رسالة الحقوق

رسالة الحقوق

* ابن شعبة الحراني‏ في تحف العقول, رسالة الإمام علي زين العابدين (ع) المعروفة برسالة الحقوق‏: اعلم رحمك الله أن لله عليك حقوقا محيطة بك, في كل حركة تحركتها, أو سكنة سكنتها, أو منزلة نزلتها, أو جارحة قلبتها, وآلة تصرفت بها, بعضها أكبر من بعض, وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو أصل الحقوق ومنه تفرع, ثم أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك, فجعل لبصرك عليك حقا, ولسمعك عليك حقا, وللسانك عليك حقا, وليدك عليك حقا, ولرجلك عليك حقا, ولبطنك عليك حقا, ولفرجك عليك حقا, فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال, ثم جعل عز وجل لأفعالك عليك حقوقا, فجعل لصلاتك عليك حقا, ولصومك عليك حقا, ولصدقتك عليك حقا, ولهديك عليك حقا, ولأفعالك عليك حقا, ثم تخرج الحقوق منك إلى غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك وأوجبها عليك, حقوق أئمتك, ثم حقوق رعيتك, ثم حقوق رحمك, فهذه حقوق يتشعب منها حقوق, فحقوق أئمتك ثلاثة أوجبها عليك: حق سائسك بالسلطان, ثم سائسك بالعلم, ثم حق سائسك بالملك, وكل سائس‏ إمام,‏ وحقوق رعيتك ثلاثة أوجبها عليك: حق رعيتك بالسلطان, ثم حق رعيتك بالعلم فإن الجاهل رعية العالم, وحق رعيتك بالملك من الأزواج وما ملكت من الأيمان,‏ وحقوق رحمك كثيرة متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة فأوجبها عليك: حق أمك, ثم حق أبيك, ثم حق ولدك, ثم حق أخيك, ثم الأقرب فالأقرب والأول فالأول, ثم حق مولاك المنعم عليك, ثم حق مولاك الجارية نعمتك عليه, ثم حق ذي المعروف لديك, ثم حق مؤذنك بالصلاة, ثم حق إمامك في صلاتك, ثم حق جليسك, ثم حق جارك, ثم حق صاحبك, ثم حق شريكك, ثم حق مالك, ثم حق غريمك الذي تطالبه, ثم حق غريمك الذي يطالبك, ثم حق خليطك, ثم حق خصمك المدعي عليك, ثم حق خصمك الذي تدعي عليه, ثم حق مستشيرك, ثم حق المشير عليك, ثم حق مستنصحك, ثم حق الناصح لك, ثم حق من هو أكبر منك, ثم حق من هو أصغر منك, ثم حق سائلك, ثم حق من سألته, ثم حق من جرى لك على يديه مساءة بقول أو فعل أو مسرة بذلك بقول أو فعل عن تعمد منه أو غير تعمد منه, ثم حق أهل ملتك عامة, ثم حق أهل الذمة, ثم الحقوق الجارية بقدر علل الأحوال وتصرف الأسباب, فطوبى لمن أعانه الله على قضاء ما أوجب عليه من حقوقه ووفقه وسدده.

1 - فأما حق الله الأكبر:

فإنك تعبده لا تشرك به شيئا, فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة, ويحفظ لك ما تحب منها.

2 - وأما حق نفسك عليك:

فأن تستوفيها في طاعة الله, فتؤدي إلى لسانك حقه, وإلى سمعك حقه, وإلى بصرك حقه, وإلى يدك حقها, وإلى رجلك حقها, وإلى بطنك حقه, وإلى فرجك حقه, وتستعين بالله على ذلك.

3 - وأما حق اللسان:

فإكرامه عن الخنا, وتعويده على الخير, وحمله على الأدب, وإجمامه إلا لموضع الحاجة, والمنفعة للدين والدنيا, وإعفاؤه عن الفضول الشنعة القليلة الفائدة التي لا يؤمن ضررها مع قلة عائدتها ويعد شاهد العقل والدليل عليه, وتزين العاقل بعقله حسن سيرته في لسانه, ولا قوة إلا بالله‏ العلي العظيم.

