأخّر المسلمون بقدر ما تقدّم العالم، فأضحى ما وضعه السابقون لا يمكن أن يغيّر ويبدل. لاعتبارات سياسية.

وعلى أيّ حال فإنّ هناك طائفة من العلماء يحاولون رفع ذلك الجمود الفكري وفتح باب الاجتهاد الذي دعت السياسة لإقفاله، ولم يعرف هناك دليل شرعي يؤيده ما ذهب إليه المقلّدون والقائلون بلزومه، ووجوب الرجوع إلى المذاهب الأربعة دون غيرها من علماء الاُمة.

وقد عقد ابن القيّم فصلاً طويلاً في أعلام الموقعين (164) استقصى فيه أدلة القائلين بذلك وإبطالها بالأدلة القويّة، كما قد اُلّفت رسائل عديدة لهذا الغرض، وكلّها تدعو الى التحرر من تلك القيود التي أخذت بأعناق العلماء، وإذا رفع أحد منهم صوته بالدعوة إلى رفع تلك القيود اُلقي في غيابة السجن، ولقي العذاب والتنكيل، لأنّ السلطان كان مؤيداً لأهل التقليد، لأنّهم آلة السياسة وأعوان الرياسة، فكان صوت المصلحين بينهم خافتاً ومقامهم خافياً.

وها نحن اُولاء نلقي نظرة خاطفة حول الاجتهاد والتقليد ونقف على شروط الاجتهاد، كما وقفنا على كلمات الأئمة من الدعوة إليه والنهي عن التقليد ونستطرد حجج القائلين به.

الاجتهـاد

الاجتهاد في اللغة: بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال، ولا يستعمل إلاّ فيما فيه كلفة، فيُقال: اجتهد في حمل حجر الرحى، ولا يُقال: اجتهد فى حمل خردلة. ثم صار هذا اللفظ في عرف العلماء مخصوصاً ببذل الفقيه وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة.

والاجتهاد التام: أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحسّ من نفسه بالعجز عن مزيد طلب(165).

وقال في كشّاف اصطلاحات الفنون(166): "الاجتهاد في اللغة استفراغ الوسع في تحصيل أمر من الاُمور مستلزم للكلفة والمشقّة، وفي اصطلاح الاُصوليين: استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل ظنّ بحكم شرعيّ. والمستفرغ وسعه في ذلك التحصيل يُسمى مجتهداً بكسر الهاء" ثم ذكر بعد ذلك بحثاً في التعريف والقول بتجزئ الاجتهاد - أي جواز كونه في بعض الأحكام دون بعض - وشروط المجتهد فقال: للمجتهد شرطان :

1 - معرفة الباري تعالى وصفاته وتصديق النبيّ بمعجزاته، وسائر ما يتوقف عليه علم الإيمان، كلّ ذلك بأدلة إجمالية وإن لم يقدر على التحقيق والتحصيل، على ماهو دأب المتبحرين في علم الكلام.

2 - ان يكون عالماً بمدارك الأحكام وأقسامها، وطرق اثباتها ووجوه دلالتها، وتفاصيل شرائطها ومراتبها، وجهات ترجيحها عند تعارضها، والتقصّي عن الاعتراضات الواردة عليها فتحتاج الى معرفة حال الرواة، وطرق الجرح والتعديل، وأقسام النصوص المتعلقة بالأحكام، وأنواع العلوم الأدبية من اللغة والصرف وغير ذلك، هذا في حقّ المجتهد المطلق الذي يجتهد في الشرع.

وجعل الشاطبي في الموافقات العمدة فيها: فهم العربية متناً واُسلوباً، ومعرفة مقاصد الشريعة، وأجاز تقليد المجتهد لغيره في الفنون التي هي مبدأ الإجتهاد، كأن يقلّد المحدثين في كون هذا الحديث صحيحاً وهذا ضعيفاً، من غير أن يعرف هو حال الرواة وطرق الجرح والتعديل.(167)

ومن الأقوال ما يجمع بين التزام الاجتهاد والتقليد، وهي مما اقتضاه الحال في مواجهة تحرير المسائل ومقالات المتأخرين في الاُصول، حيث ينمّ تصريحهم عن رغبة في الاجتهاد أو عمل به بالفعل، وقد ورد هنا قول محمد ابن عبدالعظيم الرومي الموردي الحنفي في الفصل الأوّل من كتابه (القول السديد) الذي ألّفه سنة (1052 هـ): إعلم أنّه لم يكلّف الله أحداً من عباده بأن يكون حنفياً أو مالكياً أو شافعياً أو حنبلياً، بل أوجب عليهم الإيمان بما بعث محمداً(صلى الله عليه وآله) والعمل بشريعته، غير أنّ العمل بها متوقف عليها. والموقوف له طرق، فما كان منها ممّا يشترك بها العوام وأهل النظر كالعلم بفريضة الصلاة والزكاة والصوم والحج والوضوء إجمالاً، وكالعلم بحرمة الزنا والخمر واللواطة وقتل النفس وغير ذلك ممّا علم من الدين بالضرورة، فلذلك لا يتوقف فيه على اتباع مجتهد ومذهب معين، بل كلّ مسلم عليه اعتقاد ذلك. فمن كان في العصر الأوّل فلا يخفى وضوح لك في حقّه، ومن كان في الأعصار المتأخرة فلوصول ذلك الى علمه ضرورة من الاجماع والتواتر وسماع الآيات والسنن، أي الأحاديث الشريفة المستفيضة المصرّحة بذلك في حقّ من وصلت إليه، وأما ما لا يتوصل إليه إلاّ بضرب من النظر والاستدلال، فمن كان قادراً عليه بتوفر الآلة وجب عليه فعلاً كالأئمة المجتهدين(رضي الله عنهم) ومن لم يكن له قدرة عليه; وجب عليه الاتباع الى من يرشده الى ما كلّف به ممّن هو أهل النظر والاجتهاد والعدالة.

