الإمام الصادق (عليه السلام)أجوبة ومُناظرات

الإمام الصادق (عليه السلام)أجوبة ومُناظرات

 

تمهيد

تقدّم القول أنّ عصر الإمام الصادق (عليه السلام)، كان عصر مجادلات ونظر، إذ اتسعت فيه دائرة الخلافات العقائدية، وانتشرت فيه المقالات المختلفة، وظهرت هناك عقائد ومذاهب لاتتمشى مع روح الإسلام، كما أن شُبه الزنادقة والملحدين قد ظهرت بصورة علنية، ووُجد يومئذ من ينكر وجود الله، مستعيناً على إثبات وجهة نظره بالمنطق اليوناني، إذ ظهرت نتائج التفاعل الفكري بين المسلمين وحضارة اليونان، وانتشرت مبادئ المنطق اليوناني والفكر الإغريقي.

ودار الجدل والنقاش حول مسائل أهمّها مسألة التشبيه والتجسيم والصفات، ومسألة تحمل الإنسان مسؤولية عمله، أو رفع كلّ مسؤولية عنه، وبراءته من كلّ إثم، الى غير ذلك من المسائل: كقِدم العالم وحدوثه وفكرة العدل والكبائر، ممّا هو مذكور في اُمّهات الكتب من الخلافات عندما ظهرت التيّارات المختلفة، التي إرتسمت في آفاق الفكر الإسلامي.

وقد رأينا فيما سبق موقف الإمام في ردّ تلك المزاعم، ودفع تلك الشبهات، وأوّل ما كان يسعى إليه هو إثبات وجود الله ووحدانيته، وعلاقة صفاته به، بأدلّة عقلية مبتنية على اُسس منطقية صحيحة، يحاول فيها إظهار الحقّ، وكشف الحقيقة بما أوتي من مواهب غزيرة، ومقدرة على البيان، فمرة يأتي بأوجز بيان في برهانه مع الوفاء بالقصد، واُخرى يطنب في الدليل ويوضح الحجّة، ويسترسل في البيان، كما في توحيد المفضّل وغيره، فمن إيجازه حينما يسأل عن الدليل عن الخالق يقول (عليه السلام): "ما بالناس من حاجة" .(207)

فما أوجزها من كلمة وأكبرها من حجة، فإنّا نجد الناس في حاجة مستمرة في كلّ شأن من شؤون الحياة، وهذه الحاجة تدلّ على وجود مآل لهم في حوائجهم، غنيّ عنهم بذاته، وأنّ ذلك المآل واحد، وإلاّ لاختلف السير والنظام، ويسأله مرة هشام بن الحكم بقوله ما الدليل على أنّ الله واحد؟ فيقول(عليه السلام): "إتصال التدبير وتمام الصنع".(208)

وكان ما يوحيه وجود الإمام الصادق من ثقة في النفوس، وما يبعثه من اطمئنان، من أكبر عوامل التماسك والاحتفاظ بالإرتباط بالاُصول وفهم المبادئ الكبرى في العقيدة الإسلامية، ومع ما يتمتّع به أفراد مدرسة الإمام الصادق وتلامذته من قدرة على الحجّاج والمناظرة، فإنّ أصالة المنهج وبناء الاُسلوب جعلا من تلك التيّارات ـ التي غمرت الآخرين وراحوا معها متأثرين بها، أو مقلّدين لها في منهجها مع الاحتفاظ بالمضمون الإسلامي ـ ضعيفة أمام قوّة برهانها، غير قادرة على زحزحة المناظرين والمنافحين عن الفكر الإسلامي، بل إنّ طريقة الإمام الصادق تمكّنت من التحكّم في تأثير التيارات وردّها.

موقف الإمام من الزنادقة والشُبه الفكرية

وإنّ موقف الإمام الصادق (عليه السلام) في الدفاع عن الإسلام في ردّ شُبه الزنادقة والدهرية، و خصومه من أهل الأديان الاُخرى، وقد دبجت فيه آلاف الصفحات في مئات الكتب، وهي ثروة فكرية لا غنى لأيّ أحد من المسلمين عنها، كما أنّه (عليه السلام) قد وجّه أصحابه على قدر كفاءتهم ومقدرتهم، ليخوضوا تلك المعارك الفكرية، ويقفوا في صدّ تلك التيارات والأعاصير، فكانوا خير معين على حلّ المشاكل الفكرية وما يتبعها من مشاكل اجتماعية كان الإمام يهتمّ بها غاية الاهتمام،يقومون بتنفيذ الخطط التي يرسمها لهم وتحت إشرافه يكون القيام بها والسير عليها، فهو المصدر الأوّل والمنتهى الأخير لتلك التعاليم، التي تقوم بها النخبة الصالحة من أصحابه.

فكانت لهم اليد الطولى في خوض تلك المعارك ومحاربة أهل الإلحاد والزندقة، ومناظرة أهل العقائد الفاسدة والفرق الشاذة. وكان (عليه السلام) ينهى عن الكلام في ذات الله فيقول: "تكلّموا في خلق الله ولا تتكلموا في الله، فإنّ الكلام في الله لا يزيد صاحبه إلاّ تحيّراً".

ويقول (عليه السلام) لمحمد بن مسلم: "يامحمد، إنّ الناس لا يزال بهم المنطق حتى يتكلّموا في الله، فإذا سمعتم ذلك فقولوا لا إله إلاّ الله" .(209)

ويقول (عليه السلام): "تكلموا في كل شيء ولا تتكلموا في ذات الله".(210)

ويقول (عليه السلام): "إياكم والتفكر في الله، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه".(211)

وأشرف(عليه السلام) بنفسه على ما يدور بين أصحابه، فأخضع الجدل والمناقشة لاُسس تجعل ما يدور عنده مختلفاً ومتميّزاً حتى أنّه كان لا يتردد في النهي عن علم الكلام الذي يجري على الأهواء والرغبات ففي رواية يونس بن يعقوب، قلت: جعلت فداك سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لأصحاب الكلام، يقولون هذا ينقاد وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله فقال(عليه السلام): "إنّما قلت ويل لقوم تركوا قولي وذهبوا الى ما يريدون به"(212)

فهو (عليه السلام) يقصد في النهي عن الكلام الجدلي الذي تاه به كثير من الناس، لاعتمادهم فيه على خواطر توحيها إليهم نفوس ساقها الى الكلام حب الغلبة; دون أن يستندوا الى ركن وثيق، أو يأخذوا هذا العلم من معدنه الصحيح .

لقد كان الإمام الصادق (عليه السلام) محطّ آمال الاُمة ومعقد أمانيها، وكانت مدرسته يؤمّها كبار العلماء ورجال الفلسفة وطلاب العلوم على اختلاف أنواعها، فهو لم يختصّ بعلم دون آخر، ولم يقتصر على منهج واحد، فكان كلّ وارد يجد عنده ما يطلبه، وكلّ سائل يأخذ عنه أحسن الجواب، لذلك أصبحت الوفود تنهال على مدرسته من جميع الأقطار; لأنّهم وجدوا فيه المعلّم الصادق والإنسان الكامل.

يقول الاُستاذ رمضان لاوند: إنّ الإمام الصادق أبا عبد الله (عليه السلام)، هو نموذج لإنسانية المعرفة في العصر الإسلامي الذهبي، بل بداية رائعة له، هيّئت له أسباب هذه الاُمة، بالإضافة الى ذكائه الوقّاد وجهوده البالغة في البحث والتأمل والدراسة، كان من اُولئك الملهمين الذين لايجود التاريخ الإنساني بهم، إلاّ في فترات متباعدة، يضاف الى هذا أيضا، أنّه ثمرة من ثمرات أهل البيت النبوي الشريف، ممّن كانوا في الذروة من قادة العرب وأئمّتهم.

والحقّ أنّ إمامته العلمية لم تكن مقصورة على أتباعه كما ذكرت آنفاً، فلقد رأينا في مجموعة الأخبار الواردة في الفصول السابقة أنّ عمرو بن عبيد، وهو من رجال السنة، قد أتاه يسأله عن أمر دينه ويستفتيه في شؤون مختلفة، من الأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة، كما أثبتت الأخبار التي أصبحت لها صفة التواتر، وأنّ أبا حنيفة النعمان، وهو صاحب أحد مذاهب السنة الأربعة، قد لازمه مدة سنتين من حياته الدراسية، وأنّ سفيان الثوري، وهو صاحب مذهب من مذاهب السنة، قد لازمه وناقشه وجاوره، وكان منه كما يكون التلميذ من اُستاذه. ولئن كان سواه من علماء العصر العباسي الذين تميّزوا بالثقافة الإنسانية الشاملة، قد برز في علم دون آخر. فإنّ الإمام الصادق(عليه السلام) لم يكن في علم من هذه العلوم مقصراً به عن الآخر أبداً، لقد كانت الركائب تحمل إليه طلاب الحكمة، وأصحاب الفقه والفلسفة، و علم الكلام، والعلوم الطبيعية، واللغة، والنحو، والصرف، والبيان والآداب في شعرها ونثرها، والتفسير والسنة النبوية، وأيّام عرب الجاهلية والإسلام.

يضاف الى هذا كلّه وقار وهيبة واستقامة، وصدق وصراحة، وحسن بيان، وتصرّف وقيادة حازمة لأتباعه، وسياسة ماهرة لأنصاره.(213)

وعلى أيّ حال فإنّ الإمام الصادق (عليه السلام) كان وحيد عصره في مختلف العلوم والفنون، وظهرت في شخصيته آثار الوراثة بأجلى صورها، وأبرز معانيها، إذ هو رضيع ثدي الإيمان، ووليد بيت الوحي ووارث علم النبي، وحافظ تراثه.

لقد كان (عليه السلام) علماً من أعلام الهدى ودعاة الرشاد، يدعو للخير ليوجد قوة فعالة تتجه نحو الخير، ليحيى المسلمون حياة طيبة.

ومهما تكن العوامل التي اتخذها أعداؤه في صرف الناس عنه، فإنّها لم تؤثر الأثر الذي يطلبونه في تحويل الناس عنه، إذ العقيدة أكبر مؤثر في تكوين العقل الإنساني - رقيّاً وانحطاطاً - فإنّ الناس لا يجهلون ما لأهل البيت من الأثر العظيم في المجتمع الإسلامي، وقد منحهم النبي (صلى الله عليه وآله) صفة لا يشاركهم فيها أحد، وهي الاقتران بالكتاب، وعدم افتراقها الى يوم القيامة، وقد مرّت الإشارة لذلك. ولقد إنهال الناس على مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام)، من كلّ قطر على اختلاف نزعاتهم وآرائهم، فكان هو المعلّم الأوّل، والمرشد الناصح، والمحدّث الصادق.

وليس بالإمكان حصر أجوبته عن المسائل التي وجّهت إليه من طلاب العلم، ولا بيان مناظراته التي ناظر بها أهل الأديان المختلفة والفرق المتفرقة.

