مواقف الإمام في الحكم الأموي


مواقف الإمام في الحكم الأموي

قضى الإمام الصادق (عليه السلام) خمسين عاماً من عمره في العهد الاُموي ، أي من سنة (83 هـ) إلى سنة (133 هـ) وهي السنة التي زال فيها سلطان الاُمويين وقام على أنقاضه سلطان بني العباس.

ولقد شاهد حكم الأمويين في أيام عظمة سلطانهم ، وقوة نفوذهم ، ورأى تلك المعاملة القاسية التي عومل بها رجال الأمة ، وشاهد تلك الفجائع التي حلّت بالمسلمين ، من جراء التحكّم والاستبداد من دون وازع ديني أو خوف عقاب أخروي.

فكان يطرق سمعه بين آونة واُخرى قتل جماعة ممن عرفوا بالولاء لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)ومطاردة آخرين ، وتهبط عليه أنباء الفجيعة بزعماء أهل بيته ، الذين أراق الاُمويون دماءهم من غير أن تُراعى فيهم حرمة لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)فقد قتل زيد بن عليّ بالكوفة سنة (122 هـ) وصلب جسده عارياً منكوساً، وأجساد خواصه معه خمس سنوات ، ثم أحرق ونُسف في اليمّ.

ثم أردفوه بولده يحيى بن زيد ، كما شاهد نصب عينيه ما كابده جدّه الإمام زين العابدين من جور الاُمويين حتى قضى بالسم على أيديهم ، وكذلك أبوه الإمام الباقر(عليه السلام).

وشاهد ولاة المدينة يجمعون العلويين قريباً من المنبر ليسمعوهم شتم عليّ وتنقيصه.

وكانت تؤلمه أنباء جور الولاة وعسفهم بالحكم ، وما يوقعونه في الاُمّة الإسلامية. وإذا رجع إلى ذلك الماضي المحزن وما يبلغه من حديث تلك الحوادث المؤلمة كواقعة الطف التي هي نصب عينيه كأنه قد شاهدها ، وكان يعقد المجالس فينشده الشعراء رثاء جدّه الحسين (عليه السلام) فيها فيبكي ، فهي تمثّل له في كلّ آونة ، فيتوجّع لها قلبه ، ولكنّه يركن إلى الصبر.

وكذلك حديث يوم الحرّة وحديثها شجون ، فلا تزال آثار تلك الفاجعة باقية وإن طال العهد ، وشاهد أولئك الحكام الذين يحكمون باسم الخلافة الإسلامية وماهم منها بشيء ، فلا عدل في حكم ، ولا مساواة في حقّ، ولا نظام يضمن للناس حرّياتهم ، والاُمور إلى الفوضى أقرب منها إلى النظام.

عاش الإمام (عليه السلام) وسط ذلك الجوّ المضطرب بالفوضى والعبث والفساد والتلاعب بمقدرات الاُمة ، وهو (عليه السلام) يحس بآلام الناس أكثر من غيره ، فماذا يصنع وقد طوّقه الاُمويون برقابة شديدة ، وضربوا حوله دائرة ضيّقة ليحصروا نفوذه فيها.

ورغم ذلك كلّه راح(عليه السلام) يؤدي رسالته ليعالج إصلاح الوضع من طريق الهداية والإرشاد ونشر تعاليم الإسلام ، وإفهام الناس تلك النظم التي أهملها حكام عصره وجعلوها وراء ظهورهم ، وحكموا بلغة السيف وساسوا الاُمة بالإرهاب والقسوة.

ولم يستجب (عليه السلام) للدعوات التي تتوالى عليه ـ عندما أعلنت الثورة على الاُمويين ـ ليقود الثورة ويتقدّم الركب ، لأنّه على علم من نتائج تلك الحركات وهو أعرف بنفسيات زعماء الثورة وقادة الجيوش ، وهم إن ادعوا الولاء لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والانتصار لهم ، وطلب البيعة إلى الرضا منهم ، ولكن هناك غايات في نفوس القوم لا تتحقّق إلاّ بهذه الادّعاءات ، فرفض (عليه السلام) تلك الطلبات الموجهة اليه لعلمه بما وراء الأكمة من الخطر.

ولقد ابتعد (عليه السلام) عن ذلك المعترك وبذل لأبناء عمّه النصح بأن لا يزجّوا أنفسهم في ذلك الصراع ، وحذّرهم عاقبة الأمر التي لا تعود عليهم إلاّ بالخيبة، ولا يتحقق لهم هدف ما دام الوقت لم يأت ، والدخول في أمر قبل أن يستحكم مفسدة له ، وإنّ إعلان الثورة في ذلك الوقت لا يجدي نفعاً بل يؤدي إلى مزيد من التضحيات واتّساع شقة الخلاف والفرقة ، وهو يعرف نوايا العباسيين وما يطلبونه من وراء انضمامهم إلى جانب العلويين.

موقف الإمام في دعوة الخلال لبيعته 

ولمّا سبر أبو سلمة الخلال أحوال بني العباس وعرف نواياهم عزم على العدول عنهم إلى بني عليّ ، فكاتب ثلاثة من أعيانهم : جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) ، وعبد اللّه المحض، وعمرو الأشرف ، وأرسل الكتب مع رجل من مواليهم وقال له : اقصد أولا جعفر بن محمد الصادق ، فإن أجاب فأبطل الكتابين الآخرين وإن لم يجب فالق عبد اللّه المحض ، فإن أجاب فأبطل كتاب عمرو ، وإن لم يجب فالق عمرو.

فذهب الرسول إلى جعفر بن محمد (عليه السلام) أولا ، ودفع اليه كتاب أبي سلمةفقال (عليه السلام) :مالي ولأبي سلمة وهو شيعة لغيري ، فقال له الرسول : اقرأ الكتاب فقال الصادق لخادمه : أدن السراج ، فأدناه ، فوضع الكتاب على النار حتى احترق ، فقال الرسول : ألا تجيبه ؟ قال : قد رأيت الجواب.

ثم مضى الرسول إلى عبد اللّه المحض ، ودفع اليه الكتاب ، فقرأه وقبله وركب في الحال إلى الصادق (عليه السلام) وقال : هذا كتاب أبي سلمة يدعوني فيه إلى الخلافة ، قد وصل إليّ على يد بعض شيعتنا من أهل خراسان.

فقال الصادق (عليه السلام) : ومتى صار أهل خراسان شيعتك ؟ أأنت وجهت اليه أبا مسلم ؟ هل تعرف أحداً منهم باسمه ؟ فكيف يكونون شيعتك وأنت لا تعرفهم وهم لا يعرفونك ؟!!

فقال عبد اللّه : كان هذا الكلام منك لشيء.

فقال الصادق (عليه السلام) : قد علم اللّه أني أوجب النصح على نفسي لكلّ مسلم ، فكيف أدخره عنك ! فلا تمنّ نفسك ، فإنّ هذه الدولة ستتم لهؤلاء(56) ـ يعني بني العباس ـ.

ودخل عليه سدير الصيرفي فقال : يا أبا عبد اللّه ما يسعك القعود.

فقال(عليه السلام): ولِمَ يا سدير ؟ قال : لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك.

فقال : يا سدير، وكم عسى أن يكونوا ؟ قال : مائة ألف. قال : مائة ألف ؟ قال : نعم، ومائتي الف. فكان الجواب من الإمام بما حاصله عدم الركون لهذه الكثرة لقلة المخلصين منهم وعلمه بالعواقب(57).

إخباره بصيرورة الأمر لبني العباس 

ولما بايع الهاشميون محمد بن عبد اللّه بن الحسن، قال لهم الإمام الصادق(عليه السلام) : لا تفعلوا فإنّ الأمر لم يأت بعد ، وضرب بيده على ظهر أبي العباس السفاح ، ثم ضرب بيده على كتف عبد اللّه بن الحسن وقال : واللّه إنّها ماهي إليك ـ أي الخلافة ـ ولا إلى ابنيك ، ولكنّها لهم ـ أي لبني العباس ـ وإنّ ولديك لمقتولان. ثم نهض وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال : أرأيت صاحب الرداء الأصفر ؟ ـ يعني المنصور ـ قال : نعم. قال : فإنّا واللّه نجده يقتله. فقال عبد العزيز : أيقتل محمداً ؟. قال : نعم ، قال : فقلت في نفسي حسده وربّ الكعبة. قال عبد العزيز : فو اللّه ما خرجت من الدنيا حتى رأيت المنصور قتلهما(58).

ولا زال الإمام الصادق (عليه السلام) يخبر بصيرورة الأمر لغير آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولا زال يقول : إنه صائر لبني العباس.

روى علي بن عمرو عن ابن داحة أنّ جعفر بن محمد قال لعبد اللّه بن الحسن ـ وكان السفاح والمنصور معهما ـ : إنّ هذا الأمر واللّه ليس اليك ولا إلى ابنيك وإنّما هو لهذا ـ يعني السفاح ـ ثم لهذا ـ يعني المنصور ـ ثم لولده من بعده لا يزال فيهم حتى يؤمّروا الصبيان ويشاوروا النساء ، وإنّ هذا ـ يعني المنصور ـ يقتله على أحجار الزيت(59) ثم يقتل أخاه بعده ، ثم قام مغضباً يجرّ رداءه فتبعه المنصور.

فقال : أتدري ما قلت يا أبا عبد اللّه ؟ قال : أي واللّه أدريه وإنّه لكائن.

وعلى أيّ حال فإنّ الإمام الصادق (عليه السلام) قد مرّت عليه أخطار هائلة وفجائع مؤلمة وقد تلقاها بقلب مؤمن باللّه ملتجئاً اليه سبحانه وتعالى في جميع اُموره، مخلصاً له في دعوته لا تأخذه في الحقّ لومة لائم ، ولا يقعد به عن أداء رسالته خوف ظالم ، وقد خاض غمار تلك الأخطار بثبات قلب ورأي سديد وحكمةبالغة.

وقد اختطّ لنفسه طريقاً سار فيه إلى الدعوة وتأدية الرسالة ، وأمر أصحابه بالثبات والعمل بما يدعون اليه من تطبيق نظام الإسلام ، وأمرهم بالدعوة الصامتة وقد عرف حاجة المجتمع إلى الالفة ، وإزالة رواسب الخلافات وحمل الناس على تطبيق مبادئ الإسلام ليوجد من المجتمع الإسلامي قوة متكاتفة تصرخ في وجوه الظلمة ، وتحملهم على الاعتدال في السيرة والعدل في الحكم، والمساواة في الرعية ، وسيأتي مزيد بيان لهذا الموضوع، كما تقدمت الإشارة اليه في الجزء الأول.

موقفه من الحركات الفكرية 

هذا من ناحية الموقف السياسي. أمّا ما يتّصل بالحياة الاجتماعية والعقائد الدينية فكان الأمر أدهى وأمر ، فقد صحبت تلك العاصفة السياسية تيّارات فكرية جارفة ، وهزات إلحادية قوية ، وتطور غريب في النزعات والاتجاهات أقلق بال حماة الشريعة والذائدين عن حوضها ، وحدثت عصبيات جاهلية ذميمة ، وقد نهض الإمام الصادق(عليه السلام)لمقارعة أهل الباطل ، وباحث الفلاسفة والدهريين ، وأهل الكلام الجدليين ، الذين تصدّوا لإفساد معتقدات الناس فأبطل بنور حكمته مقالاتهم الفاسدة وسفسطتهم الفارغة(60) ، فنبههم عن غفلتهم وأيقظهم من رقدتهم ، وأوضح لهم اعوجاج مذاهبهم والتواء سبلهم ، ودعاهم إلى كلمة الحقّ، وجادلهم بالتي هي أحسن ، وناقشهم بالبرهان الساطع وقد احتفظ التاريخ بكثير من تلك المناظرات ، كمناظرته في التوحيد مع الزنديق الذي قدم من مصر ، واسمه عبد الملك ليناظر الإمام، فناظره حتى آمن قلبه ، واطمأنت نفسه بعد الزيغ والارتياب ، وطلب من الإمام تعليمه وإرشاده، وقال : اجعلني من تلاميذك، فقال الصادق لهشام، خذه إليك فعلّمه(61).

وجاء إليه زنديق آخر وسأله عن أشياء : منها أنّه قال له : كيف يُعبد اللّه ولم يُر ؟ فقال أبو عبد اللّه : رأته القلوب بنور الإيمان ، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان ، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف من عظمته دون رؤيته. إلى آخر المناظرة(62).

وكان الجعد بن درهم من الزنادقة يضلّ الناس ويغويهم وقد جعل في قارورة تراباً وماءً فاستحال دوداً وهواماً فقال : أنا خلقت هذا ، لأني كنت سبب كونه.

فبلغ ذلك جعفر بن محمد (عليه السلام) فقال : ليقل كم هو، وكم الذكر والإناث إن كان خلقه وليأمر الذي يسعى إلى هذا أن يرجع إلى غيره. قال ابن حجر : فبلغه ذلك فرجع(63).

وله مناظرات مع عبد الكريم بن أبي العوجاء(64) وأصحابه وغيرهم من الزنادقة ، فكان جوابه الفصل والحكم العدل ، وستأتي الاشارة إلى تلك المناظرات في باب احتجاجاته.

موقفه من حركة الغلاة

وإنّ من أعظم المشاكل على الإمام الصادق (عليه السلام) وأهمّها عنده هي حركة الغلاة الهدامة الذين تطلّعت رؤوسهم في تلك العاصفة الهوجاء إلى بثّ روح التفرقة بين المسلمين ، وترعرعت بنات أفكارهم في ذلك العصر ليقوموا بمهمة الانتصار لمبادئهم وأديانهم التي قضى عليها الإسلام ، فقد اغتنموا الفرصة في بثّ تلك الآراء الفاسدة في المجتمع الاسلامي ، فكانوا يبثّون الأحاديث الكاذبة ويسندونها إلى حملة العلم من آل محمد ليلبسوا مبدأهم الصحيح ثوباً لا يليق به ، ويسندوا إليه ما ليس منه ، فكان المغيرة بن سعيد(65)يدّعي الاتصال بأبي جعفر الباقر (عليه السلام) ويروي عنه الأحاديث المكذوبة ، فأعلن الإمام الصادق (عليه السلام) كذبه والبراءة منه ، وأعطى لأصحابه قاعدة في الأحاديث التي تروى عنه فقال : لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسنة ، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة ، فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه اللّه دسَّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها فاتّقوا اللّه ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقال (عليه السلام) : «لعن اللّه المغيرة بن سعيد ولعن يهودية كان يختلف اليها...» الخ .(66)

فكان (عليه السلام) يهتمّ أشدّ الاهتمام بأمر الغلاة ، لأنّ بعضهم ادّعى أنّ جعفر بن محمد إله ـ تعالى اللّه عن قوله ـ فعظم ذلك على الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام)وحاول أن يقدر عليه فلم يقدر ، فأعلن لعنه والبراءة منه ، وجمع أصحابه وأعلمهم بذلك وكتب إلى جميع البلدان بكفره ولعنه والبراءة منه(67).