التقليد

التقليد: هو قبول قول بلا حجة. وليس من طرق العلم لا في الاُصول ولا في الفروع، إلاّ أنّه لما كان الظن في الفروع كافياً للعمل وفي الاُصول غير كاف جاز في الفروع دون الاُصول.

وقال قوم: إنّ طريق معرفة الحقّ التقليد، وإنّ ذلك هو الواجب، وإنّ النظر والبحث حرام.(168)

قال الذين جوّزوا التقليد أيضاً في الاُصول: أنّ النظر لو كان واجباً لفعله الصحابة وأمروا به، ولكنّهم لم يفعلوا، ولو فعلوا لنقل عنهم كما نقل النظر في الفروع.

ودليل الجمهور في منع التقليد في الاُصول: انعقاد الإجماع على وجوب العلم بالله تعالى، ولا يحصل ذلك بالتقليد لإمكان كذب المقلّد، إذ أنّ صدقه إنّما يُعرف بالضرورة أو النظر، والأوّل منتف، وإذا عُلم ارتفع التقليد.

بين طائفتين

ها نحن ذا بعد هذا البيان الموجز للاجتهاد والتقليد نقف بين طائفتين من المسلمين، وكلّ واحدة تخالف الاُخرى فيما تذهب إليه من حيث الاجتهاد والتقليد، وأنَّ النزاع لا يزال يشتدّ، كلّما اتسع الفكر وانتشر العلم ورفعت القيود كانت كفّة القائلين بالجواز أرجح.

وإنّ استقصاء حجج كلّ من الطرفين يستدعي الإطالة في الموضوع والخروج عن شرط الكتاب، ولكنّا نكتفي بالإشارة للبعض منها، والاطلاع على التفصيل في الكتب المختصّة بذلك. وأنّ أكثرها فائدة واستقصاء هو كتاب "الدين الخالص" للسيد صديق حسن وكتاب "أعلام الموقعين" لابن القيم الجوزية فليراجع من أراد الوقوف على ذلك .

حجّة المقلّدين

لقد سرت روح التقليد سرياناً عاماً بعد أن كان مريد الفقه يشتغل أولاً بدراسة الكتاب، ورواية السنة اللّذين هما أساس الاستنباط ، أمّا في هذا الدور - أي دور غلق باب الاجتهاد - فأصبح مريد الفقه يتلقّى كتب إمام معيّن، ويدرس طريقته التي استنبط بها ما دوّنه من الأحكام، فإذا أتمّ ذلك صار من العلماء الفقهاء. ومنهم من تعلو به همّته فيؤلّف كتاباً في أحكام إمامه. ولا يستجيز الواحد منهم لنفسه أن يقول في مسألة من المسائل قولاً يخالف ما أفتى به إمامه. كأنّ الحقّ كلّه نزل على لسان إمامه وقلبه، حتى قال طليعة فقهاء الحنفية في هذا الدور، أبو الحسن عبيد الله الكرخي: كلّ آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤوّلة أو منسوخة، وكلّ حديث كذلك فهو مؤوّل أو منسوخ. وبمثل هذا أحكموا دونهم أرتاج باب الاختيار.

والتزم كلّ منهم مذهباً معيّناً لايتعدّاه، ويبذل كلّ ما أوتي من مقدرة في نصرة ذلك المذهب جملة وتفصيلاً. مع أنه لا يخطر ببال هؤلاء الفحول ثبوت العصمة لأيّ إمام في اجتهاده، وقد كان الأئمة أنفسهم يعترفون بجواز الخطأ عليهم، وأن تكون هناك سُنة لم يطّلعوا عليها.(169)

وعلى هذا سارت قافلة الزمن، ولم يكن هناك طريق لرفع ذلك التحجير. وإيقاف تسريات تلك الروح. ومن يحاول الاجتهاد والاتصال بالأدلّة الشرعية يكون نصيبه النكال والتعذيب، ويُرمى بالبدعة والضلالة. وقد وقع ذلك لكثير من العلماء.

وعلى أيّ حال فقد احتجّ القائلون بلزوم التقليد باُمور :

1 - قوله تعالى: (فَاسألُوا أهلَ الذِكرِ اِن كُنتُم لاَ تَعلَمُون)(170) وبقوله تعالى: (أَطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمرِ مِنكُم)(171) وقالوا: إنَّ أهل الذكر واُولي الأمر هم العلماء.