ونحن هنا نشير للبعض منها لئلا يخلو هذا الكتاب عن إثبات شيء منها :

سأله أبو حمزة عمّا يقال من أنّ الله جسم؟ فقال (عليه السلام): "سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلاّ هو ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا يحدّ، ولا يحسّ، ولا تدركه الحواس، ولا يحيط به شيء ولا جسم ولا تخطيط ولا تحديد"(214)

ودخل عليه نافع بن الأزرق فقال: يا أبا عبد الله، أخبرني متى كان الله؟ فقال(عليه السلام): "متى لم يكن حتى أخبرك متى كان، سبحان من لم يزل ولا يزال فرداً صمداً لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً".(215)

وقال ابن أبي يعفور سألت أبا عبد الله عن قول الله: هو الأول والآخر، فقلت أمّا الأول فقد عرفناه، وأمّا الآخر فبيّن لنا تفسيره.

فقال (عليه السلام): "إنّه ليس شيء يبيد أو يتغير ويدخل التغيير والزوال والانتقال، من لون إلى لون، ومن هيئة الى هيئة، ومن صفة الى صفة، ومن زيادة الى نقصان ومن نقصان الى زيادة، إلاّ ربّ العالمين، فإنّه لم يزل ولا يزال بحالة واحدة، وهو الأول قبل كلّ شيء على ما لم يزل لا تختلف عليه الصفات والأسماء..."الحديث .(216)

وقال محمد بن مارد، لأبي عبد الله (عليه السلام) حديث روي لنا أنّك قلت: إذا عرفت فاعمل ماشئت. فقال (عليه السلام): قد قلت ذلك. قال محمد: وإن زنوا وإن سرقوا أو شربوا الخمر؟ فقال (عليه السلام): "إنّا لله وإنا إليه راجعون، والله ما أنصفونا أن نكون أخذنا بالعمل ووضع عنهم، إنّما قلت إذا عرفت فاعمل ماشئت من قليل الخير وكثيره". (217)

ومثله عن فضيل بن عثمان: قال: سئل أبو عبد الله الصادق (عليه السلام)، عمّا روي عن أبيه : إذا عرفت فاعمل ما شئت وإنّ بعضهم يستحلّ بعد ذلك كلّ محرم، فقال(عليه السلام) : " مالهم لعنهم الله؟! إنّما قال أبي إذا عرفت الحق فاعمل ماشئت من خير يقبل منك".(218)

وقد كان لإشاعة هذا الحديث من قبل أعداء أهل البيت(عليهم السلام)، أثر كبير في نفس الإمام الصادق (عليه السلام) ، فإنّ اُولئك القوم الذين يريدون الوقيعة والتشويه قد تأوّلوا هذا الحديث، وقلّبوا حقيقته، وأذاعو بين العامة أنّ معرفة الإمام كافية عن العمل، وقالوا: إنّما الدين المعرفة، فإذا عرفت الإمام فاعمل ما شئت.

وقد اهتمّ الإمام الصادق (عليه السلام) لهذه الإشاعة الكاذبة، والتأويل الباطل، فأعلن البراءة ممّن ذهب لذلك، ولعنهم على رؤوس الأشهاد، وبسط القول في معنى هذا الحديث ومدلوله، وقال(عليه السلام) عدّة مرات: إنّا لله وإنا إليه راجعون، تأول الكفرة ما لا يعلمون، وإنما قلت: اعرف واعمل ما شئت من الطاعة، فإنّه مقبول منك، لأنّه لا يقبل الله عملاً من عامل بغير معرفة، لو أن رجلاً عمل أعمال البر كلها، وصام دهره، وقام ليله، وأنفق ماله في سبيل الله، وعمل بجميع طاعة الله، ولم يعرف نبيّه الذي جاء بتلك الفرائض، فيؤمن به ويصدّقه، وإمام عصره الذي افترض الله طاعته فيطيعه، لم ينفعه الله بشيء من عمله، قال الله عز وجل في مثل هؤلاء: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَل فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا).(219)

وكتب(عليه السلام) الى الآفاق بذلك كتاباً، قال فيه: وا نّما يقبل الله العمل من العباد بالفرائض التي افترضها عليهم، بعد معرفة من جاء بها من عنده، ودعاهم إليه: فأوّل ذلك معرفة من دعا إليه وهو الله الذي لا إله إلاّ هو، وتوحيده، والاقرار بربوبيته، ومعرفة الرسول الذي بلّغ عنه وقبول ما جاء به، ثم معرفة الأئمة بعد الرسول الذين افترض طاعتهم في كلّ عصر وزمان على أهله، والإيمان والتصديق بجميع الرسل والأئمة، ثم العمل بما افترض الله بأنّ على العباد من الطاعات، ظاهراً وباطناً، واجتناب ما حرم الله بأنّ عليهم ظاهراً وباطناً (الخبر) .(220)

وقال سليمان بن مهران: سألت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام)، عن قول الله بأنّ (وَالأرضُ جَمِيعاً قَبضتُهُ) (221) فقال (عليه السلام): يعني ملكه لا يملكها معه أحد والقبض من الله تعالى في موضع آخر المنع والبسط منه الاعطاء والتوسع، كما قال بأنّ: (واللهُ يَقبِضُ وَيَبسُطُ وَإليه تُرجَعُون)(222) يعني يعطي ويوسع ويمنع، والقبض منه بأنّ في وجه آخر الأخذ، والأخذ في وجه القبول منه، كما قال تعالى: (وَيَأخُذُ الصَّدَقَاتِ) (223)أي يقبلها من أهلها ويثيب عليها.

قال سليمان فقلت: فقوله تعالى: (وَالسَّمَواتُ مَطويَّاتٌ بِيَمِينِه) (224)؟ قال(عليه السلام): اليمين اليد، واليد القدرة والقوة، فقوله بأنّ: (وَالسَّمَواتُ مَطويَّاتٌ بِيَمِينِهِ)أي بقدرته وعونه، سبحانه وتعالى عمّا يشركون .(225)

وسأله هشام بن الحكم بقوله: ما الدليل على أنّ الله واحد؟ فقال (عليه السلام): اتصال التدبير وتمام الصنع.(226)

وسأله أبو شاكر الديصاني بقوله: ما الدليل على أنّ لك صانعاً؟ فقال (عليه السلام): "وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين: إما أكون صنعتها أنا أو صنعها غيري، فإن كنت صنعتها فلا أخلو من أحد معنيين، إما أن أكون صنعتها وكانت موجودة، فقد استغنيت عن صنعتها، وإن كانت معدومة فإنّك تعلم أنّ المعدوم لا يحدث شيئاً، فقد ثبت المعنى الثالث أنّ لي صانعاً، وهو ربّ العالمين". فقال الديصاني وما أحار جواباً.(227)

وعنه (عليه السلام) في جواب من سأله عن معنى قوله تعالى (الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى) قال: "استوى من كلّ شيء، فليس شيء اقرب إليه من شيء، لم يبعد منه بعيد، ولم يقرب منه قريب، ثم قال: من زعم أنّ الله بأنّ من شيء أو في شيء أو على شيء فقد كفر".

فقال له السائل: فسّر لي ذلك. فقال (عليه السلام): "من زعم أنّ الله من شيء فقد جعله محدَثاً، ومن زعم أنّه في شيء فقد جعله محصوراً، ومن زعم أنّه على شيء فقد جعله محمولاً".(228)

وسئل عن شبهة المجسّمة، فقال (عليه السلام) : "إنّ الجسم محدود متناه، والصورة محدودة متناهية، فإذا احتمل الحدّ احتمل الزيادة والنقصان، وإذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقاً".

فقال السائل: فما أقول؟ فقال (عليه السلام): "لا جسم ولا صورة، وهو مجسّم الأجسام، ومصور الصور، لم يتجزأ، ولم يتناه، ولم يتزايد، ولم يتناقص، لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق ولا بين المنشئ والمنشأ".(229)

وقال (عليه السلام): "فمن زعم انّ الله في شيء أو على شيء، أو يحول من شيء الى شيء، أو يخلو منه شيء أو يشتغل به شيء فقد وصفه بصفة المخلوقين، والله خالق كل شيء لا يقاس بالقياس، ولا يشبه الناس، لا يخلو منه مكان، ولا يشغل به مكان، قريب في بُعده، بعيد في قربه، ذلك الله ربنا لا إله غيره".(230)

وسأله سليمان بن مهران الأعمش: هل يجوز أن نقول، إنّ الله بأنّ في مكان؟ فقال (عليه السلام): "سبحان الله وتعالى عن ذلك، أنه لو كان في مكان لكان محدثاً، لأنّ الكائن في مكان محتاج الى المكان، والاحتياج من صفات المحدَث لا من صفات القديم".

وسئل (عليه السلام) عن قوله عز وجل: (اهدِنَا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ) قال (عليه السلام): يعني أرشدنا الى الطريق المؤدّي الى محبتك، والمبلّغ الى دينك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو نأخذ بآرائنا فنهلك.(231)

قال هشام بن الحكم : كنت عند الإمام الصادق (عليه السلام) إذ دخل عليه معاوية بن وهب، وعبد الملك بن أعين، فقال له معاوية: يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ما تقول في الخبر الذي روي أنّ رسول الله رأى ربّه؟ على أيّ صورة رآه؟ وعن الحديث الذي رووه أنّ المؤمنين يَرون ربّهم في الجنة، على أيّ صورة يرونه؟ فتبسّم(عليه السلام)، ثم قال: يامعاوية، ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة، يعيش في ملك الله ويأكل من نعمه، ثم لا يعرف الله حقّ معرفته! ثم قال: يا معاوية، إنّ محمداً لم ير الربّ تبارك وتعالى بمشاهدة العيان، وأن الرؤية على وجهين: رؤية القلب ورؤية البصر، فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب، ومن عنى برؤية البصر فقد كفر بالله وآياته، لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) من شبّه الله بخلقه فقد كفر. ولقد حدثني أبي عن أبيه عن الحسين بن علي(عليهم السلام) : سئل أمير المؤمنين(عليه السلام) فقيل له: يا أخا رسول الله، هل رأيت ربّك؟ فقال: وكيف أعبد من لم أره؟ لم تره العيون بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، فإذا كان المؤمن يرى ربّه بمشاهدة البصر فإن كلّ من جاز عليه البصر فهو مخلوق، ولا بد للمخلوق من الخالق. فقد جعلته إذن محدثاً مخلوقاً، ومن شبّهه بخلقه فقد اتّخذ مع الله شريكاً. ويلهم أو لم يسمعوا بقوله تعالى: (لاَّتُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(232) وقوله: (لَنْ تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا)(233)وإنما طلع من نوره على الجبل كضوء يخرج من سم الخياط، فدُكّت الأرض، وصعقت الجبال، فخرّ موسى صعقاً، فلما أفاق قال: سبحانك تبتُ إليك من قول من زعم أنّك ترى، ورجعت الى معرفتي بك، أنّ الأبصار لا تدركك، وأنا أوّل المؤمنين وأوّل المقرين بأنّك ترى و لا تُرى وأنت بالمنظر الأعلى.