وقد أعلن (عليه السلام) براءته من الغلاة ويقول لأصحابه : لا تقاعدوهم ولا تواكلوهم ، ولا تشاربوهم ، ولا تصافحوهم ، ولا توارثوهم. ولما قتلوا بالكوفة قال (عليه السلام) : لعن اللّه أبا الخطاب ولعن اللّه من قُتل معه ولعن اللّه من دخل قلبه رحمة لهم ، وكان يقول على أبي الخطاب لعنة اللّه والملائكة والناسأجمعين.(68)

وقال لأبي بصير : يا أبا محمد، ابرأ ممن يرى أنّنا أرباب. فقال أبو بصير : أنا بريء إلى اللّه منه ، قال : ابرأ ممن يزعم أنّنا أنبياء. فقال : أنا بريء منه إلى اللّه.(69)

وقال (عليه السلام) : من قال بأنّنا أنبياء فعليه لعنة اللّه ، ومن شكّ في ذلك فعليه لعنة اللّه.(70)

وله كثير من هذه الأقوال التي أظهرها للملأ في محاربة تلك الفئة الزائغة وحثّ الناس على مقاومتهم ، وكان يقول : ليس لهؤلاء شيء خير من القتل. ولم يكد يعلن (عليه السلام) على الملأ براءته حتى أحدث ذلك صدعاً في صفوفهم وفرّق كلمتهم ، وعرف الناس نواياهم وما يقصدون في إظهار تلك العقائد الفاسدة ، فمزّق اللّه شملهم وأباد جمعهم ، ولم يُبق لهم أثراً في الوجود.

وعلى أيّ حال فإنّ عصر الإمام من أهمّ العصور ففيه من المشاكل مالم تكن في غيره ، ولا يسعنا التفصيل لجميع تلك المشاكل، وسيأتي مزيد بيان لتلك الأوضاع كما سنتعرّض إلى بعض مناظراته مع أهل الفرق وجميع أهل الأهواء والآراء الفاسدة ، وهو يدعوهم بدعوة الحق، لاتّباعه فكان لكلامه أثر في تفنيد آرائهم وإبطال أقوالهم.

ومهما يكن من أمر فإنّ مشكلة الغلاة في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) كانت من أهمّ المشاكل الاجتماعية ، التي واجهها (عليه السلام) ونبه المسلمين على نوايا أولئك الأفراد الذين قاموا بنشاط معاد للإسلام في تلك الحركات الفكرية في عصر ازدهار العلم وانطلاق الفكر.

وقد أعلن ـ كما تقدّم وسيأتي فيما بعد ـ الحرب عليهم وأمر أتباعه بمقاطعتهم والتبري منهم ، مما أدّى إلى كشف الستار عن نواياهم السيئة ، وإظهار مقاصدهم الخبيثة إلى الرأي العام ، فوئدت حركاتهم في مهدها ، ولم يبق إلا نقل أقوالهم في بطون الكتب.

وسنرى في الأبحاث القادمة كيف ارتكب بعض الكتّاب جناية العمد لهضم الحقيقة ، في الابتعاد عن نزاهة البحث بتعصّبهم الأعمى عندما راحوا يربطون بين الحاضر والماضي ، ويقيمون هياكل وهمية ، ويبتدعون أسماء فرق بلا مسمّيات وينسبونها إلى الشيعة بما لا يتلاءم وواقع الحقيقة والعقل.

وليس من شك بأنّ تلك التهجّمات إنّما كانت لأغراض سياسية بحتة وليس للعلم فيها دخل ، وهي من وحي التعصّب ونسج الخيال ، كما أشرنا اليه سابقاً ونتعرّض له فيما بعد.

 

تلامذته ورواة حديثه

 

توجيهه الاُمة الى الشعور بالمسؤولية

كانت المدينة المنوّرة مأهولة بالصحابة والتابعين ، زاخرة برجال الاُمّة، تنتظم فيها حلقات الفقه ، وتكثر عليها الوفود من أطراف البلاد ومختلف الأقطار ، ويتخرّج منها حفّاظ الحديث والفقهاء ، لأنّها دار هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وموطن الشرع ومبعث النور ، وعاصمة الحكم الإسلامي الأول ، وهي مهد السنن والمرجع للاُمّة ومعدن العلم والفقه ، ولها المكانة السامية ، وفيها أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته «الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً» فهم حملة العلم وأعلام الأنام وحكّام الإسلام(71) ، قوم بنور الخلافة يشرقون وبلسان النبوة ينطقون(72).

وفي هذا البلد الطيّب والبيت الطاهر ولد أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام) ونشأ في بيت النبوّة ، ودرج في ربوع الإيمان ، ونهض (عليه السلام) لأداء رسالته في نشر تعاليم الإسلام من دار الهجرة ومهبط الوحي ومعدن الرسالة.

وكانت مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) ثابتة المبدأ متّصلة الكفاح ، وجد الناس فيها ثروة علمية ، وكانوا يحيون فيها حياة فكرية تهذّب النفوس وتسمو بالعقول ، وترتقي بهم إلى أوج المعرفة والكمال.

وكان(عليه السلام) غرضه المباشر هو توجيه الناس إلى أسمى درجة من التفكير ، وإفهام الاُمة نظم الإسلام على الوجه الصحيح ، وتطبيقه بين أفراد الاُمة من طريق العلم وحريّة التفكير ، ليعالج مشاكل ذلك المجتمع بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويدعو الناس من طريق الهداية والإرشاد إلى التمسّك بتعاليم الدين ، وتطبيق تلك النظم التي أهملها الحكام وجعلوها وراء ظهورهم.

وازدهرت المدينة المنوّرة في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) ، وزخرت بطلاب العلم ووفود الأقطار الإسلامية ، وانتظمت فيها حلقات الدرس ، وكان بيته كجامعة إسلامية يزدحم فيه رجال العلم وحملة الحديث من مختلف الطبقات ، ينتهلون موارد علمه ويقتبسون من ضياء معرفته ، وقد اغتنموا تلك الفرصة فازدحموا عليه يسألونه إيضاح ما أشكل عليهم «فحمل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر ذكره في جميع البلدان» (73).

وازدحم على بابه العلماء واقتبس من مشكاة أنواره الأصفياء ، وكان متّجهاً إلى العمل بما يرضي اللّه لا يفتر عن ذكره ولا ينفكّ عن طاعته.

يحدّثنا مالك بن أنس ، وهو تلميذ الإمام تردّد عليه زماناً طويلا قبل أن تفصل بينهما عوامل الدولة ، وتحوّل وجهة نظر مالك عن الإمام عندما رفعت من مقامه ، وأعلت من شأنه ، ووجهت الأنظار اليه طوعاً أو كرهاً رهبة أو رغبة يقول : ولقد كنت أرى جعفر بن محمد (عليه السلام) وكان كثير التبسّم ، فإذا ذكر عنده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اصفرّ لونه ، وما رأيته يحدّث عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ على طهارة. ولقد اختلفت اليه زماناً فما كنت أراه إلاّ على ثلاث خصال : إمّا مصلّياً، وإما صامتاً ، وإما يقرأ القرآن ، ولا يتكلم بما لا يعنيه ، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون اللّه(74).

وفي رواية الحافظ النيسابوري : وكان كثير الحديث طيّب المجالسة كثير الفوائد ، فإذا قال : قال رسول اللّه اخضر مرّةً واصفر اُخرى حتى ينكره من يعرفه. ولقد حججت معه فلما استوت به راحلته عند الإحرام انقطع الصوت في حلقه وكاد يخرّ من راحلته.

ولو اطلعنا على أخبار الإمام الصادق ومناظراته لعلمنا حقيقة واقع ذلك العصر في جانبه الديني وحياته الفكرية، فهو عصر شهد تلاقح الأفكار والتقاء الآراء في اطار المجتمع الإسلامي الواسع الذي انضمّ إليه طوائف من أديان سابقة وشعوب من حضارات اُخرى، وقد استهوت مناهج هؤلاء وطرقهم عقول بعض المسلمين فتوغلوا في تقليدها وتوسّعوا في مجاراتها، فكان أن اختلّ ثبات الرأي وضوابطه المعروفة، وأقحموا أنفسهم في مغاليق ومبهمات عمد الإسلام الى إيضاحها وبيانها في مسائل التوحيد والإيمان وعموم الأحكام غير أنّهم مالوا الى بهرج اللفظ والصياغة وظنّوا أنّ تغيير وسائل القول وألوان الكلام سيكتب لهم المنزلة السامية والمكانة العليا فكيف وقد تعمّدوا ما لا يؤمن نتيجته؟ واتخذوا من المناهج ما يقتضي تكلّفاً يبعد عن وضوح المعهود وجلائه.

وهنا برز الإمام الصادق في خضم معترك فكري وديني، ولولا خصائص الإمامة ونور النبوة الذي يفيض من منطقه لما تمكّن بشر من القيام بتلك المهمات والمسؤوليات الجسام، فكان(عليه السلام) يتصدى للأفكار التي تمسّ العقيدة وتؤثر في الدين، وكان يتحرى أقول الآخرين ويناظر أصحاب الدعوات والآراء والكلّ يلجأ إليه لما اشتهر به من علم، وقد كان(عليه السلام) في موجات هذا الخضم لا ينسى كيف يصون نفسه من الحكام ويجنب شيعته الأذى وهو يعدّهم إعداداً متميزاً ويوجههم توجيهاً هادفاً.

وقد كان منهم نخبة يلازمونه ويختصون به وقد وكّل إليهم الإمام الصادق كثيراً من المهام الاجتماعية وعهد إليهم بأدوار دينية ودفع بهم الى واقع الاُمة وكل منهم لديه ذخيرة من التعاليم والآداب الدينية.

وفي تلك الفترة كانت مدرسته(عليه السلام) تقوم على قاعدة علميّة كبرى تتفرع منها بقية العلوم التي يتلقاها الطلاب، فربط(عليه السلام) ضروب النشاط العلمي في مجمع مدرسته ومنتداها بالتوحيد والإيمان، وجعل من وجوب المعرفة بالله أصلاً لذلك، فكان يملي على أصحابه وطلابه قائلاً: وجدت علم الناس كلّهم في أربع: أولها أن تعرف ربّك، والثاني أن تعرف ما صنع بك، والثالث أن تعرف ما أراد منك، والرابع أن تعرف ما يخرجك عن دينك.

ولا نريد أن نشير الى أغلب جوانب الحركة الفكرية في مدرسة الإمام الصادق، لأنّ ذلك سيتوزع على أجزاء الكتاب فنعاود ذكرها وبحثها لكنّا نؤكد على بنائها والاهتمام العالي في منهجها وإشراف الإمام الصادق على نشاطها ومباشرة مهماتها بنفسه، وقد أصبح لمنهجها ورجالها شهرة في أرجاء العالم الإسلامي واختلف إليها طلاب العلم على تباين مقاصدهم، وكان الإمام يجيب كلّ من يسأله مراعياً اهتمامات السائل ومقاصده.

عن يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فورد عليه رجل من أهل الشام فقال له: إنّي رجل صاحب كلام وفقه وفرائض وقد جئت لمناظرة أصحابك.

قال له أبو عبدالله: كلامك هذا من كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله) أو من عندك؟ فقال: من كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومن عندي بعضه، فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): فأنت إذن شريك رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ قال: لا، قال: سمعت الوحي عن الله؟ قال: لا، قال الصادق(عليه السلام): فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ قال: لا، فالتفت أبو عبدالله إليّ فقال: يا يونس ابن يعقوب، هذا قد خصم نفسه، ثم أمر(عليه السلام) بعضاً من أصحابه ورجال مدرسته بأنْ يكلّموا الرجل(75) فانعقدت مناظرة ستأتي تفاصيلها حسب البحث إن شاءالله.

حثّه على التجارة وطلب الرزق

كان الحلقات التي تعقد في مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) هي الصعيد الذي تنطلق عليه تعاليم الإمام وإرشاداته ، فكان يزرع الفضيلة في النفوس ويغرس الخير فيها.

وكان حديثه (عليه السلام) يشمل كلّ اُمور الحياة وجوانبها ، فهو يهدف إلى تصفية الغرائز ويرسم طريق الصلاح والهداية ويوضح للناس سبل الخير.

