باب ذم الدنيا

إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مر على شاة ميتة فقال أ ترون هذه الشاة هينة على صاحبها قالوا نعم قال و الذي نفسي بيده الدنيا أهون عند الله عز و جل من هذه على صاحبها و لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء .

و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر .

و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : من أحب دنياه أضر بآخرته و من أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى .

و قال : حب الدنيا رأس كل خطيئة .

قال بعضهم : كنت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرأيته يدفع عن نفسه شيئا فقلت يا رسول صلى الله عليك و آلك ما الذي تدفع عن نفسك قال هذه الدنيا مثلت لي فقلت لها إليك عني فرجعت فقالت إنك إن فلت مني لم يفلت عني من بعدك .

و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا عجب كل العجب للمصدق بدار الخلود و هو يسعى لدار الغرور .

و روي أن رسول الله ص وقف على مزبلة فقال هلموا إلى الدنيا و أخذ خرقا قد بليت على تلك المزبلة و عظاما قد نخرت فقال هذه الدنيا .

و هذه إشارة إلى أن زينتها ستخلق مثل تلك الخرق فإن الأجسام التي ترونها تصير مثل تلك العظام البالية .

و قال إن الدنيا حلوة خضرة و إن الله مستخلفكم فيها فناظروا كيف تعملون إن بني إسرائيل لما بسطت لهم الدنيا و مهدت بأهوائها في الحلية و النساء و الثياب و الطيب قال عيسى (عليه السلام) لا تتخذوا الدنيا ربا فتتخذكم عبيدا اكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة و صاحب كنز الله لا يخاف عليه الآفة.

و قال أيضا يا معشر الحواريين إني قد أكببت لكم الدنيا على وجهها فلا تنعشوها بعدي فإن من خبث الدنيا أن عصى الله فيها و إن من خبث الدنيا أن الآخرة لا تنال و لا تدرك إلا بتركها فاعبروا الدنيا و لا تعمروها و اعلموا أن أصل كل خطيئة حب الدنيا و رب شهوة أورثت أهلها حزنا طويلا .

و قال أيضا : إن بطحت لكم الدنيا و جلستم على ظهرها فلا ينازعنكم فيها إلا الملوك و النساء فأما الملوك فلا تنازعوهم للدنيا فإنهم لم يعرضوا لكم ما تركتم دنياهم و أما النساء فاتقوهن بالصوم و الصلاة .

و قال أيضا الدنيا طالبة و مطلوبة فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه و طالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجي‏ء الموت فيأخذ بعنقه .

و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن الله جل ثناؤه لم يخلق خلقا أبغض إليه من الدنيا .

و روي : أن سليمان بن داود مر في موكبه و الطير تظله و الجن و الإنس عن يمينه و عن شماله قال فمر بعابد من عباد بني إسرائيل فقال و الله يا ابن داود لقد آتاك الله ملكا عظيما قال فسمعه سليمان (عليه السلام) فقال لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطي ابن داود و إن ما أعطي ابن داود يذهب و التسبيحة تبقى .

و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألهاكم التكاثر يقول ابن آدم مالي مالي و هل لك من مالك إلا ما تصدقت فأبقيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت .

و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : الدنيا دار من لا دار له و مال من لا مال له لها يجمع من لا عقل له و عليها يعادي من لا علم له و عليها يحسد من لا ثقة له و لها يسعى من لا يقين له .

و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : من أصبح و الدنيا أكبر همه فليس من الله في شي‏ء و ألزم قلبه أربع خصال هما لا ينقطع عنه أبدا و شغلا لا ينفرج منه أبدا و فقرا لا يبلغ غناه أبدا و أملا لا يبلغ منتهاه أبدا .

قال أبو هريرة : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يا أبا هريرة أ لا أريك الدنيا جميعا بما فيها قلت بلى يا رسول الله فأخذ بيدي و أتى بي واديا من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رءوس الناس و عذرات و خرق و عظام ثم قال لي يا أبا هريرة هذه الرءوس كانت تحرص على الدنيا كحرصكم و تأمل آمالكم ثم هي عظام بلا جلد ثم هي صائرة رمادا و هذه العذرات ألوان أطعمتكم اكتسبوها من حيث اكتسبوها ثم قذفوها من بطونهم فأصبحت و الناس يتحامونها و هذه الخرق البالية كانت رياشهم و لباسهم فأصبحت و الرياح تصفقها و هذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد فمن كان راكنا إلى الدنيا فليبك فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا .

و روي : أن الله عز و جل لما أهبط آدم (عليه السلام) إلى الأرض قال ابن للخراب و لد للفناء .

و قيل مكتوب في صحف إبراهيم (عليه السلام) يا دنيا ما أهونك على الأبرار الذين تزينت و تصنعت لهم إني قذفت في قلوبهم بغضك و الصدود عنك و ما خلقت خلقا أهون علي منك كل شأنك صغير و إلى الفناء تصيرين قضيت عليك يوم خلقتك أن لا تدومي لأحد و لا يدوم أحد لك و إن بخل بك صاحبك و شح عليك .

و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : الدنيا موقوفة بين السماء و الأرض منذ خلق الله الدنيا لا ينظر إليها و تقول يوم القيامة يا رب اجعلني لأدنى أوليائك نصيبا اليوم فيقول اسكتي يا لا شي‏ء إني لم أرضك لهم في الدنيا أرضاك لهم اليوم.

و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ليجيئن يوم القيامة أقوام و أعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار قالوا يا رسول الله صلى الله عليك مصلين قال نعم كانوا يصومون و يصلون و يأخذون وهنا من الليل فإذا عرض لهم شي‏ء من الدنيا وثبوا عليه .

و قال في بعض خطبه : المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه و بين أجل قد بقي ما يدري ما الله قاض فيه فليتزود العبد من دنياه لآخرته و من حياته لموته و من شبابه لهرمه فإن الدنيا خلقت لكم و أنتم خلقتم للآخرة و الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب و لا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.