ثم قال (عليه السلام) : إنّ أفضل الفرائض وأوجبها معرفة الربّ، والإقرار له بالعبودية وحدّ المعرفة أن يعرف أنّه لا إله غيره، ولا شبيه له ولا نظير، وأن يعرف أنه قديم مثبت موجود غير مقيد، موصوف من غير شبيه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وبعده معرفة الرسول والشهادة بالنبوة".(234)

وله (عليه السلام) كثير من الحجج في الردّ على من جوّزوا الرؤية لله في البصر سواء في الدنيا أو في الآخرة، لأنّهم اختلفوا في ذلك، إذ جوّزها قوم في الدنيا والآخرة، ومنعها آخرون في الدنيا وأجازوها في الآخرة، كما هو مذهب الشافعي.

وذهب أهل البيت(عليهم السلام) الى استحالة الرؤية في الدنيا والآخرة، وعدم إمكانها مطلقاً لأنه تعالى (لاَّتُدْرِكُهُ الاَْبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(235). لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلاً أو تابعاً، كالأجسام والهيئات، وعلّل ذلك بأنّ الباصرة لا تكون في حيّز الممكنات ما لم تتصل أشعة البصر بالمرئي ويمتنع إتصال شيء بذاته جلّ وعلا.

ولمّا اشتهرت مقالة المفوضة، وهم الذين يقولون بتفويض الأفعال الى المخلوقين، ورفعوا عنها قدرة الله وقضاءه، عكس المجبرة الذين أسندوا الأفعال إليه تعالى، وأنّه أجبر الناس على فعل المعاصي، وأجبرهم على فعل الطاعات، وأنّ أفعالهم في الحقيقة أفعاله، فكان أثر هاتين الفكرتين سيّئا في المجتمع الإسلامي. فتصدّى الإمام (عليه السلام) لردّ هؤلاء، وأعلن العقيدة الصحيحة في جوابه البليغ وردّه الشهير وهو قوله: "لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين".(236)

وخلاصته: أنّ أفعالنا - من جهة - هي أفعالنا وتحت قدرتنا واختيارنا، ومن جهة اُخرى هي مقدورة لله تعالى، داخلة تحت سلطانه فلم يجبرنا على أفعالنا، حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي، لأنّ لنا القدرة على الاختيار في ما نفعل، ولم يفوّض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والأمر وهو قادر على كلّ شيء ومحيط بالعباد.

وبهذا تعتقد الشيعة، ومذهبهم وسط بين المذهبين كما بيّنه أئمّة الهدى ودلّت عليه كلمة الإمام الصادق (عليه السلام)، في جوابه هذا.

وقال محمد بن عجلان قلت لأبي عبد الله الصادق: فوض الله الأمر الى العباد؟ فقال (عليه السلام): "الله اكرم من أن يفوّض إليهم".

قلت: فأجبر العباد على أفعالهم؟ فقال (عليه السلام) : "الله أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثم يعذّبه عليه".(237)

وبلغه (عليه السلام) مقالة الجعد بن درهم(238) وهي أنّه جعل في قارورة تراباً وماءً، فاستحال دوداً وهواماً، فقال الجعد: أنا خلقت هذا لأني سبب كونه. فقال الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): "ليقل كم هي وكم الذكران والإناث إن كان خلقها، وكم وزن كل واحدة منهن، وليأمر الذي سعى الى هذا الوجه أن يرجع الى غيره!"(239)

قال ابن حجر: فبلغه ذلك - أي قول الإمام الصادق (عليه السلام) - فانقطع ورجع.(240)

وسأله سدير الصيرفي عن معرفة الله تعالى، فأجابه (عليه السلام) عن المعرفة بالوهم، والمعرفة بالاسم، والمعرفة بالصفة، وفصّل له جميع هذه الأنواع، وذكر له المعرفة الصحيحة، ثم ذكر صفة الإيمان الصحيح، وكيف يصبح الرجل مؤمناً حقّاً، وأنّ ذلك لا يحصل إلاّ بالإقرار والخضوع لله والتقرّب إليه، والأداء له بما فرض من صغير وكبير، ثم أخذ في التفصيل والبيان، وذكر بعد ذلك صفات الإسلام العامة، والأشياء التي يستحقّ الإنسان بها إطلاق الإسلام عليه.

ثم ذكر أسباب الخروج من الإيمان، وذكر معنى الفسق، وبيّن الكبائر التي يكون بها فساد الإيمان الى آخر ما ذكر في الجواب عن ذلك تفصيلاً.(241)

طرق معيشة العباد

وسأله سائل فقال: كم جهات معائش العباد التي فيها الاكتساب والتعامل ووجوه النفقات؟ فقال (عليه السلام) : "جميع المعائش كلّها من وجوه المعاملات فيما بينهم ممّا يكون لهم فيها المكاسب أربع جهات من المعاملات.

فقال السائل: أكلّ هذه الأربع جهات حلال، أو كلّها حرام، أو بعضها حلال وبعضها حرام؟ فقال (عليه السلام): في هذه الأجناس الأربعة حلال من جهة، وحرام من جهة، وهذه الأجناس معروفات، فأوّل هذه الجهات الأربع الولاية وتولية بعضهم على بعض، ثم التجارة في جميع البيع والشراء بعضهم من بعض، ثم الصناعات من جيمع صنوفها، ثم الإجارات، وكلّ هذه تكون حلالاً من جهة وحراماً من جهة، والفرض من الله على العباد في هذه المعاملات الدخول في جهات الحلال منها، والعمل بذلك الحلال واجتناب جهة الحرام منها.

ثم أخذ (عليه السلام) في التفصيل : فذكر الولاية وقسّمها الى حلال، وهي ولاية ولاة العدل الذين أمر الله بولايتهم وتوليتهم على الناس. وأمّا الحرام منها، فهي الولاية لأئمة الجور والعمل لهم، والكسب معهم بجهة الولاية لهم، فهو حرام ومحرم، معذب من فعل ذلك قليلاً أو كثيراً. وعلّل (عليه السلام) ذلك بأنّ ولاية الوالي الجائر دروس للحقّ كلّه، وإحياء الباطل كلّه، وإظهار الظلم والفساد، وإبطال الكتب، وهدم المساجد، وتبديل سنّة الله وشرائعه، ولذلك حرّم العمل معهم ومعونتهم، والكسب معهم إلاّ بجهة الضرورة، نظير الضرورة الى الدم والميتة.

ثم ذكر التجارة ومايحلّ من البيع وما يحرم منه، فالحلال ما هو غذاء العباد وقوامهم في اُمورهم، في وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره الى آخر بيانه في ذلك، والحرام منه هو كلّ أمر يكون فيه الفساد مما هو منهيّ عنه من جهة أكله وشربه، أو كسبه أو نكاحه، أو ملكه، أو إمساكه، أو هبته أو عاريته.

ثم ذكر (عليه السلام) بقيّة الجهات من الصناعة والإجارة، ووجوه إخراج الأموال وإنفاقها وما يحلّ للإنسان أكله وما لا يحلّ، وما يجوز من اللباس وما لا يجوز، إلى آخر بيانه وتفصيله في جوابه لسائله.

سلوك الوالي مع الرعية

وسأله عبد الله النجاشي(242): عمّا يقرّبه الى الله تعالى والى رسوله بما يعمله في ولايته مع الرعية. فأجابه (عليه السلام) بجواب طويل، ورسالة مفصّلة منها قوله: "فإنّي ملخص لك جميع ما سألت منه، إن أنت عملت به ولم تجاوزه رجوت أن تنجو إن شاء الله تعالى، أخبرني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: من استشاره أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة سلبه الله لبه، واعلم أني ساُشير عليك برأي إن أنت عملت به تخلصت ممّا أنت متخوفه، واعلم أنّ خلاصك ونجاتك في حقن الدماء، وكفّ الأذى عن أولياء الله والرفق بالرعية، والتأنّي وحسن المعاشرة مع لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، ومداراة صاحبك ومن يرد عليك من رسله، وارتق فتق رعيتك بأن توافقهم على ماوافق الحقّ والعدل إن شاء الله.وإيّاك والسعاة وأهل النمائم، فلا يلتزقن منهم بك أحد، ولا يراك الله يوماً وليلة وأنت تقبل منهم صرفاً ولا عدلاً فيسخط الله عليك...

ومنها : "ولا تستصغرن من حلو أو فضل طعام تصرفه في بطون خالية، ليسكن بها غضب الله تبارك وتعالى، واعلم أني سمعت من أبي يحدث عن آبائه عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، أنّه سمع النبيّ(صلى الله عليه وآله) يقول: ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع. فقالوا: هلكنا يا رسول الله، فقال (صلى الله عليه وآله) : من فضل طعامكم ومن فضل تمركم ورزقكم تطفون بها غضب الربّ..."يا عبد الله إيّاك أن تخيف مؤمناً، فإنّ أبي محمداً حدّثني عن أبيه عن جدّه علي بن أبي طالب أنّه كان يقول: من نظر الى مؤمن نظرة ليخيفه بها أخافه الله يوم لا ظل إلاّ ظلّه".

ثم أخذ (عليه السلام) يوجه له نصائحه ويذكر له مكارم الأخلاق وما يلزم أن يتحلّى بها كلّ مسلم، ويروي له أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذلك، ويختم جوابه بقوله: "اُوصيك بتقوى الله وإيثار طاعته، والاعتصام بحبله، فإنّه من اعتصم بحبل الله فقد هدي الى صراط مستقيم، فاتق الله ولا تؤثر أحداً على رضاه، واعلم بأنّ الخلائق لم يوكلوا بشيء أعظم من التقوى، وأنّه وصيتنا أهل البيت، فإن استطعت ألا تنال شيئاً من الدنيا تسأل عنه غداً فافعل".(243)

و ذكر الحلواني في نزهة الناظر، أنّ كاتب المهدي المعروف بأبي عبد الله سأل الإمام الصادق عمّا يستطيع به مداراة السلطان وتدبير أمره، فأجابه (244)الإمام (عليه السلام) بما يرشده لذلك، وشرح له طرق السلوك في مداراة السلطان، وأوصاه باُمور هامة، ونصحه في أشياء كثيرة، ولا يخفى أنّ السائل كان كاتباً للمهدي وهو في ولاية عهده، وكان ممّن يوالي أهل البيت شأنه شأن كثير من القوّاد والاُمراء والكتاب، الذين دخلوا في سلطان بني العباس لمساعدة الضعفاء، ودفع الظلم عنهم قدر استطاعتهم.