وجعل هدفه الأسمى في توجيه الناس إلى الورع عن محارم اللّه والخوف منه ، والامتثال لأوامره ، والشعور بالمسؤولية أمام اللّه تعالى وجعل يوم الحساب ماثلا أمام أعينهم للمحافظة على القيم الروحية، وليرفع من مستوى أخلاقهم، وكان(عليه السلام) يرمي الى تشجيع روح العمل والقيام بواجبات المعاش لتكون شخصية المسلم تجمع بين زاد المعاد بالإيمان الخالص وزاد المعاش بالكسب الحلال. وكان يسمّي التجارة ودخول السوق بالعز، كما يحدثنا المعلّى بن خنيس، قال: رآني أبوعبدالله وقد تأخرت عن السوق، فقال لي: اغدُ الى عزّك. وقال لآخر وقد ترك غدوه الى السوق: مالي أراك تركت غدوك الى عِزّك؟! قال: جنازة أردت أحضرها. قال: فلا تدع الرواح الى عزّك. وقال لمعاذ بياع الأكيسة عندما ترك التجارة: لا تتركها فإن تركها مذهبة للعقل، اسع على عيالك وإياك أن يكونوا هم السعاة عليك. وسأل عن رجل من أصحابه، فقال: ما حبسه عن الحج؟ فقيل: ترك التجارة وقلّ شيئه، فاستوى الإمام جالساً وكان متكئاً، ثم قال: لا تدعوا التجارة فتهونوا; اتّجروا بارك الله لكم. وقال معاذ: قلت لأبي عبدالله: إنّي هممت أن أدع السوق، فقال: إذاً يسقط رأيك ولا يستعان بك على شيء(76)

فهو بهذه التعاليم القيّمة يبعث في نفوس أصحابه إلى طلب المعاش ليوجد منهم ذوي نفوس لا تخضع لذي ثروة ، ويحتفظون بكرامتهم عن الخضوع له والاستغناء عنه ، وليكونوا ذوي قدرة على الإنفاق عن سعة لمساعدة ذوي العسرة وأهل الضنك من المؤمنين. ولما كان حبّ المال يؤدّي إلى الانصراف عن قيم الحياة الرفيعة ، ويدعو صاحبه إلى العناء والاستغراق في جمعه والانشغال به ، نبه على ذلك بقوله : ليكن طلبك للمعيشة فوق كسب المضيع ودون طلب الحريص الراضي بدنياه المطمئن اليها ، انزل نفسك من ذلك بمنزلة المنصف المتعفّف ، وترفّع بنفسك عن منزلة الواهن الضعيف، وتكسب ما لابد منه للمؤمن. ثم يحدثهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما يرويه عن آبائه في الإجمال بالطلب وعدم الاستغراق في حبّ المال.

ولمّا كان الاقتصاد في المعيشة أقوى عامل للتوفير وزيادة الثروة ، فلم يهمل هذه الناحية بل نبّه عليها بقوله(عليه السلام): «إنّ السرف يورث الفقر ، وإن القصد يورث الغنى».(77)

دعوته الى العمل

وكان يحثّ على العمل ويعمل بنفسه ولا يحتقر ذلك ، لأنّ تكريم الإنسان في عمله ، فهو (عليه السلام) قد حثّ على العمل قولا وفعلا. وقد تظافرت الأخبار بأنّه كان يعمل بيده ويتّجر بماله.

يحدّثنا أبو عمر الشيباني ، قال : رأيت أبا عبد اللّه الصادق ـ وبيده مسحاة يعمل في حائط له والعرق يتصبب ـ ، فقلت : جعلت فداك أعطني أكفك ، فقال لي : إنّي أحبّ أن يتأذّى الرجل بحرّ الشمس في طلب المعيشة.(78)

ويقول إسماعيل بن جابر : أتيت أبا عبد اللّه وإذا هو في حائط له ، وبيده مسحاة وهو يفتح بها الماء...(79)

وعن الفضل بن قرة قال : دخلنا على أبي عبد اللّه في حائط له ، وبيده مسحاة يفتح بها الماء وعليه قميص... وكان يقول إنّي لأعمل في بعض ضياعي ، وإنّ لي من يكفيني ليعلم اللّه عزّ وجلّ أني أطلب الرزق الحلال.(80)

وكان (عليه السلام) يشجّع على العمل ويحثّ عليه ، لأنّه يرى أنّ الكسالة تؤدّي الى الحطّ من كرامة المرء ، وتقذف به في حضيض الهوان. فإنّ الإسلام يرشد بتعاليمه الى الجدّ وطلب المعيشة في الدنيا ، كما أرشد الى العمل وطلب الجزاء في الآخرة.

ولقد وهب اللّه للإنسان في عقله وجسمه قدرة يطرق بها أبواب الخير في رزقه ، فلا يصحّ له أن يذر اعمال تلك القوة ويسأل الرزق بلسان العاجز الكسلان.

وقد ورد في الحديث : «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً»(81)

فالعمل في الإسلام ضمن قواعده المهمة ، ولم يرض للمسلم البطالة والكسل ، حتى ورد في الحديث «ملعون ملعون من ألقى كلّه على الناس(82)، ملعون ملعون من ترك من يعول به» (83)

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : ما غدوة أحدكم للجهاد في سبيل اللّه بأعظم من غدوة من يطلب لولده وعياله ما يصلحهم.(84)

وقال (عليه السلام) : الشاخص في طلب الحلال كالمجاهد في سبيل اللّه(85). الى غير ذلك من شدّة الاهتمام بطلب الحلال. فكان الإمام الصادق (عليه السلام) كثيراً ما يلقي على تلامذته تلك الدروس القيّمة ويحثّهم على العمل والجدّ، وينهاهم عن البطالة التي تخمد جذوة الفكر ، وتعوّد الجسم على العجز ، وتميل به عن الاعتدال ، وتسقطه في المجتمع من عين الاعتبار. ولقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «إني لأرى الرجل فيعجبني ، فأقول : أله حرفة ؟ فإن قالوا: لا. سقط من عيني».(86)

ولذلك قال الإمام الصادق (عليه السلام) لمعاذ عندما أراد ترك العمل والتجارة : إذاً يسقط رأيك ولا يستعان بك على شيء.

وبعد أن دعاهم (عليه السلام) الى العمل قولا وفعلا بيّن لهم قواعد مشروعة لما يصحّ الاكتساب به وما لا يصح ، وفصّل لهم أهمّ ما يتعلق بنظام الحياة الاجتماعية من حيث الكسب للمال ، وكيفية تملكة وانفاقه ، لأنّ المال وسيلة فعّالة في حياة الانسان ، فلابدّ من نظام يكفل بيان ذلك ، ونقتصر على بعض ما رواه الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول : أنّ سائلا سأل الإمام (عليه السلام) كم جهات معاش العباد التي فيها الاكتساب والتعامل بينهم ووجوه النفقات ؟ فقال (عليه السلام) :جميع المعايش كلّها من وجوه المعاملات فيما بينهم ممّا يكون لهم فيه المكاسب أربع جهات ويكون منها حلال من جهة وحرام من جهة.فأوّل هذه الجهات الأربع : الولاية ، ثم التجارة ، ثم الصناعات ، ثم الاجارة. والفرض من اللّه تعالى على العباد في هذه المعاملات الدخول في جهات الحلال ، والعمل بذلك الحلال منها ، واجتناب جهات الحرام.فإحدى الجهتين من الولاية ولاة العدل الذين أمر اللّه بولايتهم على الناس. والجهة الاُخرى ولاية ولاة الجور ، فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل وولاية ولاته بجهة ما أمر به الوالي العادل بلا زيادة ولا نقصان ، فالولاية له والعمل معه ، ومعونته وتقويته حلال محلل.وأما وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر وولاية ولاته، فالعمل لهم والكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام محرّم، معذب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير ، لأنّ كل شيء من جهة المعونة له معصية كبيرة من الكبائر ، وذلك أنّ في ولاية الوالي الجائر دروس الحقّ كلّه ، فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم إلاّ بجهة الضرورة ، نظير الضرورة الى الدم والميتة... ثم بيّن(عليه السلام) بقية المعاملات والمكاسب بما لا يتّسع المجال لذكره هنا.(87)

وقول الإمام الصادق من أعظم الأدلة على منهج أهل البيت في اعتزال الجائرين وحثّ الاُمة على الابتعاد عنهم حتى أنّ المكانة التي يحتلّها العمل في حياة المرء وما قام به الإمام(عليه السلام) من دعوة الى العمل قيّد حلّها وبيّن جهة الحرام منها إذا كانت مع الاعتراف بولايتهم والإقرار بشرعيتهم فالعمل على مثل هذه الحال حرام والكسب في ظلّ الولاية لهم حرام، فانظر الى مثل هذا التوجيه الذي يرمي الى الحفاظ على روح الشريعة في صورة المجتمع وهيكله، ويجعل الجور طارئاً والظلم قصيراً، لأنّ الاُمور لابدّ أن تعود الى وضعها.

وكذلك فإنّ الإمام(عليه السلام) يعرض الحالات الاجتماعية التي تكثر صورها ويصوّر حكم الدين فيها لكي يزيح عن الناس غشاوة الجهل ويدفعهم الى حال من التبصّر والمعرفة، فهو يقول للوليد بن صبيح عن الثلاثة الذين يُردّ دعاؤهم قال(عليه السلام): أحدهم له مال فأنفقه في وجهه فيقول: ياربّ ارزقني، فيقول الله عزّ وجل: ألم أرزقك؟ ورجل يجلس في بيته ويسعى في طلب الرزق ويقول: رب ارزقني، فيقول الله عزّ وجل: ألم أجعل لك سبيلاً الى الرزق؟ ورجل له امرأة تؤذيه، فيقول: يا ربّ خلصني منها، فيقول الله عزّ وجل: ألم أجعل أمرها بيدك؟

ولأصحاب النظريات الحديثة والمدافعين عن الطبقات الكادحة نقول: إنّ الإمام الصادق كان يصنّف أبواب المعاملات بعرض المسائل وأحكامها على تلامذته، فعن هشام بن الحكم في الحمّال والأجير أنّ الإمام الصادق قال: لا يجفّ عرقه حتى تعطيه أجرته.

وعن شعيب قال: تكارينا للإمام الصادق(عليه السلام) قوماً يعملون له في بستان له وكان أجلّهم الى العصر، فلما فرغوا قال (عليه السلام): يا شعيب اعطهم اُجورهم قبل أن يجفّعرقهم(88)

دعوته للاُلفة والاُخوة الإسلامية

وكان(عليه السلام) يدعو الى الاحتفاظ بالاُخوة الإسلامية ، ويدعو الى الاُلفة والتقارب ، وينهى عن التباغض والتباعد ، ويحاول تأليف القلوب بمختلف الطرق ، لأنّ الحبّ أقوى عامل لسعادة بني الانسان ، وبالحبّ ينتظم العالم، وهو القانون الطبيعي لكيان الحياة، ولذلك نجد روح الإسلام مفعماً بالمودة والإخاء والاخلاص والنصيحة، فكتاب الله وسنّة رسوله الكريم دعوة خالصة ونداء دائم، بالاُخوة وجمع الكلمة ونبذ الفرقة، والاعتصام بالدين، أما الكراهية فإنّها تبعث الشقاء وتثير الشحناء ، لأنّ عين الكراهة لا تبصر المحاسن بل تتطلع الى العيوب ، وان لم تجد فتقلب الحسن قبيحاً ، فلذلك نهى الشارع المقدّس عن الاُمور التي تثير العداء بين المسلمين ، وتخلّ بتماسكهم وتخلخل أوضاعهم وتخلق الاضطراب والنفرة، وتذهب الى أبعد حدود القلق، فكان من اُسس نظام الدين الإسلامي هي الاُخوة ، فلذا آخى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بين أصحابه ، وأمر المسلمين بالمؤاخاة. وقال تعالى : (إنّما المؤمنون إِخوة)(89)وجعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنوان الاخوة : أن تحبّ لاخيك ما تحبّ لنفسك، فإذا كنت تحبّ لأخيك الخير أحبّه لك(90) ، فكانت راحة نفسك من عاملين قويين.

وهكذا إذا كثرت الأسباب والدواعي ، واتّسع ميدان الإخاء ، فإذا كان المسلم يحب نفع أخيه كما يحبّه لنفسه ، فبالطبع إنّه لا يأتي منه ضرر ، فإذا أمن الإنسان ضرر أبناء جنسه ، فتلك هي السعادة ، وهل ترى مظهراً للمدنية الصحيحة أجلى من هذا المظهر؟ فاللّه سبحانه وتعالى رحمة بعباده جعل الاُخوة الإسلامية ليتم لهم نظام الحياة ، ويتعاونوا على البرّ والتقوى ، ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان.

لذلك كان الإمام الصادق (عليه السلام) يدعو بتعاليمه الى الاُخوة الإسلامية. ويحثّ على مساعدة الإخوان وقضاء حوائجهم.

قال صفوان الجمال : دخلت على أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) إذ دخل عليه رجل من أهل مكة يقال له ميمون فشكى اليه تعذّر الكراء عليه ، فقال لي (عليه السلام) : قم فأعن أخاك ، فقمت معه فيسّر اللّه كراه ، فرجعت الى مجلسي ، فقال أبو عبد اللّه : ما صنعت في حاجة أخيك ؟ فقلت : قضاها اللّه بأبي أنت واُمي ، فقال : أما إنك إن تعين أخاك المسلم أحبّ اليَّ من طواف اسبوع في البيت.(91)

وذلك لأنّ مساعدة الإخوان توجب المحبة والاُلفة ، وبهما تحصل المنافع العامة. وقد عالج الإسلام مشكلة الحبّ والكراهة ، وهما من أعظم المشاكل الاجتماعية ، فإنّ الحبّ إذا حصل في المجتمع فلا تجد هناك مشكلة من مشاكل الحياة الاجتماعية. والمحبّة تخمد جذوة الرذائل ، ومعنى هذا أنّ رذائل الشخص قلّما تصيب من أحبّه ، ومن ثم قيل : «العدالة خليفة المحبّة».

قال سقراطيس : لا يستطيع أحد من الناس أن يعيش بغير المودّة، وإن مالت اليه الدنيا ، فإن ظنّ أحد أنّ أمر المودّة صغير ، فالصغير من ظنّ ذلك.

ولنا في تعاليم الإمام الصادق (عليه السلام) وحكمياته ـ التي كان يلقيها على تلك المجموعة الوافرة من الناس في مدرسته ـ كفاية على إيضاح فوائد الحبّ في اللّه ومضار الكراهة ، فكان ينصح المسلمين ويحذرهم عاقبة التباعد والبغضاء، ولم يقتصر على القول في هدم عوامل الفرقة ، بل كان يسعى لذلك من طرق مختلفة ، حتى أنّه أقام بعض أصحابه وأمرهم أن يصلحوا المتخاصمين على شيء من حطام الدنيا من ماله الخاص.