و قال عيسى (عليه السلام) لا يستقيم حب الدنيا و الآخرة في قلب مؤمن كما لا يستقيم الماء و النار في إناء واحد .

و روي : أن جبرئيل (عليه السلام) قال لنوح (عليه السلام) يا أطول الأنبياء عمرا كيف وجدت الدنيا قال كدار لها بابان دخلت من أحدهما و خرجت من الآخر.

و قيل لعيسى (عليه السلام) لو اتخذت بيتا قال يكفينا خلقان من كان قبلنا.

و قال نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت و ماروت .

و عن أنس قال خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم على أصحابه فقال منكم من يريد أن يذهب الله عنه العمى و يجعله بصيرا إلا أنه من رغب في الدنيا و طال أمله فيها أعمى الله قلبه على قدر ذلك و من زهد في الدنيا و قصر أمله فيها أعطاه الله علما بغير تعلم و هدى بغير هداية إلا أنه سيكون بعدي قوم لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل و التجبر و لا الغنى إلا بالفخر و البخل و لا المحبة إلا باتباع الهوى ألا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر على الفقر و هو يقدر على الغنى و صبر على البغضاء و هو يقدر على المحبة و صبر على الذل و هو يقدر على العز لا يريد بذلك إلا وجه الله أعطاه الله ثواب خمسين صديقا.

و روي : أن عيسى ع اشتد به المطر و الرعد و البرق يوما فجعل يطلب شيئا يلجأ إليه فرفعت له خيمة من بعيد فأتاه فإذا فيها امرأة فحاد عنها فإذا هو بكهف في جبل فأتاه فإذا فيه أسد فوضع يده عليه فقال إلهي لكل شي‏ء مأوى فأوحى الله تعالى إليه مأواك في مستقر رحمتي و عزتي لأزوجنك يوم القيامة مائة حورية خلقتها بيدي و لأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام يوم منها كعمر الدنيا و لآمرن مناديا ينادي أين الزهاد في الدنيا زوروا عرس الزاهد عيسى ابن مريم .

قال عيسى (عليه السلام) : ويل لصاحب الدنيا كيف يموت و يتركها و يأمنها و تغره و يثق بها و تخذله ويل للمغترين كيف رهقهم ما يكرهون و فارقهم ما يحبون و جاءهم ما يوعدون ويل لمن الدنيا همه و الخطايا أمله كيف يفتضح غدا عند الله .

و قيل أوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام) يا موسى ما لك و لدار الظالمين إنها ليست لك بدار أخرج منها همك و فارقها بعقلك و بئست الدار هي إلا للعامل فيها فنعمت الدار هي يا موسى إني مرصد للظالم حتى آخذ منه للمظلوم .

و روي : أن رسول الله ص بعث أبا عبيدة بن الجراح فجاءه بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما صلى (صلى الله عليه وآله وسلم) انصرفوا فتعرضوا له فتبسم رسول الله ص ثم قال أظنكم أنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشي‏ء قالوا أجل يا رسول الله قال فأبشروا و أملوا ما يسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم و لكني أخشى عليكم أن تبسط لكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها و تهلككم كما أهلكتهم.

و قال أبو سعيد الخدري قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إني أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض فقيل و ما بركات الأرض قال زهرة الدنيا .

و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا تشغلوا قلوبكم بذكر الدنيا فنهى عن ذكرها فضلا عن إصابة عينها .

و قال بعضهم : مر عيسى (عليه السلام) بقرية فإذا أهلها موتى في الأفنية و الطرق فقال لهم يا معشر الحواريين إن هؤلاء ماتوا عن سخطة و لو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا فقالوا يا روح الله وددنا لو علمنا خبرهم فسأل ربه فأوحى الله إليه إذا كان الليل فنادهم يجيبوك فلما كان الليل أشرف على نشز ثم نادى يا أهل القرية فأجابه مجيب لبيك يا روح الله فقال ما حالكم و ما قصتكم قال بتنا في عافية و أصبحنا في الهاوية قال و كيف ذلك قال لحبنا الدنيا و طاعتنا أهل المعاصي قال و كيف كان حبكم الدنيا قال حب الصبي لأمه إذا أقبلت فرحنا و إذا أدبرت حزنا و بكينا قال فما بال أصحابك لم يجيبوني قال لأنهم ملجمون بلجام من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد قال كيف أجبتني من بينهم قال لأني كنت فيهم و لم أكن منهم فلما نزل العذاب أصابني معهم فأنا معلق على شفير جهنم لا أدري أنجو منها أم أكبكب فيها فقال المسيح (عليه السلام) للحواريين أكل خبز الشعير بالملح الجريش و لبس المسوح و النوم على المزابل خير كثير مع عافية الدنيا و الآخرة .

قال أنس : كانت ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العضباء لا تسبق فجاء أعرابي بناقة فسبقها فشق ذلك على المسلمين فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه حق على الله أن لا يرفع شيئا إلا وضعه .

و قال عيسى (عليه السلام) : من ذا الذي يبني على موج البحر دارا تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا .

و قيل لعيسى (عليه السلام) : علمنا عملا واحدا يحبنا الله عليه قال أبغضوا الدنيا يحببكم الله .

و قال أبو الدرداء : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا و لضحكتم قليلا و لهانت عليكم الدنيا و لآثرتم الآخرة ثم قال أبو الدرداء لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعداء تبكون على أنفسكم و لتركتم أموالكم لا حارس لها و لا راج إليها إلا ما لا بد لكم منه و لكن يغيب عن قلوبكم ذكر الآخرة و حضرها الأمل فصارت الدنيا أملك بأعمالكم و صرتم كالذين لا يعلمون فبعضكم شر من البهائم التي لا تدع هواها مخافة مما في عاقبته ما لكم لا تحابون و لا تناصحون و أنتم إخوان على دين ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم و لو اجتمعتم على البر لتحاببتم ما لكم تناصحون في أمر الدنيا و لا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبه و يعينه على أمر آخرته ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم و لو كنتم توقنون بخير الآخرة و شرها كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الآخرة .