التوحيد في أجوبة الإمام للمفضّل بن عمر

وهو جوابه للمفضل بن عمر (245) حينما سمع كلام ابن أبي العوجاء وإنكاره للصانع، فناظره المفضل ثم بادر الى الصادق (عليه السلام) وطلب منه أن يملي عليه مايقوى به على مناظرة الزنادقة، فأجابه بتلك الدروس القيّمة، و الحكم النافعة، التي تحتوي على دلائل التوحيد، ومحكم البراهين على وجود الصانع الحكيم، من بيان هيئة العالم، وتأليف أجزائه، ممّا يلزم الكلّ أن يرفضوا فكرة المصادفة في تجمع هذه الكائنات، وفكرة خلود المادة التي يقول بها الدهرية والملحدون .

وبعد ذلك ذكر كيفية خلق الإنسان وتكوينه، و كيفية ولادته وتغذيته، وغرائزه، وطبائعه وبيان الدماغ وعظمته، وما فيه من سائر الأعضاء من عجيب الصنع، وعظيم القدرة، إلى آخر ما يتعلّق بالحلقة الاُولى من حديثه، وهو المجلس الأوّل.

وفي الحلقة الثانية تحدّث عن الحيوان وأنواعه، والحكمة في خلقه مفصلاً موضحاً، مفنداً أقوال الخصوم، ثم ربط تفصيله لخصائص الكائنات الحية، أنواعها وطبقاتها بفكرة الله ووجود الخالق والمخلوق.

وفي اليوم الثالث بدأ يملي حلقته فتحدّث مطولاً عن نظام الكواكب العجيب، وعقلانية تنظيم الأجواء، وعلاقة الإنسان بهذه وتلك، رابطاً هذا كلّه أيضاً بفكرة الوجود الإلهي ووحدانيّة الله.

وفي اليوم الرابع تحدّث عن الأوبئة والأمراض، والآفات المختلفة التي تصيب الإنسان والحيوان والنبات، وعقلانية علاقتها بخالق الوجود ووحدانيته أيضاً.

ونرى من اللازم الإشارة لذلك اختصاراً، إذ لا سبيل لنقل النصوص كاملة، كما وردت لطولها، ولذلك نكتفي بذكر البعض من آيات علم الإمام الصادق التي تحوي خصائص منطقه ومزايا اُسلوبه في بحث دلائل التوحيد من خلال عرض الدقائق التي ليس بمقدور الآخرين التعرّف عليها، فضلاً عن التدليل وجعلها مادّة في المناظرة، ولابدّ لهذه الأجوبة أن تجد حظّها من البحث والبيان، فهي من آثار الإمام التي يجدر بالباحثين تناول مضامينها ومنهجها الذي قامت عليه.

المجلس الأوّل في خلق الإنسان

قال (عليه السلام) بعد أن ذكر الملحدين وأسباب شكّهم وتهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه: نبتدي يا مفضل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به، فأوّل ذلك مايدبر به الجنين في الرحم، وهو محجوب في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ولا دفع أذى، ولا استجلاب منفعة، ولا دفع مضرة، فإنّه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه، كما يغذو الماء النبات، فلا يزال ذلك غذاءه حتى إذا كمل خلقه، واستحكم بدنه، وقوي أديمه على مباشرة الهواء وبصره على ملاقاة الضياء، هاج الطلق باُمه فأزعجه أشد إزعاج وأعنفه حتى يولد، وإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم اُمّه الى ثدييها، فانقلب ذلك الطعم واللون الى ضرب آخر من الغذاء وهو أشدّ موافقة للمولود من الدم، فيوافيه في وقت حاجته إليه، فحين يولد تلمظ وحرّك شفتيه طلباً للرضاع، فهو يجد ثدي اُمه كإداوتين لحاجته إليه، يغتذي باللبن ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء ليّن الأعضاء، حتى إذا تحرّك واحتاج الى غذاء فيه صلابة ليشتد ويقوى بدنه، طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس، ليمضغ بها الطعام ويسهل له إساغته، فلا يزال كذلك حتى يدرك...

ثم قال (عليه السلام): اعتبر يا مفضل فيما يدبّر الإنسان في هذه الأحوال المختلفة، هل يمكن أن تكون بالإهمال؟ الى أن يقول (عليه السلام): فمن هذا الذي يرصده حتى يوافيه بكل شيء من هذه المآرب؟ إلاّ الذي أنشأه خلقاً بعد إن لم يكن، ثم توكل له بمصلحة بعد أن كان، فإن كان الإهمال يأتي بمثل هذا التدبير فقد كان يجب أن يكون العمد والتقدير يأتيان بالخطأ والمحال، لانّهما ضد الإهمال، وهذا فظيع من القول، وجهل من قائله، لأنّ الإهمال لا يأتي بالصواب، والتضاد لا يأتي بالنظام، تعالى الله عمّا يقول الملحدون علوّاً كبيراً.

ثم قال (عليه السلام) : ولو كان المولود يولد فاهماً عاقلاً لأنكر العالم عند ولادته، ولبقي حيران تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف، وورد عليه ما لم ير مثله، من اختلاف صور العالم من البهائم والطير، الى غير ذلك ممّا يشاهده ساعة بعد ساعة ويوماً بعد يوم.ثم لو ولد عاقلاً كان يجد غضاضة إذا رأى نفسه محمولاً مرضعاً، معصّباً بالخرق مسجى في المهد لأنّه لا يستغني عن هذا كلّه لرقة بدنه ورطوبته حين يولد، ثم لا يوجد له من الحلاوة والوقع من القلوب ما يوجد للطفل، فصار يخرج الى الدنيا غبياً غافلاً عمّا في أهله، يتلقى الأشياء بذهن ضعيف، ومعرفة ناقصة، ثم لا يزال يتزايد في المعرفة قليلاً قليلاً، وشيئاً بعد شيء، وحالاً بعد حال، حتى يألف الأشياء ويتمرن ويستمر عليها، فيخرج من حدّ التأمل لها والحيرة فيها الى التصرف والاضطرار الى المعاش بعقله وحيلته، والى الاعتبار والطاعة، والسهو والغفلة والمعصية، وفي هذا أيضاً وجوه اُخر: فإنّه لو كان يولد تام العقل مستقلاً بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد، وما قدر أن يكون للوالد في الاشتغال بالولد من المصلحة، وما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكافأة بالبرّ، والعطف عليهم عند حاجتهم الى ذلك منهم، ثم كان الاولاد لا يألفون آباءهم، ولا يألف الآباء أبناءهم، لأنّ الأبناء إذا كانوا يستغنون عن تربية الآباء، وحياطتهم، فيتفرقون عنهم حين يولدون، فلا يعرف الرجل أباه واُمه. ثم ذكر (عليه السلام) فوائد البكاء للطفل، وساق البيان الى ذكر أعضاء البدن على الشكل الموجود.

فقال المفضّل: يا مولاي، إنّ قوماً يزعمون أنّ هذا من فعل الطبيعة. فأجابه الإمام (عليه السلام) : سلهم عن هذه الطبيعة أهي شيء له علم وقدرة على هذه الأفعال؟ أم ليست كذلك؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة، فما يمنعهم من اثبات الخالق، فإنّ هذه صفته، وإن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد، وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة، علم أن هذا الفعل للخالق الحكيم، وأنّ الذي سمّوه طبيعة هو سنته في خلقه الجارية على ما أجراه عليه".

ويستمر (عليه السلام) في بيان وصول الغذاء الى البدن، وكيفية انتقال صفوه من المعدة الى الكبد، في عروق رقاق، ثم كيفية تقسيمه في البدن، وبروز الفضلة منه، وذكر نشوء الأبدان ونموّها، والحواس التي خصّ الله بها الإنسان. الى أن يقول: لو رأيت تمثال الإنسان مصوراً على حائط فقال لك قائل: إنّ هذا ظهر ههنا من تلقاء نفسه، لم يصنعه صانع. أكنت تقبل ذلك؟ بل كنت تستهزئ به، فكيف تنكر هذا في تمثال مصور جماد، ولا تنكر في الإنسان الحيّ الناطق؟ ثم أخذ في البيان عن خلقة الإنسان وعجيب صنعه وما أودع فيه من القوى.

المجلس الثاني في ذكر الحيوان

قال (عليه السلام): "أبتدي لك بذكر الحيوان ليتّضح لك من أمره ما وضح لك من غيره، فكر في أبنية الحيوان وتهيئتها على ما هي عليه، فلا هي في صلابة كالحجارة، ولو كانت كذلك لا تنثني ولا تتصرف في الأعمال، ولا هي على غاية اللين والرخاوة، فكانت لا تتحامل ولا تستقلّ بأنفسها، فجعلت من لحم رخو ينثني، تتداخله عظام صلاب، يمسكه عصب، وعروق تشدّه، وتضمّ بعضه الى بعض، غلّفت فوق ذلك بجلد يشمل على البدن كلّه إلى أن يقول: وفكر بعد هذا في أجسام الأنعام، فإنها خلقت على أبدان الإنس من اللحم، والعظم والعصب، واُعطيت السمع والبصر، ليبلغ الإنسان حاجياته منها، ولو كانت عمياً صماً لما انتفع بها الإنسان، ولا تصرفت في شيء من مآربه، ثم منعت الذهن والعقل لتذل للإنسان فلا تمتنع عليه إذا كدّها الكد الشديد".

ثم أخذ (عليه السلام) يذكر مميّزات كلّ نوع من أنواع الحيوان الثلاثة وهي: الإنسان، وآكلات اللحوم، وآكلات النبات، وما يقتضي كلّ نوع منها حاجته، من كيفية الأعضاء والجوارح، فيأتيك بلطائف الحكمة وبدائع القدرة.

ثم يستمرّ (عليه السلام) في كلامه للذرّة، والنملة، والليث.

واستطرد ذكر الطائر وكيف خفّف جسمه، وأدمج خلقه، وجعل له جؤجؤاً ليسهل عليه أن يخرق الهواء، إلى غير ذلك من خصوصيات خلقته، وهكذا في خلق تلك الخصوصيّات، ويستطرد الحكمة في خصوصيات خلقة الدجاجة، ثم العصفور، ثم الخفاش، ثم النحل وغيرها من صغار الطيور، وما جعل الله فيها من الطبائع، والفطن، والهداية لطلب الرزق.

ثم استعرض خلق السمك ومشاكلته للأمر الذي قدر أن يكون عليه فيقول: فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق، وقصر علم المخلوقين، فانظر الى ما في البحار من ضروب السمك، ودواب الماء، والأصداف، والأصناف، التي لاتحصى منافعها إلاّ الشيء بعد الشيء يدركه الناس بأسباب تحدث.ثم ينهي كلامه على وحدانية واجب الوجود.