يحدّثنا أبو حنيفة سابق الحاج ـ واسمه سعيد بن بيان ـ قال : مرّ بنا المفضل ابن عمر وأنا وختن لي نتشاجر في ميراث ، فوقف علينا ساعة ، ثم قال لنا : تعالوا الى المنزل ، فأتيناه ، فأصلح بيننا بأربعمائة درهم ، فدفعها إلينا من عنده حتى إذا استوثق كلّ واحد منا من صاحبه ، قال : أما إنّها ليست من مالي ، ولكنّ أبا عبد اللّه الصادق (عليه السلام) أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن أصلح بينهما وافتديهما من ماله ، فهذا مال أبي عبد اللّه(92).

سياسته تجاه الظلم والظالمين

لقد تسالمت العقول واتّفقت آراء العقلاء على قبح الظلم ، فهو من أعظم الرذائل ، كما أنّهم لم يجمعوا على تقدير فضيلة كإجماعهم على فضيلة العدل الذي هو أصل كلّ خير، والقلب النابض لجميع الفضائل ، ولا يخرج شيء من الفضائل عنه. فهو اسمى هدف يسعى الإسلام لتحقيقه ، ويأبى أن تهدمه رذيلة حبّ السلطة والتغلّب.

وكان الإمام الصادق (عليه السلام) ينهى عن الظلم ويحارب الظالمين ، ويأمر بالابتعاد عنهم وعدم التعاون معهم ، وأقواله في ذلك كثيرة ، فأصبحت نوراً تهتدي به النفوس ، ويتردد ذكرها على ألسنة العلماء من أقدم العصور ، وجاء ذكرها في اُمهات الكتب ، فهي نور ساطع في اُفق العقلية البشرية ، وقد سنّ قواعد مشروعة لمقاومة الظالمين ، وهي خير وسيلة لتقويض كيان الظلم ومحو دعائمه.

وكان أهلالبيت (عليهم السلام) يعظّمون على الإنسان إرتكاب العدوان علىالغير والظلم للناس، فقد جاء عن إمام أهل العدل أمير المؤمنين (عليه السلام) : «واللّه لئن أبيت على حسك السعدان مسهّداً أو اُجرّ في الأغلال مصفّداً أحب اليّ من أن القى اللّه ورسوله ظالماً لبعض عباده ، وغاصباً لشيء من الحطام».

ويقول : «واللّه لو اُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ، ما فعلت» (93) الى غير ذلك من تعاليمه وأحكامه.

وقد قام كلّ من أهل البيت (عليهم السلام) بما يجب عليه في نصرة العدل ومحاربة الظلم ، وقد بذلوا أنفسهم لتحقيق ما دعا إليه الإسلام بما يكفل للاُمة السعادة ، لذلك كانوا طعمة لسيوف الظالمين ; لأنّهم كانوا حرباً على الظلم ،وساروا في سياسة سلبية ازاء الحكام الظالمين ، فلم يركنوا إليهم ، ولم يتعاونوا معهم امتثالا لأمر اللّه تعالى : ( ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار )(94) ; وبهذا تحفظ الاُمة كرامتها ، وتكسب قوّة ورفعة ، بينما تضع الحكام الظالمين في مأزق يجعلهم في معزل عن الناس وابتعاد عن الرعية ، وبذلك تكون الاُمة قادرة على إرغام الحكام الظالمين على الاعتدال في السيرة والحكم في العدل.

يحدّثنا صفوان الجمال قال : دخلت على الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، فقال لي : يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ، خلا شيئاً واحداً.

قلت : جعلت فداك أيّ شيء ؟

قال : كراك جمالك من هذا الرجل ـ يعني هارون ـ.

قلت : واللّه ما أكريته أشراً ولا بطراً ، ولا للصيد ، ولا للهو ، ولكن أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكة ـ ، ولا أتولاّه بنفسي ، ولكن أبعث معه غلماني.

قال : يا صفوان أيقع كراك عليهم ؟

قلت : نعم جعلت فداك.

قال : أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراك ؟

قلت : نعم.

قال : فمن أحبّ بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم فهو كمن ورد النار. قال صفوان : فذهبت وبعت جمالي عن آخرها.(95)

وقد قام الإمام الصادق (عليه السلام) بدوره في عصره فأعلن للملأ أضرار الظلم ، لانّ كلّ فساد في الأرض وشق لعصى الطاعة ، واضطراب في نظام العمران إنّما يعود إلى الجور بين الناس ، بل إنّ كلّ قحط وجدب وضيق وضنك ، وجوع وخوف وبلاء وانتقام إنّما هو من ظلم العباد بعضهم بعضاً ، لذلك أمر الإمام الصادق (عليه السلام) بالابتعاد عنهم ، كما أبعد عنه المتقرّب اليه منهم وحرم الولاية لهم، لانّه يرى : «أنّ في ولاية الجائر دروس الحقّ كلّه، واحياء الباطل كلّه، واظهار الظلم والجور» (96) ، كما ورد عنه ذلك ، وكان يقول : العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء.

ودخل عليه عذافر فقال (عليه السلام) : بلغني انّك تعامل أبا أيّوب والربيع ، فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة ؟ ونهى يونس بن يعقوب عن معاونتهم حتى على بناء المساجد.(97)

وسأله رجل من أصحابه عن البناء لهم وكراية النهر ، فأجابه (عليه السلام) : «ما اُحبّ أن أعقد لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء ولا مدة بقلم ، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم اللّه بين العباد» (98)

وجاءه مولىً من موالي علي بن الحسين (عليه السلام) فقال له: جعلت فداك لو كلمت داود بن علي أو بعض هؤلاء فادخل في بعض هذه الولايات ; فقال له (عليه السلام): ما كنت لأفعل.فانصرف الى منزله متفكراً ، وقال ما أحسبه منعني إلا مخافة أن أظلم أو أجور ، واللّه لآتينه ولأعطينه الطلاق والعتاق والأيمان المغلظة أن لا أظلم أحداً ولأعدلن. قال فأتيته فقلت : جعلت فداك إنّي فكرت في إبائك عليّ، فظننت أنّك إنّما كرهت ذلك أن أجور أو أظلم ، وإن كلّ امرأة لي طالق وكلّ مملوك لي حرّ وعليّ وعليّ.. إن ظلمت أحداً أو جرت عليه ولم أعدل.

فقال (عليه السلام) : كيف قلت؟ فأعدت عليه الأيمان ، فرفع رأسه الى السماء فقال : تناول السماء أيسر عليك من ذلك(99)

وقد وردت عن أهل البيت أحاديث بجواز الولاية إذا كان فيها صيانة العدل واقامة حدود اللّه ، والإحسان الى المؤمنين ، والسعي في الاصلاح ، ومناصرة المظلومين ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر. فهناك أحاديث عن الأئمة(عليهم السلام) توضّح النهج الذي ينبغي أن يجري عليه الولاة والموظفون ، كما ورد في رسالة الإمام الصادق الى النجاشي أمير الأهواز(100).

وقوله (عليه السلام) : «إنّ لله في أبواب الظلمة من نوَّر اللّه به البرهان ، ومكّن له في البلاد ، فيدفع به عن أوليائه ، ويصلح به اُمور المسلمين» (101)

وقد أشرنا لنهجه الذي وضعه في سياسته التي سار عليها مدة حياته ، وهي السياسة السلبية التي أرادها للاُمة ، وقد مرّ تقسيمه للولاية : ولاية عدل ، وولاية جور ، وسن تلك القاعدة المشروعة في معاملة ولاة الجور في عصره.

يقول أحد رجال القانون(102) في بيان تلك القاعدة عند تعرّضه لرأي الإمام السياسي في عدم المعاونة مع اُمراء عصره :

إنّ الإمام (عليه السلام) قد سنّ قاعدة مشروعة للسياسة السلبيّة ، وهي ما يسمّونها اليوم باللغة السياسية بالعصيان المدني أو سياسة عدم التعاون مع حكومة أو دولة لا تحترم الحقوق ، أو تسيء التصرّف ، فتعبث بحرمة قانونية المعاهدات والمواثيق ، أو تتحدّى قدسية الدساتير ، وحقوق الاُمة المشروعة ، الى غير ذلك من وسائل الظلم ، وذرائع الباطل التي تتوسل بها الحكومات الغاشمة والدول القوية المستعمرة ، وحكام الاستبداد والفساد في سبيل الغايات الخبيثة الدنيئة.

فالإمام الصادق (عليه السلام) قد أوجب على الأفراد عدم التعاون مع ولاتهم الجائرين على اختلاف درجاتهم ومناصبهم من أعلاهم الى أدناهم ، وحرّم عليهم العمل لهم والكسب معهم ، وحذّر وأوعد الفاعل لذلك بالعذاب لارتكابه معصية كبيرة من الكبائر ، لأنّ في بذل المعونة للوالي الجائر إماتة الحقّ كلّه واحياء الباطل كلّه ، وفي تقويته اظهار الظلم والجور والفساد وسحق السنن وطمس الشرائع ـ والعياذ باللّه ـ ولا نريد أن نكثر القول في شرف هذه القاعدة للسياسة السلبية وفي فوائد حكمتها ، وهذه القاعدة الوحيدة الناجعة لعلل السياسة الفاسدة واوبائها المهلكة. وليس للأحرار المصلحين في كلّ أمة قاعدة اُخرى يلجأون اليها في إكراه المستبدين والمستعبدين والمستهترين بحقوق الاُمة للخضوع الى إجابة رغبات الشعب وتحقيقها وتطبيق القوانين وخدمة العدل واحترام الحقّ، إلا اتباع هذه القاعدة المثالية في السياسة السلبية. ولا يقوى على انتهاج هذه الخطّة القويمة إلاّ أصحاب القلوب العامرة بقوّة الإيمان ، وأرباب النفوس الملتهبة بحرارة العقيدة الصحيحة الصلبة ، وأهل الصبر على تقديم القرابين الغالية من أرواحهم الطاهرة في سبيل حريّات الرعية وصيانة حقوقهم من جور الجائرين واعتسافهم. فهل بعد هذا العلاج الشافي من علاج يستعمله الإمام الصادق (عليه السلام) لمداواة السياسة الاُموية والعباسيّة المريضة في روحها ودماغها ؟ ـ اللّهم لا ـ حتى إذا وجد المعين والنصير ، فكيف إذا لم يكن هذا وذاك؟

والظلم في جميع أنواعه قبيح عقلا وشرعاً ، ولم ينحصر الظلم في الولاية بل هو عامّ لجميع أنواع المعاملات التي تقع خلاف الحقّ، وفي ذلك أحاديثكثيرة.

روي عن أبي حمزة عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) قال : «أما إنه ما ظفر بخير من ظفر بالظلم ، أما إن المظلوم يأخذ من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم» ثم قال : «من يفعل الشر بالناس فلا ينكر الشر إذا فعل به» (103)

وقال : «من أكل من مال أخيه ظلماً ولم يردّه اليه ، أكل جذوة من النار يوم القيامة» (104)

وكان يوصي أصحابه بقوله : إيّاكم أنّ تعينوا على مسلم مظلوم فيدعو عليكم فيستجاب له فيكم، فإنّ أبانا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول : إن دعوة المسلم المظلوم مستجابة وليعن بعضكم بعضاً ، فإنّ أبانا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول : معونة المسلم خير وأعظم أجراً من صيام شهر ، واعتكافه في المسجد الحرام ، وقال : من أعان ظالماً على مظلوم لم يزل اللّه عليه ساخطاً حتى ينزع عن معونته(105).. إلى غير ذلك من تعاليمه وإرشاداته.

عِزّة النفس

هي إكرام المرء نفسه ووضعها في مرتبتها ، ورفعة المنزلة من السعادة التي يجدها الشخص في هذا العالم ، وسبب رفعة المنزلة إنّما هي الأعمال المختلفة التي يقوم بها المرء تبعاً لما توحيه اليه نفس عزيزة تنزع الى الرفعة والسموّ، فيضع نفسه في موضعها ، ويباشر ما يليق بشأنه ; والتعدي عن ذلك إذلال للنفس ، وتعريض بكرامتها. وفي ذلك يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه. قيل وكيف يذلّ نفسه ؟ قال : يدخل في شيء يعتذر منه(106). وقد تقدّم حثّه لطلب المعاش خوفاً من ذلة النفس واستهانتها ، وكان في كثير من تعاليمه التي ينهى بها عن إرتكاب الاُمور الحقيرة التي تجعل الإنسان لا يشعر من نفسه بالفضيلة ، فالرذائل كلّها تذهب بعزة النفس ، والفضائل هي الأساس المبتني لعزة النفس.

فالكذب والخيانة والرياء والغشّ والطمع والميل مع الهوى اُمور تذهب بعزة النفس، وتبعد السعادة وتجلب الشقاء ، كما أنّ العفة والقناعة والأمانة والصبر والصدق والوفاء تبعث في النفس عزة وسموّاً ، وقد أمر اللّه ورسوله بذلك.

ولسنا بحاجة إلى إقامة الدليل على مضارّ الجرائم ، وأنّها تجعل الإنسان ذليلا، وتهوي به الى حضيض الهوان ، كما أنّ الفضائل ترفع من قدره ويشعر بعزّة نفسه ، وقد جاء في نظام الإسلام بيان الاُمور التي توجب ذلك ، فالسعادة كلّ السعادة في الامتثال.

فاللّه سبحانه وتعالى أراد لعباده العزّة في جميع تلك الأوامر ، والتعاليم الأخلاقية، لذلك كان خلفاء النبي وحملة علمه هم مثال الإنسانية الكاملة ، وقد نشروا تلك التعاليم القيّمة التي يجب أن يتّصف بها المؤمن.

يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : «من برئ من الشر نال العز».(107)

ويقول : «المؤمن له قوة في دين ، وحزم في لين ، وإيمان في يقين ، وحرص في فقه ، ونشاط في هدى ، وبر في استقامة ، واغماض عند الشهوة، وعلم في حلم ، وشكر في رفق ، وسخاء في حقّ، وقصد في غنى ، وتجمّل في فاقة ، وعفو في قدرة ، وطاعة في نصيحة، وورع في رغبة ، وحرص في جهاد ، وصلاة في شغل ، وصبر في شدّة، في الهزاهز وقور ، وفي الرخاء شكور ، لا يغتاب ولا يتكبر ولا يبغي وإن بغي عليه صبر، ولا يقطع الرحم ، وليس بواهن، ولا فظ ولا غليظ، ولا يسبقه بصره ، ولا يفضحه بطنه ، ولا يغلبه فرجه ، ولا يحسد الناس، ولا يقتر، ولايبذر ولا يسرق، بليقتصد، ينصرالمظلوم،ويرحم المساكين».(108)

ويقول (عليه السلام) : «إنّ اللّه فوّض الى المؤمن اُموره كلّها، ولم يفوّض اليه أن يكون ذليلا ، أما تسمع اللّه تعالى يقول : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين )(109)فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلا ، إنّ المؤمن أعزّ من الجبل ، الجبل يُسْتَقل منه(110)بالمعاول ، والمؤمن لا يُسْتَقل من دينه شيء» (111)

وكثير من الأخبار والأحاديث الواردة في براءة المؤمن من ذلة النفس التي هي من نتائج الجبن وخبائث الصفات ، وتلزمه المهانة وعدم الاقتحام في معالي الاُمور، والمسامحة في النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، والاضطراب بعروض أدنى شيء من البلايا والمخاوف ، وأن يتّصف بقوة الإرادة في السيطرة على نزعاته وميوله.

قوة الإرادة

إرادة الإنسان هي المحرّك الأول لقوّة العمل ، وبقوة هذه الإرادة تكافح هذه الغرائز الشاذة ، وتصادم الميول المتطرفة ، وبقوّة الإرادة تبتدئ الفضيلة ويتمّ التوازن ، وقويّ الإرادة هو الإنسان العظيم الذي يأتي بالعجائب إذا أحسن توجيه إرادته الى أعمال الخير ومحاسن الصفات ، أما إذا توجّه بها إلى أعمال الشر ، فإنّه يجرّ على نفسه نقصاً آخر لا يقلّ خطراً عن ضعف الإرادة ، وقد جمع الإمام الصادق قوّة الإرادة في كلمته البليغة وهي قوله : «ما ضعف بدن عما قويت عليه النية» (112)

وقوّة الإرادة عنصر سام يقوم عليه كيان الشخص ، بل هي نتاج شخصية منظّمة أحسن التنظيم ، فالرجل ذو الارادة القوية هو الذي يعرف طرق تحقيق ما يطلبه من الخير له ولأبناء جنسه ، محكّماً عقله موجّهاً قوّته بكلّ إقدام وثبات ، وإنّ له مثلا أعلى ينظّم طاقاته.

وقد ورد في تعاليم أهل البيت(عليهم السلام) ما يدلّ على مزيد من الاهتمام في تكوين هذه الشخصية القويّة الارادة ، وإنّ كلمة الإمام الصادق (عليه السلام) على قصرها فهي جامعة وافية لبيان قوّة الإرادة.

وبهذا العرض الموجز نكتفي عن البحث هنا في بقية المواضيع الهامّة التي كان الإمام الصادق (عليه السلام) يهتم بها ويبيّنها للمجتمع ، فقد كان (عليه السلام) يجهد في توجيه الناس نحو الخير والسعادة واتباع الحقّ ليخلق مجتمعاً تتمثل فيه تعاليم الإسلام ، وتتجسّد في سلوك أفراده تلك الآداب والنظم القيّمة ، وسيأتي فيما بعد بعض جوامع الكلم من أقواله الحكمية التي كان يلقيها في مجالس وعظه وإرشاده ووصاياه لأصحابه.

وليس من الممكن استقصاء كلّ ما صدر عنه من حكم ، وتلقى الناس عنه من مواعظ فإنّ له من التراث الفكري ما يملأ عدّة مجلّدات.

ومن المؤسف له أنّ تلك التعاليم القيّمة متفرقة في بطون الكتب ، ولو جُمعت لكانت أكبر ثروة علمية للمسلمين ، لأنّه (عليه السلام) قضى حياته في نشر العلم، وبذل جهده في إرشاد الناس والنصح لجميع أفراد الاُمة.

فتعاليمه هي القوانين الأخلاقية الصالحة لكلّ العصور والجماعات ، والكفيلة لرقي الفرد والاُسرة ، على نحو يرضاه العقل ويطمئنّ إليه الوجدان، لأنّها مستقاة من ينبوع الوحي ، ومستمدة من التعاليم النبويّة.

وعلى أيّ حال فقد كان الإمام الصادق (عليه السلام) حريصاً على توجيه الاُمة، يحاول تطهير النفوس من الرذيلة وتقويمها من اعوجاج الميول في الغرائز ، ليتعاونوا ويصبحوا بنعمة اللّه إخواناً متحابين متراحمين ، لينالوا بذلك السعادة كما قرأنا من تعاليمه وما نقرؤه بعد ، فقد كان يؤدّب أصحابه بآداب الإسلام ، ويحرص على استقامتهم.

مراسلاته

كانت للإمام الصادق (عليه السلام) مراسلات الى مختلف الأقطار تتضمن نصائحه الثمينة يدعوهم الى سبيل ربّه ، وكانت تهبط عليه أسئلة من البلدان النائية يسألونه إيضاح ما أشكل عليهم من اُمور دينهم ودنياهم ، ونرى من الخير التعرّض لبعضها واثبات البعض منها بقدر ما يسع المجال ليقف القارئ على صور مختلفة تمثّل نواحي العظمة وعظيم حبّه للخير.

رسالة لعبد اللّه النجاشي

قال عبد اللّه بن سليمان النوفلي(113) : كنت عند جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)فإذا بمولى لعبد اللّه النجاشي(114) ورد عليه ، فسلم وأوصل اليه كتاباً ففضه وقرأه فإذا فيه :

«بسم اللّه الرحمن الرحيم : أطال اللّه بقاء سيدي وجعلني من كلّ سوء فداه، إنّي بليت بولاية الأهواز ، فأرى سيدي أن يحدّ لي حدّاً أو يمثل لي مثلا لأستدل على ما يقربني الى اللّه عزّ وجلّ والى رسوله ـ الى أن قال ـ : فعسى أن يخلصني اللّه بهدايتك ودلالتك ، فإنّك حجة اللّه على خلقه ، وأمينه في بلاده ، ولا زالت نعمته عليك». فأجابه أبو عبد اللّه (عليه السلام) : «بسم اللّه الرحمن الرحيم : حاطك اللّه بصنعه ، ولطّف بك بمنّه ، وكلأك برعايته فإنّه وليّ ذلك ـ الى أن يقول ـ : فإنّي ملخص لك جميع ما سألت عنه إن أنت عملت به ولم تجاوزه ، رجوت أن تسلم إن شاء اللّه. أخبرني أبي عن آبائه عن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : من استشاره أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة سلبه اللّه لبّه. واعلم أنّي سأشير عليك برأي إن أنت عملت به تخلصت ممّا أنت متخوفه ، واعلم أنّ خلاصك ونجاتك من حقن الدم وكفّ الأذى من أولياء اللّه ، والرفق بالرعية ، والتأنّي وحسن المعاشرة ، مع لين في غير ضعف وشدّة في غير عنف. ومداراة صاحبك ومن يرد عليك من رسله ، وارتق فتق رعيّتك بأن توافقهم على ما وافق الحقّ والعدل إن شاء اللّه.إيّاك والسعاة وأهل النمائم فلا يلتزقنّ منهم بك أحد ، ولا يراك اللّه يوماً وليلة وأنت تقبل منهم صرفاً ولا عدلاً فيسخط اللّه عليك ، ويهتك سترك.فأمّا من تأنس به وتستريح اليه وتلج اُمورك إليه ، فذلك الرجل الممتحن المستبصر الأمين الموافق لك على دينك.وإيّاك أن تعطي درهماً أو تخلع ثوباً أو تحمل على دابة في غير ذات اللّه لشاعر أو ممزح إلاّ أعطيت مثله في ذات اللّه.ولتكن جوائزك وعطاياك وخلعك للقواد والرسل ، والأحفاد وأصحاب الرسائل ، وأصحاب الشرط والأخماس ، وما أردت أن تصرفه في وجوه البرّ والنجاح والفتوّة والصدقة والحجّ والمشرب والكسوة التي تصلي بها وتصل بها ، والهدية التي تهديها الى اللّه عزّ وجلّ وإلى رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) من أطيب كسبك.يا عبد اللّه، اجهد أن لا تكنز ذهباً ولا فضة ، فتكون من أهل هذه الآية التي قال اللّه عزّوجلّ : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...)(115).ولا تستصغر من حلوى وفضل طعام تصرفه في بطون خالية ليسكن بها غضب اللّه تعالى، واعلم أني سمعت من أبي يحدّث عن آبائه عن أمير المؤمنين(عليهم السلام) أنّه سمع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول يوماً : ما آمن باللّه واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع ، فقلنا : هلكنا يا رسول اللّه ، فقال : من فضل طعامكم ومن فضل تمركم ورزقكم ، وخلقكم وخرقكم تطفئون بها غضب الربّ.فخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) من الدنيا وليس في عنقه تبعة لأحد حتى لقي اللّه محموداً غير ملوم ولا مذموم ، ثم اقتدت به الأئمة من بعده بما قد بلغكم لم يتلطّخوا بشيء من بوائقها...يا عبد اللّه إيّاك أن تخيف مؤمناً فإنّ أبي محمداً حدّثني عن أبيه عن جدّه علي بن أبيطالب (عليهم السلام) أنّه كان يقول : «من نظر الى مؤمن ليخيفه بها أخافه اللّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه ، وحشره في صورة الذرّ لحمه وجسده وجميع اعضائه حتى يورده مورده».

ثم ذكر له (عليه السلام) الأحاديث المتضمنة لمكارم الأخلاق وطيب الصفات التي يجب أن يسير عليها الوالي ، والتي تضمن له النجاة إن عمل بها وسار على الجادة(116).

وجاء اليه رجل من الأهواز فقال : يا أبا عبد اللّه، إنّ في ديوان النجاشي عليّ خراجاً فإن رأيت أن تكتب له كتاباً ، فكتب اليه هذه الكلمة الموجزة :بسم اللّه الرحمن الرحيم : سرّ أخاك يسرك اللّه.

فلما ورد الكتاب على النجاشي امتثل ذلك وأجاز الرجل وأكرمه وأسقط الخراج وقال له : هل سررتك ؟ قال : نعم.(117)

رسالته في الصفات

وكتب إليه عبد الملك بن أعين من العراق يخبره : أنّ قوماً بالعراق يصفون اللّه بالصورة وبالتخطيط ، فإن رأيت ـ جعلني اللّه فداك ـ أن تكتب إليّ بالمذهب الصحيح من التوحيد.

فكتب اليه : سألت ـ رحمك اللّه ـ عن التوحيد وما ذهب اليه من قبلك فتعالى اللّه الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، تعالى عما يصفه الواصفون المشبهون اللّه بخلقه المفترون على اللّه ، فاعلم رحمك اللّه : إن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللّه جل وعز ، فانف عن اللّه تعالى البطلان والتشبيه ، فلا نفي ولا تشبيه ، هو اللّه الثابت الموجود ، تعالى اللّه عما يصفه الواصفون ، ولا تعدوا القرآن فتضلوا بعد التبيان(118)

رسالته الى جماعة من أصحابه

وكتب إلى جماعة من أصحابه : اتّقوا اللّه وكفّوا ألسنتكم إلاّ من خير ، ـ إلى أن قال:ـ وعليكم بالصمت إلاّ ما ينفعكم اللّه به في آخرتكم ويؤجركم عليه ، وأكثروا من التهليل والتقديس ، والتسبيح والثناء على اللّه ، والتضرّع اليه والرغبة فيما عنده من الخير ، الذي لا يقدر قدره ولا يبلغ كنهه أحد ، فاشغلوا ألسنتكم بذلك عمّا نهى اللّه عنه من أقاويل الباطل التي تعقب أهلها خلوداً في النار من مات عليها ولم يتب الى اللّه ولم ينزع عنها.

وكتب الى جماعة منهم أيضاً نقتطف منها :أما بعد، فسلوا ربّكم العافية ، وعليكم بالدعة ، والوقار والسكينة والتنزه كما تنزه الصالحون منكم ، الى أن قال : وعليكم بحبّ المساكين المسلمين ، فإنّ من حقرهم وتكبر عليهم فقد زل عن دين اللّه ، واعلموا أنّ من حقر أحداً من المسلمين القى اللّه عليه المقت، فاتقوا اللّه في إخوانكم فإنّ لهم عليكم حقّاً أن تحبّوهم فإنّ اللّه أمر نبيّه بحبّهم ، فمن لم يحبّ من أمر اللّه بحبّه فقد عصى اللّه ورسوله ، ومن عصى اللّه ورسوله ومات على ذلك مات من الغاوين.إيّاكم أن يبغي بعضكم على بعض فإنّها ليست من خصال الصالحين ، فإنّه من بغى صيّر اللّه بغيه على نفسه ، وصارت نصرة اللّه لمن بغى عليه ، ومن نصره اللّه غلب وأصاب الظفر من اللّه. إيّاكم أن يحسد بعضكم بعضاً فإنّ الكفر أصله الحسد.إيّاكم أن تعينوا على مسلم مظلوم يدعو اللّه عليكم ويستجاب له فيكم ، فإنّ أبانا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : إنّ دعوة المظلوم مستجابة.إيّاكم أن تشره نفوسكم الى شيء ممّا حرم اللّه عليكم ، فإنّ من انتهك ما حرّم اللّه عليه حال اللّه بينه وبين الجنة(119)

وصاياه

ليس من الغريب أن نرى كثيراً من علماء الاُمة يغتنمون فرصة الاتصال بالإمام الصادق(عليه السلام) ويطلبون منه أن يزوّدهم بوصاياه التي هي أثمن شيء عندهم ، لأنّهم يجدون فيها اكمال نقص ، وتوجيهاً للخير والسعادة ، وقد وجدوا فيه شخصية إسلامية قد طبعت على الخير والبر ، فهو يتوخى لهم السعادة ويقيم لهم الحجج الواضحة والبراهين اللائحة ، فهو من أهل بيت لا تجهل منزلتهم ، ولا تنكر مكانتهم ، وهم أولى بتبليغ الأحكام وهداية الأنام ، مهما كثرت عوامل المعارضة ووقفت الصعوبات في طريق الوصول إلى الغاية.

