مقام الامامة وشأنها في حديث الامام الرضا صلوات الله وسلامه عليه

* الشيخ الكليني في الكافي,أبو محمد القاسم بن العلاء & رفعه, عن عبد العزيز بن مسلم قال: كنا مع الرضا عليه السلام بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الامامة وذكروا كثرة أختلاف الناس فيها, فدخلت على سيدي عليه السلام فأعلمته خوض الناس فيه, فتبسم عليه السلام ثم قال: يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم, إن الله عز وجل لم يقبض نبيه صلى الله عليه وآله حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء, بين فيه الحلال والحرام, والحدود والاحكام, وجميع ما يحتاج إليه الناس كاملاً, فقال عز وجل: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}[1] وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره صلى الله عليه وآله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا}[2] وأمر الامامة من تمام الدين, ولم يمض صلى الله عليه وآله حتى بين لأمته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحق, وأقام لهم علياً عليه السلام علماً وإمام وما ترك لهم شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا بيَّنه, فمن زعم أن الله عز وجل لم يُكمل دينه فقد رد كتاب الله, ومن رد كتاب الله فهو كافر به.

هل يعرفون قدر الامامة ومحلها من الامة فيجوز فيها اختيارهم! إن الامامة أجلُّ قدراً وأعظم شأناً وأعلا مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم, أو ينالوها بآرائهم, أو يقيموا إماماً باختيارهم, إن الامامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة, وفضيلة شرَّفه بها وأشاد بها ذكره, فقال: {إني جاعلك للناس إماماً}[3] فقال الخليل عليه السلام سروراً بها: {ومن ذريتي}[4] قال الله تبارك وتعالى: {لا ينال عهدي الظالمين}[5] فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين * وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين}[6] فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً حتى ورَّثها الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله, فقال جل وتعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين}[7] فكانت له خاصة فقلدها صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله, فصارت في ذريته الاصفياء الذين آتاهم الله العلم والايمان, بقوله تعالى: {قال الذين اوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث}[8] فهي في ولد علي عليه السلام خاصة إلى يوم القيامة, إذ لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟!

إن الامامة هي منزلة الانبياء, وإرث الاوصياء, إن الامامة خلافة الله وخلافة الرسول صلى الله عليه وآله ومقام أمير المؤمنين عليه السلام وميراث الحسن والحسين صلوات الله عليه إن الامامة زمام الدين, ونظام المسلمين, وصلاح الدنيا وعز المؤمنين, إن الامامة أسُّ الاسلام النامي, وفرعه السامي, بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد, وتوفير الفيء والصدقات, وإمضاء الحدود والاحكام, ومنع الثغور والاطراف.

الامام[9] يحل حلال الله, ويحرم حرام الله, ويقيم حدود الله, ويذب عن دين الله, ويدعو إلى سبيل ربه {بالحكمة والموعظة الحسنة}[10] والحجة البالغة, الامام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم وهي في الافق بحيث لا تنالها الايدي والابصار.

الامام البدر المنير, والسراج الزاهر, والنور الساطع, والنجم الهادي في غياهب[11] الدجى وأجواز البلدان والقفار, ولجج البحار, الامام الماء العذب على الظماء والدال على الهدى, والمنجي من الردى, الامام النار على اليفاع, الحار لمن اصطلى به والدليل في المهالك, من فارقه فهالك, الامام السحاب الماطر, والغيث الهاطل ووالشمس المضيئة, والسماء الظليلة, والارض البسيطة, والعين الغزيرة, والغدير والروضة, الامام الانيس الرفيق, والوالد الشفيق, والاخ الشقيق, والام البرة بالولد الصغير, ومفزع العباد في الداهية النآد الامام أمين الله في خلقه, وحجته على عباده، وخليفته في بلاده, والداعي إلى الله, والذاب عن حرم الله, الامام المطهر من الذنوب والمبرأ عن العيوب, المخصوص بالعلم, المرسوم بالحلم, نظام الدين, وعز المسلمين وغيظ المنافقين, وبوار الكافرين.

الامام واحد دهره, لا يدانيه أحد, ولا يعادله عالم, ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير, مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب, بل اختصاص من المفضل الوهاب.