المجلس الثالث في ذكر السماء

قال (عليه السلام) بعد أن تحدّث عن السماء ولونها، وما فيه من صواب التدبير وعظم الحكمة: "فكّر يا مفضل في طلوع الشمس وغروبها، لإقامة دولتي الليل والنهار، فلولا طلوعها لبطل أمر العالم كلّه، فلم يكن الناس يسعون في معاشهم ويتصرفون في اُمورهم والدنيا مظلمة عليهم، ولم يكن يتهنأون مع فقدهم لذة النور وروحه، والإرب في طلوعها ظاهر، مستغن بظهوره عن الإطناب في ذكره والزيادة في شرحه، بل تأمل المنفعة في غروبها، فلولا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار، مع عظم حاجتهم الى الهدوء والراحة، لسكون أبدانهم ووجوم حواسهم، وانبعاث القوة الهاضمة لهضم الطعام وتنفيذ الغذاء الى الأعضاء، ثم كان الحرص يستحملهم من مداومة العمل ومطاولته، على ما يعظم نكايته في أبدانهم، فإنّ كثيراً من الناس لولا جثوم هذا الليل لظلمته عليهم لم يكن لهم هدوء ولا قرار، حرصاً على الكسب والجمع والادّخار، ثم كانت الأرض تستحمي بدوام الشمس، وتحمي كلّ ما عليها من حيوان ونبات، فقدّرها الله بحكمته وتدبيره، تطلع وقتاً وتغرب وقتاً".

ثم تعرّض لبعض العقاقير وخواصها ومنافعها الى آخر الفصل.

المجلس الرابع في ذكر آفات الدهر

تحدّث فيه (عليه السلام) عن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها اُناس من الجهال ذريعة الى جحود الخالق والخلق، وانكرت المعطلة والمانوية من المكاره والمصائب وما أنكروه من الموت والفناء الى أن انتهى في البيان الى الخالق في شُبَه الملحدين، الى آخر بيانه ونير برهانه، وقال في آخر كلامه للمفضل: "خذ ما آتيتك وكن لله من الشاكرين، فقد شرحت لك من الأدلّة على الخلق، والشواهد على صواب التدبير، قليلاً من كثير وجزءاً من كلّ، فتدبره وفكّر فيه واعتبر به".(246)

ولهذه الأجوبة - الموجزة والمطولة منها - أمثال كثيرة منثورة في كثير من الكتب بمختلف العلوم من تفسير وفقه، وحكمة وكلام وطب، وغير ذلك، وقد اقتصرنا على هذا القدر في ناحية واحدة وهي ناحية التوحيد، وما يتعلّق بصفاته تعالى ممّا هو مذكور في محلّه بكثرة، وقد تركنا الكثير منها نظراً لما ألزمنا أنفسنا من الاختصار.

مناظرات الإمام حول الإسلام ومبادئه

أمّا مناظراته واحتجاجه على كثير من أهل الأديان المختلفة، والفرق المتعددة، فهي كذلك في الكثرة والتعدّد بمختلف العلوم وشتّى المواضيع، فقد ناظر (عليه السلام) علماء الأديان الاُخرى حول الإسلام ونبيّه (صلى الله عليه وآله)، بأسلوب الإقناع والحجة الدامغة.

وكذلك ناظر المرتابين وأهل الزيغ والضلال والملحدين والزنادقة، بمناظرات عديدة يدعوهم فيها الى سبيل الله وتوحيده، ونبذ الخضوع لغير الله، وعدم الشرك به، ليخرجهم بذلك من الظلمات الى النور، ويهديهم الى صراط مستقيم، والاستقامة عليه، باُسلوب قويّ، نافذ للعقول والقلوب معاً، مراعياً في ذلك قابلية المخاطب واستعداده.

وله مناظرات كثيرة مع رؤساء الفرق الإسلامية، من معتزلة ومجسّمة، وقدرية وجبرية، ومفوضة، وغيرهم، وهو يحاول بذلك نبذ الآراء المختلفة، وترك الهوى والانقسام في الدين، والتفرّق فيه، فكان له (عليه السلام) من الحجج البوالغ ما رفع به العذر، وأزال الريب، وعلى سبيل المثال نذكر بعضاً من مناظراته، ومن أراد الاستزادة فليرجع الى كتب العقائد والكلام والحديث، فقد تضمّنت الشيء الكثير منها.

جاء أحد الزنادقة ممّن يبثّون الشبهات حول الدين الى الإمام الصادق (عليه السلام)وهو في البيت الحرام، وبعد أن قابله وتبادلا حديثاً قصيراً; قال له الإمام (عليه السلام): انتظر حتى أفرغ من الطواف، ثم ائتنا نحدثك فنرى ما عندك.

ولمّا فرغ أبو عبد الله من طوافه وصلاته، أتاه الرجل وجلس وتلامذة الإمامـ ومنهم هشام بن الحكم مجتمعون عنده - فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أتعلم أن للأرض فوقاً وتحتاً؟ قال: نعم.

قال أبو عبد الله : فهل دخلت تحتها؟ قال: لا.

قال الإمام (عليه السلام): ما يدريك ما تحتها؟ قال: لا أدري إلاّ أنّي أظنّ أن ليس تحتها شيء.

قال أبو عبد الله: فالظن عجز فَلمَ لا تستيقن؟ ثم أردف الإمام الصادق يقول: أفصعدت الى السماء ؟

قال : لا .

قال (عليه السلام) : أفتدري ما فيها؟ قال : لا.

قال الإمام (عليه السلام) : عجباً لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب، ولم تصعد الى السماء ولم تجز هناك، فلم تعرف ما خلفهنّ وأنت مع ذلك جاحد بما فيهن؟!

ثم قال (عليه السلام) : أيّها الرجل، ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم، ولا حجة للجاهل، فيا عبد الملك - وهو اسم الرجل - إفهم عنّا فإنّا لا نشك في الله أبداً، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان واضطرا ليس لهما مكان إلاّ مكانهما؟ فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً؟ لقد اضطرا إلى دوامهما والذي اضطرهما هو أعظم منهما وأكبر.

ثم أخذ (عليه السلام) يناظره في اُمور كثيرة حتى أدّى به الأمر الى الاعتراف بخطئه ورجع عن مقالته، فأمر الإمام (عليه السلام) هشام بن الحكم أن يتولّى توجيهه .(247)

وله مناظرات مع ابن أبي العوجاء(248) في التوحيد وغيره، وكان ابن أبي العوجاء من الزنادقة المشهورين، وقتل على الزندقة، واعترف عند قتله بدسّه الأحاديث الكاذبة في أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله).

فمن تلك المناظرات: أنّه كان هو وابن المقفع(249) في المسجد الحرام يلاحظان الجمع الذي كان يقوم بالطواف حول الكعبة، فقال ابن المقفع لأصحابه: لا واحد من هؤلاء يستحقّ اسم الإنسانية إلاّ هذا الشيخ الجالس وأشار الى جعفر بن محمد الصادق، أمّا الباقون فرعاع وبهائم، فقام ابن أبي العوجاء الى الشيخ وتحدّث معه ثم رجع وقال: ما هذا ببشر! وان كان في الدنيا روحاني يتجسّد إذا شاء ظاهراً، ويتروح إذا شاء باطناً فهو هذا.

وحينما اقترب من الإمام واصبحا منفردين، قال له الإمام الصادق: لو كان الأمر كما يقول هؤلاء - وأشار الى الجمع القائم بالطواف - وهو حقّ كما يقولون، نجا هؤلاء وعطبتم، أمّا إذا انعكس الحال وكان على ما تقولون - وهو ليس كما تقولون - فأنتم وإياهم سواء .

فسأله ابن أبي العوجاء: رحمك الله أيّها الشيخ أيّ شيء نقوله نحن، وأي شيء يقولونه هم ؟

فأجابه الإمام جعفر: أنّى لما تقولون أن يكون كما يقولون!؟ هم يقولون بالمعاد، والوعد والوعيد، وأنّ للسماء إلهاً، وبها عمراناً، بينما تزعمون أنّ السماء خراب وليس بها أحد.

فقال ابن أبي العوجاء: لو كان الأمر كما تقول، فما منع الله من الظهور لجميع خلقه ودعوتهم الى عبادته، حتى لا يصبح اثنان فيهم على خلاف؟ لماذا اختفى عنهم، ومع ذلك أرسل إليهم رسلاً؟ لو كان قد ظهر بذاته لهم، لكان ذلك أسهل الى الاعتقاد به.

فأجابه الإمام جعفر : كيف اختفى عنك من أظهر قدرته في نفسك أنت، وفي نمائك؟! وكان جواباً بليغاً حتى قال ابن أبي العوجاء لأصحابه: وظلّ يحصي لي قدرة الله التي في نفسي، والتي لم استطع رفضها حتى ظننت أنّ الله قد نزل بينه وبيني.(250)

وله مناظرة اُخرى :

كان ابن أبي العوجاء وابن طالوت وابن المقفع في نفر من الزنادقة مجتمعين في الموسم بالمسجد الحرام، وأبو عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) فيه إذ ذاك يفتي الناس ويفسّر لهم القرآن، ويجيب عن المسائل بالحجج والبيّنات، فقال القوم لابن أبي العوجاء: هل لك في تغليط هذا الجالس وسؤاله عمّا يفضحه عند هؤلاء المحيطين به، فقد ترى فتنة الناس به وهو علاّمة زمانه ؟

فقال لهم ابن أبي العوجاء: نعم. ثم تقدّم ففرّق الناس فقال: يا أبا عبد الله أفتاذن لي في السؤال؟ فقال له أبو عبد الله: سل إن شئت. فقال ابن أبي العوجاء: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر ؟ من فكر في هذا وقدر علم أنّه فعل غير حكيم ولا ذي نظر، فقل فإنّك رأس هذا الأمر وسنامه، وأبوك أسسه ونظامه.

فقال له الإمام الصادق (عليه السلام) : "إنّ من أظلّه الله وأعمى قلبه، استوخم الحقّ فلم يستعذبه، وصار الشيطان وليّه وربّه، يورده مناهل الهلكة وثم لا يصدره. وهذا بيت استعبد الله به عباده ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وجعله محلّ أنبيائه وقبلة للمصلّين له، فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال، ومجتمع العظمة والجلال، خلقه الله قبل دحو الأرض بألفي عام، فأحق من اُطيع فيما أمر، والنهي عمّا نهى عنه وزجر، هو الله المنشئ للأرواح والصور".

فقال له ابن أبي العوجاء : ذكرت يا أبا عبد الله فأحلّت على غائب.

فقال الإمام الصادق (عليه السلام) : "كيف يكون غائباً من هو مع خلقه شاهد، وهو أقرب إليهم من حبل الوريد، يسمع كلامهم، ويعلم أسرارهم، لا يخلو منه مكان ولا يشغل به مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب منه الى مكان، تشهد بذلك آثاره، وتدلّ عليه أفعاله، والذي بعث بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة محمداً (صلى الله عليه وآله) الذي جاءنا بهذه العبادة، فإن شككت في شيء من أمره فاسأل عنه أوضّحه لك".