والإمام الصادق فريد عصره ووحيد زمانه لا يلحق أثره ولا يبلغ شأوه ، فلذلك نرى التفاف الاُمة حوله وانتهالهم من تعاليمه ، وحرصهم على حصول تلك الوصايا الثمينة والتعاليم القيّمة.

هذا سفيان الثوري ـ وهو من علماء الاُمة ـ يتردّد على الإمام ويطلب منه أن يوصيه بما ينفعه ، ثم يستزيده مرّةً بعد اُخرى.

وهذا أبو حنيفة يغتنم الحضور عنده ويصغي لوصاياه عندما قدم الى المدينة ، وكذلك في الكوفة يوم دخلها الإمام الصادق (عليه السلام) ، كما تحدّث بذلك كتب مناقب أبي حنيفة وغيرها.

وهذا الإمام مالك يلازم صحبته ويرافقه ويتزوّد منه، وكثير من علماء الاُمة كانوا يغتنمون فرصة الحضور عنده ليسمعوا منه وينتفعوا بوصاياه ، لأنّهم يطلبون الخير لأنفسهم وللاُمة.

وقد أكثر سفيان الثوري لذكر تلك الوصايا ونشرها للملأ، ولا يستبعد أن يكون ذلك هو السبب في مطاردته من قبل السلطة ، بعد أن فشلت في محاولتها لاستمالته حتى مات مغضوباً عليه من قبل ولاة الجور.

وكان حفص بن غياث وهو أحد الأعلام يطلب من الإمام أن يوجّهه ويزوّده بوصاياه ، وقد احتفظ التاريخ بكثير من ذلك. وعلى كلّ حال فإنّ وصايا الإمام الصادق (عليه السلام)كثيرة ونقتصر على القليل منها.

وصيته لحفص بن غياث

وقد جاء في وصيته لحفص بن غياث(120) قوله : «إن قدرتم أن لا تعرفوا فافعلوا ، وما عليك إن لم يثن الناس عليك ، وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس إذا كنت عند اللّه محموداً» الى أن قال : «إن قدرت أن لا تخرج من بيتك فافعل ، فإنّ عليك في خروجك أن لا تغتاب ولا تكذب ولا تحسد ، ولا ترائي ولا تتصنع ، ولا تداهن...» (121)

وصيته لسفيان الثوري

الوقوف عند كلّ شبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وترك حديث لم تروه أفضل من روايتك حديثاً لم تحصه ، إنّ على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالفه فدعوه(122)

وقال نصر بن كثير(123) : دخلت أنا وسفيان الثوري على جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)فقلت : إني اُريد البيت فعلّمني شيئاً أدعو به ، فقال : إذا بلغت البيت الحرام فضع يدك على الحائط ثم قل : يا سابق الفوت يا سامع الصوت يا كاسي العظام لحماً بعد الموت ثم ادع بما شئت. فقال له سفيان شيئاً لم أفهمه.

فقال : يا سفيان إذا جاءك ما تحبّ فأكثر «الحمد لله»، وإذا جاءك ما تكره فأكثر من «لا حول ولا قوة إلاّ باللّه»، وإذا استبطأت الرزق فأكثر من «الاستغفار».(124)

ولقيه مرّةً فقال : يا ابن رسول اللّه أوصني. قال : يا سفيان لا مروة لكذوب ، ولا أخ لملول ، ولا راحة لحسود ، ولا سؤدد لسيّئ الخلق.

فقال : يا ابن رسول اللّه زدني ، قال : يا سفيان ثق باللّه تكن مؤمناً ، وارض بما قسم اللّه لك تكن غنياً ، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً ولا تصحب الفاجر يعلمك من فجوره ، وشاور في أمرك الذين يخشون اللّه عز وجل.

فقال : يا ابن رسول اللّه زدني ، فقال : يا سفيان من أراد عزّاً بلا عشيرة وغنىً بلا مال وهيبة بلا سلطان; فلينتقل من ذل معصية اللّه الى عز طاعته.(125)

وقال سفيان للصادق مرّةً : لا أقوم حتى تحدّثني. قال له : أنا أحدّثك وما كثرة الحديث لك بخير يا سفيان ، إذا أنعم اللّه عليك بنعمة فأحببت بقاءها ودوامها; فأكثر من الحمد والشكر عليها فإنّ اللّه عز وجل قال : (لئن شكرتم لأزيدنكم)(126)وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار ، فإنّ اللّه تعالى قال في كتابه : (اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَال وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّات وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً)(127)ياسفيان، إذا أحزنك أمر من سلطان أو غيره ، فأكثر من لا حول ولا قوة إلاّ باللّه; فإنها مفتاح الفرج وكنز من كنوز الجنة. فعقد سفيان بيده وقال : ثلاث وأي ثلاث(128).

وصيته لعبد اللّه بن جندب

يا ابن جندب إنّما المؤمنون الذين يخافون اللّه ، ويشفقون أن يسلبوا ما اُعطوا من الهدى ، فإذا ذكروا اللّه ونعماءه وجلوا وأشفقوا ، واذا تليت عليهم آياته ، زادتهم إيماناً ممّا أظهره من نفاذ قدرته ، وعلى ربِّهم يتوكلون.يا ابن جندب، يهلك المتّكل على عمله ، ولا ينجو المجترئ على الذنوب الواثق برحمة اللّه. قال عبد اللّه بن جندب : فمن ينجو ؟ قال : الذين هم بين الخوف والرجاء كأنّ قلوبهم في مخلب طائر شوقاً الى الثواب وخوفاً من العقاب.ويل للساهين عن الصلاة ، النائمين في الخلوات ، المستهزئين باللّه في الفترات ، أولئك الذين لا خلاق لهم في الآخرة ، ولا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولهم عذاب أليم.يا ابن جندب أحبب في اللّه ، وأبغض في اللّه ، واستمسك بالعروة الوثقى ، واعتصم بالهدى يقبل عملك..وخذ حظّك من آخرتك ، ولا تكن بطراً في الغنى ، ولا جزعاً في الفقر ، ولا تكن فظاً غليظاً يكره الناس قربك ، ولا تكن واهياً يحقرك من عرفك ، ولا تشار(129)من فوقك ، ولا تسخر بمن هو دونك ، ولا تنازع الأمر أهله ، ولا تطع السفهاء.يا ابن جندب صِل من قطعك ، واعط من حرمك ، وأحسن إلى من أساء اليك ، وسلم على من سبك ، وأنصف من خاصمك ، واعف عمّن ظلمَك كما أنّك تحبّ أن يعفى عنك.يا ابن جندب لا تتصدقن على أعين الناس يزكوك ، فإنك إن فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك ، ولكن إذا اعطيت بيمينك فلا تطلع عليها شمالك ، فإنّ الذي تتصدّق له سراً يجزيك علانية قد علم ما تريد(130)

وقال (عليه السلام) لأصحابه :لا يتكلّم أحدكم بما لا يعنيه ، وليدع كثيراً فيما يعنيه حتى يجد له موضعاً ، فربّ متكلّم في غير موضعه جنى على نفسه بكلامه ولا يمارين أحدكم سفيهاً ولا حليماً ، فإنّه من مارى حليماً أقصاه ، ومن مارى سفيهاً أرداه ، واذكروا أخاكم إذا غاب عنكم بأحسن ما تحبّون أن تذكروا به إذا غبتم عنه ، واعملوا عمل من يعلم أنّه مجازى بالإحسان مؤاخذ بالإجرام.(131)

الى غير ذلك من وصاياه الجليلة لخواصه وأصحابه وأهل بيته وغيرهم.(132)ممّا هو جدير بأن يجعل دستوراً لنظام الحياة ، فقد كان يبذل جهده لتطهير النفوس من الارجاس الطبيعيه البشرية ، ومكافحة الشهوات البهيمية ، واتخاذ أنجع الوسائل لتحقيق غرضه السامي ، فكان كلامه يسيل على سامعيه رقة وعذوبة تحكم على مستمعه الاستزادة لما يبدو من خلاله صورة من التعاليم الإسلامية الحقّة ، يلقيها مخلص قد توخّى الخير للمتعلم ، وابداء النصيحة الخالصة التي لا تشوبها شائبة ، فهو ينقشها على صفحات قلوب الخلص منهم ، فلا تنمحي وإن كثرت عوامل المحو.

وها نحن ذا نقدم من نصائحه نبذاً قصيرة هي جوامع الكلم وآيات بينات في الأدب والبلاغة وفرقان حكيم جاء بالفلسفة الخلقية.

جوامع الكلم

* اتقوا اللّه وكونوا إخوة بررة متحابين في اللّه ، متواصلين ، متراحمين ، تزاوروا وتلاقوا.* اتقوا الظلم فإنّ دعوة المظلوم تصعد إلى السماء.* من لم يهتم باُمور المسلمين فليس بمسلم ، إنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال : من أصبح لا يهتمّ باُمور المسلمين فليس منهم ، ومن سمع رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم.* صدقة يحبّها اللّه : إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا ، وتقارب بينهم إذا تباعدوا.* المؤمن من طاب مكسبه ، وحسنت خليقته ، وصحّت سريرته ، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من كلامه ، وكفى الناس شرّه ، وأنصف الناس من نفسه.* المؤمن حسن المعونة. خفيف المؤونة ، جيّد التدبير لمعاشه ، ولا يلسع من جحر مرتين.* اجعلوا أمركم هذا لله ، ولا تجعلوه للناس ، فإنّه ما كان لله فهو لله ، وما كان للناس فلا يصعد إلى اللّه.* إيّاكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون، فإنّه ما خفقت النعال خلف رجل إلاّ هلك وأهلك.* لا تمارينّ حليماً ولا سفيهاً ، فإنّ الحليم يقليك ، والسفيه يؤذيك.* إياكم والخصومة ، فإنّها تشغل القلب ، وتورث النفاق ، ومن زرع العداوة حصد ما بذر ، ومن لم يملك غضبه لم يملك عقله.* كان أبي يقول : أيّ شيء أشدّ من الغضب ؟ إنّ الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرم اللّه ، ويقذف المحصنة.* من كافأ السفيه بالسفه فقد رضي بما أوتي اليه حيث احتذى مثاله.* من عذر ظالماً بظلمه ، سلط اللّه عليه من يظلمه ، فإن دعا لم يستجب له ، ولم يؤجره اللّه على ظلامته.* احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم ، فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم ، وحصائد ألسنتهم.* من ساء خلقه عذب نفسه.* العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق ، لا تزيده سرعة السير إلاّ بُعداً.* من أكرمك فأكرمه ، ومن استخف بك فأكرم نفسك عنه.* إيّاكم والمزاح فإنّه يذهب بماء الوجه.* لا شيء أحسن من الصمت ، ولا عدو أضرّ من الجهل ، ولا داء أدوى من الكذب.* المؤمن مألوف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف.* العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن.* ما أوسع العدل وإن قلّ!* من كفّ يده عن الناس ، فإنّما يكفّ يداً واحدة ويكفون عنه أيدي كثيرة.* من كان له عقل كان له دين ومن كان له دين دخل الجنة.* الفقهاء اُمناء الرسل فإذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا الى السلاطين فاتهموهم.* إذا بلغك عن أخيك شيء يسوؤك فلا تغتم ، فإن كان كما يقول كانت عقوبة عجلت ، وإن كان على غير ما يقول كانت حسنة لم تعملها.* لا يتم المعروف إلاّ بثلاثة : بتعجيله ، وتصغيره ، وستره.* بُني الإنسان على خصال ، فمما بني عليه أنّه لم يبنِ على الخيانة والكذب.* ثلاثة تورث المحبّة : الدين ، والتواضع ، والبذل.* من برئ من ثلاث نال ثلاثة : من برئ من الشر نال العز ، ومن برئ من الكبر نال الكرامة ، ومن برئ من البخل نال الشرف.* ثلاثة مكسبة للبغضاء : النفاق ، والعجب ، والظلم.* آفة الدين الحسد ، والعجب ، والفخر.* إنّ المؤمن يغبط ولا يحسد.* اتقوا اللّه واعدلوا فإنّكم تعيبون على قوم لا يعدلون.* ما قدست اُمة لم يؤخذ لضعيفها من قويها بحقّه.* ويل لقوم لا يدينون اللّه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.* ثلاثة يحجزن عن طلب المعالي : قصر الهمة ، وقلة الحياء ، وضعف الرأي.* ثلاثة يجب على كلّ إنسان تجنبها : مقارنة الأشرار ، ومحادثة النساء ، ومجالسة أهلالبدع.* ثلاثة أشياء يحتاج إليها الناس طراً : الأمن ، والعدل ، والخصب.* ثلاثة تكدّر العيش : السلطان الجائر ، والجار السوء ، والمرأة البذية.* الصلة وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار.* ليس منا من لم يحسن مجاورة جاره.* من رزق ثلاثاً نال الغنى الأكبر : القناعة بما اُعطي ، واليأس ممّا في أيدي الناس ، وتركالفضول.* ليس بحازم من لا ينظر في العواقب ، والنظر في العواقب تلقيح القلوب.* إذا رأيتم العبد متفقداً لذنوب الناس ناسياً لذنوبه ، فاعلموا أنه قد مكر به.* أقصر نفسك عما يضرّها من قبل أن تفارقك ، واسع في فكاكها كما تسعى في طلب معيشتك ، فإنّ نفسك رهينة بعملك.* تعوذوا باللّه من سطوات الليل والنهار ، قيل : وماهي ؟ قال الأخذ على المعاصي.* لا تشاور أحمقاً، ولا تستعن بكذاب ، ولا تثق بمودة الملوك : فإنّ الكذاب يقرّب لك البعيد ، ويبعد لك القريب ، والأحمق يجهد لك نفسه ، ولا يبلغ ما تريد ، والملوك أوثق ما كنت به خذلك ، وأوصل ما كنت له قطعك.* بطانة السلطان ثلاث طبقات : طبقة موافقة للخير ، وهي بركة على السلطان ، وطبقة غايتها المحاماة على مافي أيديها ، فتلك لا محمودة ولا مذمومة ، بل هي إلى الذمّ أقرب ، وطبقة موافقة للشر وهي مشومة مذمومة عليها وعلى السلطان.* لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاث ، فإن عدموا ذلك كانوا همجاً : فقيه عالم ورع ، وأمير خير مطاع ، وطبيب بصير ثقة.* الإخوان ثلاثة : مواس بنفسه ، وآخر مواس بماله ، وهما الصادقان في الإخاء ، وآخر يأخذ منك البلغة ويريدك لبعض اللذة ، فلا تعدّه من أهل الثقة.* كفى بالحلم ناصراً.* مامن عبد كظم غيظاً إلاّ زاده اللّه عزّاً في الدنيا والآخرة.* ما يقدم المؤمن على اللّه عزّ وجل بعمل بعد الفرائض أحبّ الى اللّه تعالى من أن يسعبخلقه.* صنائع المعروف وحسن البشر يكسبان المحبّة ويدخلان الجنة.* من زرع العداوة حصد ما بذر.* من دخله العجب هلك.* العجب كلّ العجب ممن يعجب بعمله ، ولا يدري بما يختم له.* ما من رجل تكبّر أو تجبّر إلاّ لذلة وجدها في نفسه.* إذا كان الزمان زمان جور وأهله أهل غدر ، فالطمأنينة الى كل أحد عجز.* إذا أردت أن تعلم صحة ما عند أخيك ، فأغضبه فإن ثبت لك على المودة فهو أخوك وإلاّ فلا.* لا تثقن بأخيك كلّ الثقة ، فإنّ سرعة الاسترسال لا تقال.* المؤمن حسن المعونة خفيف المؤونة جميل التدبير لمعيشته ، ولا يلسع من جحرمرتين.* من صحة يقين المسلم أن لا يرضي الناس بسخط اللّه ، ولا يلومهم على مالم يؤته اللّه، فإنّ الرزق لا يسوقه حرص حريص ولا يردّه كراهية كاره.* خف اللّه كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنّه يراك ، وإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنّه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين اليك.* أيّما أهل بيت اُعطوا حظّهم من الرفق فقد وسع اللّه عليهم في الرزق ، والرفق لا يعجز عنه شيء ، والتبذير لا يبقى معه شيء.* اطلبوا العلم وتزيّنوا معه بالحلم والوقار ، ولا تكونوا علماء جبّارين فيذهب باطلكمبحقّكم.* إنّما المؤمن إذا غضب لم يخرجه غضبه من حقّ، وإذا رضي لم يدخله رضاه فيباطل.* اتقوا الله ولا يحسد بعضكم بعضاً.* ما ذئبان ضاريان في غنم قد غاب عنها رعاتها، بأفسد فيها من حب المال والشرف في دين المسلم.* ثلاثة هم أقرب الخلق الى اللّه يوم القيامة : رجل لم تدعه قدرته في حال غضبه ، أن يحيف على من تحت يديه. ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر ، ورجل قال الحق فيما له وعليه.* للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ، ويقول مالم يعلم ، ويتعاطى ما لا ينال.* اتقوا اللّه في الضعيفين : اليتيم ، والنساء.* وقال للمفضل بن زيد : أنهاك عن خصلتين فيها هلك الرجال : أن تدين اللّه بالباطل، وتفتي الناس بما لا تعلم.* لا يطمعن ذو الكبر في الثناء الحسن ، ولا الخب في كثرة الصديق ، ولا السىّء الأدب في الشرف ، ولا البخيل في صلة الرحم ، ولا المستهزئ في صدق المودة ، ولا القليل الفقه في القضاء ، ولا المغتاب في السلامة ، ولا الحسود في راحة القلب ، ولا المعاقب على الذنب الصغير في السؤدد ، ولا القليل التجربة المعجب برأيه في رياسة.* إنّ السفه خلق لئيم يستطيل على من دونه ويخضع لمن فوقه ، وإيّاك وما تعتذر منه.* طبعت القلوب على حبّ من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.* من غضب عليك ثلاث مرات فلم يقل فيك سوءً اتخذه خلا ، ومن أراد أن تصفو له مودّة أخيه فلا يمارينه ولا يمازحنه ولا يعدّه ميعاداً فيخلفه.* لا تخالطنّ من الناس خمسة : الأحمق ، فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك ، والكذّاب فإنّ كلامه كالسراب يقرب منك البعيد ويباعد منك القريب ، والفاسق فإنّه يبيعك بأكلة ، والبخيل فإنه يخذلك في وقت أحوج ما تكون اليه ، والجبان فإنه يسلمك.* ثلاثة تجب لهم الرحمة : غني افتقر ، وعزيز قوم ذل ، وعالم تلاعب به الجهال.* إذا أراد اللّه برعية خيراً ، جعل لهم سلطاناً رحيماً ووزيراً عادلا.* إنّما المؤمنون إخوة بنو أب واُمّ، وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخر.* قال حفص بن أبي البختري : كنت عند أبي عبد اللّه الصادق ودخل عليه رجل ، فقال لي : أتحبّه ؟ فقلت : نعم ، فقال : ولم لا تحبّه ؟ وهو أخوك وشريكك في دينك ، وعونك على عدوك ، ورزقه على غيرك(133)* الانتقاد عداوة ، وقلة الصبر فضيحة ، وإفشاء السر سقوط.* إيّاكم والنظرة ، فإنّها تزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة. طوبى لمن جعل بصره في قلبه ولم يجعل بصره في عينه.(134)