و قال عيسى : يا معشر الحواريين ارضوا بدني الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بدني الدين مع سلامة الدنيا .

و في معناه قيل :

أرى رجالا بأدنى الدين قد قنعوا *** و لا أراهم رضوا في العيش بالدون

‏فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما *** استغنى الملوك بدنياهم عن الدين

و قال عيسى (عليه السلام) : يا طالب الدنيا لتبر تركك الدنيا أبر.

و قال نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) : ليأتينكم بعدي دنيا تأكل أموالكم كما تأكل النار الحطب .

و أوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام) أن يا موسى لا تركنن إلى حب الدنيا فلن تأتيني بكبيرة هي أشد منها .

و مر موسى (عليه السلام) برجل و هو يبكي و رجع و هو يبكي فقال يا رب عبدك يبكي من مخافتك فقال يا ابن عمران لو نزل دماغه مع دموع عينيه و رفع يديه حتى تسقطا لم أغفر له و هو يحب الدنيا .

و قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : من جمع فيه ست خصال ما يدع للجنة مطلبا و لا عن النار مهربا من عرف الله فأطاعه و عرف الشيطان فعصاه و عرف الحق فاتبعه و عرف الباطل فاتقاه و عرف الدنيا فرفضها و عرف الآخرة فطلبها .

و قال الحسن رحم الله أقواما كانت الدنيا عندهم وديعة فأدوها إلى من ائتمنهم عليها ثم راحوا خفافا .

و قال أيضا من نافسك في دينك فنافسه و من نافسك في دنياك فألقها في نحره.

و قال لقمان لابنه : يا بني إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها ناس كثير فلتكن سفينتك منها تقوى الله عز و جل و حشوها الإيمان بالله عز و جل و شراعها التوكل على الله لعلك ناج و ما أراك ناجيا .

و قال بعض الحكماء : إنك لن تصبح في شي‏ء من الدنيا إلا و قد كان له أهل قبلك و يكون له أهل بعدك و ليس لك من الدنيا إلا عشاء ليله و غداء يوم فلا تهلك في أكلة و صم الدنيا و أفطر على الآخرة فإن رأس مال الدنيا الهوى و ربحها النار .

و قيل لبعض الزهاد كيف ترى الدهر قال يخلق الأبدان و يجدد الآمال و يقرب المنية و يبعد الأمنية قيل و ما حال أهله قال من ظفر به تعب و من فاته نصب و قد قيل في ذلك شعرا :

و من يحمد الدنيا لعيش يسره *** فسوف لعمري عن قليل يلومها

إذا أدبرت كانت على المرء حسرة *** و إن أقبلت كانت كثيرا همومها

و قال بعض الحكماء : كانت الدنيا و لم أكن فيها و تذهب الدنيا و لا أكون فيها فلا ينبغي السكون إليها فإن عيشها نكد و صفوها كدر و أهلها منها على وجل إما بنعمة زائلة أو بلية نازلة أو منية قاضية .

و قال بعضهم : من عيب الدنيا أنها لا تعطى أحدا ما يستحق لكنها إما أن تزيده أو تنقصه .

و قال بعضهم : أ ما ترى النعم كأنها مغضوب عليها قد وضعت في غير أهلها.

و قال رجل لبعضهم أشكو إليك حب الدنيا و ليست لي بدار فقال انظر ما آتاكه الله عز و جل منها فخذه من حله و لا تضعه إلا في حقه و لا يضرك حب الدنيا و إنما قال هذا لأنه لو آخذ نفسه بذلك لأتعبه حتى يتبرم بالدنيا و يطلب المخرج منها .

و قال بعضهم : الدنيا حانوت الشيطان فلا تسرق من حانوته شيئا فيجي‏ء يأخذك .

و قال بعضهم : لو أن الدنيا من ذهب يفنى و الآخرة من خزف يبقى لكان ينبغي لنا أن نختار ما يبقى على ما يفنى فكيف و قد اخترنا خزفا يفنى على ذهب يبقى .

و قال آخر : إياكم و الدنيا فإنه بلغني أنه يوقف العبد يوم القيامة إذا كان معظما للدنيا فيقال هذا الذي عظم ما حقره الله تعالى .

و قال ابن مسعود ما أصبح أحد من الناس إلا و هو ضيف و ماله عارية و الضيف مرتحل و العارية مردودة .

و أقبل قوم على رجل زاهد فذكروا الدنيا و أقبلوا على ذمها فقال اسكتوا من ذكرها فلو لا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها ألا من أحب شيئا أكثر من ذكره. و قال آخر .

نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى و لا ما نرقع‏فطوبى لعبد آثر الله ربه و جاد بدنياه لما يتوقع

و قيل أيضا :

أرى طالب الدنيا و إن طال عمره و نال من الدنيا سرورا و أنعما كبان بنى بنيانه فأتمه فلما استوى ما قد بناه تهدما .

و قال آخر : :

هب الدنيا تساق إليك عفوا *** أ ليس مصير ذاك إلى انتقال‏

و ما دنياك إلا مثل في‏ء *** أظلك ثم أذن للزوال

و قال لقمان لابنه : يا بني بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا و لا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعا .

و قال آخر : : لا تنظر إلى الملوك و خفض عيشهم و لين رياشهم و لكن انظر إلى سرعة ظعنهم و شر منقلبهم

و قال ابن عباس رضي الله عنه إن الله جعل الدنيا ثلاثة أجزاء جزء للمؤمن و جزء للمنافق و جزء للكافر فالمؤمن يتزود و المنافق يتزين و الكافر يتمتع .

و قال بعضهم : الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئا فليصبر على معاشرة الكلاب.