فابلس ابن أبي العوجاء ولم يدر ما يقول، فانصرف من بين يديه، فقال لأصحابه: سألتكم أن تلتمسوا لي خمرة فالقيتموني على جمرة. فقالوا له: اسكت فو الله لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك، وما رأينا أحقر منك اليوم في مجلسه. فقال: ألي تقولون هذا؟ إنّه ابن من حلق رؤوس من ترون، وأومأ بيده الى أهل الموسم .(251)

هذا أنموذج من أجوبته (عليه السلام) ومناظراته في باب التوحيد، وقد اقتصرنا على هذا البعض ولا يسعنا ذكر أكثر منه لضيق المجال ورعاية للاختصار.

خلاصة الصراع بين دعوة الإمام الاصلاحية ودولة المنصور العباسية

رأينا فيما مضى من الأبحاث السابقة عن حياة الإمام الصادق (عليه السلام)، كيف كانت دعوته الاصلاحية في ذلك العصر الذي سادت فيه موجة عاتية من الفتن، عندما انطلقت الأفكار، وعصفت الآراء، واختلف الناس فيما بينهم، فتكالبوا على حبّ الذات والظفر، وتطاحنوا على الغلبة والتفوّق، فانتشرت البدع والخرافات، وظهرت الفرق التي تتشح بثوب الإسلام، ولكنّها تتجافى عن تعاليمه وتتنكر لمبادئه، والتي هي في الواقع أشدّ ضرراً على الإسلام من سائر الملل والديانات الاُخرى، وكان أعظمها عليه اُولئك المندسون في صفوف المسلمين وفيهم من يدّعى حبّ أهل البيت(عليهم السلام)، والانتماء إليهم، ولكنّهم خصوم لهم وأعداء لدعوتهم، لذلك كان اهتمامه (عليه السلام)في أمرهم عظيماً، وموقفه تجاههم حاسماً، فحاربهم حتى استأصل شأفتهم ومحا صفحتهم، وقد أشرنا لذلك فيما سبق.

ولكنّ المغرضين من خصوم الشيعة اتخذوا ذلك وسيلة للتحامل عليهم والوقيعة بهم، ووصفهم بكلّ ما هو شائن. وبمزيد الأسف أن يتأثر بتلك الدعاية كثير من ذوي الثقافة فوقعوا في إثم الاتهام الكاذب، وتلبّسوا بجريمة مخالفة الواقع.

وعلى أيّ حال فقد كان الإمام الصادق يدعو الى الاصلاح بين الناس والتمسّك بتعاليم الدين، والأخذ بمبادئ الإسلام لحياتهم الفردية، والاجتماعية والاقتصادية، ونبذ الآراء المختلفة، وترك الهوى والإنقسام في الدين، والتفرّق فيه، لتتكون وحدة إسلامية تجمع المسلمين تحت راية القرآن. وتعاليم الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولتحصل الاُخوة العامة، والمساواة التامة، والتضامن الاجتماعي، وما يقوم عليه من تعاون وتعاطف ، وتراحم وعدل وإحسان، وصدق وصبر، وبر وخير، إذ أنّ الدين الإسلامي قد وضع نظام المعاونة والمساعدة بين أفراده لتحصل بينهم روابط الإلفة والمحبّة، وقد سبق جميع الاُمم الى هذا النظام.

كما قد رأينا فيما سبق كيف اعتزل الإمام الصادق (عليه السلام) السياسة، ونهج منهج التماسك، واحتفظ بمكانته العلمية، وهو الشخصية التي كانت الأنظار متجهة إليه، والناس ينظرون إليه نظرة إجلال وإكبار، لما منحه الله تعالى من طهارة النفس، وشرف المحتد، وفضل القربى، وقوّة العقل والإدراك والفقه في الدين، ممّا جعل مدرسته يؤمّها طلاب العلم من مختلف الأقطار، على اختلافهم في النزعات والآراء، فكان يعلّم الجاهل، ويرشد الضال، ويهدي إلى سواء السبيل.

وحسبنا دلالة على ذلك انتماء العلماء المبرزين لمدرسته من الذين أصبحوا رؤساء مذاهب، وأئمّة فرق، وكلّ معترف بفضله ومقرّ بعلمه، ومفتخر بانتمائه لمدرسته. حتى كان أهل العلم الذين سمعوا منه إذا رووا عنه قالوا: أخبرنا العالم(252).

سار الإمام الصادق في طريق الدعوة الاصلاحية وترك الجانب السياسي، ولم يزجّ نفسه في المعترك الذي عظم خطره، لأنّه كان يرى أنّ الوقت غير ملائم. ولم يكن له من العدّة والعدد مايستطيع أن يخوض تلك المعركة، فأراد(عليه السلام) أن يخوض معركة علميّة عن طريق التوجيه والإصلاح الاجتماعي، ليهذّب النفوس من نزعات الشرّ والفساد، وقد رأينا كيف كانت دعوته، وكيف أنّه ألزم الدعاة الى العمل بما يدعون إليه، كما عبّر عن ذلك (عليه السلام) بالدعوة الصامتة.

وقد كان أثر هذه الدعوة الى الإصلاح الذي كان ينشده الإمام الصادق (عليه السلام)عظيماً على المنصور، فلم ترق في عينه ولم تقع منه موقعاً حسناً، بل كان يظهر غضبه مرة ويكتمه اُخرى، لأنّه يعتبر إقبال الناس على الإمام الصادق(عليه السلام)، وانتشار دعوته الى الإصلاح الاجتماعي، منهاج ثورة يستفحل خطرها وليس في إمكانه إخمادها.

لذلك بقي المنصور متخوّفاً من آل علي بصورة عامة ومن الإمام الصادق(عليه السلام)بصورة خاصة، وكان يعبّر عنه "بالشجى المعترض بحلقه" فلم يزل يقلّب وجوه الرأي ويدبّر المكيدة وينصب له حبال الحيل، لكي يقع الإمام الصادق(عليه السلام) في قبضته، فزوّر الكتب وأرسل إليه من يستميله الى الثورة، ولكنّه(عليه السلام) كان أمنع من عقاب الجو، فحلّق بسداد رأيه وصفاء تفكيره، وعلّمه بما وراء الحوادث، فكشف القناع عن تلك الدسائس، وفشل المنصور بما افتعله من تهم ليدين الإمام بذلك، فيأخذه بحجة الخروج على الدولة التي ادعى أنّها دولة شرعية، والخروج عليها خروج على سلطان الله.

ولقد استعمل المنصور تلك الخطط مع زعماء آل علي، فكانت هناك ثورات دموية استطاع المنصور أن يقضي بواسطتها على البقيّة من آل علي، والظفر بهم، وقتلهم بصورة بشعة، بعد أن أذاقهم أنواع الأذى وضروب التنكيل والمحن، وهذا ما كان يخشاه الصادق عليهم عندما أمرهم بالتريّث وعدم الاستجابة للدعاة في الثورة; فلقد كان الإمام الصادق يدفع عن نفسه سيف المنصور بكلّ السبل، ويحذر أن يصدر منه ما يتذرّع به ذلك الطاغية للقضاء عليه، فكان يلحّ عليه بالطلب. ولولا معرفة المنصور ويقينه بأنّه(عليه السلام)كان يتحاشى أن يجعل للسلطان سبيلاً عليه ويحذر ذلك كل الحذر لما كانت استدعاءاته التي قاربت العشرة لاستفزازه وإثارة حفيظته حتى لجأ إلى اساءة الأدب والتطاول عسى أن يبدر من الإمام ما يعتذر به المنصور لقتله، فهذا حال الإمام مع المنصور، وهو على هذا الاحتراز والاحتياط، فكيف يفعل المنصور بمن يشهر السيف؟ وكان المنصور يحجّ ولا يهمّه إلاّ أمر الإمام ووجوده، فرواية الربيع صاحب أبي جعفر: حججت مع أبي جعفر المنصور، فلما صرت في بعض الطريق، قال لي المنصور: يا ربيع إذا نزلت المدينة فاذكر لي جعفربن محمد فوالله العظيم لا يقتله أحد غيري، احذر أن تدع أن تذكّرني به. وفي إحدى المرّات كان المنصور ينتضي سيفه شيئاً فشيئاً وهو يخاطب الإمام الصادق(253).

وكانت الدولة العباسية منذ نشأتها الأولى تنتحل وراثة النبي (صلى الله عليه وآله)، وأنّهم أولى الناس بأمر الاُمة، وهم الذين يمثّلون الخلافة الراشدة، من العدل في الحكم، والاستقامة في الأمر، والمحافظة على الإسلام، لأنّهم حاولوا أن يصبغوا دولتهم بصبغة الدين، وأن يظهروا أمام الناس بمظهر المحافظة على مبادئه، وأنّ سلطانهم هو سلطان الله، ويحكمون بأمره، ويسيرون على هدى الرسول(صلى الله عليه وآله)، فمنحوا أنفسهم ألقاب الحماية عن الدين، وإمامة المسلمين، وأنّهم يسيرون بالعدل، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأنّهم أهل بيت النبي وورثته، إلى غير ذلك من الألفاظ الفارغة التي يحاولون من ورائها الاستئثار بالحكم، وعدم السماح لأيّ أحد أن يصيح في وجوههم مطالباً بحقّ، أو يرفع صوته استنكاراً لسوء السيرة التي ساروا عليها في حكمهم، لأنّهم يريدون أن يبقى الناس مسخّرين لإرادتهم، وأداة طيّعة لهم، إذ يزعمون أنّ الله أوجب حقّهم وأنّ سلطانهم هو سلطان الله، وأنّهم جاءوا لخير الناس ولا يعملون إلاّ الصالح، ويتجنّبون الضار.

فالخليفة عندهم ليس ملكاً على دولة سياسية فقط، بل هو ملك على دولة دينية تحيط به رسوم دينية، ويريد أن يعتبر إماماً للمسلمين، وأنّه خليفة رسول الله(صلى الله عليه وآله) في قيادة الاُمة قيادة روحية، وأنّ الله منحه منزلة خاصة، فبينما كان الاُمويون يتقلّدون الصولجان ويلبسون الخاتم رمزاً على الحكم، وعلى أنّهم ورثوا ذلك عن أسلافهم، ترى العباسيين يتقلّدون البردة، التي كان الرسول(صلى الله عليه وآله)منحها لكعب بن زهير (254) عندما مدحه بقصيدة "بانت سعاد" وكان الخليفة العباسي الأوّل هو أوّل من سن هذا التقليد، ثم ورثها الخلفاء من بعده، فكانوا يلبسون هذه البردة في حفلات البيعة وغيرها، حتى في الحفلات الحربية، وكثيراً ما كانوا يلبسونها في صلاة الجماعة.