2 ـ إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أرشد إلى التقليد وسؤال من لا يعلم لمن يعلم، فقال في حديث صاحب الشجة: ألا سألوا إذ لم يعلموا إنّما شفاء العيّ السؤال؟(172)

3 - تصريح الشافعي بتقليده لعمر: في الضبع بعير، أي كفّارة قتل الضبع بعير، أنّه قال: قُلته تقليداً لعمر، وفي مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب، تقليداً لعثمان. وفي مسألة الجد مع الاُخوة، تقليداً لزيد. وعنه - أي عن زيد - قبلنا أكثر الفرائض. وهذا أبو حنيفة ليس معه في مسائل الآبار إلاّ تقليد من تقدّمه من التابعين فيها. وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة، وقال محمد بن الحسن الشيباني: يجوز للعالم أن يقلّد من هو أعلم منه، ولا يجوز له أن يقلد من هو مثله.(173)

4 - استدلّوا بقول عمر: إنّي لأستحي من الله أن اُخالف أبا بكر. وقال لأبي بكر: رأينا تبع لرأيك (174) إلى آخر ما أوردوه من الاحتجاج لذلك. وأنت ترى أنّ حججهم خارجة عن محل النزاع.

أما الآيات فهي عامّة، فما الدليل على تخصصها بالأربعة، وأنّه لا يجوز سؤال غيرهم؟ وأنّ جميع ما ذكروه لا يصلح لإثبات المدّعى. وقد أجاب عنه مانعو التقليد وفنّدوا ما ذهبوا اليه.

وقال أبو عمر: يقال لمن قال بالتقليد : لم قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنّهم لم يقلّدوا؟

فإن قال : قلت لأنّ كتاب الله لا علم لي بتأويله، وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم اُحصها، والذي قلدته قد علم ذلك، فقلدت من هو أعلم مني.

قيل له: أمّا العلماء إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب، أو حكاية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحقّ لا شكّ فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قلّدت فيه بعضهم دون بعض، فما حجّتك في تقليد بعضهم دون بعض وكلّهم عالم؟ ولعلّ الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه.

فإن قال: قلّدته لأنّي أعلم أنّه على صواب.

قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب الله أو سُنّة أو اجماع ؟

فإن قال: نعم. أبطل التقليد وطولب بما ادّعاه من الدليل.

وإن قال: قلدته لأنّه أعلم مني. قيل له : فقلد كلّ من هو أعلم منك، فإنك تجد من ذلك خلقاً كثيراً، ولا تحصي من قلّدته إذ علّتك فيه أنّه أعلم منك.

فإن قال: قلّدته لأنّه أعلم الناس.

قيل له: إذاً أعلم من الصحابة وكفى بقول مثل هذا قبحاً!! إلى أن يقول : ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد.(175)

وعلى أيّ حال فإنّ روح التقليد قد سرت واُشرب في قلوب المقلّدين حبّ التعصّب للمذهب الذي يتّبعونه، وحكموا بخلوّ الأرض من القائمين لله بحجة، وقالوا: لم يبق في الأرض عالم منذ الأعصار المتقدّمة.

فقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة، وأبي يوسف، وزفر بن الهذيل، ومحمد بن الحسن الشيباني، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وهذا قول كثير من الحنفية.

وقال بكر بن العلاء القشيري: ليس لأحد أن يختار بعد المائتين من الهجرة.

وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي، وسفيان الثوري، ووكيع ابن الجراح، وعبد الله بن المبارك.

وقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي.

وعند هؤلاء أنّ الأرض قد خلت من قائم لله بحجة، ولم يبق فيها من يتكلّم بالعلم، ولم يحلّ لأحد بعدُ أن ينظر في كتاب الله و لا سُنّة رسوله لأخذ الأحكام منها، ويقضي ويفتي بما فيهما حتى يعرضه على قول مقلّده ومتبوعه، فإن وافقه حكم به وافتى به، وإلاّ ردّه ولم يقبله.

وهذه أقوال - كماترى - قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض والقول على الله بلا علم، وإبطال حججه، والزهد في كتابه وسُنّة رسوله .(176)

وإنّ منهم من أقام رؤساء المذاهب مقام الأنبياء، بل إنّ من أتباعهم من قدّمهم عليهم عند تعارض كلامهم مع الحديث الصحيح، فإنّهم يردّون كلام النبيّ المعصوم مع اعتقادهم صحة سنده، لقول نقل عن إمامهم، ويتعلّلون باحتمالات ضعيفة كقولهم: يحتمل أن يكون الحديث نسخ، ويحتمل أنّ عند إمامنا حديثاً آخر يعارضه.

ولا شكّ أنَّ هؤلاء المقلّدين قد خرجوا بغلوهم في التقليد عن التقليد، لأنّهم لو قلّدوا الأئمة في آدابهم وسيرتهم وتمسّكهم بما صحّ عندهم من السنّة; لما ردّوا كلام المعصوم لكلام غير المعصوم، الذي يجوز عليه الخطأ والجهل بالحكم، وكانوا يأمرون بأن يُترك قولهم إذا خالف الحديث. بل تسلق هؤلاء الغالون - بمثل ذلك - إلى القرآن نفسه، وهو المتواتر القطعي والإمام المبين.

وتجرّأ بعضهم أنّه لا يجوز لأحد أن يأخذ دينه من الكتاب، لأنّه لا يفهمه، وإنّما يفهمه رجال الدين، فيجب عليه أن يأخذ بكلّ ما قالوا وإن خالف الكتاب، ولا يجوز له أن يأخذ بالكتاب إذا خالف ما قالوا، بل لا يجوز لأحد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام، لأنّ الله قال كذا، أو لأن رسول الله قال كذا، بل لأنّ فلاناً الفقيه قال كذا!!(177)

وجملة القول إنّهم انقسموا إلى فئتين : فئة ترى بقاء القديم على قدمه والمحافظة على إبقاء ما قرّر في تلك العصور، حتى عدّوا محاولة الخروج عن ذلك ضلالاً وبدعة.