4 - وأما حق السمع:

فتنزيهه عن أن تجعله طريقا إلى قلبك إلا لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيرا, أو تكسب خلقا كريما, فإنه باب الكلام إلى القلب يؤدي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر, ولا قوة إلا بالله.

5 - وأما حق بصرك:

فغضه عما لا يحل لك, وترك ابتذاله إلا لموضع عبرة تستقبل بها بصرا أو تستفيد بها علما, فإن البصر باب الاعتبار.

6 - وأما حق رجليك:

فأن لا تمشي بهما إلى ما لا يحل لك, ولا تجعلهما مطيتك في الطريق المستخفة بأهلها فيها, فإنها حاملتك وسالكة بك مسلك الدين والسبق لك, ولا قوة إلا بالله.

7 - وأما حق يدك:

فأن لا تبسطها إلى ما لا يحل لك فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة في الأجل, ومن الناس بلسان اللائمة في العاجل, ولا تقبضها مما افترض الله عليها, ولكن توقرها بقبضها عن كثير مما يحل لها, وتبسطها إلى كثير مما ليس عليها, فإذا هي قد عقلت وشرفت في العاجل,‏ وجب لها حسن الثواب في الآجل.

8 - وأما حق بطنك:

فأن لا تجعله وعاء لقليل من الحرام ولا لكثير, وأن تقتصد له في الحلال, ولا تخرجه من حد التقوية إلى حد التهوين وذهاب المروة, وضبطه إذا هم بالجوع والظمإ, فإن الشبع المنتهي بصاحبه إلى التخم مكسلة ومثبطة ومقطعة عن كل بر وكرم, وإن الري المنتهي بصاحبه إلى السكر مسخفة ومجهلة ومذهبة للمروة.

9 - وأما حق فرجك:

فحفظه مما لا يحل لك, والاستعانة عليه بغض البصر فإنه من أعون الأعوان, وكثرة ذكر الموت, والتهدد لنفسك بالله, والتخويف لها به, وبالله العصمة والتأييد, ولا حول ولا قوة إلا به‏.

ثم حقوق الأفعال‏:

10 - فأما حق الصلاة:

فأن تعلم أنها وفادة إلى الله, وأنك قائم بها بين يدي الله, فإذا علمت ذلك كنت خليقا أن تقوم فيها مقام الذليل الراغب الراهب الخائف الراجي المسكين المتضرع, المعظم من قام بين يديه بالسكون والإطراق,‏ وخشوع الأطراف, ولين الجناح, وحسن المناجاة له في نفسه, والطلب إليه في فكاك رقبتك التي أحاطت به خطيئتك واستهلكتها ذنوبك, ولا قوة إلا بالله‏.

11 - وأما حق الصوم:

فأن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك ليسترك به من النار, وهكذا جاء في الحديث: الصوم جنة من النار, فإن سكنت أطرافك في حجبتها رجوت أن تكون محجوبا, وإن أنت تركتها تضطرب في حجابها, وترفع جنبات الحجاب فتطلع إلى ما ليس لها بالنظرة الداعية للشهوة والقوة الخارجة عن حد التقية لله, لم تأمن أن تخرق الحجاب وتخرج منه, ولا قوة إلا بالله.

12 - وأما حق الصدقة:

فأن تعلم أنها ذخرك عند ربك, ووديعتك التي لا تحتاج إلى الإشهاد, فإذا علمت ذلك كنت بما استودعته سرا أوثق بما استودعته علانية, وكنت جديرا أن تكون أسررت إليه أمرا أعلنته, وكان الأمر بينك وبينه فيها سرا على كل حال, ولم تستظهر عليه فيما استودعته منها بإشهاد الأسماع والأبصار عليه بها, كأنها أوثق في نفسك لا كأنك‏ لا تثق به في تأدية وديعتك إليك, ثم لم تمتن بها على أحد لأنها لك, فإذا امتننت بها لم تأمن أن تكون بها مثل تهجين‏ حالك منها إلى من مننت بها عليه, لأن في ذلك دليلا على أنك لم ترد نفسك بها ولو أردت نفسك بها لم تمتن بها على أحد, ولا قوة إلا بالله.