يقول هلال الصّابي عند كلامه عن جلوس الخلفاء وما يلبسونه في المواكب الذي جرت به العادة : إنّ جلوس الخليفة على كرسيّ مرتفع، ويكون لباسه السواد، ويجعل على رأسه عمامة سوداء رصافية، ويتقلد سيف النبي(صلى الله عليه وآله)ويلبس خفّاً أحمر ويضع بين يديه مصحف عثمان (رحمه الله) الموجود في الخزائن، وعلى كتفيه بردة النبي(صلى الله عليه وآله) .(255)

وبهذه الصفة والمظاهر الخلاّبة استطاعوا التأثير على مشاعر الكثير من الناس، لينظروا إليهم نظرة التقديس والاعتقاد بأنّهم ورثة النبي (صلى الله عليه وآله) وهم أحقّ بالأمر، وهنا يعتبر كلّ من أنكر أعمالهم أو خرج عليهم خارجاً على المسلمين، متعدّياً لحدود الله.

وسرى هذا الاعتقاد في نفوس البسطاء منذ نشأة الدولة. يحدّثنا الطبري أنّ وفداً دخل على أبي العباس السفاح يقدمهم غيلان بن عبد الله الخزاعي، فقال للسفاح : أشهد أنّك أمير المؤمنين وأنّك حبل الله المتين، وأنّك إمام المتقين. فقال السفاح: حاجتك ياغيلان. قال: استغفرك. قال السفاح: غفر الله لك.(256)

والواقع أنّ نجاح العباسيين في مهمة هذه الادعاءات كان بحاجة الى بذل الجهد، وإلى دعاية قويّة، لتركيز هذه العقيدة، ووضع كثير من الأساطير حولها، وادعاء البشارة بالدولة الجديدة التي تكفل للناس سعادتهم، وتقضي على الشقاء الذي عاناه الناس في العهد الاُموي، وقد قام علماء الدولة ـ وهم الذين تمكّن الضعف من نفوسهم وأخذ الطمع بزمام عقولهم ـ بنشر تلك الدعوة الكاذبة، وحياكة الأساطير وخلق الأحاديث، حتى استمرّ الاعتقاد يعمل عمله في نفوس كثير من الناس، فأصبح من لا يؤمن بشرعيّة السلطان العبّاسي زنديقاً، وهذا ما نعبّر عنه بالزندقة السياسية التي وسم بها كثير من الناس الذين استنكروا على العباسيين سوء سيرتهم، وأدركوا على مرور الأيام وتكرر الحوادث زيف ما يدّعونه من العدل الشامل والحكم العادل، وأنّهم ورثة النبي وأهل بيته، وهم أحقّ الناس بالأمر وأولاهم بالحكم، فكان المنكرون لتلك الأوضاع يتهمون بالزندقة ويكون نصيبهم القتل، لأنّهم عارضوا سلطان الله وخليفة رسوله، مع تظاهره بما يخالف ذلك، وأنّهم أبعد ما يكون عن اتباع أوامر الإسلام، ففي عهد السفاح سُفِكت دماء بريئة وهُدِمت قرى آمنة، واستُبيحت حرمات وهُتِكت أعراض.

وكان القوّاد يستعملون مادة الفناء والإبادة اتباعاً لأمر الخليفة العباسي، وهي من اتهمته فاقتله (257) ولما ولي يحيى بن محمد العباسي على الموصل من قبل أخيه السفاح، بعد أن أنكروا أعمال عامله السابق وهو محمد بن صول، فلما دخل يحيى بلد الموصل لم يظهر لأهله شيئاً ينكرونه، ولم يعترضهم فيما يفعلونه، ثم دعاهم فقتل منهم اثني عشر رجلاً، فنفر أهل البلد وحملوا السلاح فأعطاهم الأمان، وأمر فنودي من دخل الجامع فهو آمن، فأتاه الناس يهرعون إليه، فأقام يحيى الرجال على أبواب الجامع فقتلوا الناس قتلاً ذريعاً أسرفوا فيه، فقيل إنّه قتل عشرين ألفاً ممّن لهم خواتيم، فلما كان الليل سمع يحيى صراخ النساء اللاتي قتل رجالهن فسأل عن ذلك فأخبر به، فقال: إذا كان الغد فاقتلوا النساء والصبيان. ففعلوا ذلك واستباح الزنوج نساء البلد، فلما فرغ يحيى من قتل أهل الموصل ركب في اليوم الرابع وبين يديه الحراب والسيوف المسلولة، فاعترضته امرأة وأخذت بعنان دابته فأراد أصحابه قتلها فنهاهم عن ذلك فقالت له: ألست ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ أما تأنف للعربيات المسلمات!. فأمسك عن جوابها وسيّر معها من يبلغها مأمنها، فلما كان من الغد جمع الزنوج للعطاء وكان عددهم أربعة آلاف فأمر بهم فقتلوا عن آخرهم(258)، إلى غير ذلك من الاُمور التي جرت في عهده على قلة أيّامه.

أمّا في عهد المنصور فكان الأمر أدهى وأمرّ، فقد واجه الناس في عهده ألواناً من الظلم، ممّا لا عهد لهم به من قبل، كما صبّ جام نقمته على العلويين، فعاملهم معاملة لم يشهد التاريخ مثلها، وطاردهم وضيّق عليهم الدنيا، وأذاقهم أنواع الأذى وضروب المحن، فلم يرحم كبيراً ولم يعطف على صغير، ولم ينكسر لصوت ثاكل ونياح امرأة.

ومع هذا كلّه فقد كان يسبغ على أعماله أبراد القداسة، وينتحل السلطان الشرعي، وأنّ ما يفعله بإرادة الله وإذنه، فقد صرّح بذلك على المنبر في عدّة مواطن، وكما جاء في بعض خطبه يوم عرفة بقوله:

"أيها الناس، إنّما أنا سلطان الله في أرضه اُسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه أعمل بمشيئته، وأعطيكم بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلاً، إذا شاء أن يفتحني لاُعطياتكم وقسم فيئكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني، فارغبوا الى الله أيّها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف أن يوفّقني للصواب، ويسدّدني للرشاد، ويلهمني الرأفة فيكم، والإحسان إليكم".(259)

فأنت ترى أنّ المنصور يحاول أن يوجّه الناس الى الاعتقاد بشخصيته، اعتقاداً يجعلهم يؤمنون بصحة أعماله، لأنّها تصدر بمشيئة الله، إذ جعله والياً للأمر، حاكماً للاُمة، ليركز بذلك عرشه الذي بات يضطرب فوق تيارات المؤاخذات، بل الثورات المتلاحقة، لسوء سيرته التي لا تتناسب مع واقع ادّعائه، ومع علمه بأنّ قلوب أكثر الناس مع أهل البيت (عليهم السلام)، كما أزعجه موقف الإمام الصادق وانتشار ذكره.

ويمكننا أن نعتبر ما يصدر منه من تقريب العلماء والتظاهر بالزهد، والإصغاء للوعظ، إنّما هي أساليب يستعين بها على تحقيق أهدافه، وليجعل في شخصيّته ثقة للناس الذين تخدعهم المظاهر، وتسحرهم الألفاظ، كما يحاول أن يهدم ثقة الناس بمن هو أولى به من أهل البيت(عليهم السلام).

فنراه يصغي لوعظ عمرو بن عبيد، ويبكي أمامه من خشية الله كأنه لم يرتكب جريمة، خشية من الله وخوفاً من عقابه. ويحاول أن يؤثر على عمروبن عبيد فلا يميل الى ما يدعوه محمد بن عبدالله، الثائر الذي هزّت ثورته أركان سلطانه وجعلت المنصور لا يهدأ ليلاً ولا نهاراً. فقد بلغه أنّ محمد بن عبد الله، ذا النفس الزكية، كتب الى عمرو بن عبيد - رئيس المعتزلة - يستميله، فضاق المنصور بذلك ذرعاً وأرسل الى عمرو بن عبيد، فلما وصله أكرمه وشرّفه، وقال: بلغني أن محمد بن عبد الله كتب إليك كتاباً، قال عمرو: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه، فقال المنصور: فبم أجبته؟

قال عمرو: لم اُجبه الى ما أراد. ثم قال المنصور لعمرو : عظنا يا أبا عثمان.

فقال عمرو: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (بسم الله الرحمن الرحيم أَلَم تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعاد* إرَمَ ذَاتِ العِمَاد...)(260) إلى آخرها.

فبكى المنصور بكاءً شديداً كأنّه لم يسمع تلك الآيات إلاّ الساعة.

ثم قال عمرو: اتّق الله قد أعطاك الدنيا بأسرها، فافتد نفسك ببعضها، واعلم أن الأمر الذي صار إليك إنّما كان بيد غيرك ممّن كان قبلك، ثم أفضى إليك الخ.

فعاد المنصور الى بكائه حتى كادت نفسه تفيض.(261)

هكذا أظهر المنصور نفسه أمام رجل من العلماء وزعيم من زعماء الطوائف بمظهر السلطان الخائف من الله، الباكي من خشيته، لتنطبع في ذهنه صورة عن إمام المسلمين، فيبلغها أصحابه حتى تبرد عزائمهم عن مؤاخذته ، والإنكار على أعماله، وقد نجحت حيلة المنصور; فلم يلتحق عمرو بثورة النفس الزكية، كما أنّ المعتزلة لم يخرجوا عليه ولم يستنكروا أعماله حتى مات عمرو بن عبيد.

وعلى أيّ حال فالمنصور لم يزل يقلّب وجوه الرأي، ويدبّر الحيل في القضاء على الإمام الصادق (عليه السلام)، ولا تروق له تلك الشهرة العلمية التي اكتسبتها مدرسته، ولذلك حاول أن يحصر الفتوى بمالك بن أنس عندما رفع منزلته، ونوه باسمه ونادى مناديه "أن لا يفتين إلاّ مالك" كما طلب من مالك أن يضع كتاباً يكون هو المرجع في الفقه رسميّاً، فلا يمكن الرجوع لغيره، أو الأخذ عن أحد سواه.(262)

وإنّما خصّ مالكاً بذلك دون غيره من علماء المدينة، لعلمه بانحرافه عن آل علي (عليه السلام)، وأنّ نزعته نزعة اُموية.

واستمر المنصور في تقديم العلماء ليسند عرشه، الذي أصبح مهدّداً من خطر الدعوة لأهل البيت(عليهم السلام)، وعدم الاعتراف له بأهليّة الخلافة، لما اتّصف به من العسف والجور، ومخالفة أحكام الإسلام.

وقد اشتهرت كلمة الإمام الصادق عندما سئل عمن يصلح للخلافة فأجاب(عليه السلام) :"إنّ الإمامة لا تصلح إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن المحارم، وحلم يملك به غضبه، وحسن الخلافة على من ولي، حتى يكون له كالوالد الرحيم".(263)

وهذه الكلمة تجرّد المنصور من أهليّة الخلافة، لعدم إتصافه بواحدة منها، فلا يمكن الاعتراف له بذلك.