وفئة ترى وجوب حلّ تلك القيود وإطلاق حريّة الفكر والرجوع إلى اُصول استنباط الحكم، وكلّما طال الزمن اتّسع نشاط هذا الرأي وكثر الإنكار على من يقول بغلق باب الإجتهاد.

ذكروا يوماً في مجلس السيد جمال الدين الأفغاني(178) قولاً للقاضي عياض، واتخذوه حجة، واشتدّ تمسّكهم بذلك القول حتى أنزلوه منزلة الوحي، بأنّه لايأتيه الباطل لا من خلفه ولا من أمامه.

فقال جمال الدين: يا سبحان الله! إن القاضي عياض قال ما قاله على قدر ما وسعه عقله، وتناوله فهمه وزمانه، أفلا يحق لغيره أن يقول ما هو أقرب للحق، وأوجه وأصح من قول القاضي عياض أو غيره من الأئمة؟

وذكروا أن باب الاجتهاد مسدود لتعذر شروطه، فتنفس جمال الدين الصعداء وقال: مامعنى باب الاجتهاد مسدود؟ وبأيّ نصّ سدّ باب الاجتهاد، أو أيّ إمام قال لا ينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يجتهد ليتفقه بالدين؟! وأن يهتدي بهدي القرآن، وصحيح الحديث، أو ان يجدّ ويجتهد لتوسيع مفهومه منها، والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجيات الزمان وأحكامه، ولا ينافي جوهر النص؟

إنّ الله بعث محمداً رسولاً بلسان قومه العربي يفهمهم ما يريد إفهامهم، وليفهموا منه ما يقوله لهم (وَمَا أرسَلنَا مِن رَسُول إلاّ بِلِسانِ قَومِهِ).(179)

وقال: (إنَّا أنزَلنَاهُ قُرآناً عَرَبِياً لَعَلَّكُم تَعقِلُون)(180) وفي مكان آخر (إنّا جَعَلنَاهُ قُرآناً عَربيّاً لَعَلَّكُم تَعقِلُون).(181)

فالقرآن ما اُنزل إلاّ ليفهم، ولكي يعمل الإنسان بعقله لتبديل معانيه. وفهم أحكامه، والمراد منها.(182)

وكان تلميذه الشيخ محمد عبده(183) يدعو لفتح باب الاجتهاد، وينكر الجمود على القديم، ويدعو لحلّ تلك القيود، وإطلاق حريّة الفكر والرجوع الصحيح إلى قواعد الدين. وكان يناضل عن هذه الفئة بلسانه وقلمه، وإليك بيان وجهة نظره في قوله :

(وارتفع صوتي في الدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الاُمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه من ينابيعها الأولى، واعتباره من موازين العقل البشري التي وضعها الله لتردّ من شططه، وتقلّل من غلطه وخبطه، لتتمّ حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني، وأنّه على هذا الوجه يعدّ صديقاً للعلم، باعثاً على البحث في أسرار الكون، داعياً إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالباً بالتعويل عليها في آداب النفس واصلاح العمل.(184)

وقام السيد رشيد رضا تلميذ الشيخ محمد عبده في المطالبة بفتح باب الاجتهاد، وشدّد النكير على من يذهب إلى غلقه، في لزوم اتباع مذهب معين، ومن أقواله: "ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وامّا مضاره فكثيرة، وكلّها ترجع إلى إهمال العقل، وقطع طريق العلم، والحرمان من استغلال الفكر، وقد أهمل المسلمون كلّ علم بترك الاجتهاد، فصاروا إلى ما نرى" .(185)

وذكر : "أنّه لولا خوفهم - أي العلماء - من حكومات الجهل لبيّنوا مفاسد التقليد الذي حرّمه الله، ودعوا الناس إلى العمل بالدليل كما أمر الله، وقد علمت الحكومة العثمانية منذ عهد قريب، بأن بعض علماء الشام يحملون تلاميذهم على ترك التقليد، والعمل بالدليل، فشددت عليهم النكير حتى سكتوا عن الجهر.(186)

ويقول الدكتور أحمد أمين: وقد اُصيب المسلمون بحكمهم على أنفسهم بالعجز وقولهم بإقفال باب الاجتهاد، لأنّ معناه أنّه لم يبق في الناس من تتوفر فيه شروط المجتهد، ولا يرجى أن يكون ذلك في المستقبل، وإنّما قال هذا القول بعض المقلدين لضعف ثقتهم بأنفسهم وسوء ظنّهم بالناس، وزعمهم عكس ما يقول أصحاب النشوء والارتقاء من دعواهم أن العقل دائماً في تدن وانحطاط، وغلوهم في تعظيم السابقين... (187).

وقد تقدّم في الجزء الأوّل(188) بعض ما يتعلق بمسألة الاجتهاد والتقليد، وذكرنا هناك آراء كلٍّ من الفريقين من العلماء المعاصرين وغيرهم.

التلفيق

وهو الأخذ برأي إمام في مسألة، والعدول عن رأيه إلى رأي غيره في مسألة اُخرى. وقد وقع الخلاف في جوازه ومنعه.