13 - وأما حق الهدي:

فأن تخلص بها الإرادة إلى ربك، والتعرض لرحمته وقبوله، ولا تريد عيون‏ الناظرين دونه، فإذا كنت كذلك لم تكن متكلفا ولا متصنعا، وكنت إنما تقصد إلى الله، واعلم أن الله يراد باليسير ولا يراد بالعسير، كما أراد بخلقه التيسير ولم يرد بهم التعسير، وكذلك التذلل أولى بك من التدهقن؛ لأن الكلفة والمؤنة في المتدهقنين، فأما التذلل والتمسكن فلا كلفة فيهما، ولا مؤنة عليهما، لأنهما الخلقة، وهما موجودان في الطبيعة، ولا قوة إلا بالله.

ثم حقوق الأئمة:

14 - فأما حق سائسك بالسلطان:

فأن تعلم أنك جعلت له فتنة، وأنه مبتلى فيك بما جعله الله له عليك من السلطان وأن تخلص له في النصيحة، وأن لا تماحكه وقد بسطت يده عليك، فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه وتذلل وتلطف لإعطائه من الرضى ما يكفه عنك، ولا يضر بدينك، وتستعين عليه في ذلك بالله، ولا تعازه ولا تعانده، فإنك إن فعلت ذلك عققته وعققت نفسك، فعرضتها لمكروهه وعرضته للهلكة فيك، وكنت خليقا أن تكون معينا له على نفسك، وشريكا له فيما أتى إليك، ولا قوة إلا بالله.

15 - وأما حق سائسك بالعلم:

فالتعظيم له والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه، والإقبال عليه، والمعونة له على نفسك فيما لا غنى بك عنه من العلم، بأن تفرغ له عقلك، وتحضره فهمك، وتذكي له قلبك، وتجلي له بصرك بترك اللذات، ونقص الشهوات، وأن تعلم أنك فيما ألقى إليك رسوله إلى من لقيك من أهل الجهل، فلزمك حسن التأدية عنه إليهم، ولا تخنه في تأدية رسالته والقيام بها عنه، إذا تقلدتها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

16 - وأما حق سائسك بالملك:

فنحو من سائسك بالسلطان إلا أن هذا يملك ما لا يملكه ذاك، تلزمك طاعته فيما دق وجل منك، إلا أن يخرجك من وجوب حق الله، ويحول بينك وبين حقه وحقوق الخلق، فإذا قضيته رجعت إلى حقه فتشاغلت به، ولا قوة إلا بالله.

ثم حقوق الرعية

17 - فأما حقوق رعيتك بالسلطان:

فأن تعلم أنك إنما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم، فإنه إنما أحلهم محل الرعية لك ضعفهم وذلهم، فما أولى من كفاكه ضعفه وذله، حتى صيره لك رعية، وصير حكمك عليه نافذا لا يمتنع منك بعزة ولا قوة، ولا يستنصر فيما تعاظمه منك إلا بالله بالرحمة والحياطة والأناة، وما أولاك إذا عرفت ما أعطاك الله من فضل هذه العزة، والقوة التي قهرت بها أن تكون لله شاكرا، ومن شكر الله أعطاه فيما أنعم عليه، ولا قوة إلا بالله.

18 - وأما حق رعيتك بالعلم:

فأن تعلم أن الله قد جعلك لهم فيما آتاك من العلم وولاك من خزانة الحكمة، فإن أحسنت فيما ولاك الله من ذلك، وقمت به لهم مقام الخازن الشفيق الناصح لمولاه في عبيده، الصابر المحتسب الذي إذا رأى ذا حاجة أخرج له من الأموال التي في يديه كنت راشدا، وكنت لذلك آملا معتقدا، وإلا كنت له خائنا، ولخلقه ظالما، ولسلبه وعزه متعرضا.

19 - وأما حق رعيتك بملك النكاح:

فأن تعلم أن الله جعلها سكنا، ومستراحا، وأنسا وواقية، وكذلك كل واحد منكما يجب أن يحمد الله على صاحبه، ويعلم أن ذلك نعمة منه عليه، ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله، ويكرمها ويرفق بها، وإن كان حقك عليها أغلظ وطاعتك بها ألزم فيما أحببت وكرهت، ما لم تكن معصية فإن لها حق الرحمة والمؤانسة، وموضع السكون إليها قضاء اللذة التي لابد من قضائها، وذلك عظيم، ولا قوة إلا بالله.