كما أنّه (عليه السلام) منع الناس من الترافع الى الحكام ووصفهم بأنّهم حكام جور وأئمّة ضلال، فحكمهم غير نافذ، وطاعتهم غير لازمة، وأنّ الركون إليهم، والعمل لهم ضياع للحقّ ومعاونة على الظلم .(264)

وكان يؤنّب أصحابه الذين يتعاملون مع رجال الدولة وينهاهم عن ذلك، قال لعذافر: "بلغني إنك تعامل أبا أيوب والربيع (265) فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة"؟.

ونهى عن العمل لهم حتى في بناء المساجد وكراية الأنهر، وعندما سئل عن ذلك أجاب بقوله: ما اُحبّ أن أعقد لهم عقدة، أو وكيت لهم وكاء .(266)

ويقول (عليه السلام): "العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء".(267)

ويقول (عليه السلام): "من أعان ظالماً على مظلوم لم يزل الله عليه ساخطاً حتى ينزع عن معونته".(268)

ولم يهن على الدولة كلّ هذه الاُمور التي تقف في سبيل تحقيق أهدافها، كما عظم عليها اختصاص مدرسة الإمام بطابع الانفصال عن الدولة، فلم يمكنهم التدخل في شؤونها، أو تكون لهم يد في توجيهها، وتطبيق نظامها، ولم تكن بينها وبين الدولة رابطة من روابط الإلفة والانسجام، ومعنى ذلك عدم الاعتراف بشرعية الدولة، وأنّها دولة جائرة لا يمكن الركون إليها، وإن تظاهر الحكام بالمحافظة على المبادئ الإسلامية، فتلك اُمور سياسية لا واقع لها في نفس الواقع.

وكما قدّمنا بأنّ الصراع بين مدرسة الإمام وبين الدولة يشتدّ على ممرّ الأيام، وقد اتخذت أنواع الأساليب، واستعملت شتى الحيل لإخضاع تلك المدرسة لأوامر الدولة، والسير في ركابها، فلم تنجح الوسائل ولم تنفع الأساليب. وهكذا يستمر هذا الصراع عبر الدهور، ومدرسة الإمام الصادق(عليه السلام)عرضة لأخطار النقمة، وهدفاً لسهام الاتهام، وقد رمي المنتمون إليها بالزندقة والإلحاد والخروج على سلطان الله، وذلك طبقاً لمنطق السياسة.

ولعلّ الرجوع الى ما كتبناه سابقاً عن هذا الصراع، يغني عن الاسهاب في ذلك، فإنّا قد ذكرنا هناك عوامل انتشار المذاهب، ومقومات شخصيات رؤسائها، وإنّ العامل الوحيد هو قوة السلطان ومناصرة الدولة، كما أشرنا إليه في البحث عن عوامل المذهب الحنفي، والمالكي، والشافعي. والآن نشرع في ذكر المذهب الرابع، وهو الحنبلي. فلننتقل بك أيها القارئ الكريم الى دراسة صحيحة عن حياة رئيس المذهب الحنبلي - الإمام أحمد بن حنبل - لنرى على ضوء المعلومات التاريخية، مقومات شخصيته، وعوامل انتشار مذهبه، والله المسدّد للصواب.

 

 

 (207) بحار الأنوار ج 75 ص 262 ح 165 .

(208) الإمام الصادق للشيخ المظفر ص 169.

(209) الكافي ج 1 ص 92 ح 3.

(210) الفصول المهمة للحر العاملي ج 1 ص 248 ح 243.

(211) الكافي ج 1 ص 93 ح 7 .

(212) الإرشاد للمفيد ص 241 .

(213) الإمام الصادق لرمضان لاوند ص 169 - 170.

(214) الكافي ج 1 ص 104 ح1 .

(215) الكافي ج 1 ص 88 ح 1.

(216) الفصول المهمة للحر العاملي ص 56.

(217) وسائل الشيعة ج 1 ص 114 ب 28 من أبواب مقدمة العبادات ح 2 .

(218) الوسائل ج1 ص 116 ـ 117 .

(219) الفرقان: 23.

(220) الوسائل ج 1 ص 139.

(221) الزمر: 67 .

(222) البقرة: 245.

(223) التوبة : 104.

(224) الزمر: 67 .

(225) التوحيد ص 161 ح 2 .

(226) التوحيد ص 250 ح 2 .

(227) التوحيد ص 290 ح 10 .

(228) الكافي ج 1 ص 128 ح 9 .

(229) الكافي ج 1 ص 106 ح 6.

(230) بحار الأنوار ج 3 ص 90 .

(231) الإمام الصادق لرمضان لاوند ص63 .

(232) الأنعام: 103.

(233) الأعراف: 143.

(234) الإمام الصادق للشيخ المظفر ص 177 - 178.

(235) الأنعام: 103 .

(236) التوحيد ص 362 ح 8.

(237) التوحيد ص 361 ح 6.

(238) الجعد بن درهم: أصله من خراسان، ويقال أنه من موالي بني مروان، سكن دمشق وكانت له بها دار، وإليه ينسب مروان الحمار آخر خلفاء بني اُمية، لأنه كان معه أو مؤدبه فيقال مروان الجعدي، والجعد هو أوّل من أظهر القول بخلق القرآن، وقد غضب عليه بنو اُمية فتطلبوه وهرب الى الكوفة، فقبض عليه خالد القسري فقتله يوم الأضحى سنة (124 هـ)، وقال للناس، ضحوا يقبل الله منكم فإني مضح بالجعد، فنزل إليه وذبحه تحت المنبر.

(239) لسان الميزان لابن حجر ج 2 ص 105 .

(240) لسان الميزان ج 2 ص 186 الرقم 1964.

(241) تحف العقول ص 325 - 329 .

(242) هو أبو بجير عبد الله بن غنيم بن سمعان الأسدي البصري. كان والياً للمنصور على الأهواز، وكان يرى رأي الزيدية، وقدم المدينة ودخل على الإمام الصادق (عليه السلام)، وسأله بمسائل عديدة فخرج منه وقد عدل عن رأيه وقال: هذا عالم آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ولا زال يراسل الإمام ويسأله عن أهمّ الاُمور.

(243) بحار الأنوار ج 75 ص 271 - 276 .

(244) نزهة الناظر: ص 114 / ح 52.

(245) هو أبو عبد الله المفضل بن عمر الجعفي الكوفي، ولد في الكوفة في نهاية القرن الأوّل أيام الإمام الباقر(عليه السلام) ، وتوفي في أواخر القرن الثاني عن عمر يناهز الثمانين سنة، وقد أدرك أربعة من أئمة أهل البيت، وهم الباقر، والصادق، والكاظم، والرضا(عليهم السلام)، ولم يرو عن الباقر لأنه كان صغيراً في أيامه، واتصل بالإمام الصادق اتصالاً وثيقاً، وكان من ثقاة أصحابه وكان وكيلاً على أمواله بعد موت عبد الله بن أبي يعفور.

(246) التوحيد للمفضل ص 122 .

(247) كتاب الإمام الصادق للاُستاذ رمضان لاوند ص 183 - 185، وكتاب حياة الإمام الصادق للسبيتي

ص 77 - 79، وكتاب الإمام الصادق للشيخ المظفر ج 1 ص 211 - 212 .

(248) ابن أبي العوجاء: هو عبد الكريم بن أبي العوجاء، خال معن بن زائدة، وكان من الزنادقة المشهورين، يقول جرير بن حازم كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام: واصل بن عطاء، وعمر بن عبيد، وبشار بن برد، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، ورجل من الأزد، فكانوا يجتمعون في مجلس الأزد، فأما عمرو وواصل فقد صارا الى الاعتزال، وأما عبد الكريم وصالح فصححا الثنوية، وامّا بشار فبقي متحيراً ، وكان عبد الكريم يفسد الأحداث، فتهدده عمر بن عبيد فلحق بالكوفة فدل عليه محمد بن سليمان فقتله وصلبه وذلك سنة (161 هـ) ولما أخذ لتضرب عنقه قال: لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث اُحرم فيها الحلال واُحلل الحرام - لسان الميزان ج 4 ص 51 - 52.

(249) هو عبد الله بن المقفع، ولد سنة (106 أو 107 هـ) في قرية من قرى فارس اسمها(جور) وموضعها فيروز آباد، ويقول ابن النديم: إنه اسمه بالفارسية (روزبه) ومعناه (المبارك) واسم أبيه (داذوبه) فلما أسلم تسمّى بعبد الله وتكنّى بأبي محمد، وكان حسن الأدب، واسع العلم حاد الذكاء، ويعدّ في طليعة الكتاب الحاذقين، وقد استعمله بعض الولاة والاُمراء للكتابة في دواوينهم. رمي بالزندقة والإلحاد، وحقد عليه المنصور لاُمور كثيرة، وقد قتله سفيان بن يزيد قتلة شنيعة، ذلك أنه أمر بتنور فاُسجر ثم أمر بابن المقفع فقطع وألقي في التنور وأطبق عليه.

(250) من تاريخ الإلحاد للاُستاذ عبد الرحمن بدري ص 69.

(251) التوحيد ص 253 - 254 / ح 4.

(252) تاريخ ابن واضح ج3 ص115 .

(253) مهج الدعوات للسيد ابن طاووس ص 184، 194، 195 .

(254) اُسد الغابة ج 4 ص 501 الرقم 4455.

(255) نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ص 193.

(256) تاريخ الطبري ج 4 ص 362 .

(257) تاريخ الطبري ج 9 ص 142، حوادث سنة 132 هـ .

(258) الكامل لابن الاثير ج 5 ص 212، حوادث سنة 135 هـ .

(259) تاريخ الطبري ج 9 ص310، الكامل لابن الأثير ج 6 ص 12 .

(260) الفجر: 6 و 7 .

(261) حور العين لأحمد بن فارس ص 210.

(262) سير أعلام النبلاء ج 7 ص 382 الرقم 1180.

(263) بحار الأنوار ج 25 ص 137 ح 6 .

(264) وسائل الشيعة ج 27 ص 11، ب 1 من أبواب صفات القاضي.

(265) أبو أيوب هو سليمان بن مخلد كاتب المنصور والمقرب عنده، ثم قلّده الدواوين والوزارة وأصبحت له عند المنصور منزلة عظيمة دون سائر الناس، حتى قالت العامة أنّه قد سحر أبا جعفر، وبعد ذلك غضب عليه ونكبه وصادر أمواله، وذلك في سنة (153 هـ ).

أما الربيع بن يونس: فهو الربيع بن يونس بن أبي فروة مولى كيسان، كان من أعيان الدولة، وتولّى نفقات المنصور، ثم قلّده الوزارة وقلّد ابنه الفضل بن الربيع الحجابة.

(266) الكافي ج5 ص 107 ح7.

(267) الكافي ج 2 ص 250 ح 16 .

(268) عقاب الأعمال للصدوق ص 323 ح 17.