وقال الشاطبي: إنّه ليس للمقلّد أن يتخيّر في الخلاف، كما إذا اختلف المجتهدون على قولين، فوردت كذلك على المقلّد، فقد يعدّ بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيّراً فيهما، كما يخيّر في خصال الكفارة، فيتبع هواه وما يوافق غرضه إلى أن يقول : وقد أدّى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال، اتباعاً لغرضه وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق. ثم أورد قصصاً عن القضاة والمفتين الذين طلبوا الرخص في الفتوى، نزولاً لرغبة السلطان أو الأصدقاء أو الأقارب، كقصّة قاضي قرطبة الذي قضى بما يرضي المخلوقين، وقصّة يحيى بن لبانة عندما عزل عن القضاء لسقوط عدالته، ولكنّه عاد الى المنصّب عندما أفتى الخليفة بما يرضيه.(189)

وأجاز ذلك آخرون. وقد نسبوا التخير في القولين، وتتبع الرخص لأكثر أصحاب الشافعي. وقد منع الحنفية ذلك، ولكنّه واقع عندهم في أكثر الفتاوى. واستدل المجوزون بما فعله أبو يوسف من التلفيق، وذلك أنّه لمّا صلّى بالناس الجمعة فأخبر بوجود فأرة في ماء الحمام الذي كان قد اغتسل منه للجمعة، فقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً".(190)

وكان أبو يوسف ومحمد بن الحسن - وهما عماد المذهب الحنفي - يكبّران في العيدين تكبير ابن عبّاس، لأنّ هارون الرشيد كان يحبّ تكبيرجدّه(191).

قال الاُستاذ السيد محمد رشيد رضا في تعليقته على قول الشاطبي في الاعتصام في الوجه الثامن من الوجوه التي جعلها لمعرفة الانحراف عن السُنة والميل للبدعة : "ومن فروع هذه البدعة أنّ بعضهم يستحل أن يجعل المرجّح لأحد القولين في الفتوى ما يعطيه المستفتون من الدارهم، فإذا جاء مستفتيان في مسألة واحدة فيها خلاف يطلب أحدهما الفتوى بالجواز أو الحل، والآخر يطلب الفتوى بالمنع أو الحرمة، يفتي من كان منهما أكثر بذلاً للمفتي، فهو تارة يفتي بالحلّ وتارة يفتي بالحرمة، والقاعدة في ذلك ما صرّح به بعض الفقهاء في بعض الكتب التي تدرّس في الأزهر: "نحن مع الدراهم قلةً وكثرةً" فإذا كان القولان المتناقضان صحيحين في المذهب; جاز أن يكون السحت هو المرجّح في الفتوى، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم أ هـ (192).وقال الشيخ محمد عبدالله درّاز شارح الموافقات: بل أخرجوا الأمر عن كونه قانوناً شرعيّاً وعدّوه متجراً، حتى كتب بعض المؤلّفين في الشافعية ما نصّه: "نحن مع الدراهم كثرةً وقلةً" .(193)نسبة المذهب إلى أبي حنيفة

وقبل أن نترك الكلام حول الاجتهاد والتقليد لا بدّ لنا من الإشارة لاُمور:

إنّ المذهب الحنفي لم يكن ينتسب لأبي حنيفة لأنّه مرجع جميع أحكامه ومصدر فقهه، ولكن تلك النسبة اصطلاحية. فإنّا نجد أنّ المذهب قد تكوّن من مجموعة أقوال وآراء لأبي حنيفة ولأصحابه من بعده، وأنّ اُصول المذهب مشتملة على أقوال أبي يوسف(194)، وأبي حنيفة، ومحمد بن الحسن .

وكان أبو يوسف ومحمد بن الحسن يجتهد كلّ منهما، وربّما يتفق مع قول أبي حنيفة أو يخالفه، كما أنّ أبا يوسف ومحمد بن الحسن كانا يختلفان في كثير من المسائل، على أنّا نقطع بأنّ كثيراً من الحوادث والوقائع لم يكن لأبي حنيفة فيها رأي، ولكن استنبطها المجتهدون المتأخرون عنه، بل لم تكن فيها رواية عن أبي يوسف وغيره من الطبقة الاُولى من مجتهدي المذهب، فنسب تلك المسائل التي استخرجها المتأخرون إلى المذهب باعتبار أنّ هؤلاء مجتهدون في المذهب فحسب، وإن كانت لهم ملكة الاستنباط والاستدلال والقوّة على الاجتهاد.

ومن مجموع تلك الأقوال التي صدرت عن أبي حنيفة وأصحابه، وما خرّجه المتأخرون تكوّن المذهب الحنفي، فأصبح المجموع ينسب لأبي حنيفة.

والظاهر أنّ منعهم اجتهاد أيّ أحد، والالتزام بقول إمام المذهب، لا يعود لأبي حنيفة وحده، وإنّما هو لأبي حنيفة وأصحابه معاً.

طريق الاُصول للمذاهب

إنّ اُصول الفقه للمذاهب قد اتفّقت طريقتهم في الاُصول في الجملة، وإنّ اُصولهم لم تكن كاُصول المذهب الشافعي، فهو يعدّ في الواقع أصلاً لاُصولهم وإن خالفوه في كثير منها.

فالحنفية قد اتفقت طريقة استنباطهم في الجملة مع اُصول الاستنباط عند الشافعي، وكذلك المالكية اتّحدت طريقتهم مع أكثر ما جاء في رسالة الشافعي، والخلاف بينهم وبينه أكثر ممّا بيّنه وبين الحنفية،

وقد تجاوز الخلاف التفصيلات الى بعض الاُصول العامة، فعمل أهل المدينة حجة عندهم. وقد شدّد الشافعي عليه في ردّه في مواضع كثيرة من كتاب الاُم.

