بيان الرخصة في كتمان الذنوب و كراهة اطلاع الناس عليها و كراهة ذمهم عليها

اعلم أن الأصل في الإخلاص استواء السريرة و العلانية كما قيل لبعضهم عليك بعمل العلانية قيل و ما عمل العلانية قال إذا ما اطلع الناس عليك لم تستحي منه إلا أن هذه درجة عظيمة لا ينالها كل أحد و لا يخلو الإنسان عن ذنوب بقلبه أو بجوارحه و هو يخفيها و يكره اطلاع الناس عليها لا سيما ما تختلج به الخواطر في الشهوات و الأماني و الله مطلع على جميع ذلك فإرادة العبد لإخفائه عن العبيد ربما يظن أنه رياء محظور و ليس كذلك بل المحظور أن يستر ذلك ليرى الناس أنه ورع و أنه خائف من الله تعالى مع أنه ليس كذلك فهذا هو ستر المرائي .

و أما الصادق الذي لا يرائي له أن يستر المعاصي و يصح اغتمامه باطلاع الناس عليه من ذلك أن يفرح بستر الله عليه و إذا افتضح اغتم لذلك بهتك ستره في الدنيا و خاف أن يهتك ستره في الآخرة إذ .

ورد الخبر أن من ستر الله عليه في الدنيا ستر الله عليه في الآخرة .

و هذا غم ينشأ من قوة الإيمان .

الثاني أن يعلم أن الله تعالى يكره ظهور المعاصي و يحب سترها

كما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عليه .

فهو إن عصى الله بالذنب فلم يخل قلبه عن محبة ما أحبه الله و هذا ينشأ من قوة الإيمان بكراهة الله ظهور المعاصي و أثر الصدق فيه أن يكره ظهور الذنب من غيره و يغتم بسببه .

الثالث أن يكره ذم الناس له به من حيث إن ذلك يغمه و يشغل قلبه و عقله عن طاعة الله فإن الطبع يتأذى بالذم و ينازع العقل و يشتغل عن الطاعة و بهذه العلة أيضا ينبغي أن يكره الحمد الذي يشغله عن ذكر الله تعالى و يستغرق قلبه و يشغله عن الذكر و هذا أيضا من قوة الإيمان إذا صدق الرغبة في فراغ القلب لأجل الطاعة من الإيمان .

الرابع مجرد الحياء فإنه نوع ألم وراء ألم الذم و القصد بالشر و هو خلق كريم يحدث من أول الصبا مهما أشرف عليه نور العقل فيستحي من القبائح إذا شوهدت منه و هو وصف محمود .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : الحياء خير كله و قال الحياء شعبة من الإيمان لا يأتي إلا بخير و قال إن الله يحب الحيي الحليم .

فالذي يفسق و لا يبالي بأن يظهر فسقه للناس جمع إلى الفسق التهتك و الوقاحة و فقد الحياء فهو أشد حالا ممن يستر و يستحي إلا أن الحياء ممزوج بالرياء و مشتبه به اشتباها عظيما قل من تفطن له بل الحياء خلق ينبعث من طبع الكريم و الحياء من الله أولى من الحياء من الناس قال الله تعالى بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ.

فيجب أن يعلم أن آفة العبادة الرياء و ما عصى الله بأعظم من الرياء لأنه يتعرض لمقت الله و العقاب و الخزي الظاهر حيث ينادى عليه يوم القيامة على رءوس الأشهاد يا فاجر يا غاوي يا مرائي أ ما استحيت إذ اشتريت بطاعة الله عرض الدنيا راقبت قلوب العباد و استهزأت بطاعة الله و تحببت إلى العباد بالتبغض إلى الله و تزينت لهم بالشين عند الله و تقربت إليهم بالبعد من الله و طلبت رضاهم بالتعرض لسخط الله أ ما كان أحد أهون عليك من الله .