و قيل .

يا خاطب الدنيا إلى نفسها تنح عن خطبتها تسلم‏إن التي تخطب غدارة قريبة العرس من المأتم

و قال أبو الدرداء من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها و لا ينال ما عنده إلا بتركها .

و قال رجل لأمير المؤمنين (عليه السلام) صف لنا الدنيا فقال و ما أصف لك من دار من صح فيها أمن و من سقم فيها ندم و من افتقر فيها حزن و من استغنى فيها فتن في حلالها الحساب و في حرامها العقاب و قيل له (عليه السلام) ذلك مرة فقال أطول أم أقصر فقيل له قصر فقال حلالها حساب و حرامها عقاب .

و قال آخر : اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء يعني الدنيا.

و قال آخر الدنيا و الآخرة يجتمعان في القلب فأيهما غلب كان الآخرة تبعا له.

و قال آخر : بقدر ما تحزن للدنيا يخرج هم الآخرة من قلبك و بقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك .

و قال عيسى (عليه السلام) الدنيا و الآخرة ضرتان فبقدر ما ترضى إحداهما تسخط الأخرى .

و قال الحسن و الله لقد أدركت أقواما كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه ما يبالون أ شرقت أم غربت أ ذهبت إلى ذا أم ذهبت إلى ذا .

و قال رجل للحسن ما تقول في رجل آتاه الله مالا فهو يتصدق منه و يصل منه و يحسن فيه أ له أن يعيش فيه يعني التنعم فقال لا لو كانت الدنيا له كلها ما كان له فيها إلا الكفاف و يقدم ذلك ليوم فقره .

و قال بعضهم : خذ من الدنيا لبدنك و خذ من الآخرة لقلبك .

قال وهب قد قرأت في بعض الكتب الدنيا غنيمة الأكياس و غفلة الجهال لم يعرفوها حتى خرجوا منها فسألوا الرجعة فلم يرجعوا .

و قال لقمان لابنه يا بني إنك استدبرت الدنيا من يوم نزلتها و استقبلت الآخرة فأنت إلى دار تقرب منها أقرب من دار تباعد منها .

و قال بعضهم : إذا رأيت العبد تزداد دنياه و تنقص آخرته و هو به راض فذلك المغبون الذي يلعب بوجهه و هو لا يشعر .

و قال بعضهم : على المنبر و الله ما رأيت قوما أرغب فيما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يزهد فيه منكم و الله ما مر على رسول الله ص ثلاث إلا و الذي عليه أكثر من الذي له .

و قال الحسن بعد أن تلا قوله تعالى فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا من قال ذا من خلقها من هو أعلم بها منكم إياكم و ما شغل من الدنيا فإن الدنيا كثيرة الاشتغال لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عشرة أبواب مسكين ابن آدم مسكين يستقل ماله و لا يستقل عمله يفرح بمصيبته في دينه و يجزع بمصيبته في دنياه .

كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز سلام عليك أما بعد فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد ماتوا فأجابه سلام عليك كأنك بالدنيا لم تكن و بالآخرة لم تزل .

و قال بعضهم : عجبا لمن يعرف أن الموت حق كيف يفرح و عجبا لمن يعرف أن النار حق كيف يضحك و عجبا لمن يرى تقلب الدنيا بأهلها كيف يطمئن إليها .

و قدم على معاوية رجل من نجران عمره مائتا سنة فسأله عن الدنيا كيف وجدها فقال سنيات بلاء و سنيات رخاء يوم فيوم و ليلة فليلة يولد مولود و يهلك هالك فلو لا المولود لباد الخلق و لو لا الهالك ضاقت الدنيا بمن فيها فقال له سل ما شئت قال عمر مضى فترده و أجل حضر فتدفعه قال لا أملك ذلك فقال لا حاجة لي إليك .

و قال بعضهم : يا ابن آدم فرحت ببلوغ أملك إنما بلغته بانقضاء أجلك ثم سوفت بعملك كان منفعته لغيرك .

و قال آخر : من سأل الله الدنيا فإنما سأله طول الوقوف بين يديه.

و قال بعضهم : ما في الدنيا شي‏ء يسرك إلا و قد لزق إليه شي‏ء يسوءك.

و قال الحسن لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث إنه لم يشبع بما جمع و لم يدرك ما أمل و لم يحسن الزاد لما قدم عليه .

و قيل لبعضهم قد نلت الغنى فقال إنما نال الغنى من عتق من رق الدنيا.

و قال الآخر لا يصبر عن شهوات الدنيا إلا من كان في قلبه ما يشغله بالآخرة .

و قال بعضهم : اصطلحنا على حب الدنيا فلا يأمر بعضنا بعضا و لا ينهى بعضنا بعضا .

و قال آخر : يسير الدنيا يشغل عن كثير الآخرة .

و قال الحسن أهينوا الدنيا فو الله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن أهانها.

و قال أيضا إذا أراد الله بعبد خيرا أعطاه من الدنيا عطية ثم يمسك فإذا نفد أعاد عليه و إذا هان عليه عبد بسط له الدنيا بسطا .

و قال آخر : حب الدنيا و الذنوب في القلب قد احتوشته فمتى يصل الخير إليه.

قال وهب بن منبه من فرح قلبه بشي‏ء من الدنيا فقد أخطأ الحكمة و من جعل شهوته تحت قدميه فرق الشيطان من ظله و من غلب هواه فهو الغالب .

و قيل لبعضهم مات فلان فقال جمع للدنيا و ذهب إلى الآخرة ضيع نفسه قيل إنه كان يفعل و يفعل و ذكر أبوابا من الخير و البر فقال و ما ينفع هذا و هو يجمع للدنيا.

قيل لحكيم الدنيا لمن هي قال لمن تركها فقيل له الآخرة لمن هي قال لمن طلبها .

قال حكيم الدنيا دار خراب و أخرب منها قلب من يعمرها و الجنة دار عمران و أعمر منها قلب من يطلبها .