والحنابلة قد أخذوا باُصول الشافعي، ولكنّهم لم يتصوروا إجماعاً غير إجماع الصحابة، وفي التحقيق أنّهم وإن خالفوا الشافعي في ظاهر الأصل فإنّهم لم يتعدوا عن روح الرأي عند الشافعي، لأنّ الشافعي وإن اطلق حجّية الإجماع فلم يفرضها في عصر ولا في أمر، فالفرق في الإجماع بين الشافعي وأحمد ليس كبيراً، وإن كان في ظاهر القول لا يبدو صغيراً.

ومن هذا نرى المذاهب الأربعة تتلاقى اُصولهم وتتقارب ينابيع استنباطهم، ولا تتباعد وإن جاءت الفروع مختلفة اختلافاً كبيراً في بعضالأحيان.(195)

الشيعة والاجتهاد

كان من المناسب ذكر شروط الاجتهاد عند الشيعة في هذا البحث، ولكن رأينا تأخير ذلك لمحلّه، عند ذكرنا لنهضة الشيعة العلميّة، وأنّهم لم يخضعوا لنظام السلطة في غلق باب الاجتهاد، إذ لم يكن تعليمهم يدخل تحت نظام الدولة، ولم تخضع مدارسهم لذلك المنهج الذي سارت عليه أكثر المدارس الإسلامية، بل ساروا على منهج أهل البيت(عليهم السلام)في عدم مؤازرة الدولة، وباب الاجتهاد عندهم لم يغلق، ولا زال مفتوحاً، وهذا ممّا يفاخر به الشيعة سائر جماعات المسلمين اليوم.(196)

ومن الخطأ القول بأنّ الشيعة تقدّم أقوال الأئمة على نصّ الكتاب وحديث الرسول (صلى الله عليه وآله)، كيف وأنّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام)هم حملة علم الكتاب وسنة رسوله، فهم المبلّغون لهما، وهم أصدق الناس حديثاً وأتقاهم وأشدّهم خوفاً من الله، وأزهدهم في الحياة الدنيا.

وإنّ الغلوّ الذي يدّعونه على الشيعة في أهل البيت(عليهم السلام)، إنّما هو دون الغلوّ المدَّعى لأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، من إعطاء أقوالهم وآرائهم منزلة تهجر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية في جانبها، وسيتضّح ذلك في بحث الفقه إن شاء الله.

الخلاصة

إنّ تفرّق المسلمين واختلافهم في المذاهب، وتعصّب كلّ لمذهبه والانتصار له قد ملأ جوّ العالم الاسلامي بفتن يتّبع بعضها بعضاً، وكان التعصّب والتحزّب وراء أن يشهر المسلمون سيوفهم بعضهم على بعض، والسبب الذي حلّل دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وحرّف الكتاب والسُنة ثم صيرهما كالعدم بسدّ باب الاجتهاد.

ثم ترتّب على هذا الافتراق تقويم كلّ لعمود الشقاق، وصار كلّ منهم يعتزّ بمن مال إليه من الملوك على خصمه، وعظمت المجادلة واشتدّت المناضلة. وأسباب ذلك ترجع إلى التزلّف للأمراء والخلفاء، والتزاحم على منصب القضاء، كما ذكر ذلك الغزالي وغيره، وقد شدّد النكير على من ينتقل من مذهب لآخر .

وحدث من وراء ذلك فتن ومشاغبات بين المذاهب، كما حدث للسمعاني(197) عندما انتقل من مذهب النعمان الى مذهب الشافعي، فقامت الحرب على ساق واضطرمت بين الفريقين نيران فتنة كادت تملأ ما بين خراسان والعراق، واضطرب أهل مرو لذلك اضطراباً، وذلك في سنة (468 هـ) وأدّى الأمر الى غلق باب الجامع، ورفعوا الأمر للسلطان فنفاه من مرو، ولم يعد إليها إلا بعد مدّة(198). وكثير أمثال السمعاني قد واجهوا مصائب عند تحوّلهم من مذهب إلى مذهب.

وأدّى الخلاف بين المذاهب الى رمي بعضهم بعضاً بالكفر، كما صرّح القشيري في كلامه للوزير عندما أراد حلّ مشكلة الخلاف بين الحنبلية والشافعية. وكان القشيري زعيم الشافعية، فقال للوزير: أيّ صلح يكون بيننا؟ إنّما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية أو دين أو تنازع في ملك. فأمّا هؤلاء فإنّهم يزعمون أنّا كفّار، ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كافر، فأيّ صلح يكون بيننا؟.(199)

وذهب بعضهم الى لزوم تعزير من انتقل من مذهب لمذهب، وعدم قبول شهادته كما اشتهر بين الحنفية: من أنّ الحنفي إذا انتقل إلى مذهب الشافعي يعزّر، وإذا كان بالعكس يخلع، وقيل: لا تقبل شهادته، (200) ومنعوا اقتداء بعض أهل المذاهب بالبعض الآخر، بل تجد الحنفي في كثير من البلاد لا يصلّي خلف الشافعي. وكسر بعضهم سبابة مصلّ لرفعه إياها في التشهد; لأنّ ذلك محرّم عندهم، كما ذهب إليه الكيداني وغيره من الحنفية، واختلفوا في تزويج الحنفية بالشافعي، لقول بعضهم: لا يصح ذلك لأنّها تشكّ في إيمانها، يعني أنَّ الشافعية وغيرهم من الأشعرية يجوّزون أن يقول المسلم: أنا مؤمن إن شاء الله. وقال آخرون: يصحّ نكاحها - أي الشافعية - قياساً على الذمّية.(201) الى غير ذلك من الاُمور البعيدة عن روح الإسلام ولا يقرّها اُولئك الأئمة ولا يرضون بها.