فمهما تفكر العبد في هذا الخزي و قابل ما يحصل له من العباد و التزين لهم في الدنيا بما يهدم عليه من ثواب أعماله مع أن العمل الواحد ربما كان يترجح به ميزان حسناته لو خلص لله فإذا فسد بالرياء حول إلى كفة السيئات فترجح به و يهوي إلى النار فلو لم يكن في الرياء إلا تحويل العمل من الثواب إلى العقاب لكان ذلك كافيا في معرفة ضرره و قد كان ينال في هذه الحسنة علو الرتبة عند الله في زمرة النبيين و الصديقين و قد حط عنهم بسبب الرياء و رد إلى زمرة العاصين هذا مع ما يعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق فإن رضا الناس غاية لا تدرك فكلما رضي به فريق يسخط به فريق و رضا بعضهم في سخط بعضهم و من طلب رضاهم في سخط الله سخط الله عليه و أسخطهم أيضا عليه ثم أي غرض له في مدحهم و إيثار ذم الله لأجل حمدهم و لا يزيده حمدهم رزقا و لا أجلا و لا ينفعه يوم فقره و فاقته و هو يوم القيامة .

و أما الطمع لما في أيديهم فبأن يعلم أن الله تعالى هو الرزاق و عطاؤه خير العطاء و من طمع في الخلق لم يخل عن الذل و الخيبة و إن وصل إلى المراد لم يخل عن المنة و المهانة فكيف يترك العاقل ما عند الله برجاء كاذب و وهم فاسد قد يصيب و قد يخطئ و إذا أصاب فلا تفي لذته بألم منته و مذلته فينبغي أن يقرر في نفسه هذه الأسباب و ضررها و ما يصير مالها فتفتر رغبته و يقبل على الله بقلبه فإن العاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره و يقل نفعه و يكفيه أن الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء و إظهار الإخلاص لمقتوه و سيكشف الله تعالى عن سره حتى يبغضه إلى الناس و يعرفه أنه مرائي ممقوت عند الله و لو أخلص لله لكشف الله لهم إخلاصه و حببه إليهم و سخرهم له و أطلق ألسنتهم بحمده و الثناء عليه مع أنه لا كمال مع مدحهم و لا نقصان في ذمهم كما قال شاعر بني تميم فإن مدحي زين و إن ذمي شين .

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كذبت ذاك الله عز و جل لا إله إلا هو إذ لا زين إلا في مدح الله و لا شين إلا في ذمه .

فأي خير لك في مدح الناس و أنت عند الله مذموم و من أهل النار و أي شر لك في ذم الناس و أنت عند الله محمود في زمرة النبيين المقربين .

فمن أحضر في قلبه الآخرة و نعيمها المؤبد و المنازل الرفيعة عند الله استحقر ما يتعلق بالخلق أيام الحياة مع ما فيه من الكدورات و المنقضات و جمع همه و صرف إلى الله قلبه و تخلص من مذلة الرياء و مقاساة قلوب الخلق و انعطف من إخلاصه أنوار على قلبه ينشرح بها صدره و ينفتح له من لطائف الله ما يزيده بالله أنسا و من الخلق وحشة و استحقاره للدنيا و استعظامه للآخرة و سقط محل الخلق من قلبه فانحل عنه داعية الرياء فهذه الأدوية العلمية القالعة مغارس الرياء .

و أما الدواء العملي فهو أن يعود نفسه إخفاء العبادات و إغلاق الأبواب دونها كما تغلق الأبواب دون الفواحش حتى يقنع قلبه بعلم الله تعالى و اطلاعه على عبادته و لا تنازعه نفسه إلى طلب علم غير علم الله به فلا دواء لقلع الرياء مثل إخفاء الطاعات و العبادات و هذا أمر شاق غير أن بالتكليف له و الصبر عليه يسقط عنه ثقله و يهون عليه ذلك بتواصل ألطاف الله تعالى و ترادفها حالا فحالا حتى يصير ذلك توفيقا و تأييدا و لكن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فمن العبد المجاهدة و من الله الهداية و من العبد قرع الباب و من الله فتحه و الله لا يضيع أجر المحسنين فإن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجرا عظيما .