فمن ذا الذي يبلغ معرفة الامام, أو يمكنه اختياره, هيهات هيهات, ضلت العقول, وتاهت الحلوم, وحارت الالباب, وخسئت العيون وتصاغرت العظماء, وتحيرت الحكماء, وتقاصرت الحلماء, وحصرت الخطباء, وجهلت الالباء, وكلت الشعراء, وعجزت الادباء, وعييت البلغاء, عن وصف شأن من شأنه, أو فضيلة من فضائله, وأقرت بالعجز والتقصير, وكيف يُوصف بكله, أو يُنعت بكنهه, أو يُفهم شيء من أمره, أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه, لا كيف وأنى؟! وهو بحيث النجم من يد المتناولين, ووصف الواصفين, فأين الاختيار من هذا؟! وأين العقول عن هذا؟! وأين يوجد مثل هذا؟! أتظنون أن ذلك يوجد في غير آل الرسول محمد صلى الله عليه وآله كذَّبتهم والله أنفسهم, ومنَّتهم الاباطيل فارتقوا مرتقاً صعباً دحضاً, تزلُّ عنه إلى الحضيض أقدامهم, راموا إقامة الامام بعقول حائرة بائرة ناقصة, وآراء مضلة, فلم يزدادوا منه إلا بعداً, {قاتلهم الله أنى يؤفكون}[12] ولقد راموا صعباً, وقالوا إفكاً, وضلوا ضلالاً بعيداً, ووقعوا في الحيرة, إذ تركوا الامام عن بصيرة, وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين, رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته إلى اختيارهم والقرآن يناديهم: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون}[13] وقال عز وجل: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}[14] الآية وقال: {ما لكم كيف تحكمون * أم لكم كتاب فيه تدرسون * إن لكم فيه لما تخيرون * أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون * سلهم أيهم بذلك زعيم * أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين}[15] وقال عز وجل: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}[16] أم طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون أم {قالوا سمعنا وهم لا يسمعون * إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون * ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون}[17] أم {قالوا سمعنا وعصينا}[18] بل هو {فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}[19], فكيف لهم باختيار الامام؟ والامام عالم لا يَجهل, وراع لا ينكل, معدن القدس والطهارة, والنسك والزهادة, والعلم والعبادة, مخصوص بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله ونسل المطهرة البتول, لا مغمز فيه في نسب, ولا يدانيه ذو حسب, في البيت من قريش والذروة من هاشم, والعترة من الرسول صلى الله عليه وآله والرضا من الله عز وجل, شرف الاشراف, والفرع من عبد مناف, نامي العلم, كامل الحلم, مضطلع بالامامة, عالم بالسياسة, مفروض الطاعة, قائم بأمر الله عز وجل, ناصح لعباد الله, حافظ لدين الله.

إن الانبياء والائمة صلوات الله عليهم يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم, فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى: {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يُهدى فمالكم كيف تحكمون}[20] وقوله تبارك وتعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيراً}[21] وقوله في طالوت: {إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم}[22] وقال لنبيه صلى الله عليه وآله: {أنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً}[23] وقال في الائمة من أهل بيت نبيه وعترته وذريته صلوات الله عليهم: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما * فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيراً}[24].

وإن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده, شرح صدره لذلك, وأودع قلبه ينابيع الحكمة, وألهمه العلم إلهاماً, فلم يعي بعده بجواب, ولا يحير فيه عن الصواب, فهو معصوم مؤيد, موفق مسدد, قد أمن من الخطايا والزلل والعثار, يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده, وشاهده على خلقه, و{ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}[25], فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه! أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه! تعدوا وبيت الله الحق ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون, وفي كتاب الله الهدى والشفاء, فنبذوه واتبعوا أهواءهم, فذمهم الله ومقتهم وأتعسهم فقال جل وتعالى: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين}[26] وقال: {فتعساً لهم وأضل أعمالهم}[27] وقال: {كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار}[28] وصلى الله على النبي محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.[29]

 

[1] سورة الأنعام, الآية 38.

[2] سورة المائدة, الآية 3.

[3] سورة البقرة, الآية 124.

[4] المصدر نفسه.

[5] المصدر نفسه.

[6] سورة الأنبياء, الآية 73,72.

[7] سورة آل عمران, الآية 68.

[8] سورة الروم, الآية 56.

[9] من هنا ذكره السيد هاشم البحراني في مدينة المعاجز.

[10] سورة النحل, الآية 125.

[11] الغيهب: الظلمة وشدة السواد.

[12] سورة التوبة, الآية 30.

[13] سورة القصص, الآية 68.

[14] سورة الأحزاب, الآية 36.

[15] سورة القلم, الآية 36, 37, 38, 39, 40, 41.

[16] سورة محمد, الآية 24.

[17] سورة الانفال, الآية 21, 22, 23.

[18] سورة البقرة, الآية 93.

[19] سورة الحديد, الآية 21.

[20] سورة يونس, الآية 35.

[21] سورة البقرة, الآية 269.

[22] سورة البقرة, الآية 247.

[23] سورة النساء, الآية 113.

[24] سورة النساء, الآية 54, 55.

[25] سورة الجمعة, الآية 4.

[26] سورة القصص, الآية 50.

[27] سورة محمد, الآية 8..

[28] سورة غافر, الآية 35.

[29] الكافي ج1 ص198، عنه البحار ج25 ص120، الإحتجاج ج2 ص226، أمالي الصدوق ص713، تحف العقول ص436، عيون أخبار الرضا × ج2 ص195، غيبة النعماني ص216، كمال الدين ص675، معاني الأخبار ص96, ينابيع المعاجز ص186.