خطبة 83- و هي الخطبة العجيبة تسمى "الغراء" ، و فيها نعوت اللّه جل شأنه ، ثم الوصية بتقواه ثم التنفير من الدنيا ، ثم ما يلحق من دخول القيامة ، ثم تنبيه الخلق إلى

صفته جل شأنه

الْحمْد للّه الّذي علا بحوْله و دنا بطوْله مانح كلّ غنيمة و فضْل و كاشف كلّ عظيمة و أزْل أحْمده على عواطف كرمه و سوابغ نعمه و أومن به أوّلا باديا و أسْتهْديه قريبا هاديا و أسْتعينه قاهرا قادرا و أتوكّل عليْه كافيا ناصرا و أشْهد أنّ محمّدا (صلى الله عليه وآله) عبْده و رسوله أرْسله لإنْفاذ أمْره و إنْهاء عذْره و تقْديم نذره .

الوصية بالتقوى

أوصيكمْ عباد اللّه بتقْوى اللّه الّذي ضرب الْأمْثال و وقّت لكم الْآجال و ألْبسكم الرّياش و أرْفغ لكم الْمعاش و أحاط بكم الْإحْصاء و أرْصد لكم الْجزاء و آثركمْ بالنّعم السّوابغ و الرّفد الرّوافغ و أنْذركمْ بالْحجج الْبوالغ فأحْصاكمْ عددا و وظّف لكمْ مددا في قرار خبْرة و دار عبْرة أنْتمْ مخْتبرون فيها و محاسبون عليْها .

التنفير من الدنيا

فإنّ الدّنْيا رنق مشْربها ردغ مشْرعها يونق منْظرها و يوبق مخْبرها غرور حائل و ضوْء آفل و ظلّ زائل و سناد مائل حتّى إذا أنس نافرها و اطْمأنّ ناكرها قمصتْ بأرْجلها و قنصتْ بأحْبلها و أقْصدتْ بأسْهمها و أعْلقت الْمرْء أوْهاق الْمنيّة قائدة له إلى ضنْك الْمضْجع و وحْشة الْمرْجع و معاينة الْمحلّ و ثواب الْعمل. و كذلك الْخلف بعقْب السّلف لا تقْلع الْمنيّة اخْتراما و لا يرْعوي الْباقون اجْتراما يحْتذون مثالا و يمْضون أرْسالا إلى غاية الانْتهاء و صيّور الْفناء .

بعد الموت البعث

حتّى إذا تصرّمت الْأمور و تقضّت الدّهور و أزف النّشور أخْرجهمْ منْ ضرائح الْقبور و أوْكار الطّيور و أوْجرة السّباع و مطارح الْمهالك سراعا إلى أمْره مهْطعين إلى معاده رعيلا صموتا قياما صفوفا ينْفذهم الْبصر و يسْمعهم الدّاعي عليْهمْ لبوس الاسْتكانة و ضرع الاسْتسْلام و الذّلّة قدْ ضلّت الْحيل و انْقطع الْأمل و هوت الْأفْئدة كاظمة و خشعت الْأصْوات مهيْنمة و ألْجم الْعرق و عظم الشّفق و أرْعدت الْأسْماع لزبْرة الدّاعي إلى فصْل الْخطاب و مقايضة الْجزاء و نكال الْعقاب و نوال الثّواب .

تنبيه الخلق

عباد مخْلوقون اقْتدارا و مرْبوبون اقْتسارا و مقْبوضون احْتضارا و مضمّنون أجْداثا و كائنون رفاتا و مبْعوثون أفْرادا و مدينون جزاء و مميّزون حسابا قدْ أمْهلوا في طلب الْمخْرج و هدوا سبيل الْمنْهج و عمّروا مهل الْمسْتعْتب و كشفتْ عنْهمْ سدف الرّيب و خلّوا لمضْمار الْجياد و رويّة الارْتياد و أناة الْمقْتبس الْمرْتاد في مدّة الْأجل و مضْطرب الْمهل .