هذا قليل من كثير في هذا الباب فإنّ تراثه الفكري وتعاليمه القيّمة لا يمكننا الاحاطة بها الآن. ومن الخير للعلم والإنسانية أن يضاعف العاملون منا جهودهم لجمع المتفرّق من ذلك التراث الثقافي الفكري من مظانه ، وهو كثير حافل. ولنا في تعاليمه كفاية على إيضاح ما كان يبذله من النصح لأفراد الاُمة ، ويجهد نفسه في معالجة النفوس من أمراض فواتن الدنيا ، وغريزة الطمع التي تحول خير المجتمع الى شر يسلب راحة الضمير ، ويودع فيه القلق والنكد ، ويفتح باب الظلم والتباغض.

هذا من الناحية الأخلاقية والتعاليم الإسلامية. أما ما يتّصل بناحية العلوم من تفسير وفقه وحديث وحكمة وكلام وغيرها ، فليس هذا محل التعرّض لذلك ، وستقف على البعض منه في مطاوي البحث ، عند التعرض لآرائه وفقهه في الاجزاء القادمة إن شاء اللّه.

وسيأتي ـ إن شاء اللّه ـ بيان لبعض حكمه ومواعظه التي كان يلقيها على مسامع طلاب العلم ، ووفود الاقطار الإسلامية.

فإنه (عليه السلام) لم يدّخر نصحاً ، ولم يألُ جهداً في توجيه النصح لكلّ أحد، فتجد له في كل مناسبة قولا ، وفي كل مجال حكمة ، ولكلّ مشكلة حلا. وقد تضمنت كتب الأخلاق ، والحديث ، والأدب الشيء الكثير من تلك النصائح والحكم والمواعظ التي كان يتلقّاها منه كبار علماء عصره الذين قصدوه على اختلاف مراتبهم ، فانتهلوا من معارفه، وكان ذلك فخراً واعتزازاً لهم.

 

 (56) الآداب السلطانية لابن الطقطقي ص111.

(57) اُصول الكافي ج2 ص243.

(58) اُنظر مقاتل الطالبيين ص117 ، تاريخ الطبري ج9 ص233 ط1.

(59) أحجار الزيت موضع بالمدينة المشرفة وهو خارجها ، استشهد به محمد بن عبد اللّه بن الحسن سنة (145هـ) وقتل أخوه إبراهيم بالعراق لخمس ليال بقين من ذي القعدة منها وكان عمره (48) سنة.

(60) الرسالة الأولى في الإمام الصادق (عليه السلام) للاُستاذ توفيق الفكيكي المحامي.

(61) الإمام الصادق للمظفر ج1 ص212.

(62) انظر احتجاج الطبرسي ج2 ص337 وبحار الأنوار ج4 ص26 والكافي ج1 ص138 ح4 في احتجاجات الصادق.

(63) لسان الميزان ج2 ص105.

(64) عبد الكريم بن أبي العوجاء هو خال معن بن زائدة قتل على الزندقة سنة (161 هـ). ولما أخذ لتضرب عنقه، قال : لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحلل الحرام.

(65) المغيرة بن سعيد مولى بجيلة، كذّاب قال ابن عدي : لم يكن بالكوفة ألعن من المغيرة بن سعيد كان يكذب على أهل البيت. قتله خالد القسري سنة (119 هـ) مع عدد من أصحابه.

(66) رجال الكشي ص 225 / 403.

(67) دعائم الإسلام ص62 ـ 63.

(68) رجال الكشي ص296 / 524.

(69) رجال الكشي ص297 ـ 298 / 529.

(70) رجال الكشي ص301 / 540.

(71) الكلمة لسعيد بن المسيب وهو أحد التابعين.

(72) القول لمسلم بن هلال العبدي. مناقب آل أبيطالب لابن شهرآشوب ج1 ص 218.

(73) الصواعق المحرقة لابن حجر ص120.

(74) التوسل والوسيلة لابن تيمية ص52.

(75) الإرشاد ص260، الاحتجاج ص122 .

(76) الكافي ج5 ص149 ح10.

(77) من لا يحضره الفقيه ج3 ص107 ، ح446.

(78) الكافي ج5 ص76 ح13.

(79) الكافي ج5 ص76 ح11.

(80) من لا يحضره الفقيه ج3 ص104 ح427.

(81) من لا يحضره الفقيه ج3 ص156 ح3569.

(82) الكافي ج5 ص72 ح7.

(83) من لا يحضره الفقيه ج3 ص168 ح3630.

(84) دعائم الاسلام ج2 ص15 ح9.

(85) بحار الأنوار ج100 ص17 ح78.

(86) بحار الأنوار ج100 ص9 ح38.

(87) اُنظر تحف العقول ص346 ـ 353.

(88) الكافي للكليني: 5/289 ح 3 بتفاوت يسير، تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي: 2/290.

(89) الحجرات : 10 .

(90) بحار الأنوار ج71 ص235 ح32.

(91) الكافي ج2 ص198 ح9، نهاية الحديث (بالبيت مبتدأً).

(92) الكافي ج2 ص209 باب الاصلاح بين الناس ح4 .

(93) نهج البلاغة، صبحي الصالح ص347.

(94) هود : 113.

(95) وسائل الشيعة ج17 ص182 ، أبواب ما يتكسّب به ، ب42 ، ح17.

(96) تحف العقول ص347.

(97) التهذيب ج6 ص338 ، ح941.

(98) الكافي ج5 ص107 ، ح7.

(99) الكافي ج5 ص107 ، ح9.

(100) وسائل الشيعة ج12 ص 139، باب جواز الولاية لنفع المؤمنين، ح22330، عن الأمالي في كتاب التجارة، وسننشرها في قسم الوصايا.

(101) وسائل الشيعة للحر العاملي ج20 ص317، باب الميم، ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيغ، الرقم 986 عن الرضا(عليه السلام) مع اختلاف يسير .

(102) هو المحامي الشهير توفيق الفكيكي في الرسالة الاولى في حياة الصادق ص27.

(103) الكافي ج2 ص344 ، ح22.

(104) الكافي ج2 ص 333 ، ح14.

(105) وسائل الشيعة ج16 ص57 ، أبواب جهاد النفس ، ب80 ، ح5.

(106) تهذيب الأحكام للطوسي ج6 ص180، 80 ـ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح369 .

(107) بحار الأنوار ج75 ص229 ، ح5.

(108) بحار الأنوار ج64 ص294 ، ح18.

(109) المنافقين : 8.

(110) الجبل يستقل منه : من القلة ، أي ينقص ويؤخذ منه.

(111) الكافي: 5/63 .

(112) بحار الأنوار ج67 ص205 ، ح14.

(113) عبد اللّه بن سليمان النوفلي، روى عنه هشام بن يوسف وغيره وخرّج له الترمذي في صحيحه. صحيح الترمذي ج6 ص126 ، ح3789.

(114) عبدالله النجاشي، أو ابن النجاشي: هو أبو بجير عبدالله بن غنيم الأسدي، ولي الأهواز من قبل المنصور، وقد اتصل بالإمام الصادق وسأله عن كثير من المسائل وكان الإمام(عليه السلام) يجيبه، قال النجاشي: إنّ هذا ـ يعني الإمام الصادق ـ عالم آل محمد، وإنّ الذي كنت عليه باطل وإنّ هذا صاحب الأمر.

(115) التوبة : 34.

(116) بحار الأنوار ج17 ص263 ، والوسائل في باب الولاية من أبواب التجارة.

(117) بحار الأنوار ج47 ص370 ، ح89.

(118) الكافي ج1 ص100.

(119) بحار الأنوار ج75 ص211 ـ 212.

(120) حفص بن غياث بن طلق بن معاوية النخعي المتوفى سنة (194 هـ) أحد الأعلام، روى عن الإمام الصادق خرّج حديثه أصحاب الصحاح الستة الجزء الأوّل من هذا الكتاب: ص 87.

(121) الوسائل ج11 ص 283 أبواب جهاد النفس الباب 51، ح1.

(122) تاريخ اليعقوبي ج3 ص115.

(123) سيأتي ذكره في رواة حديث الصادق (عليه السلام).

(124) حلية الأولياء ج3 ص196.

(125) بحار الأنوار ج75 ص261 ، ح160.

(126) إبراهيم: 7 .

(127) نوح: 10 ـ 12 .

(128) حلية الأولياء ج3 ص193.

(129) يقال شاره: عابه وازدرى به.

(130) تحف العقول ص73 ـ 75.

(131) بحار الأنوار ج75 ص265 ، ح176.

(132) تجد الكثير منها في الوسائل والكافي وحلية الاولياء وتحف العقول وغيرها.

(133) الكافي: 2/166، ح 6.

(134) بحار الأنوار ج75 ص284.

 

الامويون وحديث أهل البيت

لابد لنا ونحن في معرض الحديث عن مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) من أن نتعرف على بعض المنتمين اليها والمتخرجين منها وهم من حملة العلم ورجال الفكر الذين تركوا للأجيال أهم ما يخلفه العقل الإنساني من إنتاجوإبداع .