20 -  وأما حق رعيتك بملك اليمين:

فأن تعلم أنه خلق ربك ولحمك ودمك، وأنك تملكه لا أنت صنعته دون الله، ولا خلقت له سمعا ولا بصرا، ولا أجريت له رزقا، ولكن الله كفاك ذلك. ثم سخره لك وائتمنك عليه، واستودعك إياه لتحفظه فيه، وتسير فيه بسيرته، فتطعمه مما تأكل، وتلبسه مما تلبس، ولا تكلفه ما لا يطيق، فإن كرهته خرجت إلى الله منه، واستبدلت به، ولم تعذب خلق الله، ولا قوة إلا بالله.

و أما حق الرحم‏:

21 -  فحق أمك:

فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحمل أحد أحدا، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحدا، وإنها وقتك بسمعها وبصرها ويدها ورجلها وشعرها وبشرها وجميع جوارحها، مستبشرة بذلك، فرحة موابلة، محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمها، حتى دفعتها عنك يد القدرة، وأخرجتك إلى الأرض، فرضيت أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعرى, وترويك وتظمأ, وتظلك وتضحى، وتنعمك ببؤسها، وتلذذك بالنوم بأرقها، كان بطنها لك وعاء، وحجرها لك حواء، وثديها لك سقاء، ونفسها لك وقاء، تباشر حر الدنيا وبردها لك ودونك، فتشكرها على قدر ذلك، ولا تقدر عليه إلابعون الله وتوفيقه.

22 - وأما حق أبيك:

فتعلم أنه أصلك، وأنك فرعه، وأنك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك، فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، واحمد الله واشكره على قدر ذلك, ولا قوة إلا بالله.

23 - وأما حق ولدك:

فتعلم أنه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب والدلالة إلى ربه، والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه، فمثاب على ذلك ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا، المعذر إلى ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه والأخذ له منه، ولا قوة إلا بالله.

24 - وأما حق أخيك:

فتعلم أنه يدك التي تبسطها، وظهرك الذي تلتجئ إليه، وعزك الذي تعتمد عليه، وقوتك التي تصول بها، فلا تتخذه سلاحا على معصية الله، ولا عدة للظلم بحق الله، ولا تدع نصرته على نفسه، ومعونته على عدوه، والحول بينه وبين شياطينه، وتأدية النصيحة إليه، والإقبال عليه في الله، فإن انقاد لربه وأحسن الإجابة له، وإلا فليكن الله آثر عندك، وأكرم عليك منه.

25 -  وأما حق المنعم عليك بالولاء:

فأن تعلم أنه أنفق فيك ماله، وأخرجك من ذل الرق، ووحشته إلى عز الحرية وأنسها، وأطلقك من أسر الملكة، وفك عنك حلق العبودية، وأوجدك رائحة العز، وأخرجك من سجن القهر، ودفع عنك العسر، وبسط لك لسان الإنصاف، وأباحك الدنيا كلها، فملكك نفسك، وحل أسرك، وفرغك لعبادة ربك، واحتمل بذلك التقصير في ماله، فتعلم أنه أولى الخلق بك بعد أولي رحمك في حياتك وموتك، وأحق الخلق بنصرك ومعونتك، ومكانفتك في ذات الله، فلا تؤثر عليه نفسك ما احتاج إليك.

26 - وأما حق مولاك الجارية عليه نعمتك:

فأن تعلم أن الله جعلك حامية عليه، وواقية وناصرا ومعقلا، وجعله لك وسيلة وسببا بينك وبينه، فبالحري أن يحجبك عن النار، فيكون في ذلك ثواب منه في الآجل، ويحكم لك بميراثه في العاجل، إذا لم يكن له رحم مكافأة لما أنفقته من مالك عليه، وقمت به من حقه بعد إنفاق مالك، فإن لم تقم بحقه خيف عليك أن لا يطيب لك ميراثه، ولا قوة إلا بالله.

27 - وأما حق ذي المعروف عليك:

فأن تشكره وتذكر معروفه وتنشر له المقالة الحسنة، وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله سبحانه، فإنك إذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سرا وعلانية، ثم إن أمكن مكافأته بالفعل كافأته، وإلا كنت مرصدا له موطنا نفسك عليها.