فضل التذكير

فيا لها أمْثالا صائبة و مواعظ شافية لوْ صادفتْ قلوبا زاكية و أسْماعا واعية و آراء عازمة و ألْبابا حازمة فاتّقوا اللّه تقيّة منْ سمع فخشع و اقْترف فاعْترف و وجل فعمل و حاذر فبادر و أيْقن فأحْسن و عبّر فاعْتبر و حذّر فحذر و زجر فازْدجر و أجاب فأناب و راجع فتاب و اقْتدى فاحْتذى و أري فرأى فأسْرع طالبا و نجا هاربا فأفاد ذخيرة و أطاب سريرة و عمّر معادا و اسْتظْهر زادا ليوْم رحيله و وجْه سبيله و حال حاجته و موْطن فاقته و قدّم أمامه لدار مقامه فاتّقوا اللّه عباد اللّه جهة ما خلقكمْ له و احْذروا منْه كنْه ما حذّركمْ منْ نفْسه و اسْتحقّوا منْه ما أعدّ لكمْ بالتّنجّز لصدْق ميعاده و الْحذر منْ هوْل معاده .

التذكير بضروب النعم

و منها : جعل لكمْ أسْماعا لتعي ما عناها و أبْصارا لتجْلو عنْ عشاها و أشْلاء جامعة لأعْضائها ملائمة لأحْنائها في ترْكيب صورها و مدد عمرها بأبْدان قائمة بأرْفاقها و قلوب رائدة لأرْزاقها في مجلّلات نعمه و موجبات مننه و حواجز عافيته و قدّر لكمْ أعْمارا سترها عنْكمْ و خلّف لكمْ عبرا منْ آثار الْماضين قبْلكمْ منْ مسْتمْتع خلاقهمْ و مسْتفْسح خناقهمْ أرْهقتْهم الْمنايا دون الْآمال و شذّبهمْ عنْها تخرّم الْآجال لمْ يمْهدوا في سلامة الْأبْدان و لمْ يعْتبروا في أنف الْأوان فهلْ ينْتظر أهْل بضاضة الشّباب إلّا حواني الْهرم و أهْل غضارة الصّحّة إلّا نوازل السّقم و أهْل مدّة الْبقاء إلّا آونة الْفناء مع قرْب الزّيال و أزوف الانْتقال و علز الْقلق و ألم الْمضض و غصص الْجرض و تلفّت الاسْتغاثة بنصْرة الْحفدة و الْأقْرباء و الْأعزّة و الْقرناء فهلْ دفعت الْأقارب أوْ نفعت النّواحب و قدْ غودر في محلّة الْأمْوات رهينا و في ضيق الْمضْجع وحيدا قدْ هتكت الْهوامّ جلْدته و أبْلت النّواهك جدّته و عفت الْعواصف آثاره و محا الْحدثان معالمه و صارت الْأجْساد شحبة بعْد بضّتها و الْعظام نخرة بعْد قوّتها و الْأرْواح مرْتهنة بثقل أعْبائها موقنة بغيْب أنْبائها لا تسْتزاد منْ صالح عملها و لا تسْتعْتب منْ سيّئ زللها أ و لسْتمْ أبْناء الْقوْم و الْآباء و إخْوانهمْ و الْأقْرباء تحْتذون أمْثلتهمْ و ترْكبون قدّتهمْ و تطئون جادّتهمْ فالْقلوب قاسية عنْ حظّها لاهية عنْ رشْدها سالكة في غيْر مضْمارها كأنّ الْمعْنيّ سواها و كأنّ الرّشْد في إحْراز دنْياها .

التحذير من هول الصراط

و اعْلموا أنّ مجازكمْ على الصّراط و مزالق دحْضه و أهاويل زلله و تارات أهْواله فاتّقوا اللّه عباد اللّه تقيّة ذي لبّ شغل التّفكّر قلْبه و أنْصب الْخوْف بدنه و أسْهر التّهجّد غرار نوْمه و أظْمأ الرّجاء هواجر يوْمه و ظلف الزّهْد شهواته و أوْجف الذّكْر بلسانه و قدّم الْخوْف لأمانه و تنكّب الْمخالج عنْ وضح السّبيل و سلك أقْصد الْمسالك إلى النّهْج الْمطْلوب و لمْ تفْتلْه فاتلات الْغرور و لمْ تعْم عليْه مشْتبهات الْأمور ظافرا بفرْحة الْبشْرى و راحة النّعْمى في أنْعم نوْمه و آمن يوْمه و قدْ عبر معْبر الْعاجلة حميدا و قدّم زاد الْآجلة سعيدا و بادر منْ وجل و أكْمش في مهل و رغب في طلب و ذهب عنْ هرب و راقب في يوْمه غده و نظر قدما أمامه فكفى بالْجنّة ثوابا و نوالا و كفى بالنّار عقابا و وبالا و كفى باللّه منْتقما و نصيرا و كفى بالْكتاب حجيجا و خصيما .