وليس من شك في أن مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) كانت تمتاز بطابع الانفصال عن الدولة في عدم الخضوع لتوجيهات الحكام والسير في ركابهم فلم تتعاون معهم ولم تساند سلطاتهم لأنها وجدتهم بعيدين كل البعد عن واقع الحكم الإسلامي الذي يضمن تقدم الامة في جميع مجالات الحياة ويتكفل سعادة المجتمع في جميع الظروف .

وبهذا فقد قاومت السلطة انتشار ذكر آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنعت الناس عن الاتصال بهم والرواية عنهم .

ورغم ذلك كله فقد استطاعت مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) أن تجتاز تلك العقبات فكان لها السبق في نشر العلم والفضل في تحرير الفكر الإسلامي .

ومن الجدير بالذكر أن نشير الى الفرق بين تدخل الدولة الاموية في معارضتها لانتشار ذكر آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين تدخل الدولة العباسية في ذلك .

فلم يكن الامويون يتخذون ألاعيب سياستهم من وراء الستر ويعارضون أهل البيت(عليهم السلام) من طريق الخفاء والتكتم كما فعلته الدولة العباسية في أول عهدها بل كان أمرهم ظاهرا لا خفاء عليه وكان أبرز شيء عندهم هو العداء لأهل البيت (عليهم السلام)وعقاب أنصارهم فقد كانوا يصبون جام غضبهم على من يروي عن أهل البيت (عليهم السلام) أو ينقل عنهم فتوى لأن ذلك يمس شؤون الدولة فأبعدوا الفقهاء الذين يقفون لجانب الحق ولا يراعون جانب أغراض الدولة ومصالحها الخاصة وقربوا اليهم من جعلوه قنطرة للوصول الى تلك الأغراض كما أنهم اتخذوا مواليهم للفتيا ورفعوا من شأنهم :

كسليمان بن موسى الأشدق مولاهم الاموي المتوفى سنة (119 هـ) كان مفتي دمشق وعالمها(1).

وعبد الله بن ذكوان المتوفى سنة (130 هـ) مولاهم الاموي أحد الرواة عن أبي هريرة . قال الليث : رأيت أبا الزناد وخلفه ثلاثمائة طالب وقال الذهبي : ولي بعض امور بني امية(2).

وغيرهم من الموالي الذين شجعهم الامويون وجعلوا لهم منزلة في المجتمع ويدا في التشريع الإسلامي منهم :

نافع مولى ابن عمر المتوفى سنة (117 هـ) . وكان ابن عمر يقول له : اتق الله ويحك يا نافع ولا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس(3).

وسليمان بن يسار أخو عطاء المتوفى سنة (107 هـ) جعلوه للفتيا في المدينة(4).

ومكحول مولى بني هذيل المتوفى سنة (113 هـ) كان عالم دمشق ومرجع الفتيا(5).

وأبو حازم سلمة بن دينار الأعرج مولى بني مخزوم المتوفى سنة (140ه) كان عالم المدينة ومفتيها(6).

وسليمان بن طرخان المتوفى سنة (143 هـ) (7).

وإسماعيل بن خالد البجلي مولاهم المتوفى سنة (145 هـ) (8).

وعكرمة مولى ابن عباس المتوفى سنة (105 هـ) . وناهيك ما لعكرمة من منزلة لأحاديثه وأفاعيله(9) وغيرهم مما يطول ذكرهم .

وعلى كل حال فقد كان الامويون يقربون من يرون فيه أهلية لتنفيذ أغراضهم ولذلك غضبوا على سعيد بن المسيب المتوفى سنة (93 هـ) وضربوه وشهروه في المدينة لانه خالف غرض الدولة ولقي غيره من العلماء تنكيلا في سبيل ذلك .

وخلاصة القول أن الامويين كان اتجاههم للسياسة وقد ابتعدوا عن شؤون الدين فكان من سياستهم أن يقبلوا قول كل أحد ولا يسمعون لأهل البيت قولا ويعاقبون من يذكرهم في ذلك .

كما يحدثنا الإمام أبو حنيفة عندما دعي ليسأل عن مسألة فقهية من قبل أحد الامويين. قال أبو حنيفة : فاسترجعت في نفسي لأني أقول فيها بقول علي(رضي الله عنه)وأدين الله به فكيف أصنع ؟

قال: ثم عزمت أن أصدقه وأفتيه بالدين الذي أدين الله به وذلك أن بني امية كانوا لا يفتون بقول علي ولا يأخذون به الى أن يقول : وكان علي لايذكر في ذلك العصر باسمه وكانت العلامة بين المشايخ أن يقولوا : قال الشيخ. وكان الحسن البصري يقول فيه: أخبرنا أبو زينب(10).ويعطينا الحسن البصري(11) صورة جلية عن ذلك الاهتمام والجهد الذي بذله الامويون في معارضة حديث أهل البيت (عليهم السلام) فقد كان الحسن مع قربه من الدولة وعظيم منزلته في المجتمع إذا أراد أن يحدث عن علي (عليه السلام) يقول : قال أبو زينب ويظهر الابتعاد عن علي(عليه السلام) حتى ظهر منه ما يوجب الإنكار عليه فقال له أبان بن عياش : ماهذا الذي يقال عنك أنك قلته في علي (عليه السلام) ؟!

فقال : يا ابن أخي أحقن دمي من هؤلاء الجبابرة يعني بني امية لولا ذلك لسال بي أعشب(12).ولسنا بحاجة إلى إقامة الدليل على عظيم اهتمام الامويين في معارضة حديث أهل البيت (عليهم السلام) وخصومتهم لهم ومعاقبة من يتقرب اليهم .

يقول الشعبي : ماذا لقينا من آل أبي طالب ؟ إن احببناهم قتلنا وإن أبغضناهم دخلنا النار(13) . وقد برهن الامويون على ذلك بما احتفظ التاريخ بكثير منه .

وعلى أي حال فقد اشتدت المحنة على المسلمين وأصبح الأكثر يجازف بحياته لاختراق تلك الخطوط واجتياز تلك الحدود مما أوجب سخط الدولة عليهم .

ولما فسح المجال بضعف الدولة الاموية ووجد المسلمون بعض الحرية ازدحموا على أبواب بيت النبوة لأخذ التعاليم ورواية الحديث فكانت للإمام الباقر (عليه السلام) حلقة في المدينة لا تعقد أي حلقة علمية إلا بعد انتهائه من الحديث وكذا في مكة .

وقد احتفظ الحجاز بولائه لأهل البيت(عليهم السلام) والمدينة بصوره خاصة وكان الناس بأشد ما يكون من الحاجة الى الأخذ من أهل المدينة لقرب عهدهم من الرسول وفيها علماء الصحابة وهم أقوى الناس في الحديث حتى أن أكثر الصحابة الذين كانوا في سائر الأقطار يشدون الرحال الى المدينة ليتأكدوا من صحة ما يسمعون من الحديث .

وكثرت الهجرة الى دار الهجرة وتتابعت الوفود من أطراف البلاد ونشطت الحركة العلمية في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) ورفعت الموانع فكان بيته جامعة إسلامية يؤمها طلاب العلم ورواد الحقيقة فكان عدد المنتمين لمدرسته أربعة آلاف رجل .

وقد أفرد الحافظ أبو العباس أحمد بن عقدة المتوفى سنة (230 هـ) فيهم كتابا ذكر فيه أربعة آلاف رجل ممن روى الحديث عن الصادق (عليه السلام) وذكر منهم الشيخ الطوسي المتوفى سنة (460 هـ) ما يزيد على ثلاثة آلاف .

وقال الشيخ نجم الدين في المعتبر : «روى عن الصادق أربعة آلاف رجل وبرز بتعليمه من الفقهاء الأفاضل جم غفير الى أن يقول : حتى كتبت من أجوبة مسائله أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف سموها بالاصول» (14).وليس من الغريب أن يترأس الإمام الصادق (عليه السلام) تلك الحركة العلمية فهو من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان يتصف بصفات الكمال التي بعثت الاعجاب في نفوس الامة على اختلافهم في الآراء والمعتقدات . وله القدم الراسخ والباع الطويل في كل علم والنظر الثاقب في جميع العلوم فاشتهر ذكره في الحديث وسائر العلوم والفنون حتى وجد في الكوفة تسعمائة شيخ كل يقول : حدثني جعفر بن محمد .(15)

بعض المؤلفين من تلامذته

وقد ألف تلامذته المختصون به كتبا في سائر العلوم والفنون منهم :

1 أبان بن تغلب الربعي أبو سعيد الكوفي المتوفى سنة (141 هـ) . له كتاب «معاني القرآن» كتاب «القراءات» كتاب من الاصول على مذهبالشيعة(16).

2 علي بن يقطين المتوفى سنة (184 هـ) . له كتاب ما سئل عنه الإمام الصادق من امور الملاحم(17).

3 أبو حمزة ثابت بن أبي صفية الثمالي المتوفى سنة (150 هـ). له كتاب في التفسير وكان من تلامذة الباقر والصادق(عليهما السلام) (18).

4 أبو بصير يحيى بن القاسم المتوفى سنة (150 هـ) وهو من تلامذة الباقر والصادق(عليهما السلام). له تفسير القرآن ذكره ابن النديم .(19)

5 علي بن حمزة أبو الحسن الكوفي البطائني من تلامذة الإمام الصادق . له كتاب جامع أبواب الفقه ذكره النجاشي .(20)

6 إسماعيل بن أبي خالد محمد بن مهاجر. له كتاب مبوب في القضاء ذكره الشيخ الطوسي .(21)

7 المفضل بن عمر الكوفي . له كتاب التوحيد الذي أملاه عليه الإمام الصادق عندما التقى المفضل بأحد الزنادقة وناظره وطلب من الإمام أن يملي عليه بما يقوى به على مناظرة الزنادقة فأملى عليه الإمام الصادق تلك الدروس القيمة التي تحتوي على دلائل التوحيد ومحكم البراهين على وجود الصانع الحكيم من بيان هيئة العالم وتأليف أجزائه وكيف خلق الإنسان وتكوينه وكيفية ولادته وتغذيته وغرائزه وطبائعه وبيان الدماغ وعظمته وما فيه وفي سائر الأعضاء من عجيب الصنع وعظيم القدرة وذكر الفؤاد والنخاع والدم والأوردة والشرايين وبيان قوى البدن من جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة وبيان تركيب بدنه وتنسيق اعضائه وانتصاب القامة واعتدالها وبيان الحواس واعمالها واسرارها والوسائط التي بينها من ضياء وهواء وماهية الصوت وحقيقة الكلام والمنطق والكتابة وما اعطي الإنسان من علم والأشياء المخلوقة لمآرب الإنسان وما يتوقف عليه نظام حياته الى غير ذلك .

وقد شرحه الاستاذ الطبيب الماهر محمد الخليلي شرحا وافيا بالغرض وطبقه على العلوم الحديثة في مجلدين ولا يزال مخطوطا نتمنى له الظهور لعالم النشر .

8 هشام بن الحكم المتوفى سنة (185 هـ) .

أبو محمد الشيباني الكوفي من تلامذة الإمام الصادق وابنه موسى الكاظم(عليهما السلام) له من الكتب : كتاب «الإمام» كتاب «حدوث الأشياء» كتاب «الرد على الزنادقة» كتاب «الأكف» وغيرها . وقد ذكر له ابن النديم خمسة وعشرين كتابا(22).

9 محمد بن علي بن النعمان أبو جعفر الأحول المعروف بـ «مؤمن الطاق» وتسميه خصومه شيطان الطاق من أصحاب أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) كان متكلما حاذقا له من الكتب : كتاب «الإمامة» كتاب «المعرفة» كتاب «الرد على المعتزلة» كتاب في أمر طلحة والزبير(23).

وغير هؤلاء من تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) الذين ألفوا في عصره سائر العلوم والفنون كما ستقف عليه في بحث تدوين الفقه والحديث .

ونعود الى الحديث عن بعض رواة حديث الإمام الصادق (عليه السلام) من كبار العلماء وحملة الحديث من رؤساء طوائف وأئمة مذاهب وغيرهم مقتصرين على ذوي الشهرة منهم ومن خرج حديثه أصحاب الصحاح الستة وقد سلكنا طريق الاختصار لضيق المجال .

 

(1) سير أعلام النبلاء ج6 ص218 / 808 .

(2) ميزان الاعتدال ج4 ص94 / 4306 .

(3) تهذيب التهذيب ج7 ص267 .

(4) سير أعلام النبلاء ج5 ص373 / 540 .

(5) تهذيب الكمال ج28 ص464 / 6168 .

(6) تهذيب التهذيب ج4 ص129 / 2582 .

(7) تهذيب التهذيب ج4 ص181 / 2670 .

(8) تهذيب الكمال ج3 ص69 / 439 .

(9) تهذيب الكمال ج20 ص264 / 4009 .

(10) مناقب أبي حنيفة للمكي ج1 ص171 .

(11) أبو سعيد هو الحسن بن أبي الحسن البصري مولى ام سلمة المتوفى سنة (110 هـ) كان مناصرا لبني مروان ودولتهم مدينة له بقوة دفاعه كما هي مدينة للحجاج بقوة بطشه حتى قيل : «لولا لسان الحسن البصري وسيف الحجاج لوئدت الدولة المروانية في مهدها واخذت من وكرها».

(12) الحسن البصري لأبي الفرج بن الجوزي ص7 وابن أبي الحديد ج1 ص396 .

(13) عيون الأخبار لابن قتيبة ج2 ص112 .

(14) انظر الإمام الصادق والمذاهب الأربعة: الجزء الأول ص 87 المعتبر ج1 ص26 .

(15) أعيان الشيعة ج1 ص 664 .

(16) فهرست ابن النديم ص308 .

(17) المصدر السابق.

(18) كشف الظنون ج2 ص444 وفهرست ابن النديم ص50 .

(19) الفهرست ص244 .

(20) رجال النجاشي ج2 ص107 / 712 .

(21) الفهرست ص45 حديث 30 .

(22) الفهرست لابن النديم ص250 .

(23) الفهرست ص224 .