28 - وأما حق المؤذن:

فأن تعلم أنه مذكرك بربك، وداعيك إلى حظك، وأفضل أعوانك على قضاء الفريضة التي افترضها الله عليك، فتشكره على ذلك شكرك للمحسن إليك، وإن كنت في بيتك مهتما لذلك لم تكن لله في أمره متهما، وعلمت أنه نعمة من الله عليك، لا شك فيها، فأحسن صحبة نعمة الله بحمد الله عليها على كل حال، ولا قوة إلا بالله.

29 - وأما حق إمامك في صلاتك:

فأن تعلم أنه قد تقلد السفارة فيما بينك وبين الله، والوفادة إلى ربك، وتكلم عنك ولم تتكلم عنه، ودعا لك ولم تدع له، وطلب فيك ولم تطلب فيه، وكفاك هم المقام بين يدي الله، والمسألة له فيك، ولم تكفه ذلك، فإن كان في شي‏ء من ذلك تقصير كان به دونك، وإن كان آثما لم تكن شريكه فيه ولم يكن له عليك فضل، فوقى نفسك بنفسه، ووقى صلاتك بصلاته، فتشكر له على ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

30 - وأما حق الجليس:

فأن تلين له كنفك، وتطيب له جانبك، وتنصفه في مجاراة اللفظ، ولا تغرق في نزع اللحظ إذا لحظت، وتقصد في اللفظ إلى إفهامه إذا لفظت، وإن كنت الجليس إليه كنت في القيام عنه بالخيار، وإن كان الجالس إليك كان بالخيار، ولا تقوم إلا بإذنه، ولا قوة إلا بالله.

31 - وأما حق الجار:

فحفظه غائبا، وكرامته شاهدا، ونصرته ومعونته في الحالين جميعا، لا تتبع له عورة، ولا تبحث له عن سوأة لتعرفها، فإن عرفتها منه من غير إرادة منك ولا تكلف، كنت لما علمت حصنا حصينا، وسترا ستيرا، لو بحثت الأسنة عنه ضميرا لم تتصل إليه، لانطوائه عليه، لا تستمع عليه من حيث لا يعلم، لا تسلمه عند شديدة، ولاتحسده عند نعمة، تقيل عثرته، وتغفر زلته، ولا تدخر حلمك عنه إذا جهل عليك، ولا تخرج أن تكون سلما له ترد عنه لسان الشتيمة، وتبطل فيه كيد حامل النصيحة، وتعاشره معاشرة كريمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

32 - وأما حق الصاحب:

فأن تصحبه بالفضل ما وجدت إليه سبيلا، وإلا فلا أقل من الإنصاف، وأن تكرمه كما يكرمك، وتحفظه كما يحفظك، ولا يسبقك فيما بينك وبينه إلى مكرمة، فإن سبقك كافأته، ولا تقصر به عما يستحق من المودة تلزم نفسك نصيحته وحياطته، ومعاضدته على طاعة ربه، ومعونته على نفسه، فيما لا يهم به من معصية ربه، ثم تكون عليه رحمة، ولا تكون عليه عذابا، ولا قوة إلا بالله.

33 - وأما حق الشريك:

فإن غاب كفيته، وإن حضر ساويته، ولا تعزم على حكمك دون حكمه، ولا تعمل برأيك دون مناظرته، وتحفظ عليه ماله، وتنفي عنه خيانته فيما عز أو هان، فإنه بلغنا أن يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا، ولا قوة إلا بالله.

34 - أما حق المال:

فأن لا تأخذه إلامن حله، ولا تنفقه إلافي حله، ولا تحرفه عن مواضعه، ولا تصرفه عن حقائقه، ولا تجعله إذا كان من الله إلاإليه، وسببا إلى الله لا تؤثر به على نفسك من لعله لا يحمدك، وبالحري أن لا يحسن خلافته في تركتك، ولا يعمل فيه بطاعة ربك فتكون معينا له على ذلك، أو بما أحدث في مالك أحسن نظرا لنفسه، فيعمل بطاعة ربه فيذهب بالغنيمة، وتبوء بالإثم والحسرة والندامة مع التبعة، ولا قوة إلا بالله.