الوصية بالتقوى

أوصيكمْ بتقْوى اللّه الّذي أعْذر بما أنْذر و احْتجّ بما نهج و حذّركمْ عدوّا نفذ في الصّدور خفيّا و نفث في الْآذان نجيّا فأضلّ و أرْدى و وعد فمنّى و زيّن سيّئات الْجرائم و هوّن موبقات الْعظائم حتّى إذا اسْتدْرج قرينته و اسْتغْلق رهينته أنْكر ما زيّن و اسْتعْظم ما هوّن و حذّر ما أمّن .

و منها في صفة خلق الإنسان

أمْ هذا الّذي أنْشأه في ظلمات الْأرْحام و شغف الْأسْتار نطْفة دهاقا و علقة محاقا و جنينا و راضعا و وليدا و يافعا ثمّ منحه قلْبا حافظا و لسانا لافظا و بصرا لاحظا ليفْهم معْتبرا و يقصّر مزْدجرا حتّى إذا قام اعْتداله و اسْتوىمثاله نفر مسْتكْبرا و خبط سادرا ماتحا في غرْب هواه كادحا سعْيا لدنْياه في لذّات طربه و بدوات أربه ثمّ لا يحْتسب رزيّة و لا يخْشع تقيّة فمات في فتْنته غريرا و عاش في هفْوته يسيرا لمْ يفدْ عوضا و لمْ يقْض مفْترضا دهمتْه فجعات الْمنيّة في غبّر جماحه و سنن مراحه فظلّ سادرا و بات ساهرا في غمرات الْآلام و طوارق الْأوْجاع و الْأسْقام بيْن أخ شقيق و والد شفيق و داعية بالْويْل جزعا و لادمة للصّدْر قلقا و الْمرْء في سكْرة ملْهثة و غمْرة كارثة و أنّة موجعة و جذْبة مكْربة و سوْقة متْعبة ثمّ أدْرج في أكْفانه مبْلسا و جذب منْقادا سلسا ثمّ ألْقي على الْأعْواد رجيع وصب و نضْو سقم تحْمله حفدة الْولْدان و حشدة الْإخْوان إلى دار غرْبته و منْقطع زوْرته و مفْرد وحْشته حتّى إذا انْصرف الْمشيّع و رجع الْمتفجّع أقْعد في حفْرته نجيّا لبهْتة السّؤال و عثْرة الامْتحان و أعْظم ما هنالك بليّة نزول الْحميم و تصْلية الْجحيم و فوْرات السّعير و سوْرات الزّفير لا فتْرة مريحة و لا دعة مزيحة و لا قوّة حاجزة و لا موْتة ناجزة و لا سنة مسلّية بيْن أطْوار الْموْتات و عذاب السّاعات إنّا باللّه عائذون عباد اللّه أيْن الّذين عمّروا فنعموا و علّموا ففهموا و أنْظروا فلهوْا و سلّموا فنسوا أمْهلوا طويلا و منحوا جميلا و حذّروا أليما و وعدوا جسيما احْذروا الذّنوب الْمورّطة و الْعيوب الْمسْخطة أولي الْأبْصار و الْأسْماع و الْعافية و الْمتاع هلْ منْ مناص أوْ خلاص أوْ معاذ أوْ ملاذ أوْ فرار أوْ محار أمْ لا فأنّى تؤْفكون أمْ أيْن تصْرفون أمْ بما ذا تغْترّون و إنّما حظّ أحدكمْ من الْأرْض ذات الطّوْل و الْعرْض قيد قدّه متعفّرا على خدّه الْآن عباد اللّه و الْخناق مهْمل و الرّوح مرْسل في فيْنة الْإرْشاد و راحة الْأجْساد و باحة الاحْتشاد و مهل الْبقيّة و أنف الْمشيّة و إنْظار التّوْبة و انْفساح الْحوْبة قبْل الضّنْك و الْمضيق و الرّوْع و الزّهوق و قبْل قدوم الْغائب الْمنْتظر و إخْذة الْعزيز الْمقْتدر .

قال الشريف : و في الخبر أنه (عليه السلام) لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود و بكت العيون و رجفت القلوب ، و من الناس من يسمي هذه الخطبة الغراء .