وبهذا الاختلاف وقع من الفتن بين المختلفين في الفروع وفي الاُصول ما سوّد وجه التاريخ، وكدّر صفو الاُخوة، وذهب بجهود المصلحين أدراج الرياح، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.

وفي الحقيقة إنَّ مبعث ذلك إنّما هو حبّ الرياسة والأثرة، وشغب المتدخلين في صفوف المسلمين لإيقاظ نار البغضاء والحقد، ولو رجعنا إلى الواقع; نجد ذلك الشذوذ والتطرّف الذي ارتكبه المتعصّبون بعيداً كلّ البعد عن الدين.

ولم يكن الأمر ليصل الى هذا الحد من التطاحن والتفرق لولا الأخذ بأساليب الحكام والميل الى سبلهم في حماية أشخاصهم ومصالح ملكهم، وقد كان غلق باب الاجتهاد من تصرّفات الحكام بعد أن تمكّن غيرهم من توجيه الأحداث كما يشاؤون والتدخّل في معتقدات الناس وأفكارهم وحتى يأمنوا جانب العلماء خشية مضيهم على ما ركّبه الله فيهم من آلة العقل وأداة التفكّر فيقولوا أو يفتوا بما يضرّ الجور ويقف بوجه الظلم فأغلقوا الباب الذي كان يمكن أن يتسلل منه هذا الخطر وبذلك دخلت الاُمة في دور من الجمود والحجر ـ وصفنا جانباً منه في الأجزاء السابقة وسنأتي على صور منه فيما يأتي من أجزاء ـ ولم يخضع الشيعة لمثل هذه السياسة التعسّفية، وإنّما بقي للعقل مكانته فكيف تهمل الوسيلة من وسائل التدبّر والحكمة التي ـ بضبطها بقواعد الاستخدام الشرعية المستمدّة من الكتاب والسنّة ـ تنتج أحكام ليس فيها شطط الرأي ولا ميل الهوى ومن نتائج البعد عن العقل ومجافاة الصواب انقياد المسلم لما ارتأها الحكّام لمصلحتهم واتفقت الأدلّة على منافاته لروح الاُخوة الإسلامية.

وبعد أن مرّت تلك الأدوار وما فيها - وفي ذمّة التأريخ ذلك - فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى الوحدة والتفاهم، لرفع تلك الأشواك التي غرست في طريق التفاهم المسلم مع أخيه، لأنّا في مشاكل أمام خصوم الإسلام لا يحلّها إلا الاتحاد والرجوع إلى الأمر الأول، واتّباع أوامر الرسول (صلى الله عليه وآله) وتعاليم القرآن، وأخذ العلم من أهله، وأن نعرف الحقّ حقّاً فنتّبعه والباطل باطلاً فنتجنّبه، لنعيش عيش سعادة وهناء تحت ظلال الدين الحنيف.

وإلى الله نبتهل أن يجعل كلمة الإسلام هي العليا، وأن يجمع شمل المسلمين وينصرهم على خصومهم الذين يكيدون لهم ويسعون في تفريق كلمتهم، وما النصر إلاّ من عند الله.

(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَتَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)(202).

 

 

 (116) حجة الله البالغة ج1 ص153.

(117) الحوادث الجامعة ص216 - 217.

(118) ميدان الاجتهاد ص11.

(119) المناقب للمكي ج1 ص61 - 62، وانظر ج2 ص36 و 133 و 148 و 156.

(120) المناقب للكردري ج1 ص 191.

(121) تاريخ بغداد ج13 ص 366 وما بعدها والانتقاء لابن عبد البر ص271 ـ 298، 52 باب بعض ماذمّ به أبوحنيفة، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر وغيرها.

(122) حجة الله البالغة ج1 ص157.

(123) آداب الشافعي لأبي حاتم الرازي ص171 - 174.

(124) آداب الشافعي لابن أبي حاتم الرازي ص159 - 160، ومناقب الفخر ص101، ومناقب مالك، للزواوي ص10 - 12، وحلية الأولياء ج6 ص329 وطبقات الفقهاء ص42 وغيرها.

(125) طبقات الحنابلة ج1 ص247.

(126) طبقات الحنابلة ج2 ص151 - 152.

(127) تاريخ بغداد ج13 ص421 / 136.

(128) أبو شامة في مختصر المؤمل ص14 - 15.

(129) تفسير الرازي ج16 ص31، لم نعثر على هذا القول للرازي في تفسير هذه الآية ووجدناه في تفسير قوله تعالى آية 31 من سورة التوبة.

(130) هو شهاب الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المتولد في (596 هـ) المتوفى سنة(665هـ).

(131) التوبة: 31.

(132) مختصر المؤمّل للرد على الأمر الأول ص14 - 15.

(133) حجة الله البالغة ج1 ص52 و 53.

(134) الدين الخالص ج4 ص180.

(135) حجة الله البالغة ج1 ص152 - 153.

(136) الانتقاء ص140 .

(137) الوحدة الإسلامية ص97.

(138) ايقاظ همم ذوي الأبصار ص72 .