35 - وأما حق الغريم الطالب لك:

فإن كنت موسرا أوفيته وكفيته وأغنيته، ولم تردده وتمطله، فإن رسول الله (ص)‏ قال: مطل الغني ظلم. وإن كنت معسرا أرضيته بحسن القول، وطلبت إليه طلبا جميلا، ورددته عن نفسك ردا لطيفا، ولم تجمع عليه ذهاب ماله وسوء معاملته، فإن ذلك لؤم، ولا قوة إلا بالله.

36 - وأما حق الخليط:

فأن لا تغره، ولا تغشه، ولا تكذبه، ولا تغفله، ولا تخدعه، ولاتعمل في انتقاضه عمل العدو الذي لا يبقي على صاحبه، وإن اطمأن إليك استقصيت له على نفسك، وعلمت أن غبن المسترسل ربا. ولا قوة إلا بالله.

37 - وأما حق الخصم المدعي عليك:

فإن كان ما يدعي عليك حقا لم تنفسخ في حجته، ولم تعمل في إبطال دعوته وكنت خصم نفسك له، والحاكم عليها، والشاهد له بحقه دون شهادة الشهود، فإن ذلك حق الله عليك، وإن كان ما يدعيه باطلا رفقت به، وروعته وناشدته بدينه، وكسرت حدته عنك بذكر الله، وألقيت حشو الكلام، ولغطه الذي لا يرد عنك عادية عدوك، بل تبوء بإثمه، وبه يشحذ عليك سيف عداوته، لأن لفظة السوء تبعث الشر، والخير مقمعة للشر، ولا قوة إلا بالله.

38 - وأما حق الخصم المدعى عليه:

فإن كان ما تدعيه حقا أجملت في مقاولته بمخرج الدعوى، فإن للدعوى غلظة في سمع المدعى عليه، وقصدت قصد حجتك بالرفق، وأمهل المهلة، وأبين البيان، وألطف اللطف، ولم تتشاغل عن حجتك بمنازعته بالقيل والقال، فتذهب عنك حجتك، ولا يكون لك في ذلك درك، ولا قوة إلا بالله.

39 - وأما حق المستشير:

فإن حضرك له وجه رأي جهدت له في النصيحة، وأشرت عليه بما تعلم، أنك لو كنت مكانه عملت به، وذلك ليكن منك في رحمة ولين، فإن اللين يؤنس الوحشة، وإن الغلظ يوحش موضع الأنس وإن لم يحضرك له رأي، وعرفت له من تثق برأيه، وترضى به لنفسك دللته عليه، وأرشدته إليه، فكنت لم تأ له خيرا، ولم تدخره نصحا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

40 - وأما حق المشير عليك:

فلا تتهمه فيما لا يوافقك عليه من رأيه إذا أشار عليك، فإنما هي الآراء وتصرف الناس فيها واختلافهم، فكن عليه في رأيه بالخيار إذا اتهمت رأيه، فأما تهمته فلا تجوز لك إذا كان عندك ممن يستحق المشاورة، ولا تدع شكره على ما بدا لك من إشخاص رأيه وحسن وجه مشورته، فإذا وافقك حمدت الله، وقبلت ذلك من أخيك بالشكر والإرصاد بالمكافأة في مثلها إن فزع إليك، ولا قوة إلا بالله.

41 - وأما حق المستنصح:

فإن حقه أن تؤدي إليه النصيحة على الحق الذي ترى له أنه يحمل، ويخرج المخرج الذي يلين على مسامعه، وتكلمه من الكلام بما يطيقه عقله، فإن لكل عقل طبقة من الكلام يعرفه ويجتنبه، وليكن مذهبك الرحمة، ولا قوة إلا بالله.

42 - وأما حق الناصح:

فأن تلين له جناحك، ثم تشرئب له قلبك، وتفتح له سمعك حتى تفهم عنه‏ نصيحته، ثم تنظر فيها، فإن كان وفق فيها للصواب حمدت الله على ذلك وقبلت منه، وعرفت له نصيحته، وإن لم يكن وفق له فيها رحمته، ولم تتهمه، وعلمت أنه لم يألك نصحا، إلاأنه أخطأ، إلاأن يكون عندك مستحقا للتهمة، فلا تعبأ بشي‏ء من أمره على كل حال، ولا قوة إلا بالله.