و قال بعضهم : العقل ثلاثة من ترك الدنيا قبل أن تتركه و بنى قبره قبل أن يدخله و أرضى خالقه قبل أن يلقاه .

و قال بندار إذا رأيت أبناء الدنيا يتكلمون في الزهد فاعلم أنهم في سخرية الشيطان .

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إنما الدنيا ستة أشياء مطعوم و مشروب و ملبوس و مركوب و منكوح و مشموم فأشرف المطعومات العسل و هي مذقة ذبابة و أشرف المشروبات الماء يستوي فيه البر و الفاجر و أشرف الملبوسات الحرير و هو نسج دودة و أشرف المركوبات الخيل و عليها يقتل الرجال و أشرف المنكوحات النساء و هي مبال في مبال و أن المرأة لتزين أحسن ما فيها و يراد أقبح ما فيها و أشرف المشمومات هو المسك و هو بعض دم .

قال بعضهم يا أيها الناس اعملوا على مهل و كونوا من الله عز و جل على وجل و لا تغتروا بالأمل و نسيان الأجل و لا تركنوا إلى الدنيا فإنها خداعة غدارة قد تزخرفت لكم بغرورها و فتنتكم بأمانيها و تزينت لخطابها كالعروس المتحلية العيون إليها ناظرة و القلوب عليها عاكفة و النفوس لها عاشقة فكم من عاشق لها قتلته و مطمئن إليها خذلته فانظروا إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثرت بوائقها و ذمها خالقها جديدها يبلى و ملكها يفنى و عزيزها يذل و كثيرها يقل و حيها يموت و خيرها يفوت فاستيقظوا من غفلتكم و انتبهوا من رقدتكم قبل أن يقال فلان عليل أو مدنف ثقيل فهل على الدواء من دليل أم هل إلى طبيب من سبيل فيدعى لك الأطباء و لا يرجى لك شفاء ثم يقال فلان أوصى و ماله أحصى ثم يقال قد ثقل لسانه فما يكلم إخوانه و لا يعرف جيرانه و عرق عند ذلك جبينك و تتابع أنينك و ثبت يقينك و طبقت جفونك و صدقت ظنونك و تلجلج لسانك و بكى إخوانك و قيل لك هذا ابنك فلان و هذا أخوك فلان منعت الكلام فلا تنطق و ختم على لسانك فلا ينطلق ثم حل بك القضاء و انتزعت نفسك من الأعضاء ثم عرج بها إلى السماء فاجتمع عند ذلك إخوانك و أحضرت من أكفانك فغسلوك و كفنوك فانقطع عوادك و استراح حسادك و انصرف أهلك إلى مالك و بقيت مرتهنا بأعمالك. و قال بعضهم لبعض الملوك أحق الناس بذم الدنيا و قلاها من بسط له فيها و أعطي حاجته منها لأنه يتوقع آفة تغدو على ماله فتحوجه أو على جمعه فتفرقه أو تأتي على سلطانه فتهدمه من القواعد أو تدب إلى جسمه فتسقمه أو تفجعه بشي‏ء هو ضنين به من أحبائه فالدنيا أحق بالذم هي الآخذة ما تعطي الراجعة فيما تهب بينا هي تضحك صاحبها إذا ضحكت منه و بينا هي تبكي له إذا بكت عليه و بينا هي تبسط كفه بالعطاء إذا بسطتها بالاسترداد تعقد التاج على الرأس اليوم و تعفره غدا في التراب سواء عليها ذهاب ما ذهب و بقاء ما بقي تجد في الذاهب من الباقي خلفا و ترضى بكل من كل بدلا .

و كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد فإن الدنيا دار ظعن و ليست بدار إقامة و إنما أنزل آدم (عليه السلام) إليها عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها و الغنى منها فقرها لها في كل حين قتيل تذل من أعزها و تفقر من جمعها هي كالسم يأكله من لا يعرفه و هو حتفه فكن فيها كالمداوي جراحته يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا و يصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء فاحذر هذه الدار الغدارة الختالة الخداعة التي قد تزينت بخدعها و قتلت بغرورها و ختلت بآمالها و شوقت لخطابها فأصبحت كالعروس المتحلية الجميلة فالعيون إليها ناظرة و القلوب عليها والهة و النفوس لها عاشقة و هي لأزواجها كلهم قاتلة فلا الباقي بالماضي معتبر و لا الآخر على الأول مزدجر و لا العارف بالله عز و جل حين أخبره عنها مدكر فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر و طغى و نسي المعاد و اشتغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه فعظمت ندامته و كثرت حسرته و اجتمعت عليه سكرات الموت بألمها و حسرات الفوت بغصتها و من رغب فيها لم يدرك منها ما طلب و لم يرح نفسه من التعب فخرج بغير زاد و قدم على غير مهاد فاحذرها و كن آنس ما تكون فيها أحذر ما تكون منها فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته منه إلى مكروه و السار فيها لأهلها غار و النافع منها غدا ضار و قد وصل الرخاء منها في البلاء و جعل البقاء فيها إلى الفناء فسرورها مشوب بالأحزان لا يرجع منها ما ولى و أدبر.

و لا يدرى ما هو آت فينتظر أيامها كاذبة و آمالها باطلة و صفوها كدر و عيشها نكد و ابن آدم فيها على خطر و إن عقل فنظر و هو من النعماء على خطر و من البلاء على حذر فلو كان الخالق لم يخبر عنها خبرا و لم يضرب لها مثلا لكانت الدنيا قد أيقظت النائم و نبهت الغافل فكيف و قد جاء من الله عز و جل زاجر و فيها واعظ فما لها عند الله جل ثناؤه قدر و ما نظر إليها منذ خلقها و لقد عرضت على نبيك (صلى الله عليه وآله وسلم) بمفاتيحها و خزائنها لا ينقصه عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها و كره أن يخالف على الله أمره أو يحب ما أبغض خالقه أو يرفع ما وضع مليكه فزواها عن الصالحين اختيارا و بسطها لأعدائه اغترارا أ فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها و نسي ما صنع الله بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حين شد الحجر على بطنه و لقد جاءت الرواية عنه تبارك و تعالى أنه قال لموسى (عليه السلام) إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته و إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين و إن شئت اقتديت بصاحب الروح و الكلمة ابن مريم (عليه السلام) كان يقول إدامي الجوع و شعاري الخوف و لباسي الصوف و صلائي في الشتاء مشارق الشمس و سراجي القمر و دابتي رجلاي و طعامي و فاكهتي ما أنبتت الأرض أبيت و ليس لي شي‏ء و أصبح و ليس لي شي‏ء و ليس على الأرض أحد أغنى مني .

و قال ابن منبه لما بعث الله موسى و هارون إلى فرعون قال لا يروعنكما لباسه الذي لبس من الدنيا فإن ناصيته بيدي فلا يعجبكما ما متع به منها فإنما هي زهرة الحياة الدنيا و زينة المترفين فلو شئت أن أزينكما بزينة الدنيا يعرف فرعون حين يراها أن مقدرته تعجز عما أوتيتما لفعلت لكني أرغب بكما عن ذلك فأزوي ذلك عنكما و كذلك أفعل بأوليائي إني لأذودهم عن نعيمها كما يذود الراعي غنمه عن مراتع الهلكة و إني لأجنبهم سلوكها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك العرة ما ذاك لهوانهم علي و لكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا إنما يتزين لي أوليائي بالذل و الخشوع و الخوف و الذي يثبت في قلوبهم فيظهر على أجسادهم فهي ثيابهم التي يلبسون و دثارهم الذي يظهرون و ضميرهم الذي يستشعرون و نجاتهم الذي بها يفوزون و درجاتهم التي إياها يأملون و مجدهم الذي به يفخرون و سيماهم التي بها يعرفون فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك و ذلل لهم قلبك و لسانك و اعلم أنه من أخاف لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ثم أنا الثائر له يوم القيامة .

و قال بعض الحكماء الأيام سهام و الناس أغراض و الدهر يرميك كل يوم بسهامه و يخترمك بلياليه و أيامه حتى يستفرق جميع أجزائك فكم بقاء سلامتك مع وقوع الأيام بك و سرعة الليالي في بدنك لو كشف لك عما أحدثت لك الأيام من النقص فيك لاستوحشت في كل يوم يأتي عليك و استثقلت ممر الساعات بك و لكن تدبير الله فوق الاعتبار و بالسلو عن غوائل الدنيا وجد طعم لذاتها و إنها لأمر من العلقم إذا عجنها الحكيم و قد أعيت الواصفين لعيوبها بظاهر أفعالها و ما تأتي به من العجائب أكثر مما يحيط به المواعظ فنستوهب الله رشدنا إلى الصواب .

خطب عمر بن عبد العزيز فقال أيها الناس إنكم خلقتم لأمر إن كنتم تصدقون به فأنتم حمقى و إن كنتم تكذبون به فأنتم الهلكى إنما خلقتم للأبد و لكنكم من دار إلى دار تنقلون فاعملوا لما أنتم صائرون إليه و خالدون فيه .

و يجب على أهل العقل و الفهم و الأدب و المعرفة أن يعلموا أن الدنيا قد أهانها الله تعالى و لم يرضها لأوليائه و إنها عنده حقيرة قليلة و أن رسول الله ص زهد فيها و حذر من فتنتها فينبغي لأهل هذه الأوصاف أن يأكلوا قصدا و يقدموا فضلا و يأخذوا منها ما يكفي و يتركوا ما يلهي و يلبسوا من الثياب ما ستر العورة و يأكلوا من الطعام أدناه مما يسد الجوعة و ينظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية و الآخرة أنها باقية فيتزودوا من الدنيا كزاد الراكب و يخربوا الدنيا و يعمروا بها الآخرة و ينظروا إلى الآخرة بقلوبهم و يعلموا أنهم سينظرون إليها بأعينهم و يرتحلون إليها بقلوبهم كما يعلمون أنهم سيرحلون إليها بأبدانهم و يصبرون قليلا و ينعمون طويلا .

اعلم أن الدنيا سريعة الفناء قريبة الانقضاء تعد بالبقاء ثم تخلف بالوفاء تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة و هي سائرة سيرا عنيفا و مرتحلة ارتحالا سريعا و لكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن و إنما يتحسر عند انقضائها و مثالها الظل فإنه متحرك في الحقيقة ساكن في الظاهر لا يدرك حركتها بالبصر الظاهر بل بالبصيرة الباطنة.

و لما ذكرت الدنيا عند الحسن البصري قال شعرا :

أحلام نوم أو كظل زائل *** إن اللبيب بمثلها لا يخدع

و كان الحسن بن علي (عليه السلام) يتمثل و يقول :

يا أهل لذات الدنيا لا بقاء لها *** إن اغترارا بظل زائل حمق

و كذلك قيل :

و إن امرأ دنياه أكبر همه *** لمستمسك منها بحبل غرور

مثال آخر للدنيا من التغرير بخيالاتها ثم الإفلاس منها بعد إفلاتها يشبه خيالات المنام و أضغاث الأحلام .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الدنيا حلم و أهلها عليها مجازون معاقبون .

و قال بعضهم : ما شبهت نفسي و الدنيا إلا كرجل نام فرأى في منامه ما يكره و ما يحب فبينما هو كذلك إذا انتبه و كذلك سائر الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فإذا ليس بأيديهم شي‏ء مما ركنوا إليه و فرحوا به .

و قيل لحكيم أي شي‏ء أشبه بالدنيا قال أحلام النائم .

مثال آخر للدنيا في عداوتها لأهلها و إهلاكها بنيها .

اعلم أن طبع الدنيا التلطف بالاستدراج أولا و التوصل إلى الإهلاك آخرا و هي كالمرأة تزين للخطاب حتى إذا انكحتهم ذبحتهم .

و قد روي أن عيسى ابن مريم (عليه السلام) كوشف بالدنيا فرآها في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينة فقال لها كم تزوجت قالت لا أحصيهم قال و كلهم ماتوا أو كلهم طلقوك قالت بل كلهم قتلت فقال عيسى (عليه السلام) بؤسا لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين كيف تهلكينهم واحدا واحدا و لا يكونون منك على حذر .

مثال آخر للدنيا في مخالفة باطنها لظاهرها .

اعلم أن الدنيا مزينة الظواهر قبيحة السرائر و هي تشبه عجوزا متزينة تخدع الناس بظاهرها فإذا وقفوا على باطنها و كشفوا القناع عن وجهها تمثل لهم قبايحها فندموا على اتباعها و خجلوا من ضعف عقولهم في الاغترار لظاهرها .

قال ابن عباس رض يؤتى يوم القيامة بالدنيا في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوهة خلقها و تشرف على الخلائق فيقال تعرفون هذه فيقولون نعوذ بالله من معرفة هذه فيقول هذه الدنيا التي تناجزتم عليها و بها تقاطعتم الأرحام و بها تحاسدتم و تباغضتم و اغتررتم ثم تقذف في جهنم فتقول يا رب أين أتباعي و أشياعي فيقول الله عز و جل ألحقوا بها أتباعها و أشياعها .

و قال بعضهم بلغني أن رجلا عرج بروحه فإذا امرأة على قارعة الطريق عليها من كل زينة الحلي و الثياب و إذا لا يمر بها أحد إلا جرحته و إذا هي أدبرت كانت كأحسن شي‏ء رآها الناس و إذا هي أقبلت كانت أقبح شي‏ء رآها الناس عجوز شمطاء قال فقلت أعوذ بالله منك قالت لا و الله لا يعيذك الله حتى تبغض الدرهم قلت من أنت قالت أنا الدنيا .

مثال آخر للدنيا و عيوب الإنسان بها اعلم أن الأحوال ثلاثة حالة لم تكن فيها شيئا و هي ما قبل وجودك إلى الأزل و حالة لا تكون فيها مشاهدا و هي بعد موتك إلى الأبد و حالة بين الأزل و الأبد و هي أيام حياتك في الدنيا فانظر إلى مقدار طولها و النسبة إلى طرفي الأزل و الأبد حتى تعلم أنه أقل من منزل قصير في شوط طويل و لذلك.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما لي و للدنيا إنما مثلي و مثل الدنيا كمثل راكب سار في يوم صائف فرفعت له شجرة فقال تحت ظلها ساعة ثم راح و من رأى الدنيا بهذه العين لم يركن إليها و لم يبال كيف انقضت أيامه في ضر و ضيق أو في سعة و رفاهية بل لا يبني لبنة على لبنة .

توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما وضع لبنة على لبنة و لا قصبة على قصبة و رأى بعض الصحابة يبني بيتا من جص فقال ما أرى الأمر إلا أعجل من هذا و أنكر ذلك و إلى هذا أشار عيسى (عليه السلام) حيث .

قال : الدنيا قنطرة فاعبروها و لا تعمروها .

و هو مثال واضح فإن حياة الدنيا معبر الآخرة و المهد هو المثل الأول على رأس القنطرة و اللحد هو المثل الثاني و بينهما مسافة محدودة فمن الناس من قطع نصف القنطرة و منهم من قطع ثلثها و منهم من قطع ثلثيها و منهم من لم يبق إلا خطوة واحدة و هو غافل عنها و كيف ما كان لا بد من العبور .

مثال آخر للدنيا في لين مأخذها و خشونة مصدرها اعلم أن أوائل أمور الدنيا تبدو لينة يظن الخائض فيها أن حلاوة حفضها كحلاوة الخوض فيها و هيهات فالخوض في الدنيا سهل و لكن الخروج منها مع السلامة شديد .

و قد كتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى سلمان الفارسي رض بمثالها فقال مثل الدنيا مثل الحية يلين مسها و يقتل سمها فأعرض عما يعجبك منها لقلة ما يصحبك منها و ضع عنك همومها لما أيقنت من فراقها و كن آنس ما تكون فيها أحذر ما تكون فيها فإن صاحبها كل ما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه .

مثال آخر للدنيا في تعذر الخلاص من تبعاتها بعد الخوض فيها قال النبي ص إنما مثل صاحب الدنيا كمثل الماشي في الماء هل يستطيع أن يمشي في الماء إلا و تبتل قدماه و هذا يعرفك جهالة قوم ظنوا أنهم يخوضون في نعيم الدنيا بأبدانهم و قلوبهم عنها مطهرة و علائقها عن بواطنهم منقطعة و ذلك مكيدة الشيطان بل لو أخرجوا مما هم فيه لكانوا أعظم المتفجعين بفراقها فكما أن المشي في الماء يقتضي بللا لا محالة يلتصق بالقدم فكذلك ملابسة الدنيا يقتضي علاقة و ظلمة في القلب بل علاقة القلب مع الدنيا تمنع حلاوة العبادة .

قال عيسى (عليه السلام) بحق أقول لكم كما نظر المريض إلى الطعام فلا يتلذذ به من شدة الوجع كذلك صاحب الدنيا لا يتلذذ بالعبادة و لا يجد حلاوتها مع ما يجده من حلاوة الدنيا بحق أقول لكم أن الدابة إذا لم تركب و تمتهن تصعبت و تغير خلقها كذلك القلوب إذا لم ترقق بذكر الموت و بنصب العبادة تقسو و تغلظ و بحق أقول لكم إن الزق إذا لم ينخرق أو ينحل يوشك أن يكون وعاء العسل كذلك القلوب إذا لم تخرقها الشهوات أو يدنسها الطمع أو يقسيها النعيم فسوف تكون أوعية الحكمة .

و قال نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما بقي من الدنيا بلاء و فتنة و إنما مثل عمل أحدكم مثل الوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله و إذا خبث أعلاه خبث أسفله.

مثال آخر لما بقي من الدنيا و قلته بالإضافة إلى ما سبق .

قال أنس قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الدنيا مثل ثوب شق من أوله إلى آخره فيبقى متعلقا بخيط في آخره يوشك ذلك الخيط أن ينقطع .

مثال آخر لتأدية علائق الدنيا بعضها إلى بعض حتى الهلاك .

قال عيسى (عليه السلام) : مثل طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شربا ازداد عطشا حتى يقتله .

مثال آخر لمخالفة الدنيا و لنضارة أولها و خبث عواقبها اعلم أن شهوات الدنيا في القلب لذيذة كشهوات الأطعمة في المعدة و سيجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة و النتن و القيح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا بلغت في المعدة غايتها و كما أن الطعام كلما كان ألذ طعما و أكثر دسما و أظهر حلاوة كان رجيعه أقذر و أشد نتنا و كذلك كل شهوة في القلب هي أشهى و ألذ و أقوى فنتنها و كراهتها و التأذي بها عند الموت أشد بل هي في الدنيا مشاهدة فإن من نهب زاده و ماله فتكون مصيبته و ألمه و تفجعه في كل ما فقده فيها بقدر لذته فيها و حبه لها و حرصه عليها فكل ما كان عند الوجود أشهى و ألذ فهو عند الفقد أدهى و أمر و ما للموت معنى إلا فقد ما في الدنيا .

و قد روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال للضحاك بن سفيان الكلابي أ لست تؤتى بطعامك و قد مزج و ملح ثم تشرب عليه اللبن و الماء قال بلى قال فإلى ما يصير قال إلى ما علمت قال فإن الله عز و جل ضرب مثل الدنيا لما يصير إليه طعام ابن آدم.

و قال أبي بن كعب قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الدنيا ضربت مثلا لابن آدم فانظر ما يخرج من ابن آدم و إن مزجه و ملحه إلى ما يصير .

و قال الحسن قد رأيتم يطيبونها بالأفاويه و الطيب ثم يرمون بها حيث رأيتم و قد قال الله تعالى فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ قال ابن عباس إلى رجيعه.

و كان بعضهم يقول انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول انظروا إلى ثمارهم و دجاجهم و عسلهم و سمنهم و إن الملك يقول يا ابن آدم انظر إلى ما بخلت به انظر إلى ما خاصمت عليه انظر إلى ما حرصت على تحصيله انظر إلى ما ذا صار مثال آخر في نسبة الدنيا إلى الآخرة .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم ينظر ما يرجع إليه .

مثال آخر للدنيا و أهلها في اشتغالهم بنعيم الدنيا و غفلتهم عن الآخرة و حسراتهم العظيمة بسببها .

اعلم أن أهل الدنيا في غفلتهم كسكران التذ بشربه و خاصم من بحضرته على أمر فلما أفاق من سكره ندم على ذلك و كذلك الإنسان في الدنيا سكران فإذا أتاه الموت ندم على ما فرط منه .

قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا .

مثال آخر لاغترار الخلق بالدنيا و ضعف إيمانهم بقول الله تعالى و تحذيره إياهم غوائل الدنيا .

بلغني أن رسول الله ص قال لأصحابه إنما مثلي و مثلكم و مثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أم ما بقي أنفدوا الزاد و خسروا الظهر و بقوا بين ظهراني المفازة لا زاد و لا حمولة فأيقنوا بالهلكة فبينا هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه ماء فقالوا هذا قريب عهد بريف و ما جاءكم هذا إلا من قريب فلما انتهى إليهم قال يا هؤلاء قالوا يا هذا قال على ما أنتم فقالوا على ما ترى قال أ رأيتكم إن هديتكم إلى ماء رواء و رياض خضر ما تعملون قالوا لا نعصيك شيئا قال أعطوني عهودكم و مواثيقكم بالله فأعطوه عهودهم و مواثيقهم بالله لا يعصونه شيئا قال فأوردهم ماء رواء و رياضا خضرا فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال الرحيل قالوا إلى أين قال إلى ماء ليس كمائكم و إلى رياض ليس كرياضكم فقال أكثرهم و الله ما وجدنا هذا حتى ظننا أنا لا نجده و ما نصنع بعيش خير من هذا قال و قالت طائفة و هي أقلهم أ لم تعطوا هذا الرجل عهودكم و مواثيقكم بالله أن لا تعصوه شيئا و قد صدقكم في أول حديثه و الله ليصدقنكم في آخره فراح فيمن اتبعه و تخلف بقيتهم فبدر بهم عدو فأصبحوا بين أسير و قتيل.

مثال آخر لتنعم الناس بالدنيا ثم تفجعهم على فراقها اعلم أن مثل الناس فيما أعطوا من الدنيا مثل رجل هيأ دارا و زينها و هو يدعوا إلى داره على الترتيب قوما واحدا بعد واحد فدخل واحد داره فقدم إليه طبق من ذهب عليه بخور و رياحين يشمها و يتركه لمن يلحقه فجهل رسمه و ظن أنه قد وهب ذلك له فتعلق به قلبه لما ظن أنه له فلما استرجع منه حزن و تفجع و من كان عالما برسمه انتفع به و شكره و رده بطيبة قلب و انشراح صدر و كذلك من عرف سنة الله في الدنيا علم أنها دار ضيافة سبلت على المجتازين لا على المقيمين ليتزودوا منها و ينتفعوا بما فيها كما ينتفع المسافرون بالعواري و لا يصرفون إليها كل قلوبهم حتى تعظم مصيبتهم عند فراقها فهذه أمثلة الدنيا و آفاتها .