(139) الدين الخالص ج4 ص180.

(140) الأحكام لابن حزم ج6 ص 790، 860، مواهب الجليل للحطاب الرعيني ج4 ص 54، تهذيب التهذيب ج10 ص8.

(141) أعلام الموقعين لابن القيّم ج2 ص186.

(142) الدين الخالص ج4 ص182.

(143) أعلام الموقعين لابن القيم ج2 ص201.

(144) الموافقات ج4 ص288.

(145) الوحدة الإسلامية ص107.

(146) الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي: 4 / 287 - 288.

(147) مناقب الشافعي، للبيهقي ج2 ص143.

(148) أعلام الموقعين ج2 ص181.

(149) مختصر المؤمل ص35 .

(150) توالي التأسيس ص109، ط دار الكتب العلمية بيروت سنة 1406 هـ .

(151) البداية والنهاية ج9 ص327، وطبقات الحنابلة ج1 ص282، وآداب الشافعي لابن أبي حاتم ص95، وميزان الشعراني ج1 ص26 ومجموعة الرسائل المنبرية ج3 ص99.

(152) أعلام الموقعين ج2 ص263 .

(153) جلاء العينين للآلوسي ص105.

(154) أعلام الموقعين ج2 ص181.

(155) مختصر المؤمل لأبي شامة ص31.

(156) أعلام الموقعين ج2 ص182.

(157) الوحدة الإسلامية ص117.

(158) الإيقاظ للغلاف ص28.

(159) الدين الخالص ج4 ص373.

(160) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ج2 ص176.

(161) الوحدة الإسلامية للسيد محمد رشيد رضا ص37 .

(162) أعلام الموقعين ج2 ص168 - 181.

(163) ميدان الاجتهاد ص14.

(164) أعلام الموقعين ج2 ص260 - 394.

(165) المستصفى للغزالي ص342.

(166) موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم للتهاوني ج1 ص101، مادة الاجتهاد.

(167) الموافقات ج4 ص109.

(168) اُصول الفقه لمحمد الخضري ص369 .

(169) تاريخ التشريع الإسلامي ص424 - 426 .

(170) الأنبياء: 7 .

(171) النساء: 59.

(172) أخرجه أبو داود وابن ماجة عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم فقالوا: ما نجد لك رخصة، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبر بذلك، فقال : قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا . الحديث، سنن أبيداود ج1 ص85، مستدرك الوسائل ج2 ص 528 ح 2631.

(173) أعلام الموقعين ج2 ص185.

(174) أعلام الموقعين ج2 ص183.

(175) أعلام الموقعين ج2 ص179.

(176) أعلام الموقعين ج2 ص256 - 257 .

(177) الوحدة الإسلامية ص45 - 46.

(178) السيد جمال الدين بن صفتر أو (صفدر) الأسدآبادي "أسدآبادي" مدينة قرب همدان، ولد سنة (1254 هـ) (1838 م) وتوفي يوم الثلاثاء 9 مارس سنة (1897 م 1314 هـ) بالاستانة، وينتهي نسبه الى الحسين بن علي (عليهم السلام)، وعشيرته قوية في الأفغان، وهم محلّ احترام وتقدير الأفغانيين، ونشأ جمال الدين بينهم وسافر الى البلاد الإسلامية يدعو للاصلاح، ولقي أذىً كثيراً في سبيل ذلك. من أعلام النهضة ورجال الحرية، ترك منهجه واضحاً عند الكثيرين، وكان له الفضل في بعث روح الفكر وتجديد حركتها بالتصدّي للجمود والتعصّب.

(179) إبراهيم: 4.

(180) يوسف: 2 .

(181) الزخرف: 3 .

(182) خاطرات جمال الدين للمخزومي ص177 - 178.

(183) هو الشيخ محمد بن عبده خير الدين المتوفى 8 جمادى الاولى سنة (1333 هـ) (1905م) كان حامل لواء نهضة العلم في مصر، وهو تلميذ السيد جمال الدين الافغاني وله آثار قيمة وذكر جميل.

(184) أعلام الإسلام ص99.

(185) الوحدة الإسلامية 137.

(186) الوحدة الإسلامية ص45.

(187) يوم الإسلام ص189.

(188) الإمام الصادق(عليه السلام) والمذاهب الأربعة الجزء الأوّل ص253 ـ 258 .

(189) الموافقات ج4 ص137 - 141.

(190) القول السديد ص24 .

(191) حجة الله البالغة ج1 ص158.

(192) كتاب الاعتصام ج3 ص268.

(193) الموافقات ج4 ص135.

(194) بحثنا في الجزء السابع في سيرة أبي يوسف وافتائه بحسب رغبة المستفتي.

(195) الشافعي لأبي زهرة ص330.

(196) الشافعي لأبي زهرة ص334.

(197) هو منصور بن أحمد التميمي أبو المظفر السمعاني المتوفى سنة (489 هـ) بمرو كان حنفي المذهب فنشر المذهب الشافعي مدعياً : إنّ الله أمره بذلك في الرؤيا; إذ رأى ربّ العزّة المقام فقال له: عد الينا، فأوّل ذلك بأنه أراد مذهب الشافعي.

(198) طبقات الشافعية ج4 ص23 - 25 .

(199) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب ج1 ص22.

(200) ايقاظ همم ذوي الابصار : 76 .

(201) الوحدة الإسلامية ص145 - 146.

(202) آل عمران: 103.