43 - وأما حق الكبير:

فإن حقه توقير سنه، وإجلال إسلامه إذا كان من أهل الفضل في الإسلام بتقديمه فيه، وترك مقابلته عند الخصام، ولا تسبقه إلى طريق، ولا تؤمه في طريق ولا تستجهله، وإن جهل عليك تحملت، وأكرمته بحق إسلامه مع سنه، فإنما حق السن بقدر الإسلام، ولا قوة إلا بالله.

44 - وأما حق الصغير:

فرحمته وتثقيفه وتعليمه والعفو عنه، والستر عليه، والرفق به، والمعونة له، والستر على جرائر حداثته، فإنه سبب للتوبة، والمداراة له، وترك مماحكته، فإن ذلك أدنى لرشده.

45 - وأما حق السائل:

فإعطاؤه إذا تيقنت صدقه، وقدرت على سد حاجته، والدعاء له فيما نزل به، والمعاونة له على طلبته، وإن شككت في صدقه وسبقت إليه التهمة له، ولم تعزم على ذلك لم تأمن أن يكون من كيد الشيطان، أراد أن يصدك عن حظك، ويحول بينك وبين التقرب إلى ربك فتركته بستره، ورددته ردا جميلا، وإن غلبت نفسك في أمره وأعطيته على ما عرض في نفسك منه، فإن ذلك‏ من عزم الامور.

46 - وأما حق المسؤول:

فحقه إن أعطى قبل منه ما أعطى بالشكر له والمعرفة لفضله، وطلب وجه العذر في منعه، وأحسن به الظن، واعلم أنه إن منع فماله منع، وأن ليس التثريب في ماله وإن كان ظالما، فإن الإنسان لظلوم كفار.

47 - وأما حق من سرك الله به وعلى يديه:

فإن كان تعمدها لك حمدت الله أولا، ثم شكرته على ذلك بقدره في موضع الجزاء، وكافأته على فضل الابتداء، وأرصدت له المكافأة، وإن لم يكن تعمدها حمدت الله وشكرته وعلمت أنه منه توحدك بها، وأحببت هذا إذ كان سببا من أسباب نعم الله عليك، وترجو له بعد ذلك خيرا، فإن أسباب النعم بركة حيث ما كانت وإن كان لم يتعمد، ولا قوة إلا بالله.

48 - وأما حق من ساءك القضاء على يديه بقول أو فعل:

فإن كان تعمدها كان العفو أولى بك لما فيه له من القمع وحسن الأدب مع كثير أمثاله من الخلق، فإن الله يقول: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} إلى قوله: {لمن عزم الأمور}، وقال عز وجل: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}، هذا في العمد؛ فإن لم يكن عمدا لم تظلمه بتعمد الانتصار منه، فتكون قد كافأته في تعمد على خطإ، ورفقت به ورددته بألطف ما تقدر عليه، ولا قوة إلا بالله.

49 - وأما حق أهل ملتك عامة:

فإضمار السلامة، ونشر جناح الرحمة، والرفق بمسيئهم، وتألفهم، واستصلاحهم، وشكر محسنهم إلى نفسه وإليك، فإن إحسانه إلى نفسه إحسانه إليك إذا كف عنك أذاه، وكفاك مؤونته، وحبس عنك نفسه، فعمهم جميعا بدعوتك، وانصرهم جميعا بنصرتك، وأنزلهم جميعا منك منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، وأوسطهم بمنزلة الأخ، فمن أتاك تعاهدته بلطف ورحمة، وصل أخاك بما يجب للأخ على أخيه.

50 - وأما حق أهل الذمة:

فالحكم فيهم أن تقبل منهم ما قبل الله، وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده، وتكلهم إليه فيما طلبوا من أنفسهم، وأجبروا عليه، وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك فيما جرى بينك وبينهم من معاملة، وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله، والوفاء بعهده وعهد رسول الله (ص) حائل، فإنه بلغنا أنه قال: من ظلم معاهدا كنت خصمه فاتق الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فهذه خمسون حقا محيطا بك، لا تخرج منها في حال من الأحوال، يجب عليك رعايتها، والعمل في تأديتها، والاستعانة بالله جل ثناؤه على ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والحمد لله رب العالمين‏.

.

تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية