توحيد المفضل بن عمر رضي الله عنه

عن المفضل بن عمر قال: كنت ذات يوم بعد العصر جالسا في الروضة بين القبر والمنبر، وأنا مفكر فيما خص الله تعالى به سيدنا محمدا | من الشرف والفضائل، وما منحه وأعطاه وشرفه وحباه، مما لا يعرفه الجمهور من الأمة، وما جهلوه من فضله، وعظيم منزلته، وخطير مرتبته. فإني لكذلك إذ أقبل ابن أبي العوجاء فجلس بحيث أسمع كلامه، فلما استقر به المجلس، إذ رجل من أصحابه قد جاء فجلس إليه. فتكلم ابن أبي العوجاء فقال: لقد بلغ صاحب هذا القبر العز بكماله، وحاز الشرف بجميع خصاله، ونال الحظوة في كل أحواله." فقال له صاحبه: إنه كان فيلسوفا ادعى المرتبة العظمى والمنزلة الكبرى، وأتى على ذلك بمعجزات بهرت العقول، وضلت فيها الأحلام، وغاصت الألباب على طلب علمها في بحار الفكر، فرجعت خاسئات وهي حسر. فلما استجاب لدعوته العقلاء والفصحاء والخطباء، دخل الناس في دينه أفواجا، فقرن اسمه باسم ناموسه، فصار يهتف به على رءوس الصوامع في جميع البلدان، والمواضع التي انتهت إليها دعوته، وعلتها كلمته، وظهرت فيها حجته برا وبحرا سهلا وجبلا في كل يوم وليلة خمس مرات مرددا في الأذان والإقامة، ليتجدد في كل ساعة ذكره، ولئلا يخمل أمره." فقال ابن أبي العوجاء: دع ذكر محمد | فقد تحير فيه عقلي وضل في أمره فكري. وحدثنا في ذكر الأصل الذي نمشي له، ثم ذكر ابتداء الأشياء، وزعم أن ذلك بإهمال لا صنعة فيه، ولا تقدير ولا صانع ولا مدبر، بل الأشياء تتكون من ذاتها بلا مدبر. وعلى هذا كانت الدنيا لم تزل ولا تزال.

قال المفضل: "فلم أملك نفسي غضبا وغيظا وحنقا، فقلت: يا عدو الله، ألحدت في دين الله وأنكرت الباري جل قدسه الذي خلقك {في أحسن تقويم}، وصورك في أتم صورة، ونقلك في أحوالك حتى بلغ إلى حيث انتهيت. فلو تفكرت في نفسك وصدقك لطيف حسك، لوجدت دلائل الربوبية وآثار الصنعة فيك قائمة، وشواهده جل وتقدس في خلقك واضحة، وبراهينه لك لائحة." فقال: "يا هذا، إن كنت من أهل الكلام كلمناك، فإن ثبتت لك حجة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك. وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق، فما هكذا تخاطبنا، ولا بمثل دليلك تجادل فينا. ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا ولا تعدى في جوابنا. وإنه الحليم الرزين العاقل الرصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، يسمع كلامنا ويصغي إلينا ويتعرف حجتنا، حتى إذا استفرغنا ما عندنا وظننا أنا قطعناه، دحض حجتنا بكلام يسير وخطاب قصير، يلزمنا به الحجة ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه ردا. فإن كنت من أصحابه، فخاطبنا بمثل خطابه.

قال المفضل: "فخرجت من المسجد محزونا مفكرا فيما بلي به الإسلام وأهله من كفر هذه العصابة وتعطيلها. فدخلت على مولاي، فرآني منكسرا، فقال: ما لك؟ فأخبرته بما سمعت من الدهريين وبما رددت عليهما. فقال: يا مفضل، لألقين عليك من حكمة الباري جل وعلا وتقدس اسمه في خلق العالم، والسباع والبهائم والطير والهوام، وكل ذي روح من الأنعام والنبات، والشجرة المثمرة وغير ذات الثمر، والحبوب والبقول المأكول من ذلك وغير المأكول، ما يعتبر به المعتبرون ويسكن إلى معرفته المؤمنون ويتحير فيه الملحدون. فبكر علي غدا."

 

* المجلس الأول‏

قال المفضل: "فانصرفت من عنده فرحا مسرورا، وطالت علي تلك الليلة انتظارا لما وعدني به. فلما أصبحت، غدوت فاستأذن لي فدخلت، وقمت بين يديه، فأمرني بالجلوس، فجلست. ثم نهض إلى حجرة كان يخلو فيها، ونهضت بنهوضه، فقال: اتبعني. فتبعته فدخل، ودخلت خلفه، فجلس وجلست بين يديه. فقال: يا مفضل، كأني بك وقد طالت عليك هذه الليلة انتظارا لما وعدتك. فقلت: أجل يا مولاي. فقال: يا مفضل، إن الله تعالى كان ولا شيء قبله، وهو باق ولا نهاية له، فله الحمد على ما ألهمنا، والشكر على ما منحنا. فقد خصنا من العلوم بأعلاها، ومن المعالي بأسناها، واصطفانا على جميع الخلق بعلمه، وجعلنا مهيمنين عليهم بحكمه." فقلت: "يا مولاي، أ تأذن لي أن أكتب ما تشرحه؟" وكنت أعددت معي ما أكتب فيه. فقال لي: "افعل يا مفضل."

* جهل الشكاك بأسباب الخلقة ومعانيها

إن الشكاك جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة، وقصرت أفهامهم عن تأمل الصواب والحكمة فيما ذرأ الباري جل قدسه وبرأ من صنوف خلقه في البر والبحر والسهل والوعر، فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود، وبضعف بصائرهم إلى التكذيب والعنود، حتى أنكروا خلق الأشياء، وادعوا أن تكونها بالإهمال، لا صنعة فيها ولا تقدير، ولا حكمة من مدبر ولا صانع. تعالى الله عما يصفون، {قاتلهم الله أنى يؤفكون}. فهم في ضلالهم وغيهم وتجبرهم بمنزلة عميان دخلوا دارا قد بنيت أتقن بناء وأحسنه، وفرشت بأحسن الفرش وأفخره، وأعد فيها ضروب الأطعمة والأشربة والملابس والمآرب التي يحتاج إليها ولا يستغنى عنها، ووضع كل شيء من ذلك موضعه على صواب من التقدير وحكمة من التدبير. فجعلوا يترددون فيها يمينا وشمالا، ويطوفون بيوتها إدبارا وإقبالا، محجوبة أبصارهم عنها لا يبصرون بنية الدار وما أعد فيها. وربما عثر بعضهم بالشيء الذي قد وضع موضعه وأعد للحاجة إليه، وهو جاهل للمعنى فيه ولما أعد، ولما ذا جعل كذلك. فتذمر وتسخط وذم الدار وبانيها. فهذه حال هذا الصنف في إنكارهم ما أنكروا من أمر الخلقة وثبات الصنعة. فإنهم لما عزبت أذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل في الأشياء، صاروا يجولون في هذا العالم حيارى، فلا يفهمون ما هو عليه من إتقان خلقته وحسن صنعته وصواب هيئته. وربما وقف بعضهم على الشيء يجهل سببه والإرب فيه، فيسرع إلى ذمه ووصفه بالإحالة والخطإ، كالذي أقدمت عليه المنانية الكفرة، وجاهرت به الملحدة المارقة الفجرة، وأشباههم من أهل الضلال المعللين أنفسهم بالمحال. فيحق على من أنعم الله عليه بمعرفته وهداه لدينه ووفقه لتأمل التدبير في صنعة الخلائق، والوقوف على ما خلقوا له من لطيف التدبير وصواب التقدير بالدلالة القائمة الدالة على صانعها، أن يكثر حمد الله مولاه على ذلك، ويرغب إليه في الثبات عليه والزيادة منه. فإنه جل اسمه يقول: {لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد}.

* تهيئة العالم وتأليف أجزائه‏

يا مفضل، أول العبر والدلالة على الباري جل قدسه تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي عليه. فإنك إذا تأملت العالم بفكرك، وخبرته بعقلك، وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده. فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم مضيئة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وكل شيء فيها لشأنه معد. والإنسان كالملك ذلك البيت والمخول جميع ما فيه. وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه. ففي هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملائمة، وأن الخالق له واحد،[1] وهو الذي ألفه ونظمه بعضا إلى بعض. جل قدسه وتعالى جده وكرم وجهه، ولا إله غيره، تعالى عما يقول الجاحدون، وجل وعظم عما ينتحله الملحدون.

* خلق الإنسان وتدبير الجنين في الرحم‏

نبدأ يا مفضل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به. فأول ذلك ما يدبر به الجنين في الرحم، وهو محجوب {في ظلمات ثلاث}: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ولا دفع أذى، ولا استجلاب منفعة ولا دفع مضرة. فإنه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه الماء والنبات، فلا يزال ذلك غذاؤه.

* كيفية ولادة الجنين وغذائه وطلوع أسنانه وبلوغه‏

حتى إذا كمل خلقه واستحكم بدنه وقوي أديمه على مباشرة الهواء، وبصره على ملاقاة الضياء، هاج الطلق بأمه فأزعجه أشد إزعاج وأعنفه حتى يولد. فإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم أمه إلى ثديها، وانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء، وهو أشد موافقة للمولود من الدم، فيوافيه في وقت حاجته إليه. فحين يولد قد تلمظ وحرك شفتيه طلبًا للرضاع، فهو يجد ثدي أمه كالإداوتين المعلقتين لحاجته. فلا يزال يتغذى باللبن ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء لين الأعضاء. حتى إذا حرك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتد ويقوى بدنه، طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ليُمضغ بها الطعام، فيلين عليه ويسهل له إساغته. فلا يزال كذلك حتى يدرك. فإذا أدرك وكان ذكرا، طلع الشعر في وجهه، فكان ذلك علامة الذكر وعز الرجل الذي يخرج به من جد [حد] الصبا وشبه النساء. وإن كانت أنثى، يبقى وجهها نقيا من الشعر لتبقى لها البهجة والنضارة التي تحرك الرجل لما فيه دوام النسل وبقاؤه. اعتبر يا مفضل فيما يدبر به الإنسان في هذه الأحوال المختلفة. هل ترى مثله يمكن أن يكون بالإهمال؟ أفرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو في الرحم، ألم يكن سيذوي ويجف كما يجف النبات إذا فقد الماء؟ ولو لم يزعجه المخاض عند استحكامه، ألم يكن سيبقى في الرحم كالموءود في الأرض؟ ولو لم يوافقه اللبن مع ولادته، ألم يكن سيموت جوعا أو يغتذي بغذاء لا يلائمه ولا يصلح عليه بدنه؟ ولو لم تطلع له الأسنان في وقتها، ألم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام وإساغته أو يقيمه على الرضاع فلا يشتد بدنه ولا يصلح لعمل؟ ثم كان يشغل أمه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد.

* حال من لا ينبت في وجهه الشعر وعلة ذلك‏

ولو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته، ألم يكن سيبقى في هيئة الصبيان والنساء، فلا ترى له جلالة ولا وقارا؟ قال المفضل: فقلت له: يا مولاي، فقد رأيت من يبقى على حالته ولا ينبت الشعر في وجهه وإن بلغ الكبر. فقال ×: {ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد}.[2] فمن هذا الذي يرصده حتى يوافيه بكل شيء من هذه المآرب، إلا الذي أنشأه خلقا بعد أن لم يكن، ثم توكل له بمصلحته بعد أن كان؟ فإن كان الإهمال يأتي بمثل هذا التدبير،[3] فقد يجب أن يكون العمد والتقدير يأتيان بالخطإ والمحال، لأنهما ضد الإهمال. وهذا فظيع من القول وجهل من قائله، لأن الإهمال لا يأتي بالصواب، والتضاد لا يأتي بالنظام. تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا.

* حال المولود لو ولد فهما عاقلا وتعليل ذلك‏

ولو كان المولود يولد فهما عاقلا، لأنكر العالم عند ولادته، ولبقي حيران تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف، وورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم، من البهائم والطير إلى غير ذلك مما يشاهده ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم. واعتبر ذلك بأن من سبي من بلد وهو عاقل، يكون كالواله الحيران، فلا يسرع إلى تعلم الكلام وقبول الأدب كما يسرع الذي سبي صغيرا غير عاقل. ثم لو ولد عاقلا، كان يجد غضاضة إذا رأى نفسه محمولا، مرضعا، معصبا بالخرق، مسجى في المهد، لأنه لا يستغني عن هذا كله لرقة بدنه ورطوبته حين يولد. ثم كان لا يوجد له من الحلاوة والوقع من القلوب ما يوجد للطفل. فصار يخرج إلى الدنيا غبيا غافلا عما فيه أهله، فيلقى الأشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة. ثم لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا قليلا، وشيئا بعد شيء، وحالا بعد حال، حتى يألف الأشياء ويتمرن ويستمر عليها، فيخرج من حد التأمل لها والحيرة فيها إلى التصرف والاضطرار إلى المعاش بعقله وحيلته، وإلى الاعتبار والطاعة والسهو والغفلة والمعصية. وفي هذا أيضا وجوه أخرى: فإنه لو كان يولد تام العقل مستقلا بنفسه، لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد، وما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة، وما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكافأة بالبر والعطف عليهم عند حاجتهم إلى ذلك منهم. ثم كان الأولاد لا يألفون آباءهم، ولا يألف الآباء أبناءهم، لأن الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء وحياطتهم. فيتفرقون عنهم حين يولدون، فلا يعرف الرجل أباه وأمه، ولا يمتنع من نكاح أمه وأخته وذوات المحارم منه إذا كان لا يعرفهن. وأقل ما في ذلك من القباحة، بل هو أشنع وأعظم وأفظع وأقبح وأبشع لو خرج المولود من بطن أمه وهو يعقل أن يرى منها ما لا يحل له ولا يحسن به أن يراه. أ فلا ترى كيف أقيم كل شيء من الخلقة على غاية الصواب، وخلا من الخطإ دقيقه وجليله!

* منفعة الأطفال في البكاء

اعرف يا مفضل, ما للأطفال في البكاء من المنفعة، واعلم أن في أدمغة الأطفال رطوبة، إن بقيت فيها، أحدثت عليهم أحداثا جليلة وعللا عظيمة من ذهاب البصر وغيره. والبكاء يسيل تلك الرطوبة من رءوسهم، فيعقبهم ذلك الصحة في أبدانهم، والسلامة في أبصارهم. أفليس قد جاز أن يكون الطفل ينتفع بالبكاء، ووالداه لا يعرفان ذلك؟ فهما دائبان ليسكتانه، ويتوخيان في الأمور مرضاته لئلا يبكي، وهما لا يعلمان أن البكاء أصلح له وأجمل عاقبة؟ فهكذا يجوز أن يكون في كثير من الأشياء منافع لا يعرفها القائلون بالإهمال. ولو عرفوا ذلك، لم يقضوا على الشيء أنه لا منفعة فيه من أجل أنهم لا يعرفونه، ولا يعلمون السبب فيه. فإن كل ما لا يعرفه المنكرون يعلمه العارفون، وكثيرا ما يقصر عنه علم المخلوقين، محيط به علم الخالق جل قدسه، وعلت كلمته. فأما ما يسيل من أفواه الأطفال من الريق، ففي ذلك خروج الرطوبة التي لو بقيت في أبدانهم، لأحدثت عليهم الأمور العظيمة، كمن تراه قد غلبت عليه الرطوبة فأخرجته إلى حد البله والجنون والتخليط، إلى غير ذلك من الأمراض المتلفة، كالفالج واللقوة وما أشبههما. فجعل الله تلك الرطوبة تسيل من أفواههم في صغرهم لما لهم في ذلك من الصحة في كبرهم. فتفضل على خلقه بما جهلوه، ونظر لهم بما لم يعرفوه. ولو عرفوا نعمته عليهم، لشغلهم ذلك من التمادي في معصيته. فسبحانه ما أجل نعمته وأسبغها على المستحقين وغيرهم من خلقه. تعالى عما يقول المبطلون علوا كبيرا.

* آلات الجماع وهيئتها

انظر الآن يا مفضل كيف جعلت آلات الجماع في الذكر والأنثى جميعا على ما يشاكل ذلك عليه. فجعل للذكر آلة ناشرة تمتد حتى تصل النطفة إلى الرحم إذا كان محتاجا إلى أن يقذف ماءه في غيره، وخلق للأنثى وعاء قعرا ليشتمل على الماءين جميعا، ويحتمل الولد، ويتسع له، ويصونه حتى يستحكم. أليس ذلك من تدبير حكيم لطيف؟ {سبحانه وتعالى عما يشركون}.

* أعضاء البدن وفوائد كل منها

فكر يا مفضل في أعضاء البدن أجمع، وتدبير كل منها للإرب. فاليدان للعلاج، والرجلان للسعي، والعينان للاهتداء، والفم للاغتذاء، والمعدة للهضم، والكبد للتخليص، والمنافذ لتنفيذ الفضول، والأوعية لحملها، والفرج لإقامة النسل. وكذلك جميع الأعضاء، إذا ما تأملتها وأعملت فكرك فيها ونظرك، وجدت كل شيء منها قد قدر لشيء على صواب وحكمة.

* زعم الطبيعيين وجوابه‏

قال المفضل: فقلت: يا مولاي، إن قوما يزعمون أن هذا من فعل الطبيعة. فقال ×: "سلهم عن هذه الطبيعة، أهي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة، فما يمنعهم من إثبات الخالق؟ [4] فإن هذه صنعته. وإن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد، وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة، علم أن هذا الفعل للخالق الحكيم.[5] فإن الذي سموه طبيعة هو سنته في خلقه الجارية على ما أجراها عليه."

* عملية الهضم وتكون الدم وجريانه في الشرايين والأوردة

فكر يا مفضل في وصول الغذاء إلى البدن وما فيه من التدبير. فإن الطعام يصير إلى المعدة، فتطبخه، وتبعث بصفوه إلى الكبد في عروق دقاق، وأشجّة بينهما قد جعلت كالمصفّي للغذاء، لكيلا يصل إلى الكبد منه شيء فينكاها. وذلك أن الكبد رقيقة لا تحتمل العنف. ثم إن الكبد تقبله، فيستحيل بلطف التدبير دما، وينفذه إلى البدن كله في مجاري مهيّأة لذلك، بمنزلة المجاري التي تهيّأ للماء ليطرد في الأرض كلها، وينفذ ما يخرج منه من الخبث والفضول إلى مفايض قد أعدت لذلك. فما كان منه من جنس المرة الصفراء جرى إلى المرارة، وما كان من جنس السوداء جرى إلى الطحال، وما كان من البلة والرطوبة جرى إلى المثانة. فتأمل حكمة التدبير في تركيب البدن، ووضع هذه الأعضاء منه مواضعها، وإعداد هذه الأوعية فيه لتحمل تلك الفضول، لئلا تنتشر في البدن فتسقمه وتنهكه. فتبارك من أحسن التقدير وأحكم التدبير، وله الحمد كما هو أهله ومستحقه.

* أول نشوء الأبدان تصوير الجنين في الرحم‏

قال المفضل: فقلت: "صف نشوء الأبدان ونموها حالًا بعد حال حتى تبلغ التمام والكمال". فقال ×: "أول ذلك تصوير الجنين في الرحم حيث لا تراه عين ولا تناله يد، ويدبره حتى يخرج سويا مستوفيا جميع ما فيه قوامه وصلاحه من الأحشاء والجوارح والعوامل، إلى ما في تركيب أعضائه من العظام واللحم والشحم والعصب والمخ والعروق والغضاريف. فإذا خرج إلى العالم، تراه كيف ينمو بجميع أعضائه، وهو ثابت على شكل وهيئة لا تتزايد ولا تنقص إلى أن يبلغ أشده إن مد في عمره، أو يستوفي مدته قبل ذلك. هل هذا إلا من لطيف التدبير والحكمة.

* اختصاص الإنسان بالانتصاب والجلوس دون البهائم‏

انظر يا مفضل ما خص به الإنسان في خلقه تشرفًا وتفضلاً على البهائم، فإنه خلق ينتصب قائمًا ويستوي جالسًا ليستقبل الأشياء بيديه وجوارحه، ويمكنه العلاج والعمل بهما. فلو كان مكبوبًا على وجهه كذوات الأربع، لما استطاع أن يعمل شيئًا من الأعمال.

* تخصص الإنسان بالحواس وتشرفه بها دون غيره‏

انظر الآن يا مفضل إلى هذه الحواس التي خص بها الإنسان في خلقه، وشرف بها على غيره، كيف جعلت العينان في الرأس كالمصابيح فوق المنارة ليتمكن من مطالعة الأشياء، ولم تجعل في الأعضاء التي تحتهن كاليدين والرجلين، فتعترضها الآفات ويصيبها من مباشرة العمل والحركة ما يعللها ويؤثر فيها وينقص منها، ولا في الأعضاء التي وسط البدن كالظهر والبطن، فيعسر تقلبها واطلاعها نحو الأشياء.

* الحواس الخمس وأعمالها وما في ذلك من الأسرار

فلما لم يكن لها في شيء من هذه الأعضاء موضع، كان الرأس أسنى المواضع للحواس، وهو بمنزلة الصومعة لها. فجعل الحواس خمسًا تلقى خمسًا لكي لا يفوتها شيء من المحسوسات. فخلق البصر ليدرك الألوان، فلو كانت الألوان ولم يكن بصر يدركها، لم تكن فيها منفعة. وخلق السمع ليدرك الأصوات، فلو كانت الأصوات ولم يكن سمع يدركها، لم يكن فيها إرب. وكذلك سائر الحواس. ثم هذا يرجع متكافئًا، فلو كان بصر ولم تكن الألوان، لما كان للبصر معنى، ولو كان سمع ولم تكن أصوات، لم يكن للسمع موضع.

* تقدير الحواس بعضها يلقى بعضا

فانظر كيف قدر بعضها يلقى بعضًا، فجعل لكل حاسة محسوسًا يعمل فيه، ولكل محسوس حاسة تدركه. ومع هذا فقد جعلت أشياء متوسطة بين الحواس والمحسوسات لا تتم الحواس إلا بها، كمثل الضياء والهواء. فإنه لو لم يكن ضياء يظهر اللون للبصر، لم يكن البصر يدرك اللون. ولو لم يكن هواء يؤدي الصوت إلى السمع، لم يكن السمع يدرك الصوت. فهل يخفى على من صح نظره وأعمل فكره أن مثل هذا الذي وصفت من تهيئة الحواس والمحسوسات بعضها يلقى بعضًا، وتهيئة أشياء أخرى بها تتم الحواس، لا يكون إلا بعمل وتقدير من لطيف خبير.

* فيمن عدم البصر والسمع والعقل وما في ذلك من الموعظة

فكر يا مفضل فيمن عدم البصر من الناس وما يناله من الخلل في أموره، فإنه لا يعرف موضع قدميه ولا يبصر ما بين يديه، فلا يفرق بين الألوان وبين المنظر الحسن والقبيح، ولا يرى حفرة إن هجم عليها، ولا عدوا إن أهوى إليه بسيف، ولا يكون له سبيل إلى أن يعمل شيئًا من هذه الصناعات مثل الكتابة والتجارة والصياغة، حتى أنه لو لا نفاذ ذهنه لكان بمنزلة الحجر الملقى. وكذلك من عدم السمع يختل في أمور كثيرة، فإنه يفقد روح المخاطبة والمحاورة، ويعدم لذة الأصوات واللحون المشجية والمطربة،[6] وتعظم المئونة على الناس في محاورته حتى يتبرموا به، ولا يسمع شيئًا من أخبار الناس وأحاديثهم حتى يكون كالغائب وهو شاهد، أو كالميت وهو حي. فأما من عدم العقل فإنه يلحق بمنزلة البهائم، بل يجهل كثيرًا مما تهتدي إليه البهائم. أفلا ترى كيف صارت الجوارح والعقل وسائر الخلال التي بها صلاح الإنسان، والتي لو فقد منها شيئًا لعظم ما يناله في ذلك من الخلل؟ يوافي خلقه على التمام حتى لا يفقد شيئًا منها. فلم كان كذلك؟ إلا أنه لأنه خلق بعلم وتقدير, قال المفضل: فقلت: فلم صار بعض الناس يفقد شيئًا من هذه الجوارح فيناله من ذلك مثل ما وصفته يا مولاي؟ قال ×: ذلك للتأديب والموعظة لمن يحل ذلك به، ولغيره بسببه، كما يؤدب الملوك الناس للتنكيل والموعظة. فلا ينكر ذلك عليهم، بل يُحمد من رأيهم ويتصوب من تدبيرهم. ثم إن للذين تنزل بهم هذه البلايا من الثواب بعد الموت إن شكروا وأنابوا، ما يستصغرون معه ما ينالهم منها. حتى إنهم لو خيروا بعد الموت لاختاروا أن يردوا إلى البلايا ليزدادوا من الثواب.

* الأعضاء المخلوقة أفرادا وأزواجا وكيفية ذلك‏

فكر يا مفضل في الأعضاء التي خلقت أفرادًا وأزواجًا، وما في ذلك من الحكمة والتقدير والصواب في التدبير. فالرأس مما خلق فردًا ولم يكن للإنسان صلاح في أن يكون له أكثر من واحد, ألا ترى أنه لو أضيف إلى رأس الإنسان رأس آخر لكان ثقلًا عليه من غير حاجة إليه؟ لأن الحواس التي يحتاج إليها مجتمعة في رأس واحد. ثم كان الإنسان ينقسم قسمين لو كان له رأسان. فإن تكلم من أحدهما كان الآخر معطلًا لا إرب فيه ولا حاجة إليه، وإن تكلم منهما جميعًا بكلام واحد كان أحدهما فضلا لا يحتاج إليه. وإن تكلم بأحدهما بغير الذي تكلم به من الآخر، لم يدر السامع بأي ذلك يأخذ. وأشباه هذا من الأخلاط, واليدان مما خلق أزواجًا ولم يكن للإنسان خير في أن يكون له يد واحدة. لأن ذلك كان يخل به فيما يحتاج إلى معالجته من الأشياء. ألا ترى أن النجار والبناء لو شلت إحدى يديه لا يستطيع أن يعالج صناعته؟ وإن تكلف ذلك لم يحكمه ولم يبلغ منه ما يبلغه إذا كانت يداه تتعاونان على العمل.

* الصوت والكلام وتهيئة آلاته في الإنسان وعمل كل منها

أطل الفكر يا مفضل في الصوت والكلام وتهيئة آلاته في الإنسان, فالحنجرة كالأنبوبة لخروج الصوت، واللسان والشفتان والأسنان لصياغة الحروف والنغم. ألا ترى أن من سقطت أسنانه لم يقم السين؟ ومن سقطت شفته لم يصحح الفاء؟ ومن ثقل لسانه لم يفصح الراء؟ وأشبه شيء بذلك المزمار الأعظم. فالحنجرة تشبه قصبة المزمار، والرئة تشبه الزق الذي ينفخ فيه لتدخل الريح، والعضلات التي تقبض على الرئة ليخرج الصوت كالأصابع التي تقبض على الزق حتى تجري الريح في المزامير، والشفتان والأسنان التي تصوغ الصوت حروفًا ونغمًا كالأصابع التي تختلف في فم المزمار فتصوغ صفيره ألحانًا, غير أنه وإن كان مخرج الصوت يشبه المزمار بالآلة والتعريف، فإن المزمار في الحقيقة هو المشبه بمخرج الصوت.

* ما في الأعضاء من المآرب الأخرى‏

قد أنبأتك بما في الأعضاء من الغناء في صنعة الكلام وإقامة الحروف، وفيها مع الذي ذكرت لك مآرب أخرى. فالحنجرة، ليسلك فيها هذا النسيم إلى الرئة، فتروح على الفؤاد بالنفس الدائم المتتابع، الذي لو حبس شيئًا يسيرًا لهلك الإنسان. وباللسان تُذاق الطعوم فيميز بينها، ويعرف كل واحد منها حلوها من مرها، وحامضها من عذبها، ومالحها من عذبها، وطيبها من خبيثها. وفيه مع ذلك معونة على إساغة الطعام والشراب. والأسنان لمضغ الطعام حتى يلين وتسهل إساغته، وهي مع ذلك كالسند للشفتين، تمسكهما وتدعمهما من داخل الفم. واعتبر ذلك، فإنك ترى من سقطت أسنانه مسترخية الشفة ومضطربة. وبالشفتين يترشف الشراب، حتى يكون الذي يصل إلى الجوف منه بقصد وقدر، لا يثج ثَجًا فيغص به الشارب أو ينكأ في الجوف. ثم همي [هما] بعد ذلك، كالباب المطبق على الفم، يفتحها الإنسان إذا شاء ويطبقها إذا شاء. وفيما وصفنا من هذا بيان أن كل واحد من هذه الأعضاء يتصرف وينقسم إلى وجوه من المنافع، كما تتصرف الأداة الواحدة في أعمال شتى. وذلك كالفأس، تستعمل في النجارة والحفر وغيرهما من الأعمال.

* الدماغ وأغشيته والجمجمة وفائدتها

ولو رأيت الدماغ إذا كشف عنه، لرأيته قد لف بحجب بعضها فوق بعض لتصونه من الأعراض وتمسكه، فلا يضطرب. ولرأيت عليه الجمجمة بمنزلة البيضة، كيما تقيه من هدّ الصدمة والصكة التي ربما وقعت في الرأس. ثم قد جللت الجمجمة بالشعر، حتى صارت بمنزلة الفرو للرأس، يستره من شدة الحر والبرد. فمن حصن الدماغ هذا التحصين إلا الذي خلقه، وجعله ينبوع الحس والمستحق للحيطة والصيانة بعلو منزلته من البدن وارتفاع درجته وخطير مرتبته.

* الجفن وأشفاره‏

تأمل يا مفضل الجفن على العين، كيف جعل كالغشاء، والأشفار كالأشراح، وأولجها في هذا الغار، وأظلها بالحجاب، وما عليه من الشعر.[7]

* الفؤاد ومدرعته‏

يا مفضل، من غيب الفؤاد في جوف الصدر، وكساه المدرعة التي غشاؤه، وحصنه بالجوانح، وما عليها من اللحم والعصب لئلا يصل إليه ما ينكؤه.

* الحلق والمري‏ء

من جعل فبي الحلق منفذين: أحدهما لمخرج الصوت، وهو الحلقوم المتصل بالرئة، والآخر منفذًا للغذاء، وهو المريء المتصل بالمعدة الموصل الغذاء إليها، وجعل على الحلقوم طبقًا يمنع الطعام أن يصل إلى الرئة فيقتله.

* الرئة وعملها أشراج منافذ البول والغائط

من جعل الرئة مروحة الفؤاد لا تفتر ولا تختل، لكيلا تتحير (تتحيز) الحرارة في الفؤاد فتؤدي إلى التلف. ومن جعل لمنافذ البول والغائط أشراجًا تضبطهما، لئلا يجريا جريانًا دائمًا فيفسد على الإنسان عيشه. فكم عسى أن يحصي المحصي من هذا؟ بل الذي لا يحصى منه ولا يعلمه الناس أكثر.

* المعدة عصبانية والكبد

من جعل المعدة عصبانية شديدة، وقدرها لهضم الطعام الغليظ، ومن جعل الكبد رقيقة ناعمة لقبول الصفو اللطيف من الغذاء، ولتهضم وتعمل ما هو ألطف من عمل المعدة، إلا الله القادر. أ ترى الإهمال يأتي بشيء من ذلك؟ كلا، بل هو تدبير مدبر حكيم قادر عليم بالأشياء قبل خلقه إياها، لا يعجزه شيء. {وهو اللطيف الخبير}.

* المخ والدم والأظفار والأذن ولحم الأليتين والفخذين‏

فكر يا مفضل، لم صار المخ الرقيق محصنًا في أنابيب العظام؟ هل ذلك إلا ليحفظه ويصونه؟ لم صار الدم السائل محصورًا في العروق بمنزلة الماء في الظروف، إلا لتضبطه فلا يفيض؟ لم صارت الأظفار على أطراف الأصابع إلا وقاية لها ومعونة على العمل؟ لم صار داخل الأذن ملتويا كهيئة اللولب إلا ليطرد فيه الصوت حتى ينتهي إلى السمع، وليكسر حمة الريح فلا ينكأ في السمع؟ لم حمل الإنسان على فخذيه وأليتيه هذا اللحم إلا ليقيه من الأرض فلا يتألم من الجلوس عليها كما يألم من نحل جسمه وقل لحمه إذا لم يكن بينه وبين الأرض حائل يقيه صلابتها؟

* الإنسان ذكر وأنثى وتناسله وآلات العمل وحاجته وحيلته وإلزامه بالحجة

من جعل الإنسان ذكراً وأنثى إلا من خلقه متناسلاً؟ ومن خلقه متناسلاً إلا من خلقه مؤملاً؟[8] ومن أعطاه آلات العمل إلا من خلقه عاملاً؟ ومن خلقه عاملاً إلا من جعله محتاجاً؟ ومن جعله محتاجاً إلا من ضربه بالحاجة؟ ومن ضربه بالحاجة إلا من توكل بتقويمه؟ ومن خصه بالفهم إلا من أوجب الجزاء؟ ومن وهب له الحيلة إلا من ملكه الحول؟ ومن ملكه الحول إلا من ألزمه الحجة؟ من يكفيه ما لا تبلغه حيلته إلا من لم يبلغ مدى شكره؟ فكر وتدبر ما وصفته، هل تجد الإهمال يأتي على مثل هذا النظام والترتيب؟ تبارك الله تعالى عما يصفون.

* الفؤاد وثقبه المتصلة بالرئة

أصف لك الآن يا مفضل الفؤاد. اعلم أن فيه ثقبا موجهة نحو الثقب التي في الرئة، تروح عن الفؤاد. حتى لو اختلفت تلك الثقوب وتزايل بعضها عن بعض، لما وصل الروح إلى الفؤاد ولهلك الإنسان. أ فيستجيز ذو فكرة وروية أن يزعم أن مثل هذا يكون بالإهمال؟ ولا يجد شاهداً من نفسه يزعه (ينزعه) عن هذا القول؟ لو رأيت فرداً من مصراعين فيه كلوب، أكنت تتوهم أنه جعل كذلك بلا معنى؟ بل كنت تعلم ضرورة أنه مصنوع يلقى فرداً آخر فيبرزه ليكون في اجتماعهما ضرب من المصلحة. وهكذا تجد الذكر من الحيوان كأنه فرد من زوج مهيأ من فرد أنثى فيلتقيان لما فيه من دوام النسل وبقائه. فتبا وخيبة وتعسا لمنتحلي الفلسفة! كيف عميت قلوبهم عن هذه الخلقة العجيبة حتى أنكروا التدبير والعمد فيها!

* فرج الرجل والحكمة فيه‏

لو كان فرج الرجل مسترخياً، كيف كان يصل إلى قعر الرحم حتى يفرغ النطفة فيه؟ ولو كان منعظاً أبداً، كيف كان الرجل يتقلب في الفراش أو يمشي بين الناس وشيء شاخص أمامه؟ ثم يكون في ذلك مع قبح المنظر تحريك الشهوة في كل وقت من الرجال والنساء جميعاً. فقدر الله جل اسمه أن يكون أكثر ذلك لا يبدو للبصر في كل وقت، ولا يكون على الرجال منه مؤنة. بل جعل فيه قوة الانتصاب وقت الحاجة إلى ذلك، لما قدر أن يكون فيه من دوام النسل وبقائه.

* منفذ الغائط ووصفه‏

اعتبر الآن يا مفضل بعظم النعمة على الإنسان في مطعمه ومشربه وتسهيل خروج الأذى. أليس من حسن التقدير في بناء الدار أن يكون الخلاء في أستر موضع منها؟ فكذا جعل الله سبحانه المنفذ المهيأ للخلاء من الإنسان في أستر موضع منه. فلم يجعله بارزاً من خلفه، ولا ناشزاً (ناشراً) من بين يديه، بل هو مغيب في موضع غامض من البدن، مستور محجوب. يلتقي عليه الفخذان وتحجبه الأليتان بما عليهما من اللحم، فتواريانه. فإذا احتاج الإنسان إلى الخلاء وجلس تلك الجلسة، ألفى ذلك المنفذ منه منصباً مهيأ لانحدار الثفل. فتبارك من تظاهرت آلاؤه، ولا تحصى نعماؤه.

* الطواحن من أسنان الإنسان‏

فكر يا مفضل في هذه الطواحن التي جعلت للإنسان، فبعضها حداد لقطع الطعام وقرضه، وبعضها عراض لمضغه ورضه. فلم ينقص واحد من الصفتين إذ كان محتاجاً إليهما جميعاً.

* الشعر والأظفار وفائدة قصهما

تأمل واعتبر بحسن التدبير في خلق الشعر والأظفار، فإنهما لما كانا مما يطول ويكثر حتى يحتاج إلى تخفيفه أولًا فأولًا، جعلا عديمي الحس لئلا يؤلم الإنسان الأخذ منهما. ولو كان قص الشعر وتقليم الأظفار مما يوجد له ألم، وقع من ذلك بين مكروهين: إما أن يدع كل واحد منهما حتى يطول فيثقل عليه، وإما أن يخففه بوجع وألم يتألم منه, قال المفضل: فقلت: فلم لم يجعل ذلك خلقة لا تزيد فيحتاج الإنسان إلى النقصان منه؟ فقال: إن لله تبارك اسمه في ذلك على العبد نعمًا لا يعرفها فيحمده عليها. اعلم أن آلام البدن وأدواءه تخرج بخروج الشعر في مسامه وبخروج الأظفار من أناملها، ولذلك أمر الإنسان بالنورة وحلق الرأس وقص الأظفار في كل أسبوع ليسرع الشعر والأظفار في النبات، فتخرج الآلام والأدواء بخروجهما. وإذا طالا تحيرا (تحيزا) وقل خروجهما فاحتبست الآلام والأدواء في البدن، فأحدثت عللاً وأوجاعًا, ومنَع مع ذلك الشعر من المواضع التي تضر بالإنسان وتحدث عليه الفساد والضر. لو نبت الشعر في العين، ألم يكن سيعمى البصر؟ ولو نبت في الفم، ألم يكن سينغص على الإنسان طعامه وشرابه؟ ولو نبت في باطن الكف، ألم يكن سيعوقه عن صحة اللمس وبعض الأعمال؟ ولو نبت في فرج المرأة وعلى ذكر الرجل، ألم يكن سيفسد عليهما لذة الجماع؟ فانظر كيف تنكب الشعر عن هذه المواضع لما في ذلك من المصلحة. ثم ليس هذا في الإنسان فقط، بل تجده في البهائم والسباع وسائر المتناسلات. فإنك ترى أجسامها مجللة بالشعر، وترى هذه المواضع خالية منه لهذا السبب بعينه. فتأمل الخلقة كيف تتحرز وجوه الخطأ والمضرة وتأتي بالصواب والمنفعة.

* شعر الركب والإبطين‏

إن المنانية وأشباههم حين أجهدوا في عيب الخلقة والعمد، عابوا الشعر النابت على الركب والإبطين، ولم يعلموا أن ذلك من رطوبة تنصب إلى هذه المواضع فينبت فيها الشعر كما ينبت العشب في مستنفع (مستنقع) المياه. أ فلا ترى إلى هذه المواضع أستر وأهيأ لقبول تلك الفضلة من غيرها؟ ثم إن هذه تعد مما يحمل الإنسان من مؤونة هذا البدن وتكاليفه لما له في ذلك من المصلحة, فإن اهتمامه بتنظيف بدنه وأخذ ما يعلوه من الشعر، مما يكسر به شرته ويكف عاديته، ويشغله عن بعض ما يخرجه إليه الفراغ من الأشر والبطالة.

* الريق وما فيه من المنفعة

تأمل الريق وما فيه من المنفعة، فإنه جعل يجري جريانًا دائمًا إلى الفم ليبل الحلق واللهوات، فلا يجف. فإن هذه المواضع لو جعلت كذلك، كان فيه هلاك الأسنان، ثم كان لا يستطيع أن يسيغ طعامًا إذا لم يكن في الفم بلة تنفذه، تشهد بذلك المشاهدة. واعلم أن الرطوبة مطية الغذاء، وقد تجري من هذه البلة إلى مواضع أخرى من المرة، فيكون في ذلك صلاح تام للإنسان. ولو يبست المرة لهلك الإنسان.

* محاذير كون بطن الإنسان كهيئة القباء

ولقد قال قوم من جهلة المتكلمين وضعفة المتفلسفين بقلة التمييز وقصور العلم: لو كان بطن الإنسان كهيئة القباء، يفتحه الطبيب إذا شاء فيعاين ما فيه ويدخل يده فيعالج ما أراد علاجه، ألم يكن أصلح من أن يكون مصمتًا محجوبًا عن البصر واليد؟ لا يعرف ما فيه إلا بدلالات غامضة، كمثل النظر إلى البول وجس العرق وما أشبه ذلك مما يكثر فيه الغلط والشبهة، حتى ربما كان ذلك سببًا للموت, فلو علم هؤلاء الجهلة أن هذا لو كان هكذا، كان أول ما فيه أن يسقط عن الإنسان الوجل من الأمراض والموت، وكان يستشعر البقاء ويغتر بالسلامة، فيخرجه ذلك إلى العتو والأشر. ثم كانت الرطوبات التي في البطن تترشح وتتحلب، فيفسد على الإنسان مقعده ومرقده وثياب بدلته (بذلته) وزينته، بل كان يفسد عليه عيشه, ثم إن المعدة والكبد والفؤاد إنما تفعل أفعالها بالحرارة الغريزية التي جعلها الله محتبسة في الجوف. فلو كان في البطن فرج ينفتح حتى يصل البصر إلى رؤيته واليد إلى علاجه، لوصل برد الهواء إلى الجوف، فمازج الحرارة الغريزية، وبطل عمل الأحشاء, فكان في ذلك هلاك الإنسان. أفلا ترى أن كل ما تذهب إليه الأوهام سوى ما جاءت به الخلقة خطأ وخطل؟

* أفعال الإنسان في الطعم والنوم والجماع وشرح ذلك‏

فكر يا مفضل في الأفعال التي جعلت في الإنسان من الطعم والنوم والجماع وما دبر فيها، فإنه جعل لكل واحد منها في الطباع نفسه محرك يقتضيه ويستحث به. فالجوع يقتضي الطعم الذي فيه راحة البدن وقوامه، والكرى يقتضي النوم الذي فيه راحة البدن وإجمام قواه، والشبق يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل وبقاؤه. ولو كان الإنسان إنما يصير إلى أكل الطعام لمعرفته بحاجة بدنه إليه، ولم يجد من طباعه شيئًا يضطره إلى ذلك، كان خليقا أن يتوانى عنه أحيانًا بالثقل والكسل حتى ينحل بدنه فيهلك، كما يحتاج الواحد إلى الدواء لشيء مما يصلح به بدنه فيدافع به حتى يؤديه ذلك إلى المرض والموت. وكذلك لو كان إنما يصير إلى النوم بالفكر في حاجته إلى راحة البدن وإجمام قواه، كان عسى أن يتثاقل عن ذلك فيدفعه حتى ينهك بدنه. ولو كان إنما يتحرك للجماع بالرغبة في الولد، كان غير بعيد أن يفتر عنه حتى يقل النسل أو ينقطع، فإن من الناس من لا يرغب في الولد ولا يحفل به. فانظر كيف جعل لكل واحد من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان وصلاحه محركًا من نفس الطبع يحركه لذلك ويحدوه عليه, واعلم أن في الإنسان قوىً أربعًا: قوة جاذبة تقبل الغذاء وتورده على المعدة، وقوة ماسكة تحبس الطعام حتى تفعل فيه الطبيعة فعلها، وقوة هاضمة وهي التي تطبخه وتستخرج صفوه وتبثه في البدن، وقوة دافعة تدفعه وتحدر الثفل الفاضل بعد أخذ الهاضمة حاجتها. ففكر في تقدير هذه القوى الأربع التي في البدن وأفعالها وتقديرها للحاجة إليها والإرب فيها، وما في ذلك من التدبير والحكمة. فلو لا الجاذبة كيف كان يتحرك الإنسان لطلب الغذاء الذي به قوام البدن؟ ولو لا الماسكة كيف كان يلبث الطعام في الجوف حتى تهضمه المعدة؟ ولو لا الهاضمة كيف كان ينطبخ حتى يخلص منه الصفو الذي يغذو البدن ويسد خلله؟ ولو لا الدافعة كيف كان الثفل الذي تخلفه الهاضمة يندفع ويخرج أولًا فأولًا؟ أفلا ترى كيف وكل الله سبحانه بلطف صنعه وحسن تقديره هذه القوى بالبدن، والقيام بما فيه صلاحه؟ وسأمثل لك في ذلك مثالا: إن البدن بمنزلة دار الملك، له فيها حشم وصبية وقوام موكلون بالدار. فواحد لقضاء حوائج الحشم وإيرادها عليهم، وآخر لقبض ما يرد وخزنه إلى أن يعالج ويهيأ، وآخر لعلاج ذلك وتهيئته وتفريقه، وآخر لتنظيف ما في الدار من الأقذار وإخراجه منها. فالملك في هذا هو الخلاق الحكيم ملك العالمين، والدار هي البدن، والحشم هم الأعضاء، والقوام هم هذه القوى الأربع. ولعلك ترى[9] ذكرنا هذه القوى الأربع وأفعالها بعد الذي وصفت فضلًا وتزدادا. وليس ما ذكرته من هذه القوى على الجهة التي ذكرت في كتب الأطباء، ولا قولنا فيه كقولهم، لأنهم ذكروها على ما يحتاج إليه في صناعة الطب وتصحيح الأبدان، وذكرناها على ما يحتاج في صلاح الدين وشفاء النفوس من الغي، كالذي أوضحته بالوصف الشافي والمثل المضروب من التدبير والحكمة فيها.

* قوى النفس وموقعها من الإنسان‏

تأمل يا مفضل هذه القوى التي في النفس وموقعها من الإنسان، أعني الفكر والوهم والعقل والحفظ وغير ذلك. أفرأيت لو نقص الإنسان من هذه الخلال الحفظ وحده، كيف كانت تكون حاله؟ وكم من خلل كان يدخل عليه في أموره ومعاشه وتجاربه إذا لم يحفظ ما له وما عليه، وما أخذه وما أعطى، وما رأى وما سمع، وما قال وما قيل له، ولم يذكر من أحسن إليه ممن أساء به، وما نفعه مما ضره؟ ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى، ولا يحفظ علماً ولو درسه عمره، ولا يعتقد دينا، ولا ينتفع بتجربة، ولا يستطيع أن يعتبر شيئًا على ما مضى، بل كان حقيقًا أن ينسلخ من الإنسانية.

* النعمة على الإنسان في الحفظ والنسيان‏

فانظر إلى النعمة على الإنسان في هذه الخلال، وكيف موقع الواحدة منها دون الجميع. وأعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ، النعمة في النسيان؛ فإنه لولا النسيان لما سلا أحد عن مصيبة، ولا انقضت له حسرة، ولا مات له حقد، ولا استمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات، ولا رجاء غفلة من سلطان، ولا فترة من حاسد. أ فلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان، وهما مختلفان متضادان، وجعل له في كل منهما ضربًا من المصلحة؟ وما عسى أن يقول الذين قسموا الأشياء بين خالقين متضادين في هذه الأشياء المتضادة المتباينة، وقد تراها تجتمع على ما فيه الصلاح والمنفعة؟

* اختصاص الإنسان بالحياء دون بقية الحيوانات‏

انظر يا مفضل إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل قدره العظيم غناؤه، أعني الحياء. فلولاه لم يقر ضيف، ولم يوف بالعدات، ولم تقض الحوائج، ولم يتحر الجميل، ولم يتنكب القبيح في شيء من الأشياء. حتى إن كثيرًا من الأمور المفترضة أيضًا إنما يفعل للحياء. فإن من الناس من لو لا الحياء، لم يرع حق والديه، ولم يصل ذا رحم، ولم يؤد أمانة، ولم يعف عن فاحشة. أفلا ترى كيف وفى الإنسان جميع الخلال التي فيها صلاحه وتمام أمره؟

* اختصاص الإنسان بالمنطق والكتابة

تأمل يا مفضل ما أنعم الله تقدست أسماؤه به على الإنسان من هذا المنطق الذي يعبر به عما في ضميره، وما يخطر بقلبه، وينتجه فكره، وبه يفهم عن غيره ما في نفسه. ولو لا ذلك كان بمنزلة البهائم المهملة التي لا تخبر عن نفسها بشيء، ولا تفهم عن مخبر شيئًا. وكذلك الكتابة التي بها تقيد أخبار الماضين للباقين، وأخبار الباقين للآتين، وبها تخلد الكتب في العلوم والآداب وغيرها، وبها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه وبين غيره من المعاملات والحساب. ولولاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة عن بعض، وأخبار الغائبين عن أوطانهم، ودرست العلوم، وضاعت الآداب، وعظم ما يدخل على الناس من الخلل في أمورهم ومعاملاتهم، وما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم، وما روي لهم مما لا يسعهم جهله. ولعلك تظن أنها مما يخلص إليه بالحيلة والفطنة، وليست مما أعطيه الإنسان من خلقه وطباعه. وكذلك الكلام إنما هو شيء يصطلح عليه الناس فيجري بينهم. ولهذا صار يختلف في الأمم المختلفة. وكذلك لكتابة العربي والسرياني والعبراني والرومي وغيرها من سائر الكتابة التي هي متفرقة في الأمم، إنما اصطلحوا عليها كما اصطلحوا على الكلام. فيقال لمن ادعى ذلك: إن الإنسان وإن كان له في الأمرين جميعًا فعل أو حيلة، فإن الشيء الذي يبلغ به ذلك الفعل والحيلة، عطية وهبة من الله عز وجل له في خلقه. فإنه لو لم يكن له لسان مهيأ للكلام، وذهن يهتدي به للأمور، لم يكن ليتكلم أبدًا. ولو لم تكن له كف مهيئة وأصابع للكتابة، لم يكن ليكتب أبدًا. واعتبر ذلك من البهائم التي لا كلام لها ولا كتابة. فأصل ذلك فطرة الباري جل وعز، وما تفضل به على خلقه. فمن شكر أثيب.

* إعطاء الإنسان ما يصلح دينه ودنياه ومنعه مما سوى ذلك‏

فكر يا مفضل فيما أعطي الإنسان علمه وما منع. فإنه أعطي جميع علم ما فيه صلاح دينه ودنياه. فمما فيه صلاح دينه: معرفة الخالق تبارك وتعالى بالدلائل والشواهد القائمة في الخلق، ومعرفة الواجب عليه من العدل على الناس كافة، وبر الوالدين، وأداء الأمانة، ومواساة أهل الخلة، وأشباه ذلك مما قد توجد معرفته والإقرار والاعتراف به في الطبع والفطرة من كل أمة موافقة أو مخالفة. وكذلك أعطي علم ما فيه صلاح دنياه كالزراعة والغراس، واستخراج الأرضين، واقتناء الأغنام والأنعام، واستنباط المياه، ومعرفة العقاقير التي يستشفى بها من ضروب الأسقام، والمعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر، وركوب السفن، والغوص في البحر، وضروب الحيل في صيد الوحش والطير والحيتان، والتصرف في الصناعات، ووجوه المتاجر والمكاسب، وغير ذلك مما يطول شرحه ويكثر تعداده، مما فيه صلاح أمره في هذه الدار. فأعطي علم ما يصلح به دينه ودنياه، ومنع ما سوى ذلك مما ليس في شأنه ولا طاقته أن يعلم كعلم الغيب، وما هو كائن، وبعض ما قد كان أيضًا، كعلم ما فوق السماء وما تحت الأرض، وما في لجج البحار، وأقطار العالم، وما في قلوب الناس، وما في الأرحام، وأشباه هذا مما حجب عن الناس علمه. وقد ادعت طائفة من الناس هذه الأمور، فأبطل دعواهم ما يبين من خطئهم فيما يقضون عليه ويحكمون به فيما ادعوا عليه علمه. فانظر كيف أعطي الإنسان علم جميع ما يحتاج إليه لدينه ودنياه، وحجب عنه ما سوى ذلك ليعرف قدره ونقصه. وكلا الأمرين فيها صلاحه.

* ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته‏

تأمل الآن يا مفضل ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته. فإنه لو عرف مقدار عمره وكان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش مع ترقب الموت وتوقعه لوقت قد عرفه. بل كان يكون بمنزلة من قد فني ماله أو قارب الفناء، فقد استشعر الفقر والوجل من فناء ماله وخوف الفقر. على أن الذي يدخل على الإنسان من فناء العمر أعظم مما يدخل عليه من فناء المال، لأن من يقل ماله يأمل أن يستخلف منه فيسكن إلى ذلك، ومن أيقن بفناء العمر استحكم عليه اليأس وإن كان طويل العمر. ثم عرف ذلك وثق بالبقاء وانهمك في اللذات والمعاصي، وعمل على أنه يبلغ من ذلك شهوته ثم يتوب في آخر عمره, وهذا مذهب لا يرضاه الله من عباده ولا يقبله. ألا ترى لو أن عبدا لك عمل على أنه يسخطك سنة ويرضيك يوما أو شهرا لم تقبل ذلك منه ولم يحل عندك محل العبد الصالح دون أن يضمر طاعتك ونصحك في كل الأمور وفي كل الأوقات على تصرف الحالات؟ فإن قلت: أ وليس قد يقيم الإنسان على المعصية حينا ثم يتوب فتقبل توبته؟ قلنا: إن ذلك شي‏ء يكون من الإنسان لغلبة الشهوات له وتركه مخالفتها من غير أن يقدرها في نفسه ويبني عليه أمره، فيصفح الله عنه ويتفضل عليه بالمغفرة. فأما من قدر أمره على أن يعصي ما بدا له ثم يتوب آخر ذلك، فإنما يحاول خديعة من لا يخادع بأن يتسلف التلذذ في العاجل ويعد ويمني نفسه التوبة في الآجل. ولأنه لا يفي بما يعد من ذلك، فإن النزوع من الترفه والتلذذ ومعاناة التوبة ولا سيما عند الكبر وضعف البدن أمر صعب. ولا يؤمن على الإنسان مع مدافعته بالتوبة أن يرهقه الموت فيخرج من الدنيا غير تائب كما قد يكون على الواحد دين إلى أجل، وقد يقدر على قضائه فلا يزال يدافع بذلك حتى يحل الأجل وقد نفذ المال فيبقى الدين قائما عليه, فكان خير الأشياء للإنسان أن يستر عنه مبلغ عمره فيكون طول عمره يترقب الموت فيترك المعاصي ويؤثر العمل الصالح, فإن قلت: وها هو الآن قد ستر عنه مقدار حياته وصار يترقب الموت في كل ساعة، يقارف الفواحش وينتهك المحارم؟ قلنا: إن وجه التدبير في هذا الباب هو الذي جرى عليه الأمر فيه. فإن كان الإنسان مع ذلك لا يرعوي ولا ينصرف عن المساوئ، فإنما ذلك من مرحه ومن قساوة قلبه لا من خطإ في التدبير، كما أن الطبيب قد يصف للمريض ما ينتفع به. فإن كان المريض مخالفا لقول الطبيب، لا يعمل بما يأمره ولا ينتهي عما ينهاه عنه، لم ينتفع بصفته ولم تكن الإساءة في ذلك للطبيب بل للمريض حيث لم يقبل منه. ولئن كان الإنسان مع ترقبه للموت كل ساعة لا يمتنع عن المعاصي، فإنه لو وثق بطول البقاء كان أحرى بأن يخرج إلى الكبائر الفظيعة. فترقب الموت على كل حال خير له من الثقة بالبقاء, ثم إن ترقب الموت وإن كان صنف من الناس يلهون عنه ولا يتعظون به، فقد يتعظ به صنف آخر منهم وينزعون عن المعاصي ويؤثرون العمل الصالح، ويجودون بالأموال والعقائل النفيسة في الصدقة على الفقراء والمساكين, فلم يكن من العدل أن يحرم هؤلاء الانتفاع بهذه الخصلة لتضييع أولئك حظهم منها.

* الأحلام وامتزاج صادقها بكاذبها وسر ذلك‏

فكر يا مفضل في الأحلام كيف دبر الأمر فيها فمزج صادقها بكاذبها. فإنها لو كانت كلها تصدق لكان الناس كلهم أنبياء، ولو كانت كلها تكذب لم يكن فيها منفعة بل كانت فضلا لا معنى له. فصارت تصدق أحيانا فينتفع بها الناس في مصلحة يهتدي لها أو مضرة يتحذر منها، وتكذب كثيرا لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد.

* الأشياء المخلوقة لمآرب الإنسان وإيضاح ذلك‏

فكر يا مفضل في هذه الأشياء التي تراها موجودة معدة في العالم من مآربهم. فالتراب للبناء، والحديد للصناعات، والخشب للسفن وغيرها، والحجارة للأرحاء وغيرها، والنحاس للأواني، والذهب والفضة للمعاملة والذخيرة، والحبوب للغذاء، والثمار للتفكه، واللحم للمأكل، والطيب للتلذذ، والأدوية للتصحح، والدواب للحمولة، والحطب للتوقد، والرماد للكلس، والرمل للأرض. وكم عسى أن يحصي المحصي من هذا وشبهه؟ أرأيت لو أن داخلا دخل دارا فنظر إلى خزائن مملوءة من كل ما يحتاج إليه الناس، ورأى كلما فيها مجموعا معدا لأسباب معروفة، أكان يتوهم أن مثل هذا يكون بالإهمال ومن غير عمد؟ فكيف يستجيز قائل أن يقول هذا من صنع الطبيعة في العالم وما أعد فيه من هذه الأشياء؟ اعتبر يا مفضل بأشياء خلقت لمآرب الإنسان وما فيها من التدبير. فإنه خلق له الحب لطعامه، وكلف طحنه وعجنه وخبزه، وخلق له الوبر لكسوته، فكلف ندفه وغزله ونسجه، وخلق له الشجر، فكلف غرسها وسقيها والقيام عليها، وخلقت له العقاقير لأدويته، فكلف لقطها وخلطها وصنعها. وكذلك تجد سائر الأشياء على هذا المثال. فانظر كيف كُفيت الخلقة التي لم يكن عنده فيها حيلة، وترك عليه في كل شيء من الأشياء موضع عمل وحركة لما له في ذلك من الصلاح. لأنه لو كُفي هذا كله حتى لا يكون له في الأشياء موضع شغل وعمل، لما حملته الأرض أشرا وبطرا، ولبلغ به ذلك إلى أن يتعاطى أمورًا فيها تلف نفسه, ولو كُفي الناس كلما يحتاجون إليه لما تهنأوا بالعيش ولا وجدوا له لذة. ألا ترى لو أن امرأً نزل بقومٍ فأقام حينا، بلغ جميع ما يحتاج إليه من مطعم ومشرب وخدمة، لتبرم بالفراغ، ونازعته نفسه إلى التشاغل بشيء؟ فكيف لو كان طول عمره مكفيا لا يحتاج إلى شيء؟ فكان من صواب التدبير في هذه الأشياء التي خُلِقت للإنسان أن جعل له فيها موضع شغل، لكيلا تبرمه البطالة، ولتكفه عن تعاطي ما لا يناله ولا خير فيه إن ناله.

* الخبز والماء رأس معاش الإنسان وحياته‏

واعلم يا مفضل أن رأس معاش الإنسان وحياته الخبز والماء. فانظر كيف دبر الأمر فيهما. فإن حاجة الإنسان إلى الماء أشد من حاجته إلى الخبز. وذلك أن صبره على الجوع أكثر من صبره على العطش. والذي يحتاج إليه من الماء أكثر مما يحتاج إليه من الخبز، لأنه يحتاج إليه لشربه ووضوئه وغسله وغسل ثيابه وسقي أنعامه وزرعه. فجعل الماء مبذولا لا يشترى لتسقط عن الإنسان المئونة في طلبه وتكلفه. وجعل الخبز متعذرا لا ينال إلا بالحيلة والحركة، ليكون للإنسان في ذلك شغل يكفه عما يخرجه إليه الفراغ من الأشر والعبث, ألا ترى أن الصبي يدفع إلى المؤدب وهو طفل لم تكمل ذاته للتعليم؟ كل ذلك ليشتغل عن اللعب والعبث اللذين ربما جنيا عليه وعلى أهله المكروه العظيم. وهكذا الإنسان لو خلا من الشغل لخرج من الأشر والعبث والبطر إلى ما يعظم ضرره عليه وعلى من قرب منه. واعتبر ذلك بمن نشأ في الجدة ورفاهية العيش والترفه والكفاية وما يخرجه ذلك إليه.

* اختلاف صور الناس وتشابه الوحوش والطير وغيرها من الحكمة في ذلك‏

اعتبر لم لا يتشابه الناس واحد بالآخر كما تتشابه الوحوش والطير وغير ذلك. فإنك ترى السرب من الظباء والقطا تتشابه حتى لا يفرق بين واحد منها وبين الأخرى, وترى الناس مختلفة صورهم وخلقهم حتى لا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة. والعلة في ذلك أن الناس محتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم وحلاهم لما يجري بينهم من المعاملات. وليس يجري بين البهائم مثل ذلك فيحتاج إلى معرفة كل واحد منها بعينه وحليته, ألا ترى أن التشابه في الطير والوحش لا يضرها شيئا؟ وليس كذلك الإنسان. فإنه ربما تشابه التوأم تشابها شديدا فتعظم المئونة على الناس في معاملتهما حتى يعطى أحدهما بالآخر ويؤخذ أحدهما بذنب الآخر. وقد يحدث مثل هذا في تشابه الأشياء فضلا عن تشابه الصور, [10] فمن لطف بعباده بهذه الدقائق التي لا تكاد تخطر بالبال حتى وقف بها على الصواب إلا من وسعت رحمته كل شيء, لو رأيت تمثال الإنسان مصورا على حائط وقال لك قائل إن هذا ظهر هنا من تلقاء نفسه ولم يصنعه صانع، أكنت تقبل ذلك؟ بل كنت تستهزئ به. فكيف تنكر هذا في تمثال مصور جماد ولا تنكر في الإنسان الحي الناطق؟

* نمو أبدان الحيوان وتوقفها وسبب ذلك‏

لم صارت أبدان الحيوان وهي تغتذي أبداً لا تنمي بل تنتهي إلى غاية من النمو ثم تقف ولا تتجاوزها؟ لو لا التدبير في ذلك, فإن تدبير الحكيم فيها أن تكون أبدان كل صنف منها على مقدار معلوم غير متفاوت في الكبير والصغير, وصارت تنمي حتى تصل إلى غايتها ثم تقف، ثم لا تزيد, والغذاء مع ذلك دائم لا ينقطع, ولو تنمي نمواً دائماً لعظمت أبدانها واشتبهت مقاديرها[11] حتى لا يكون لشيء منها حد يعرف.

* ما يعتري أجسام الإنس من ثقل الحركة والمشي لو لم يصبها ألم‏

لم صارت أجسام الإنس خاصة تثقل عن الحركة والمشي وتجفو [12] عن الصناعات اللطيفة إلا لتعظيم المئونة فيما يحتاج إليه الناس للملبس والمضجع والتكفين وغير ذلك؟ لو كان الإنسان لا يصيبه ألم ولا وجع، بم كان يرتدع عن الفواحش ويتواضع لله ويتعطف على الناس؟ أما ترى الإنسان إذا عرض له وجع خضع واستكان ورغب إلى ربه في العافية، وبسط يده بالصدقة؟ ولو كان لا يألم من الضرب، بم كان السلطان يعاقب الدعار ويذل العصاة المردة؟ وبم كان الصبيان يتعلمون العلوم والصناعات؟ وبم كان العبيد يذلون لأربابهم ويذعنون لطاعتهم؟ أفليس هذا توبيخ ابن أبي العوجاء وذويه الذين جحدوا التدبير، والمانوية الذين أنكروا الوجع والألم؟

* انقراض الحيوان لو لم يلد ذكورا وإناثا

ولو لم يولد من الحيوان إلا ذكر فقط، أو أنثى فقط، ألم يكن النسل منقطعا وباد مع أجناس الحيوان؟ فصار بعض الأولاد يأتي ذكورا، وبعضها يأتي إناثا، ليدوم التناسل ولا ينقطع

* ظهور شعر العانة عند البلوغ ونبات اللحية للرجل دون المرأة وما في ذلك من التدبير

لم صار الرجل والمرأة إذا أدركا تنبت لهما العانة، ثم تنبت اللحية للرجل وتتخلف عن المرأة؟ لو لا التدبير في ذلك، فإنه لما جعل الله تبارك وتعالى الرجل قيما ورقيبا على المرأة، وجعل المرأة عرسا وخولا للرجل، أعطى الرجل اللحية لما له من العز والجلالة والهيبة، ومنعها المرأة لتبقى لها نضارة الوجه والبهجة التي تشاكل المفاكهة والمضاجعة. أفلا ترى الخلقة كيف تأتي بالصواب في الأشياء وتتخلل مواضع الخطإ فتعطي وتمنع على قدر الإرب والمصلحة بتدبير الحكيم عز وجل؟ قال المفضل: ثم حان وقت الزوال فقام مولاي إلى الصلاة، وقال: بكر إلي غدا إن شاء الله تعالى، فانصرفت من عنده مسرورا بما عرفته، مبتهجا بما أوتيته، حامدا لله تعالى عز وجل على ما أنعم به علي، شاكرا لأنعمه على ما منحني بما عرفنيه مولاي وتفضل به علي, فبت في ليلتي مسرورا بما منحنيه، محبورا بما علمنيه.

 

* المجلس الثاني‏

قال المفضل: فلما كان اليوم الثاني بكرت إلى مولاي، فاستؤذن لي، فدخلت، فأمرني بالجلوس، فجلست، فقال: الحمد لله مدبر الأدوار[13] ومعيد الأكوار طبقا عن طبق، وعالما بعد عالم: {ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} عدلا منه تقدست أسماؤه وجلت آلاؤه: {لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون}. يشهد بذلك قوله جل قدسه: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} في نظائر لها[14] في كتابه الذي فيه تبيان كل شيء، و{لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}. ولذلك قال سيدنا محمد |: إنما هي أعمالكم ترد إليكم, ثم أطرق الإمام هنيئة وقال: يا مفضل، الخلق حيارى عمهون سكارى في طغيانهم يترددون، وبشياطينهم وطواغيتهم يقتدون، بصراء عمي لا يبصرون، نطقاء بكم لا يعقلون، سمعاء صم لا يسمعون، رضوا بالدون وحسبوا أنهم مهتدون، حادوا عن مدرجة الأكياس، ورتعوا في مرعى الأرجاس الأنجاس، كأنهم من مفاجأة الموت آمنون، وعن المجازاة مزحزحون، يا ويلهم! ما أشقاهم وأطول عناءهم وأشد بلاءهم: {يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون إلا من رحم الله}, قال المفضل: فبكيت لما سمعت منه، فقال: لا تبك، تخلصت إذ قبلت ونجوت إذ عرفت.

* أبنية أبدان الحيوان وتهيئتها وإيضاح ذلك‏

ثم قال: أبتدئ لك بذكر الحيوان ليتضح لك من أمره ما وضح لك من غيره, فكر في أبنية أبدان الحيوان وتهيئتها على ما هي عليه، فلا هي صلاب كالحجارة، ولو كانت كذلك لا تنثني ولا تتصرف في الأعمال، ولا هي على غاية اللين والرخاوة، فكانت لا تتحامل ولا تستقل بأنفسها, فجعلت من لحم رخو ينثني، تتداخله عظام صلاب، يمسكه عصب وعروق تشده وتضم بعضه إلى بعض، وغلفت فوق ذلك بجلد يشتمل على البدن كله, وأشباه ذلك هذه التماثيل التي تعمل من العيدان وتلف بالخرق وتشد بالخيوط وتطلى فوق ذلك بالصمغ، فتكون العيدان بمنزلة العظام، والخرق بمنزلة اللحم، والخيوط بمنزلة العصب والعروق، والطلاء بمنزلة الجلد. فإن جاز أن يكون الحيوان المتحرك حدث بالإهمال من غير صانع، جاز أن يكون ذلك في هذه التماثيل الميتة. فإن كان هذا غير جائز في التماثيل، فبالحري أن لا يجوز في الحيوان.

* أجساد الأنعام وما أعطيت وما منعت وسبب ذلك‏

وفكر يا مفضل بعد هذا في أجساد الأنعام، فإنها حين خلقت على أبدان الإنس من اللحم والعظم والعصب، أعطيت أيضا السمع والبصر ليبلغ الإنسان حاجته. فإنها لو كانت عميا صما لما انتفع بها الإنسان، ولا تصرفت في شيء من مآربه, ثم منعت الذهن والعقل لتذل للإنسان، فلا تمتنع عليه إذا كدها الكد الشديد وحملها الحمل الثقيل, فإن قال قائل: إنه قد يكون للإنسان عبيد من الإنس يذلون ويذعنون بالكد الشديد، وهم مع ذلك غير عديمي العقل والذهن, فيقال في جواب ذلك: إن هذا الصنف من الناس قليل. فأما أكثر الناس فلا يذعنون بما تذعن به الدواب من الحمل والطحن وما أشبه ذلك، ولا يغرون بما يحتاج إليه منهم,[15] ثم لو كان الناس يزاولون مثل هذه الأعمال بأبدانهم لشغلوا بذلك عن سائر الأعمال، لأنه كان يحتاج مكان الجمل الواحد والبغل الواحد إلى عدة أناسي، فكان هذا العمل يستفرغ الناس حتى لا يكون فيهم عنه فضل لشيء من الصناعات، مع ما يلحقه من التعب الفادح في أبدانهم، والضيق والكد في معاشهم.

* خلق الأصناف الثلاثة من الحيوان‏

فكر يا مفضل في هذه الأصناف الثلاثة من الحيوان وفي خلقها على ما هي عليه مما فيه صلاح كل واحد منها. فالإنس، لما قدروا أن يكونوا ذوي ذهن وفطنة وعلاج لمثل هذه الصناعات من البناء والتجارة والصياغة والخياطة وغير ذلك، خلقت لهم أكف كبار ذوات أصابع غلاظ ليتمكنوا من القبض على الأشياء وأوكدها هذه الصناعات. [16]

* آكلات اللحم من الحيوان والتدبير في خلقها

وآكلات اللحم، لما قدر أن تكون معايشها من الصيد، خلقت لهم أكف لطاف مدمجة ذوات براثن ومخالب تصلح لأخذ الصيد ولا تصلح للصناعات, وآكلات النبات، لما قدر أن يكونوا لا ذوات صنعة ولا ذات صيد، خلقت لبعضها أظلاف تقيها خشونة الأرض إذا حاولت طلب المرعى، ولبعضها حوافر ململمة ذوات قعر كأخمص القدم تنطبق على الأرض عند تهيئها للركوب والحمولة تأمل التدبير في خلق آكلات اللحم من الحيوان حين خلقت ذوات أسنان حداد وبراثن شداد وأشداق وأفواه واسعة، فإنه لما قدر أن يكون طعمها اللحم خلقت خلقة تشاكل ذلك وأعينت بسلاح وأدوات تصلح للصيد, وكذلك تجد سباع الطير ذوات مناقير ومخالب مهيئة لفعلها، ولو كانت الوحوش ذوات مخالب كانت قد أعطيت ما لا تحتاج إليه، لأنها لا تصيد ولا تأكل اللحم، ولو كانت السباع ذوات أظلاف كانت قد منعت ما تحتاج إليه، أعني السلاح الذي تصيد به وتتعيش, أفلا ترى كيف أعطي كل واحد من الصنفين ما يشاكل صنفه وطبقته، بل ما فيه بقاؤه وصلاحه.

* ذوات الأربع واستقلال أولادها

انظر الآن إلى ذوات الأربع، كيف تراها تتبع أماتها مستقلة بأنفسها، لا تحتاج إلى الحمل والتربية كما تحتاج أولاد الإنس, فمن أجل أنه ليس عند أماتها ما عند أمهات البشر من الرفق والعلم بالتربية، والقوة عليها بالأكف والأصابع المهيأة لذلك، أعطيت النهوض والاستقلال بأنفسها. وكذلك ترى كثيرًا من الطير، كمثل الدجاج والدراج والقبج، تدرج وتلقط حين تنقاب عنها البيضة. فأما ما كان منها ضعيفًا لا نهوض فيه، كمثل فراخ الحمام واليمام، فقد جعل في الأمهات فضل عطف عليها، فصارت تمج الطعام في أفواهها بعد ما توعيه حواصلها، فلا تزال تغذوها حتى تستقل بأنفسها. ولذلك لم ترزق الحمام فراخًا كثيرة مثل ما ترزق الدجاج، لتقوى الأم على تربية فراخها فلا تفسد ولا تموت, فكلا أعطي بقسط من تدبير الحكيم اللطيف الخبير.

* قوائم الحيوان وكيفية حركتها

انظر إلى قوائم الحيوان، كيف تأتي أزواجًا لتتهيأ للمشي. ولو كانت أفرادًا، لم تصلح لذلك، لأن الماشي ينقل قوائمه ويعتمد على بعضها. فذو القائمتين ينقل واحدة ويعتمد على واحدة، وذو الأربع ينقل اثنتين ويعتمد على اثنتين. وذلك من خلاف، لأن ذا الأربع لو كان ينقل قائمتين من أحد جانبيه، ويعتمد على قائمتين من الجانب الآخر، لم يثبت على الأرض كما يثبت السرير وما أشبهه, فصار ينقل اليمنى من مقاديمه مع اليسرى من مآخيره، وينقل الأخريين أيضًا من خلاف، فيثبت على الأرض ولا يسقط إذا مشى.

* انقياد الحيوانات المسخرة للإنسان وسببه‏

أما ترى الحمار كيف يذل للطحن والحمولة، وهو يرى الفرس مودعًا منعما؟ والبعير، لو استعصى، كيف كان ينقاد للصبي؟ والثور الشديد، كيف كان يذعن لصاحبه حتى يضع النير على عنقه ويحرث به؟ والفرس الكريم، يركب السيوف والأسنة بالمواتاة لفارسه, والقطيع من الغنم، يرعاه واحد، ولو تفرقت الغنم فأخذ كل واحد منها في ناحية، لم يلحقها. وكذلك جميع الأصناف المسخرة للإنسان كانت كذلك، إلا بأنها عدمت العقل والروية, فإنها لو كانت تعقل وتتروى في الأمور، كانت خليقة أن تلتوي على الإنسان في كثير من مآربه. حتى يمتنع الجمل على قائده، والثور على صاحبه، وتتفرق الغنم عن راعيها، وأشباه هذا من الأمور.

* افتقاد السباع للعقل والروية وفائدة ذلك‏

وكذلك هذه السباع، لو كانت ذات عقل وروية فتوازرت على الناس، كانت خليقة أن تجتاحهم, فمن كان يقوم للأسد والذئاب والنمور والدببة لو تعاونت وتظاهرت على الناس؟ أفلا ترى كيف حجر ذلك عليها، وصارت مكان ما كان يخاف من إقدامها ونكايتها، تهاب مساكن الناس وتحجم عنها؟ ثم لا تظهر ولا تنتشر لطلب قوتها إلا بالليل, فهي مع صولتها كالخائف من الإنس، بل مقموعة ممنوعة منهم, ولو كان ذلك، لساورتهم في مساكنهم وضيقت عليهم.

* عطف الكلب على الإنسان ومحاماته عنه‏

ثم جعل في الكلب من بين هذه السباع عطفًا على مالكه، ومحاماة عنه، وحفظًا له, ينتقل على الحيطان والسطوح في ظلمة الليل لحراسة منزل صاحبه وذب الذعار [الدغار] عنه, ويبلغ من محبته لصاحبه أن يبذل نفسه للموت دونه ودون ماشيته وماله، ويألفه غاية الإلف حتى يصبر معه على الجوع والجفوة, فلم طبع الكلب على هذه الألفة والمحبة إلا ليكون حارسًا للإنسان، له عين بأنياب ومخالب ونباح هائل ليذعر منه السارق ويتجنب المواضع التي يحميها ويخفرها.

* وجه الدابة وفمها وذنبها وشرح ذلك‏

يا مفضل، تأمل وجه الدابة كيف هو, فإنك ترى العينين شاخصتين أمامها لتبصر ما بين يديها، لئلا تصدم حائطًا أو تتردى في حفرة. وترى الفم مشقوقًا شقًا في أسفل الخطم، ولو شق كمكان الفم من الإنسان في مقدم الذقن لما استطاع أن يتناول به شيئًا من الأرض, ألا ترى أن الإنسان لا يتناول الطعام بفيه ولكن بيده، تكرمة له على سائر الآكلات؟ فلما لم يكن للدابة يد تتناول بها العلف، جعل خرطومها مشقوقًا من أسفله لتقبض على العلف ثم تقضمه. وأعينت بالجحفلة لتتناول بها ما قرب وما بعد, اعتبر بذنبها والمنفعة لها فيه، فإنه بمنزلة الطبق على الدبر والحياء جميعًا يواريهما ويسترهما, ومن منافعها فيه أن ما بين الدبر ومراقي البطن منها وضر يجتمع عليها الذباب والبعوض، فجعل لها الذنب كالمذبة تذب بها عن تلك المواضع, ومنها أن الدابة تستريح إلى تحريكه وتصريفه يمنة ويسرة, فإنه لما كان قيامها على الأربع بأسرها وشغلت المقدمتان بحمل البدن عن التصرف والتقلب، كان لها في تحريك الذنب راحة, وفيه منافع أخرى يقصر عنها الوهم فيعرف موقعها في وقت الحاجة إليها, فمن ذلك أن الدابة ترتطم في الوحل، فلا يكون شيء أعون على نهوضها من الأخذ بذنبها. وفي شعر الذنب منافع للناس كثيرة يستعملونها في مآربه, ثم جعل ظهرها مسطحًا مبطوحًا على قوائم أربع ليتمكن من ركوبها, وجعل حياها بارزًا من ورائها ليتمكن الفحل من ضربها, ولو كان أسفل البطن كما كان الفرج من المرأة، لم يتمكن الفحل منها, ألا ترى أنه لا يستطيع أن يأتيها كفاحًا كما يأتي الرجل المرأة

* الفيل ومشفره‏

تأمل مشفر الفيل وما فيه من لطيف التدبير، فإنه يقوم مقام اليد في تناول العلف والماء وازدرادهما إلى جوفه, ولو لا ذلك لما استطاع أن يتناول شيئًا من الأرض لأنه ليست له رقبة يمدها كسائر الأنعام, فلما عدم العنق، أعين مكان ذلك بالخرطوم الطويل ليسدله فيتناول به حاجته. فمن ذا الذي عوضه مكان العضو الذي عدم ما يقوم مقامه إلا الرءوف بخلقه؟ وكيف يكون هذا بالإهمال كما قالت الظلمة؟ فإن قال قائل: فما باله لم يخلق ذا عنق كسائر الأنعام؟ قيل: إن رأس الفيل وأذنيه أمر عظيم وثقل ثقيل، فلو كان ذلك على عنق عظيم لهدها وأوهنها, فجعل رأسه ملصقًا بجسمه لكيلا يناله منه ما وصفناه، وخلق له مكان العنق هذا المشفر ليتناول به غذاءه, فصار مع عدم العنق مستوفيا ما فيه بلوغ حاجته.

* حياء الأنثى من الفيلة

انظر الآن كيف جعل حياء الأنثى من الفيلة في أسفل بطنها، فإذا هاجت للضراب ارتفع وبرز حتى يتمكن الفحل من ضربها, فاعتبر كيف جعل حياء الأنثى من الفيلة على خلاف ما عليه في غيرها من الأنعام, ثم جعلت فيه هذه الخلة ليتهيأ للأمر الذي فيه قوام النسل ودوامه.

* الزرافة وخلقتها وكونها ليست من لقاح أصناف شتى‏

فكر في خلق الزرافة واختلاف أعضائها وشبهها بأعضاء أصناف من الحيوان, فرأسها رأس فرس، وعنقها عنق جمل، وأظلافها أظلاف بقرة، وجلدها جلد نمر, وزعم ناس من الجهال بالله عز وجل أن نتاجها من فحول شتى، قالوا: وسبب ذلك أن أصنافا من حيوان البر إذا وردت الماء تنزو على بعض السائمة وينتج مثل هذا الشخص الذي هو كالملتقط من أصناف شتى. وهذا جهل من قائله، وقلة معرفة بالبارئ جل قدسه. وليس كل صنف من الحيوان يلقح كل صنف، فلا الفرس يلقح الجمل ولا الجمل يلقح البقر، وإنما يكون التلقيح من بعض الحيوان فيما يشاكله ويقرب من خلقه، كما يلقح الفرس الحمار فيخرج بينهما البغل، ويلقح الذئب الضبع فيخرج من بينهما السمع, على أنه ليس يكون في الذي يخرج من بينهما عضو كل واحد منهما، كما في الزرافة عضو من الفرس وعضو من الجمل، وأظلاف من البقرة، بل يكون كالمتوسط بينهما الممتزج منهما، كالذي تراه في البغل، فإنك ترى رأسه وأذنيه وكفله وذنبه وحوافره وسطا بين هذه الأعضاء من الفرس والحمار، وشحيجه كالممتزج من صهيل الفرس ونهيق الحمار. فهذا دليل على أنه ليست الزرافة من لقاح أصناف شتى من الحيوان كما زعم الجاهلون، بل هي خلق عجيب من خلق الله للدلالة على قدرته التي لا يعجزها شيء, وليعلم أنه خالق أصناف الحيوان كلها، يجمع بين ما يشاء من أعضائها في أيها شاء، ويفرق ما شاء منها في أيها شاء، ويزيد في الخلقة ما شاء، وينقص منها ما شاء، دلالة على قدرته على الأشياء، وأنه لا يعجزه شيء أراده جل وتعالى, فأما طول عنقها والمنفعة لها في ذلك، فإن منشأها ومرعاها في غياطل ذوات أشجار شاهقة ذاهبة طولا في الهواء، فهي تحتاج إلى طول العنق لتتناول بفيها أطراف تلك الأشجار فتقوت من ثمارها.

* القرد وخلقته والفرق بينه وبين الإنسان‏

تأمل خلقة القرد وشبهه بالإنسان في كثير من أعضائه, أعني الرأس والوجه والمنكبين والصدر، وكذلك أحشاؤه شبيهة أيضا بأحشاء الإنسان. وخص مع ذلك بالذهن والفطنة التي بها يفهم عن سائسه ما يومئ إليه، ويحكي كثيرا مما يرى الإنسان يفعله، حتى إنه يقرب من خلق الإنسان وشمائله في التدبير في خلقته على ما هي عليه, أن يكون عبرة للإنسان في نفسه، فيعلم أنه من طينة البهائم وسنخها، إذ كان يقرب من خلقها هذا القرب، وأنه لو لا فضيلة فضله بها في الذهن والعقل والنطق، كان كبعض البهائم. على أن في جسم القرد فضولا أخرى تفرق بينه وبين الإنسان، كالخطم والذنب المسدل والشعر المجلل للجسم كله, وهذا لم يكن مانعا للقرد أن يلحق بالإنسان لو أعطي مثل ذهن الإنسان وعقله ونطقه, والفصل الفاصل بينه وبين الإنسان في الحقيقة هو النقص في العقل والذهن والنطق.

* إكساء أجسام الحيوانات وخلقة أقدامها بعكس الإنسان وأسباب ذلك‏

انظر يا مفضل إلى لطف الله جل اسمه بالبهائم، كيف كسيت أجسامها هذه الكسوة من الشعر والوبر والصوف لتقيها من البرد وكثرة الآفات, ألبست الأظلاف والحافر والأخفاف لتقيها من الحفاء، إذ كانت لا أيدي لها ولا أكف ولا أصابع مهيأة للغزل والنسج. فكفوا بأن جعل كسوتهم في خلقهم باقية عليهم ما بقوا، لا يحتاجون إلى تجديدها واستبدال بها, فأما الإنسان، فإنه ذو حيلة وكف مهيأة للعمل، فهو ينسج ويغزل ويتخذ لنفسه الكسوة ويستبدل بها حالا بعد حال, وله في ذلك صلاح من جهات، من ذلك أنه يشتغل بصنعة اللباس عن العبث وما تخرجه إليه الكفاية, ومنها أنه يستريح إلى خلع كسوته إذا شاء ولبسها إذا شاء. ومنها أن يتخذ لنفسه من الكسوة ضروبا لها جمال وروعة، فيتلذذ بلبسها وتبديلها, وكذلك يتخذ بالرفق من الصنعة ضروبا من الخفاف والنعال يقي بها قدميه، وفي ذلك معايش لمن يعمله من الناس ومكاسب يكون فيها معايشهم ومنها أقواتهم وأقوات عيالهم. فصار الشعر والوبر والصوف يقوم للبهائم مقام الكسوة، والأظلاف والحوافر والأخفاف مقام الحذاء.

* مواراة البهائم عند إحساسها بالموت‏

فكر يا مفضل في خلقة عجيبة جعلت في البهائم، فإنهم يوارون أنفسهم إذا ماتوا كما يواري الناس موتاهم. وإلا فأين جيف هذه الوحوش والسباع وغيرها؟ لا يرى منها شيء، وليست قليلة، فتخفى لقلتها, بل لو قال قائل إنها أكثر من الناس لصدق. فاعتبر في ذلك بما تراه في الصحاري والجبال من أسراب الظباء والمها والحمير الوحشية والوعول والأيائل وغير ذلك من الوحوش وأصناف السباع من الأسد والضباع والذئاب والنمور وغيرها، وضروب الهوام والحشرات ودواب الأرض, وكذلك أسراب الطير من الغربان والقطاة والإوز والكراكي والحمام وسباع الطير جميعًا, وكلها لا يرى منها إذا ماتت إلا الواحد بعد الواحد، يصيده قانص أو يفترسه سبع, فإذا أحسوا بالموت كمنوا في مواضع خفية، فيموتون فيها. ولو لا ذلك لامتلأت الصحاري منها حتى تفسد رائحة الهواء وتحدث الأمراض والوباء, فانظر إلى هذا بالذي يخلص إليه الناس وعملوه بالتمثيل الأول الذي مثل لهم، كيف جعل طبعا وإذكارا في البهائم وغيرها ليسلم الناس من معرة ما يحدث عليهم من الأمراض والفساد.

* الفطن التي جعلت في البهائم الأيل والثعلب والدلفين‏

فكر يا مفضل في الفطن التي جعلت في البهائم لمصلحتها بالطبع والخلقة، لطفًا من الله عز وجل لهم لئلا يخلو من نعمه جل وعز أحد من خلقه لا بعقل وروية, فإن الأيل يأكل الحيات فيعطش عطشًا شديدًا فيمتنع من شرب الماء خوفًا من أن يدب السم في جسمه فيقتله, ويقف على الغدير وهو مجهود عطشًا فيعج عجيجًا عالياً ولا يشرب منه, ولو شرب لمات من ساعته, فانظر إلى ما جعل من طباع هذه البهيمة من تحمل الظمأ الغالب الشديد خوفًا من المضرة في الشرب, وذلك مما لا يكاد الإنسان العاقل المميز يضبطه من نفسه, والثعلب إذا أعوزه الطعم تماوت ونفخ بطنه حتى يحسبه الطير ميتًا, فإذا وقعت عليه لتنهشه، وثب عليها فأخذها, فمن أعان الثعلب العديم النطق والروية بهذه الحيلة إلا من توكل بتوجيه الرزق له من هذا وشبهه؟ فإنه لما كان الثعلب يضعف عن كثير مما تقوى عليه السباع من مساورة الصيد، أعين بالدهاء والفطنة والاحتيال لمعاشه, والدلفين يلتمس صيد الطير، فيكون حيلته في ذلك أن يأخذ السمك فيقتله ويسرحه حتى يطفو على الماء، ثم يكمن تحته ويثور الماء الذي عليه حتى لا يتبين شخصه, فإذا وقع الطير على السمك الطافي، وثب إليها فاصطادها, فانظر إلى هذه الحيلة كيف جعلت طبعا في هذه البهيمة لبعض المصلحة.

* التنين والسحاب‏

قال المفضل: فقلت: أخبرني يا مولاي عن التنين والسحاب, فقال ×: إن السحاب كالموكل به، يختطفه حيثما ثقفه، كما يختطف حجر المغناطيس الحديد فهو لا يطلع رأسه في الأرض خوفًا من السحاب، ولا يخرج إلا في القيظ مرة إذا صحت السماء فلم يكن فيها نكتة من غيمة قلت: فلم وكل السحاب بالتنين يرصده ويختطفه إذا وجده؟ قال: ليدفع عن الناس مضرته.

* في الذرة والنمل وأسد الذباب والعنكبوت وطبائع كل منهما

قال المفضل: فقلت: قد وصفت لي يا مولاي من أمر البهائم ما فيه معتبر لمن اعتبر، فصف لي الذرة والنملة والطير, فقال ×: يا مفضل، تأمل وجه الذرة الحقيرة الصغيرة، هل تجد فيها نقصًا عما فيه صلاحها؟ فمن أين هذا التقدير والصواب في خلق الذرة إلا من التدبير القائم في صغير الخلق وكبيره؟ انظر إلى النمل واحتشاده في جمع القوت وإعداده، فإنك ترى الجماعة منها إذا نقلت الحب إلى زبيتها بمنزلة جماعة من الناس ينقلون الطعام أو غيره, بل للنمل في ذلك من الجد والتشمير ما ليس للناس مثله, أما تراهم يتعاونون على النقل كما يتعاون الناس على العمل؟ ثم يعمدون إلى الحب فيقطعونه قطعًا لكيلا ينبت فيفسد عليهم. فإن أصابه ندى أخرجوه فنشروه حتى يجف. ثم لا يتخذ النمل الزبية إلا في نشز من الأرض كيلا يفيض السيل فيغرقها, وكل هذا منه بلا عقل ولا روية، بل خلقة خلق عليها لمصلحة من الله جل وعز. انظر إلى هذا الذي يقال له الليث وتسميه العامة أسد الذباب، وما أُعطي من الحيلة والرفق في معاشه. فإنك تراه حين يحس بالذباب قد وقع قريبًا منه، تركه مليًا حتى كأنه موات لا حراك به, فإذا رأى الذباب قد اطمأن وغفل عنه، دب دبيبًا دقيقًا حتى يكون منه بحيث تناله. ثم يثب عليه فيأخذه, فإذا أخذه، اشتمل عليه بجسمه كله مخافة أن ينجو منه, فلا يزال قابضًا عليه حتى يحس بأنه قد ضعف واسترخى، ثم يقبل عليه فيفترسه ويحيا بذلك منه. فأما العنكبوت، فإنه ينسج ذلك النسج فيتخذه شركًا ومصيدة للذباب, ثم يكمن في جوفه، فإذا نشب فيه الذباب، أحال عليه يلدغه ساعة بعد ساعة فيعيش بذلك منه. فذلك يحكي صيد الكلاب والفهود، وهذا يحكي صيد الأشراك والحبائل, فانظر إلى هذه الدويبة الضعيفة، كيف جعل في طبعها ما لا يبلغه الإنسان إلا بالحيلة واستعمال الآلات فيها. فلا تزدري بالشيء إذا كانت العبرة فيه واضحة، كالذرة والنملة وما أشبه ذلك, فإن المعنى النفيس قد يمثل بالشيء الحقير، فلا يضع منه ذلك كما لا يضع من الدينار وهو من ذهب أن يوزن بمثقال من حديد.

* جسم الطائر وخلقته‏

تأمل يا مفضل جسم الطائر وخلقته، فإنه حين قدر أن يكون طائرًا في الجو، خفف جسمه وأدمج خلقه، واقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين، ومن الأصابع الخمس على أربع، ومن منفذين للزبل والبول على واحد يجمعهما. ثم خلق ذا جؤجؤ محدد ليسهل عليه أن يخرق الهواء كيف ما أخذ فيه، كما جعلت السفينة بهذه الهيئة لتشق الماء وتنفذ فيه. وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متانة لينهض بها للطيران، وكسا (كسي) كله الريش ليتداخله الهواء فيقله. ولما قدر أن يكون طعمه الحب واللحم، يبلعه بلعًا بلا مضغ، نقص من خلقة الإنسان وخلق له منقارًا صلبًا جاسيًا يتناول به طعمه فلا ينسحج من لقط الحب ولا يتقصف من نهش اللحم. ولما عدم الأسنان وصار يزدرد الحب صحيحًا واللحم غريضا، أعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغني به عن المضغ. واعتبر ذلك بأن عجم العنب وغيره يخرج من أجواف الإنس صحيحًا، ويطحن في أجواف الطير لا يرى له أثر, ثم جعل مما يبيض بيضًا ولا يلد ولادة لكيلا يثقل عن الطيران، فإنه لو كانت الفراخ في جوفه تمكث حتى تستحكم لأثقلته وعاقته عن النهوض والطيران, فجعل كل شيء من خلقه مشاكلا للأمر الذي قدر أن يكون عليه. ثم صار الطائر السائح في هذا الجو يقعد على بيضه فيحضنه أسبوعًا، وبعضها أسبوعين، وبعضها ثلاثة أسابيع حتى يخرج الفرخ من البيضة, ثم يقبل عليه فيزقه الريح لتتسح (لتتسع) حوصلته للغذاء, ثم يربيه ويغذيه بما يعيش به, فمن كلفه أن يلقط الطعم والحب يستخرجه بعد أن يستقر في حوصلته ويغذو به فراخه, ولأي معنى يحتمل هذه المشقة، وليس بذي روية ولا تفكر، ولا يأمل في فراخه ما يؤمل الإنسان في ولده من العز والرفد وبقاء الذكر, فهذا من فعله يشهد أنه معطوف على فراخه، لعله لا يعرفها ولا يفكر فيها. وهي دوام النسل وبقاؤه لطفًا من الله تعالى ذكره.

* الدجاجة وتهيجها لحضن البيض والتفريخ‏

انظر إلى الدجاجة كيف تهيج لحضن البيض والتفريخ، وليس لها بيض مجتمع ولا وكر موطأ، بل تنبعث وتنتفخ وتقوى (تقوقي) وتمتنع من الطعم حتى يجمع لها البيض فتحضنه وتفرخ, فلم كان ذلك منها إلا لإقامة النسل؟ ومن أخذها بإقامة النسل؟ ولا روية لها ولا تفكير، لولا أنها مجبولة على ذلك.

* خلق البيضة والتدبير في ذلك‏

اعتبر بخلق البيضة وما فيها من المح الأصفر الخاثر والماء الأبيض الرقيق. فبعضه ينشأ منه الفرخ، وبعضه ليغتذي به إلى أن تنقاب عنه البيضة. وما في ذلك من التدبير، فإنه لو كان نشوء الفرخ في تلك القشرة المستحفظة التي لا مساغ لشيء إليها، لجعل معه في جوفها من الغذاء ما يكتفي به إلى وقت خروجه منها، كمن يحبس في حبس حصين لا يوصل إلى من فيه، فيجعل معه من القوت ما يكتفي به إلى وقت خروجه منه.

* حوصلة الطائر

فكر يا مفضل في حوصلة الطائر وما قدر له، فإن مسلك الطعم إلى القانصة ضيق لا ينفذ فيه الطعام إلا قليلا قليلا, فلو كان الطائر لا يلقط حبة ثانية حتى تصل الأولى إلى القانصة، لطال عليه, ومتى كان يستوفي طعمه، فإنما يختلسه اختلاسا لشدة الحذر. فجعلت له الحوصلة كالمخلاة المعلقة أمامه ليوعي فيها ما أدرك من الطعم بسرعة، ثم تنفذه إلى القانصة على مهل, وفي الحوصلة أيضا خلة أخرى، فإن من الطائر ما يحتاج إلى أن يزق فراخه، فيكون رده للطعم من قرب أسهل عليه.

* اختلاف ألوان الطير وعلة ذلك‏

قال المفضل: فقلت: إن قوما من المعطلة يزعمون أن اختلاف الألوان والأشكال في الطير إنما يكون من قبل امتزاج الأخلاط واختلاف مقاديرها المرج (بالمرج) والإهمال, قال ×: يا مفضل، هذا الوشي الذي تراه في الطواويس والدراج والتدارج على استواء ومقابلة، كنحو ما يخط بالأقلام، كيف يأتي به الامتزاج المهمل على شكل واحد لا يختلف؟ لو كان بالإهمال لعدم الاستواء ولكان مختلفا.

* ريش الطائر ووصفه‏

تأمل ريش الطير كيف هو، فإنك تراه منسوجًا كنسج الثوب من سلوك دقاق قد ألف بعضه إلى بعض كتأليف الخيط إلى الخيط والشعرة إلى الشعرة, ثم ترى ذلك النسج إذا مددته ينفتح قليلاً ولا ينشق لتداخله الريح، فيقل الطائر إذا طار, وترى في وسط الريشة عمودًا غليظًا متينًا قد نسج عليه الذي هو مثل الشعر ليمسكه بصلابته، وهو القصبة التي في وسط الريشة، وهو مع ذلك أجوف ليخف على الطائر ولا يعوقه عن الطيران.

* الطائر الطويل الساقين والتدبير في ذلك‏

هل رأيت يا مفضل هذا الطائر الطويل الساقين؟ وعرفت ما له من المنفعة في طول ساقيه؟ فإنه أكثر ذلك في ضحضاح من الماء، فتراه بساقين طويلين كأنه ربيئة فوق مرقب، وهو يتأمل ما يدب في الماء. فإذا رأى شيئًا مما يتقوت به، خطا خطوات رقيقًا حتى يتناوله. ولو كان قصير الساقين وكان يخطو نحو الصيد ليأخذه، يصيب بطنه الماء فيثور ويذعر منه فيفرق عنه. فخلق له ذلك العمودان ليدرك بهما حاجته ولا يفسد عليه مطلبه, تأمل ضروب التدبير في خلق الطائر، فإنك تجد كل طائر طويل الساقين طويل العنق، وذلك ليتمكن من تناول طعمه من الأرض. ولو كان طويل الساقين قصير العنق لما استطاع أن يتناول شيئًا من الأرض. وربما أُعين مع العنق بطول المناقير ليزداد الأمر عليه سهولة وإمكانًا, ألا ترى أنك لا تفتش شيئًا من الخلقة إلا وجدته على غاية الصواب والحكمة؟

* العصافير وطلبها للأكل‏

انظر إلى العصافير كيف تطلب أكلها بالنهار، فهي لا تفقده ولا تجده مجموعًا معدًا، بل تناله بالحركة والطلب. وكذلك الخلق كله. فسبحان من قدر الرزق، كيف فرقه فلم يجعل مما لا يقدر عليه، إذ جعل بالخلق حاجة إليه، ولم يجعل مبذولًا ينال بالهوينا، إذ كان لا صلاح في ذلك. فإنه لو كان يوجد مجموعًا معدًا، كانت البهائم تنقلب عليه ولا تنقع عنه حتى تبشم، فتهلك, وكان الناس أيضًا يصيرون بالفراغ إلى غاية الأشر والبطر، حتى يكثر الفساد وتظهر الفواحش.

* معاش البوم والهام والخفاش‏

أعلمت ما طعم هذه الأصناف من الطير التي لا تخرج إلا بالليل، كمثل البوم والهام والخفاش؟ قلت: لا يا مولاي، قال: إن معاشها من ضروب تنتشر في الجو من البعوض والفراش وأشباه الجراد واليعاسيب, وذلك أن هذه الضروب مبثوثة في الجو، لا يخلو منها موضع, واعتبر ذلك بأنك إذا وضعت سراجًا بالليل في سطح أو عرصة دار، اجتمع عليه من هذه الضروب شيء كثير, فمن أين يأتي ذلك كله إلا من القرب؟ فإن قال قائل: إنه يأتي من الصحاري والبراري، قيل له: كيف يوافي تلك الساعة من موضع بعيد؟ وكيف يبصر من ذلك البعد سراجًا في دار محفوفة بالدور فيقصد إليه؟ مع أن هذه عيانًا تتهافت على السراج من قرب، فيدل ذلك على أنها منتشرة في كل موضع من الجو, فهذه الأصناف من الطير تلتمسها إذا خرجت فتتقوت بها, فانظر كيف وجه الرزق لهذه الطيور التي لا تخرج إلا بالليل من هذه الضروب المنتشرة في الجو, واعرف ذلك المعنى في خلق هذه الضروب المنتشرة التي عسى أن يظن ظان أنها فضل لا معنى له.

* خلقة الخفاش‏

خلق الخفاش خلقة عجيبة بين خلقة الطير وذوات الأربع، هو إلى ذوات الأربع أقرب. وذلك أنه ذو أذنين ناشزتين، وأسنان، ووبر، وهو يلد ولادة، ويرضع، ويبول، ويمشي إذا مشى على أربع. وكل هذا خلاف صفة الطير. ثم هو أيضًا مما يخرج بالليل ويتقوت بما يسري في الجو من الفراش وما أشبهه. وقد قال قائلون إنه لا طعم للخفاش، وإن غذاءه من النسيم وحده، وذلك يفسد ويبطل من جهتين: أحدهما خروج الثفل والبول منه، فإن هذا لا يكون من غير طعم، والأخرى أنه ذو أسنان، ولو كان لا يطعم شيئًا لم يكن للأسنان فيه معنى, وليس في الخلقة شيء لا معنى له, وأما المآرب فيه فمعروفة، حتى أن زبله يدخل في بعض الأعمال, ومن أعظم الإرب فيه خلقته العجيبة الدالة على قدرة الخالق جل ثناؤه وتصرفها فيما شاء كيف شاء لضرب من المصلحة.

* حيلة الطائر أبو نمرة بالحسكة ومنفعتها

فأما الطائر الصغير الذي يقال له ابن نمرة (تمرة)، فقد عشش في بعض الأوقات في بعض الشجر. فنظر إلى حية عظيمة قد أقبلت نحو عشه، فاغرة فاها تبغيه لتبتلعه, فبينما هو يتقلب ويضطرب في طلب حيلة منها، إذ وجد حسكة، فحملها فألقاها في فم الحية. فلم تزل الحية تلتوي وتتقلب حتى ماتت, أفرأيت لو لم أخبرك بذلك، هل كان يخطر ببالك أو ببال غيرك أنه يكون من حسكة مثل هذه المنفعة، أو يكون من طائر صغير أو كبير مثل هذه الحيلة؟ اعتبر بهذا، فكثير من الأشياء يكون فيها منافع لا تعرف إلا بحادث يحدث أو خبر يسمع به.

* النحل عسله وبيوته‏

انظر إلى النحل واحتشاده في صنعة العسل وتهيئة البيوت المسدسة، وما ترى في ذلك من دقائق الفطنة. فإنك إذا تأملت العمل، رأيته عجيبا لطيفا، وإذا رأيت المعمول، وجدته عظيما شريفا. موقعه من الناس عظيم. وإذا رجعت إلى الفاعل، ألفيته غبيا جاهلا بنفسه، [17] فضلا عما سوى ذلك, ففي هذا أوضح الدلالة على أن الصواب والحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل، بل هي للذي طبعه عليها وسخره فيها لمصلحة الناس.

* الجراد وبلاؤه‏

انظر إلى هذا الجراد، ما أضعفه وأقواه. فإنك إذا تأملت خلقه، رأيته كأضعف الأشياء, وإن دلفت عساكره نحو بلد من بلدان، لم يستطع أحد أن يحميه منه, ألا ترى أن ملكا من ملوك الأرض لو جمع خيله ورجله ليحمي بلاده من الجراد لم يقدر على ذلك؟ أفليس من الدلائل على قدرة الخالق أن يبعث أضعف خلقه إلى أقوى خلقه فلا يستطيع دفعه؟

* كثرة الجراد

انظر إليه كيف ينساب على وجه الأرض مثل السيل، فيغشى السهل والجبل، والبدو والحضر، حتى يستر نور الشمس بكثرته. فلو كان هذا مما يصنع بالأيدي، متى كان تجتمع منه هذه الكثرة؟ وفي كم سنة كان يرتفع؟ فاستدل بذلك على القدرة التي لا يؤدها شيء ولا يكثر عليها.

* وصف السمك:

تأمل خلق السمك ومشاكلته للأمر الذي قدر أن يكون عليه. فإنه خلق غير ذي قوائم لأنه لا يحتاج إلى المشي، إذ كان مسكنه الماء. وخلق غير ذي رية لأنه لا يستطيع أن يتنفس وهو منغمس في اللجة. وجعلت له مكان القوائم أجنحة شداد يضرب بها في جانبيه كما يضرب الملاح بالمجاذيف من جانبي السفينة. وكسا جسمه قشورا متانا متداخلة كتداخل الدروع والجواشن لتقيه من الآفات. فأعين بفضل حس في الشم، لأن بصره ضعيف والماء يحجبه. فصار يشم الطعم من البعد البعيد فينتجعه فيتبعه، وإلا فكيف يعلم به وبموضعه؟ واعلم أن من فيه إلى صماخه منافذ، فهو يعب الماء بفيه ويرسله من صماخيه فيتروح إلى ذلك كما يتروح غيره من الحيوان إلى تنسم هذا النسيم.

* كثرة نسل السمك وعلة ذلك‏

فكر الآن في كثرة نسله وما خص به من ذلك. فإنك ترى في جوف السمكة الواحدة من البيض ما لا يحصى كثرة، والعلة في ذلك أن يتسع لما يغتذي به من أصناف الحيوان, فإن أكثرها يأكل السمك، حتى إن السباع أيضًا في حافات الآجام عاكفة على الماء، كي ترصد السمك، فإذا مر بها خطفته. فلما كانت السباع تأكل السمك، والطير يأكل السمك، والناس يأكلون السمك، والسمك يأكل السمك، كان من التدبير فيه أن يكون على ما هو عليه من الكثرة.

* سعة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين‏

فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين، فانظر إلى ما في البحار من ضروب السمك ودواب الماء والأصداف والأصناف التي لا تحصى ولا تعرف منافعها إلا الشيء بعد الشيء، يدركه الناس بأسباب تحدث، مثل القرمز. فإنه لما عرف الناس صبغه بأن كلبة تجول على شاطئ البحر فوجدت شيئًا من الصنف الذي يسمى الحلزون، فأكلته فاختضب خطمها بدمه. فنظر الناس إلى حسنه فاتخذوه صبغًا، وأشباه هذا مما يقف الناس عليه حالًا بعد حال وزمانًا بعد زمان, قال المفضل: وحان وقت الزوال، فقام مولاي × إلى الصلاة وقال: بكر إلي غدًا إن شاء الله تعالى, فانصرفت وقد تضاعف سروري بما عرفنيه، مبتهجًا بما منحنيه، حامدًا لله على ما آتانيه. فبت ليلتي مسرورًا مبتهجًا.

 

* المجلس الثالث‏

فلما كان اليوم الثالث، بكرت إلى مولاي، فاستؤذن لي، فدخلت، فأذن لي بالجلوس، فجلست. فقال ×: الحمد لله الذي اصطفانا ولم يصطف علينا، اصطفانا بعلمه وأيدنا بحلمه, من شذ عنا فالنار مأواه، ومن تفيأ بظل دوحتنا فالجنة مثواه, قد شرحت لك يا مفضل خلق الإنسان وما دبر به، وتنقله في أحواله، وما فيه من الاعتبار, وشرحت لك أمر الحيوان، وأنا أبتدئ الآن بذكر السماء والشمس والقمر والنجوم والفلك والليل والنهار، والحر والبرد، والرياح والجواهر الأربعة: الأرض والماء والهواء والنار، والمطر والصخر والجبال والطين والحجارة والنخل والشجر، وما في ذلك من الأدلة والعبر.

* لون السماء وما فيه من صواب التدبير

فكر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير، فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة وتقوية للبصر، حتى إن من صفات الأطباء لمن أصابه شيء أضر ببصره إدمان النظر إلى الخضرة وما قرب منها إلى السواد, وقد وصف الحذاق منهم لمن كَلَّ بصره الاطلاع في إجانة خضراء مملوءة ماء, فانظر كيف جعل الله جل وتعالى أديم السماء بهذا اللون الأخضر إلى السواد، ليمسك الأبصار المتقلبة عليه، فلا ينكأ فيها بطول مباشرتها له, فصار هذا الذي أدركه الناس بالفكر والروية والتجارب يوجد مفروغاً منه في الخلقة, {حكمة بالغة} ليعتبر بها المعتبرون ويفكر فيها الملحدون, {قاتلهم الله أنى يؤفكون}

* طلوع الشمس وغروبها والمنافع في ذلك‏

فكر يا مفضل في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتي النهار والليل، فلو لا طلوعها لبطل أمر العالم كله، فلم يكن الناس يسعون في معايشهم ويتصرفون في أمورهم والدنيا مظلمة عليهم، ولم يكونوا يتهنون بالعيش مع فقدهم لذة النور وروحه. والإرب في طلوعها ظاهر مستغنٍ بظهوره عن الإطناب في ذكره والزيادة في شرحه. بل تأمل المنفعة في غروبها، فلو لا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع عظم حاجتهم إلى الهدوء والراحة لسكون أبدانهم وجموم حواسهم، وانبعاث القوة الهاضمة لهضم الطعام وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء. ثم كان الحرص يستحملهم من مداومة العمل ومطاولته على ما يعظم نكايته في أبدانهم. فإن كثيراً من الناس، لو لا جثوم هذا الليل بظلمته عليهم، لم يكن لهم هدوء ولا قرار حرصاً على الكسب والجمع والادخار. ثم كانت الأرض تستحمى بدوام الشمس بضيائها، ويحمى كل ما عليها من حيوان ونبات. فقدرها الله بحكمته وتدبيره تطلع وقتاً وتغرب وقتاً، بمنزلة سراج يرفع لأهل البيت تارة ليقضوا حوائجهم، ثم يغيب عنهم مثل ذلك ليهدؤوا ويقروا. فصار النور والظلمة، مع تضادهما، منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه.

* التدبير والمصلحة في الفصول الأربعة من السنة

ثم فكر بعد هذا في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة، وما في ذلك من التدبير والمصلحة. ففي الشتاء، تعود الحرارة في الشجر والنبات فيتولد فيهما مواد الثمار، ويتكثف الهواء فينشأ منه السحاب والمطر، وتشتد أبدان الحيوان وتقوى. وفي الربيع، تتحرك وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات وتنور الأشجار، ويهيج الحيوان للسفاد. وفي الصيف، يحتدم الهواء فتنضج الثمار، وتتحلل فضول الأبدان، ويجف وجه الأرض فتهيأ للبناء والأعمال. وفي الخريف، يصفو الهواء وترتفع الأمراض، وتصح الأبدان، ويمتد الليل فيمكن فيه بعض الأعمال لطوله، ويطيب الهواء فيه إلى مصالح أخرى لو تقصيت لذكرها لطال فيها الكلام.[18]

* معرفة الأزمنة والفصول الأربعة عن طريق حركة الشمس‏

فكر الآن في تنقل الشمس في البروج الاثني عشر لإقامة دور السنة وما في ذلك من التدبير, فهو الدور الذي تصح به الأزمنة الأربعة من السنة: الشتاء والربيع والصيف والخريف، تستوفيها على التمام, وفي هذا المقدار من دوران الشمس تدرك الغلات والثمار وتنتهي إلى غاياتها، ثم تعود فيستأنف النشو والنمو. ألا ترى أن السنة مقدار مسير الشمس من الحمل إلى الحمل؟ فبالسنة وأخواتها يكال الزمان من لدن خلق الله تعالى العالم إلى كل وقت وعصر من غابر الأيام. وبها يحسب الناس الأعمار والأوقات الموقتة للديون والإجارات والمعاملات وغير ذلك من أمورهم. وبمسير الشمس تكمل السنة ويقوم حساب الزمان على الصحة, انظر إلى شروقها على العالم كيف دبر أن يكون. فإنها لو كانت تبزغ في موضع من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها ومنفعتها إلى كثير من الجهات، لأن الجبال والجدران كانت تحجبها عنها. فجعلت تطلع أول النهار من المشرق فتشرق على ما قابلها من وجه المغرب، ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى المغرب فتشرق على ما استتر عنها في أول النهار. فلا يبقى موضع من المواضع إلا أخذ بقسطه من المنفعة منها والإرب التي قدرت له. ولو تخلفت مقدار عام أو بعض عام، كيف كان يكون حالهم؟ بل كيف كان يكون لهم مع ذلك بقاء؟ أفلا ترى كيف كان يكون للناس هذه الأمور الجليلة التي لم يكن عندهم فيها حيلة؟ فصارت تجري على مجاريها لا تعتل ولا تتخلف عن مواقيتها لصلاح العالم وما فيه بقاؤه.

* الاستدلال بالقمر في معرفة الشهور

استدل بالقمر ففيه دلالة جليلة تستعملها العامة في معرفة الشهور. ولا يقوم عليه حساب السنة لأن دوره لا يستوفي الأزمنة الأربعة ونشو الثمار وتصرمها، ولذلك صارت شهور القمر وسنوه تتخلف عن شهور الشمس وسنيها. وصار الشهر من شهور القمر ينتقل فيكون مرة بالشتاء ومرة بالصيف.

* ضوء القمر وما فيه من المنافع‏

فكر في إنارته في ظلمة الليل، والإرب في ذلك. فإنه مع الحاجة إلى الظلمة لهدوء الحيوان، وبرد الهواء على النبات، لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمة داجية لا ضياء فيها، فلا يمكن فيه شيء من العمل. لأنه ربما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في بعض الأعمال في النهار، ولشدة الحر وإفراطه. فيعمل في ضوء القمر أعمالًا شتى، كحرث الأرض، وضرب اللبن، وقطع الخشب، وما أشبه ذلك. فجعل ضوء القمر معونة للناس على معايشهم إذا احتاجوا إلى ذلك، وأنسا للسائرين. وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض، ونقص مع ذلك عن نور الشمس وضيائها؛ لكيلا ينبسط الناس في العمل انبساطهم بالنهار، ويمتنعوا من الهدوء والقرار، فيهلكهم ذلك. وفي تصرف القمر خاصة، في مهله، ومحاقه، وزيادته، ونقصانه، وكسوفه، من التنبيه على قدرة الله تعالى، خالقه، المصرف له هذا التصريف لصلاح العالم. ما يعتبر به المعتبرون.

* النجوم واختلاف مسيرها والسبب في أن بعضها راتبة والأخرى منتقلة

فكر يا مفضل في النجوم واختلاف مسيرها، فبعضها لا تفارق مراكزها[19] من الفلك ولا تسير إلا مجتمعة، وبعضها مطلقة [20] تنتقل في البروج وتفترق في مسيرها. فكل واحد منها يسير سيرين مختلفين: أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب، والآخر خاص لنفسه نحو المشرق، كالنملة التي تدور على الرحى. فالرحى تدور ذات اليمين، والنملة تدور ذات الشمال. والنملة في ذلك تتحرك حركتين مختلفتين: إحداهما بنفسها فتتوجه أمامها، والأخرى مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها, فاسأل الزاعمين أن النجوم صارت على ما هي عليه بالإهمال من غير عمد ولا صانع لها، ما منعها أن تكون كلها راتبة أو تكون كلها منتقلة؟ فإن الإهمال معنى واحد.[21] فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن وتقدير؟ ففي هذا بيان أن مسير الفريقين على ما يسيران عليه بعمد وتدبير وحكمة وتقدير، وليس بإهمال كما يزعم المعطلة, فإن قال قائل: ولم صار بعض النجوم راتبًا وبعضها منتقلًا؟ قلنا: إنها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالات التي يستدل بها من تنقل المنتقلة، ومسيرها في كل برج من البروج، كما يستدل بها على أشياء مما يحدث في العالم بتنقل الشمس والنجوم في منازلها, ولو كانت كلها منتقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف ولا رسم يوقف عليه، لأنه إنما يوقف عليه بمسير المنتقلة منها بتنقلها في البروج الراتبة،[22] كما يستدل على سير السائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها, ولو كان تنقلها بحال واحد لاختلط نظامها، وبطلت المآرب فيها. ولساغ لقائل أن يقول: إن كينونتها على حال واحدة توجب عليها الإهمال من الجهة التي وصفنا. ففي اختلاف سيرها وتصرفها، وما في ذلك من المآرب والمصلحة، أبين دليل على العمد والتدبير فيها.

* فوائد بعض النجوم‏

فكر في هذه النجوم التي تظهر في بعض السنة وتحتجب في بعضها، كمثل الثريا والجوزاء والشعريين وسهيل،[23] فإنها لو كانت بأسرها تظهر في وقت واحد لم يكن لواحد فيها على حياله دلالات يعرفها الناس ويهتدون بها لبعض أمورهم، كمعرفتهم الآن بما يكون من طلوع الثور والجوزاء إذا طلعت، واحتجابها إذا احتجبت. فصار ظهور كل واحد واحتجابه في وقت غير الوقت الآخر، لينتفع الناس بما يدل عليه كل واحد منها على حدته, وما جعلت الثريا وأشباهها تظهر حينا وتحتجب حينا إلا لضرب من المصلحة، وكذلك جعلت بنات نعش ظاهرة لا تغيب لضرب آخر من المصلحة. فإنها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس في البر والبحر للطرق المجهولة، وكذلك إنها لا تغيب ولا تتوارى، فهم ينظرون إليها متى أرادوا أن يهتدوا بها إلى حيث شاءوا, وصار الأمران جميعًا على اختلافهما موجهين نحو الإرب والمصلحة, وفيهما مآرب أخرى، علامات ودلالات على أوقات كثيرة من الأعمال، كالزراعة والغراس والسفر في البر والبحر، وأشياء مما يحدث في الأزمنة من الأمطار والرياح والحر والبرد, وبها يهتدي السائرون في ظلمة الليل لقطع القفار الموحشة واللجج الهائلة، مع ما في ترددها في كبد السماء، مقبلة ومدبرة، ومشرقة ومغربة من العبر, فإنها تسير أسرع السير وأحثه, أرأيت لو كانت الشمس والقمر والنجوم بالقرب منا حتى يتبين لنا سرعة سيرها بكنه ما هي عليه؟ ألم تكن تستخطف الأبصار بوهجها وشعاعها، كالذي يحدث أحيانًا من البروق إذا توالت واضطرمت في الجو؟ وكذلك أيضًا لو أن أناسا كانوا في قبة مكللة بمصابيح تدور حولهم دورانا حثيثًا، لحارت أبصارهم حتى يخروا لوجوههم. فانظر كيف قدر أن يكون مسيرها في البعد البعيد، لكيلا تضر في الأبصار وتنكأ فيها, وبأسرع السرعة لكيلا تتخلف عن مقدار الحاجة في مسيرها. وجعل فيها جزءًا يسيرًا من الضوء، ليسد مسد الأضواء إذا لم يكن قمر، ويمكن فيه الحركة إذا حدثت ضرورة، كما قد يحدث الحادث على المرء فيحتاج إلى التجافي في جوف الليل. فإن لم يكن شيء من الضوء يهتدى به لم يستطع أن يبرح مكانه, فتأمل اللطف والحكمة في هذا التقدير، حين جعل للظلمة دولة ومدة لحاجة إليها، وجعل خلالها شيء من الضوء للمآرب التي وصفنا.

* الشمس والقمر والنجوم والبروج تدل على الخالق‏

فكر في هذا الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه تدور على العالم هذا الدوران الدائم بهذا التقدير والوزن لما في اختلاف الليل والنهار وهذه الأزمان الأربعة المتوالية من التنبيه على الأرض وما عليها من أصناف الحيوان والنبات من ضروب المصلحة، كالذي بينت وشخصت لك آنفًا. وهل يخفى على ذي لب أن هذا تقدير مقدر وصواب وحكمة من مقدر حكيم؟ فإن قال قائل: إن هذا شيء اتفق أن يكون هكذا، فما منعه أن يقول مثل هذا في دولاب يراه يدور ويسقي حديقة فيها شجر ونبات، فيرى كل شيء من آلاته مقدرًا بعضه يلقى بعضًا على ما فيه صلاح تلك الحديقة وما فيها؟ وبم كان يثبت هذا القول لو قاله؟ وما ترى الناس كانوا قائلين له لو سمعوه منه؟ أفينكر أن يقول في دولاب خشب مصنوع بحيلة قصيرة لمصلحة قطعة من الأرض أنه كان بلا صانع ومقدر؟ ويقدر أن يقول في هذا الدولاب الأعظم المخلوق بحكمة تقصر عنها أذهان البشر لصلاح جميع الأرض وما عليها أنه شيء اتفق أن يكون بلا صنعة ولا تقدير؟ لو اعتل هذا الفلك كما تعتل الآلات التي تتخذ للصناعات وغيرها، أي شيء كان عند الناس من الحيلة في إصلاحه؟

* مقادير الليل والنهار

فكر يا مفضل في مقادير النهار والليل كيف وقعت على ما فيه صلاح هذا الخلق، فصار منتهى كل واحد منهما إذا امتد إلى خمس عشرة ساعة لا يجاوز ذلك,[24] أفرأيت لو كان النهار يكون مقداره مائة ساعة أو مائتي ساعة؟ ألم يكن في ذلك بوار كل ما في الأرض من حيوان ونبات؟ أما الحيوان فكان لا يهدأ ولا يقر طول هذه المدة، ولا البهائم كانت تمسك عن الرعي لو دام لها ضوء النهار، ولا الإنسان كان يفتر عن العمل والحركة، وكان ذلك ينهكها أجمع ويؤديها إلى التلف. وأما النبات فكان يطول عليه حر النهار ووهج الشمس حتى يجف ويحترق، كذلك الليل لو امتد مقدار هذه المدة كان يعوق أصناف الحيوان عن الحركة والتصرف في طلب المعاش حتى تموت جوعًا، وتخمد الحرارة الطبيعية عن النبات حتى يعفن ويفسد، كالذي تراه يحدث على النبات إذا كان في موضع لا تطلع عليه الشمس.

* الحر والبرد وفوائدهما

اعتبر بهذا الحر والبرد كيف يتعاوران العالم ويتصرفان هذا التصرف في الزيادة والنقصان والاعتدال لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة وما فيهما من المصالح، ثم هما بعد دباغ الأبدان التي عليها بقاؤها وفيهما صلاحها, فإنه لو لا الحر والبرد وتداولهما الأبدان لفسدت وأخوت وانتكثت. فكر في دخول أحدهما على الآخر بهذا التدريج والترسل، فإنك ترى أحدهما ينقص شيئًا بعد شيء، والآخر يزيد مثل ذلك حتى ينتهي كل واحد منهما منتهاه في الزيادة والنقصان, ولو كان دخول أحدهما على الآخر مفاجأة لأضر ذلك بالأبدان وأسقمها، كما أن أحدكم لو خرج من حمام حار إلى موضع البرودة لضره ذلك وأسقم بدنه. فلم يجعل الله عز وجل هذا الترسل في الحر والبرد إلا للسلامة من ضرر المفاجأة, ولم يجرِ الأمر على ما فيه السلامة من ضرر المفاجأة لو لا التدبير في ذلك, فإن زعم زاعم أن هذا الترسل في دخول الحر والبرد إنما يكون لإبطاء مسير الشمس في ارتفاعها وانحطاطها، سئل عن العلة في إبطاء مسير الشمس في ارتفاعها وانحطاطها, فإن اعتل في الإبطاء ببعد ما بين المشرقين، سئل عن العلة في ذلك. فلا تزال هذه المسألة ترقى معه إلى حيث رقي من هذا القول حتى استقر على العمد والتدبير. لو لا الحر لما كانت الثمار الجاسية المرة تنضج فتلين وتعذب حتى يتفكه بها رطبة ويابسة, ولو لا البرد لما كان الزرع يفرخ هكذا ويريع الريع الكثير الذي يتسع للقوت وما يرد في الأرض للبذر, أفلا ترى ما في الحر والبرد من عظيم الغناء والمنفعة؟ وكلاهما مع غنائه والمنفعة فيه يؤلم الأبدان ويمضها، وفي ذلك عبرة لمن فكر ودلالة على أنه من تدبير الحكيم في مصلحة العالم وما فيه.

* الريح وما فيها

وأنبهك يا مفضل على الريح وما فيها، ألست ترى ركودها إذا ركدت؟ كيف يحدث الكرب الذي يكاد أن يأتي على النفوس ويمرض الأصحاء, وينهك المرضى ويفسد الثمار, ويعفن البقول ويعقب الوباء في الأبدان والآفة في الغلات؟ ففي هذا بيان أن هبوب الريح من تدبير الحكيم في صلاح الخلق.

* الهواء والأصوات‏

وأنبئك عن الهواء بخلة أخرى، فإن الصوت أثر يؤثره اصطكاك الأجسام في الهواء، والهواء يؤديه[25] إلى المسامع. والناس يتكلمون في حوائجهم ومعاملاتهم طول نهارهم وبعض ليلهم، فلو كان أثر هذا الكلام يبقى في الهواء كما يبقى الكتاب في القرطاس لامتلأ العالم منه فكان يكربهم ويفدحهم، وكانوا يحتاجون في تجديده والاستبدال به إلى أكثر مما يحتاج إليه في تجديد القراطيس، لأن ما يلفظ من الكلام أكثر مما يكتب. فجعل الخلاق الحكيم جل قدسه هذا الهواء قرطاسا خفيا يحمل الكلام ريثما يبلغ العالم حاجتهم، ثم يمحى فيعود جديدا نقيا ويحمل ما حمل أبدا بلا انقطاع, وحسبك بهذا النسيم المسمى هواء عبرة، وما فيه من المصالح. فإنه حياة هذه الأبدان والممسك لها من داخل بما يستنشق منه من خارج بما يباشر من روحه، وفيه تطرد هذه الأصوات، فيؤدي البعد البعيد، وهو الحامل لهذه الأرواح، ينقلها من موضع إلى موضع. ألا ترى كيف تأتيك الرائحة من حيث تهب الريح؟ فكذلك الصوت، وهو القابل لهذا الحر والبرد اللذين يتعاقبان على العالم لصلاحه. ومنه هذه الريح الهابة، فالريح تروح عن الأجسام وتزجي السحاب من موضع إلى موضع ليعم نفعه حتى يستكشف فيمطر، وتفضه حتى يستخف فيتفشى، وتلقح الشجر، وتسير السفن، وترخي الأطعمة، وتبرد الماء، وتشب النار، وتجفف الأشياء الندية. وبالجملة، إنها تحيي كل ما في الأرض، فلو لا الريح لذوى النبات ولمات الحيوان، وحمت الأشياء وفسدت.

* هيئة الأرض‏

فكر يا مفضل فيما خلق الله عز وجل عليه هذه الجواهر الأربعة ليتسع ما يحتاج إليه منها. فمن ذلك سعة هذه الأرض وامتدادها، فلو لا ذلك، كيف كانت تتسع لمساكن الناس ومزارعهم ومراعيهم ومنابت أخشابهم وأحطابهم والعقاقير العظيمة والمعادن الجسيمة؟ غناؤها. ولعل من ينكر هذه الفلوات الخاوية والقفار الموحشة فيقول: ما المنفعة فيها؟ فهي مأوى هذه الوحوش ومحالها ومراعيها، ثم فيها بعد تنفس، متنفس ومضطرب للناس إذا احتاجوا إلى الاستبدال بأوطانهم. فكم بيداء وكم فدفد حالت قصورا وجنانا بانتقال الناس إليها وحلولهم فيها. ولو لا سعة الأرض وفسحتها لكان الناس كمن هو في حصار ضيق لا يجد مندوحة عن وطنه إذا أحزنه أمر يضطره إلى الانتقال عنه.

ثم فكر في خلق هذه الأرض على ما هي عليه حين خلقت راتبة راكنة، فتكون موطنا مستقرا للأشياء، فيتمكن الناس من السعي عليها في مآربهم والجلوس عليها لراحتهم والنوم لهدوئهم والإتقان لأعمالهم. فإنها لو كانت رجراجة منكفئة لم يكونوا يستطيعون أن يتقنوا البناء والنجارة والصناعة وما أشبه ذلك. بل كانوا لا يتهنون بالعيش والأرض ترتج من تحتهم, واعتبر ذلك بما يصيب الناس حين الزلازل على قلة مكثها، حتى يصيروا إلى ترك منازلهم والهرب عنها, فإن قال قائل: فلم صارت هذه الأرض تزلزل؟ قيل له: إن الزلزلة وما أشبهها موعظة وترهيب، يرهب بها الناس ليرعووا وينزعوا عن المعاصي، وكذلك ما ينزل بهم من البلاء في أبدانهم وأموالهم يجري في التدبير على ما فيه صلاحهم واستقامتهم، ويدخر لهم إن صلحوا من الثواب والعوض في الآخرة ما لا يعدله شيء من أمور الدنيا, وربما عجل ذلك في الدنيا إذا كان ذلك في الدنيا صلاحا للعامة والخاصة, ثم إن الأرض في طباعها الذي طبعها الله عليه باردة يابسة، وكذلك الحجارة, وإنما الفرق بينها وبين الحجارة فضل يبس في الحجارة, أفرأيت لو أن اليبس أفرط على الأرض قليلا حتى تكون حجرا صلدا؟ أكانت تنبت هذا النبات الذي به حياة الحيوان؟ وكان يمكن بها حرث أو بناء؟ أفلا ترى كيف نقصت من يبس الحجارة, وجعلت على ما هي عليه من اللين والرخاوة لتتهيأ للاعتماد؟

* فوائد الماء والسبب في كثرته‏

ومن تدبير الحكيم جل وعلا في خلق الأرض أن مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب. فلم يجعل الله عز وجل كذلك إلا لتنحدر المياه على وجه الأرض فتسقيها وترويها، ثم تفيض آخر ذلك إلى البحر. فكما يرفع أحد جانبي السطح ويخفض الآخر لينحدر الماء عنه ولا يقوم عليه، كذلك جعل مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب لهذه العلة بعينها,[26] ولو لا ذلك لبقي الماء متحيرًا على وجه الأرض، فكان يمنع الناس من أعمالها ويقطع الطرق والمسالك, ثم الماء لو لا كثرته وتدفقه في العيون والأودية والأنهار لضاق عما يحتاج إليه الناس لشربهم وشرب أنعامهم ومواشيهم، وسقي زروعهم وأشجارهم وأصناف غلاتهم، وشرب ما يرده من الوحوش والطير والسباع. وتتقلب فيه الحيتان ودواب الماء، وفيه منافع أُخرى أنت بها عارف، وعن عظيم موقعها غافل, فإنه سوى الأمر الجليل[27] المعروف من عظيم غنائه في إحياء جميع ما على الأرض من الحيوان والنبات، يمزج الأشربة بالأشربة فتتلذذ وتطيب لشاربها. وبه تنظف الأبدان والأمتعة من الدرن الذي يغشاها، وبه يبل التراب فيصلح للأعمال. وبه يكف عادية النار إذا اضطرمت وأشرف الناس على المكروه، وبه يستحم المتعب الكال فيجد الراحة من أوصابه إلى أشباه هذا من المآرب التي تعرف عظم موقعها في وقت الحاجة إليها, فإن شككت في منفعة هذا الماء الكثير المتراكم في البحار وقلت: ما الإرب فيه؟ فعلم (فاعلم) أنه مكتنف ومضطرب ما لا يحصى من أصناف السمك ودواب البحر، ومعدن اللؤلؤ والياقوت والعنبر وأصناف شتى تستخرج من البحر، وفي سواحله منابت العود اليلنجوج، وضروب من الطيب والعقاقير, ثم هو بعد مركب للناس ومحمل لهذه التجارات التي تجلب من البلدان البعيدة، كمثل ما يجلب من الصين إلى العراق ومن العراق إلى الصين. فإن هذه التجارات لو لم يكن لها محمل إلا على الظهر لبارت وبقيت في بلدانها وأيدي أهلها, لأن أجر حملها يجاوز أثمانها فلا يتعرض أحد لحملها، وكان يجتمع في ذلك أمران: أحدهما فقد أشياء كثيرة تعظم الحاجة إليها، والآخر انقطاع معاش من يحملها ويتعيش بفضلها.

* فوائد الهواء والسبب في كثرته‏

وهكذا الهواء، لو لا كثرته وسعته لاختنق هذا الأنام من الدخان والبخار الذي يتحير فيه ويعجز[28] عما يحول إلى السحاب والضباب أولًا أولًا, فقد تقدم من صفته ما فيه كفاية.

* منافع النار وجعلها كالمخزونة في الأجسام‏

والنار أيضًا كذلك، فإنها لو كانت مبثوثة كالنسيم والماء لكانت تحرق العالم وما فيه، ولما لم يكن بد من ظهورها في الأحايين لغنائها في كثير من المصالح، جعلت كالمخزونة في الأجسام، فتلتمس عند الحاجة إليها وتمسك بالمادة والحطب ما احتُيِج إلى بقائها، لئلا تخبو، فلا هي تمسك بالمادة والحطب[29] فتعظم المئونة في ذلك، ولا هي تظهر مبثوثة فتحرق كل ما هي فيه، بل هي على تهيئة وتقدير اجتمع فيها الاستمتاع بمنافعها والسلامة من ضررها, ثم فيها خلة أخرى وهي أنها مما خص بها الإنسان دون جميع الحيوان لما له فيها من المصلحة، فإنه لو فقد النار لعظم ما يدخل عليه من الضرر في معاشه, فأما البهائم فلا تستعمل النار ولا تستمتع بها، ولما قدر الله عز وجل أن يكون هذا هكذا، خلق للإنسان كفا وأصابع مهيئة لقدح النار واستعمالها، ولم يعط البهائم مثل ذلك، لكنها أعينت بالصبر على الجفاء والخلل في المعاش لكيلا ينالها في فقد النار ما ينال الإنسان عند فقدها, وأنبئك من منافع النار على خلقة صغيرة عظيم موقعها وهي هذا المصباح الذي يتخذه الناس فيقضون به حوائجهم ما شاءوا في ليلهم، ولو لا هذه الخلة لكان الناس تصرف أعمارهم بمنزلة من في القبور، فمن كان يستطيع أن يكتب أو يحفظ أو ينسج في ظلمة الليل، وكيف كان حال من عرض له وجع في وقت من أوقات الليل فاحتاج إلى أن يعالج ضمادًا أو سفوفًا أو شيئًا يستشفي به, فأما منافعها في نضج الأطعمة ودفء الأبدان وتجفيف أشياء وتحليل أشياء وأشباه ذلك، فأكثر من أن تحصى وأظهر من أن تخفى.

* الصحو والمطر وتعاقبهما على العالم وفوائد ذلك‏

فكر يا مفضل في الصحو والمطر كيف يتعاقبان على هذا العالم لما فيه صلاحه, لو دام واحد منهما عليه، لكان في ذلك فساده, ألا ترى أن الأمطار إذا توالت عفنت البقول والخضر، واسترخت أبدان الحيوان، وحصر الهواء فأحدث ضروبًا من الأمراض، وفسدت الطرق والمسالك؟ وأن الصحو إذا دام جفت الأرض، واحترق النبات، وغيض ماء العيون والأودية، فأضر ذلك بالناس وغلب اليبس على الهواء فأحدث ضروبًا أخرى من الأمراض؟ فإذا تعاقبا على العالم هذا التعاقب، اعتدل الهواء، ودفع كل واحد منهما عادية الآخر، فصلحت الأشياء واستقامت, فإن قال قائل: ولم لا يكون في شيء من ذلك مضرة البتة؟ قيل له: ليمض ذلك الإنسان ويؤلمه بعض الألم ليرعوي عن المعاصي. فكما أن الإنسان إذا سقم بدنه احتاج إلى الأدوية المرة البشعة ليقوم طباعه ويصلح ما فسد منه، كذلك إذا طغى واشتد، احتاج إلى ما يمضه ويؤلمه ليرعوي ويقصر عن مساويه، ويثبته على ما فيه حظه ورشده, ولو أن ملكًا من الملوك قسم في أهل مملكته قناطير من ذهب وفضة، ألم يكن سيعظم عندهم ويذهب له به الصوت؟ فأين هذا من مطرة رواء يعم به البلاد ويزيد في الغلات أكثر من قناطير الذهب والفضة في أقاليم الأرض كلها؟ أفلا ترى المطرة الواحدة ما أكبر قدرها وأعظم النعمة على الناس فيها وهم عنها ساهون؟ وربما عاقت عن أحدهم حاجة لا قدر لها، فيتذمر ويسخط إيثارًا للخسيس قدره على العظيم نفعه الجميل المحمود لعاقبته، وقلة معرفته لعظيم الغناء والمنفعة فيها.

* مصالح نزول المطر على الأرض وأثر التدبير فيه‏

تأمل نزول المطر على الأرض والتدبير في ذلك، فالله سبحانه وتعالى جعل الأمطار تنحدر من العلو على الأرض، ليغطي ما غلظ وارتفع منها فيرويه. ولو كان المطر يأتيها من بعض نواحيها فقط، لما استطاع أن يعلو المواضع المشرفة منها، ويقل ما يزرع في الأرض, ألا ترى أن الزرع في الأراضي المنخفضة يكون أكثر من ذلك؟ فالأمطار هي التي تطبق الأرض وترويها، وربما تزرع البراري الواسعة وسفوح الجبال وذراها، فتغل الغلة الكثيرة, وبالأمطار، يسقط عن الناس في كثير من البلدان مئونة سياق الماء من موضع إلى موضع، وما يحدث بينهم من التشاجر والتظالم حول من يملك الماء، ويستأثر به ذو العز والقوة، بينما يحرم الضعفاء, حين قدر الله سبحانه أن ينحدر الماء على الأرض بهذا الشكل، كان ذلك قطرا شبيها بالرش، ليغور في قعر الأرض فيرويها. وإذا كان يسقط على الأرض مباشرة وبكميات كبيرة، كان ذلك سيؤدي إلى تدمير الزرع والقضاء على المحاصيل, لكن الله جعل نزوله رقيقًا، فيحيي الزرع القائم وينبت الحب المزروع, وفي نزول المطر فوائد أخرى عديدة. فهو يلين الأبدان، ويجلو كدر الهواء، فيرفع الوباء الذي قد ينشأ من ذلك. كما يغسل ما يسقط على الشجر والزرع من الداء المسمى باليرقان، وأشباه هذا من المنافع التي تتكشف للإنسان عند التأمل, فإن قال قائل: "أليس قد يحدث ضرر عظيم في بعض السنين من المطر، حيث يكون شديدًا جدًا أو باردًا فيحطم الغلات ويؤدي إلى آفات في النباتات ويولد الأمراض في الأبدان؟" قيل: نعم، قد يحدث ذلك أحيانًا، ولكن تلك الآلام المؤقتة قد تكون لها مصلحة أعظم، حيث تكف الإنسان عن ركوب المعاصي والتمادي فيها. فالمنافع التي تعود على الإنسان في دينه وصلاحه أرجح من أي ضرر قد يصيبه في ماله أو رزقه.

* منافع الجبال‏

انظر يا مفضل إلى هذه الجبال المركومة من الطين والحجارة، التي يحسبها الغافلون فضلاً لا حاجة إليها, والمنافع فيها كثيرة، فمن ذلك أن تسقط عليها الثلوج فتبقى في قلالها لمن يحتاج إليه، ويذوب ما ذاب منه فتجري منه العيون الغزيرة التي تجتمع منها الأنهار العظام, وينبت فيها ضروب من النبات والعقاقير التي لا ينبت مثلها في السهل، ويكون فيها كهوف ومعاقل للوحوش من السباع العادية, ويتخذ منها الحصون والقلاع المنيعة للتحرز من الأعداء، وينحت منها الحجارة للبناء والأرحاء, ويوجد فيها معادن لضرب من الجواهر، وفيها خلال أخرى لا يعرفها إلا المقدر لها في سابق علمه.

* أنواع المعادن واستفادة الإنسان منها

فكر يا مفضل في هذه المعادن وما يخرج منها من الجواهر المختلفة مثل الجص والكلس، والجبسين، والزرنيخ، والمرتك، والتوتياء، والزئبق، والنحاس، والرصاص، والفضة، والذهب، والزبرجد، والياقوت، والزمرد، وضروب الحجارة, وكذلك ما يخرج منها من القار، والموميا، والكبريت، والنفط، وغير ذلك مما يستعمله الناس في مآربهم, فهل يخفى على ذي عقل أن هذه كلها ذخائر ذخرت للإنسان في هذه الأرض ليستخرجها فيستعملها عند الحاجة إليها؟ ثم قصرت حيلة الناس عما حاولوا من صنعتها على حرصهم واجتهادهم في ذلك, فإنهم لو ظفروا بما حاولوا من هذا العلم، كان لا محالة سيظهر ويستفيض في العالم حتى تكثر الفضة والذهب ويسقطا عند الناس، فلا تكون لهما قيمة، ويبطل الانتفاع بهما في الشراء والبيع والمعاملات, ولا كان يجبي السلطان الأموال، ولا يدخرهما أحد للأعقاب, وقد أعطي الناس مع هذا صنعة الشبه من النحاس والزجاج من الرمل، والفضة من الرصاص، والذهب من الفضة، وأشباه ذلك مما لا مضرة فيه. فانظر كيف أعطوا إرادتهم في ما لا ضرر فيه، ومنعوا ذلك فيما كان ضارًا لهم لو نالوه, ومن أوغل في المعادن، انتهى إلى واد عظيم يجري منصلتا بماء غزير لا يدرك غوره، ولا حيلة في عبوره, ومن ورائه أمثال الجبال من الفضة, تفكر الآن في هذا من تدبير الخالق الحكيم, فإنه أراد جل ثناؤه أن يرى العباد قدرته وسعة خزائنه ليعلموا أنه لو شاء أن يمنحهم كالجبال من الفضة لفعل، لكن لا صلاح لهم في ذلك، لأنه لو كان فيكون فيها كما ذكرنا: سقوط هذا الجوهر عند الناس، وقلة انتفاعهم به, واعتبر ذلك بأنه قد يظهر الشيء الظريف مما يحدثه الناس من الأواني والأمتعة، فما دام عزيزًا قليلا فهو نفيس جليل آخذ الثمن, فإذا فشا وكثر في أيدي الناس، سقط عندهم وخست قيمته, ونفاسة الأشياء من عزتها.

* النبات وما فيه من ضروب المآرب‏

فكر يا مفضل في هذا النبات وما فيه من ضروب المآرب. فالثمار للغذاء، والأتبان للعلف، والحطب للوقود، والخشب لكل شيء من أنواع النجارة وغيرها، واللحاء والورق والأصول والعروق والصموغ لضروب من المنافع, أرأيت لو كنا نجد الثمار التي نغتذي بها مجموعة على وجه الأرض ولم تكن تنبت على هذه الأغصان الحاملة لها؟ كم كان يدخل علينا من الخلل في معاشنا؟ وإن كان الغذاء موجودًا، فإن المنافع بالخشب والحطب والأتبان وسائر ما عددناه كثيرة عظيم قدرها، جليل موقعها. هذا مع ما في النبات من التلذذ بحسن منظره ونضارته التي لا يعدلها شيء من مناظر العالم وملاهيه.

* الريع في النبات وسببه‏

فكر يا مفضل في هذا الريع الذي جعل في الزرع، فصارت الحبة الواحدة تخلف مائة حبة وأكثر وأقل, وكان يجوز للحبة أن تأتي بمثلها. فلم صارت تريع هذا الريع إلا ليكون في الغلة متسع لما يرد في الأرض من البذر، وما يتقوت الزراع إلى إدراك زرعها المستقبل؟ ألا ترى أن الملك لو أراد عمارة بلد من البلدان، كان السبيل في ذلك أن يعطي أهله ما يبذرونه في أرضهم وما يقوتهم إلى إدراك زرعهم؟ فانظر كيف تجد هذا المثال قد تقدم في تدبير الحكيم، فصار الزرع يريع هذا الريع ليفي بما يحتاج إليه للقوت والزراعة, وكذلك الشجر والنبت والنخل يريع الريع الكثير، فإنك ترى الأصل الواحد حوله من فراخه أمرًا عظيمًا. فلم كان كذلك إلا ليكون فيه ما يقطعه الناس ويستعملونه في مآربهم وما يرد فيغرس في الأرض, ولو كان الأصل منه يبقى منفردًا لا يفرخ ولا يريع، لما أمكن أن يقطع منه شيء لعمل ولا لغرس، ثم كان إن أصابته آفة انقطع أصله فلم يكن منه خلف.

* بعض النباتات وكيف تصان‏

تأمل نبات هذه الحبوب من العدس والماش والباقلاء وما أشبه ذلك، فإنها تخرج في أوعية مثل الخرائط لتصونها وتحجبها من الآفات إلى أن تشتد وتستحكم، كما قد تكون المشيمة على الجنين لهذا المعنى بعينه, وأما البر وما أشبهه، فإنه يخرج مدرجًا في قشور صلاب على رءوسها أمثال الأسنة من السنبل ليمنع الطير منه ليتوفر على الزراع. فإن قال قائل: أوليس قد ينال الطير من البر والحبوب؟ قيل له: بلى، على هذا قدر الأمر فيها، لأن الطير خلق من خلق الله تعالى، وقد جعل الله تبارك وتعالى له في ما تخرج الأرض حظًا. ولكن حصنت الحبوب بهذه الحجب لئلا يتمكن الطير منها كل التمكن فيعبث بها ويفسد الفساد الفاحش, فإن الطير لو صادف الحب بارزًا ليس عليه شيء يحول دونه، لأكب عليه حتى ينسفه أصلاً، فكان يعرض من ذلك أن يبشم الطير فيموت ويخرج الزارع من زرعه صفرا, فجعلت عليه هذه الوقايات لتصونه، فينال الطائر منه شيئًا يسيرًا يتقوت به، ويبقى أكثره للإنسان، فإنه أولى به إذ كان هو الذي كدح فيه وشقي به، وكان الذي يحتاج إليه أكثر مما يحتاج إليه الطير.

* الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات‏

تأمل الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات، فإنها لما كانت تحتاج إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوان، ولم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان، ولا حركة تنبعث بها لتناول الغذاء، جعلت أصولها مركوزة في الأرض لتنزع منها الغذاء، فتؤديه إلى الأغصان وما عليها من الورق والثمر, فصارت الأرض كالأم المربية لها، وصارت أصولها التي هي كالأفواه ملتقمة للأرض لتنزع منها الغذاء كما ترضع أصناف الحيوان أمهاتها, ألم تر إلى عمد الفساطيط والخيم كيف تمد بالأطناب من كل جانب لتثبت منتصبة فلا تسقط ولا تميل؟ فهكذا تجد النبات كله له عروق منتشرة في الأرض ممتدة إلى كل جانب لتمسكه وتقيمه, ولو لا ذلك، كيف كان يثبت هذا النخل الطوال والدوح العظام في الريح العاصف؟ فانظر إلى حكمة الخالق كيف سبقت حكمة الصناعة، فصارت الحيلة التي تستعملها الصناع في ثبات الفساطيط والخيم متقدمة في خلق الشجر، لأن خلق الشجر قبل صنعة الفساطيط والخيم. ألا ترى عمدها وعيدانها من الشجر؟ فالصناعة مأخوذة من الخلقة.

* خلق الورق ووصفه‏

تأمل يا مفضل خلق الورق، فإنك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة فيها أجمع, فمنها غلاظ ممتدة في طولها وعرضها، ومنها دقاق تتخلل تلك الغلاظ، منسوجة نسجا دقيقا معجما. [30] لو كان مما يصنع بالأيدي كصنعة البشر، لما فرغ من ورق شجرة واحدة في عام كامل، ولاحتيج إلى آلات وحركة وعلاج وكلام. فصار يأتي منه في أيام قلائل من الربيع ما يملأ الجبال والسهل وبقاع الأرض كلها، بلا حركة ولا كلام إلا بالإرادة النافذة في كل شيء، والأمر المطاع, واعرف مع ذلك العلة في تلك العروق الدقاق، فإنها جعلت تتخلل الورقة بأسرها لتسقيها وتوصل الماء إليها، بمنزلة العروق المبثوثة في البدن لتوصل الغذاء إلى كل جزء منه. وفي الغلاظ منها معنى آخر، فإنها تمسك الورقة بصلابتها ومتانتها لئلا تنهتك وتتمزق. فترى الورقة شبيهة بورقة معمولة بالصنعة من خرق قد جعلت فيها عيدان ممدودة في طولها وعرضها لتتماسك فلا تضطرب, فالصناعة تحكي الخلقة، وإن كانت لا تدركها على الحقيقة.

* العجم والنوى والعلة في خلقه‏

فكر في هذا العجم والنوى والعلة فيه، فإنه جعل في جوف الثمرة ليقوم مقام الغرس إن عاق دون الغرس عائق، كما يحرز الشيء النفيس الذي تعظم الحاجة إليه في مواضع أخرى. فإن حدث على الذي في بعض المواضع منه حادث، وجد في موضع آخر, ثم هو بعد يمسك بصلابته رخاوة الثمار ورقتها، ولو لا ذلك لتشدخت وتفسخت وأسرع إليها الفساد. وبعضه يؤكل ويستخرج دهنه فيستعمل منه ضروب من المصالح, وقد تبين لك موضع الإرب في العجم والنوى. فكر الآن في هذا الذي تجده فوق النواة من الرطبة، وفوق العجم من العنبة. فما العلة فيه؟ ولما ذا يخرج في هذه الهيئة؟ وقد كان يمكن أن يكون مكان ذلك ما ليس فيه مأكل، كمثل ما يكون في السدر والدلب وما أشبه ذلك, فلم صار يخرج فوقه هذه المطاعم اللذيذة إلا ليستمتع بها الإنسان؟

* موت الشجر وتجدد حياته وما في ذلك من ضروب التدبير

فكر في ضروب من التدبير في الشجر، فإنك تراه يموت في كل سنة موتة، فتحتبس الحرارة الغريزية[31] في عوده ويتولد فيه مواد الثمار، ثم يحيا وينتشر فيأتيك بهذه الفواكه نوعاً بعد نوع، كما تقدم إليك أنواع الأطبخة التي تعالج بالأيدي واحداً بعد واحد, فترى الأغصان في الشجر تتلقاك بثمارها حتى كأنها تناولكها عن يد، وترى الرياحين تتلقاك في أفنانها كأنها تجيئك بأنفسها, فلمن هذا التقدير إلا لمقدر حكيم؟ وما العلة فيه إلا تفكيه الإنسان بهذه الثمار والأنوار؟ والعجب من أناس جعلوا مكان الشكر على النعمة جحود المنعم بها.

* خلق الرمانة وأثر العمد فيه‏

واعتبر بخلق الرمانة وما ترى فيها من أثر العمد والتدبير، فإنك ترى فيها كأمثال التلال من شحم مركوم في نواحيها وحب مرصوف صفا، كنحو ما ينضد بالأيدي, وترى الحب مقسوماً أقساماً، وكل قسم منها ملفوفاً بلفائف من حجب منسوجة، أعجب النسج وألطفه, وقشره يضم ذلك كله, فمن التدبير في هذه الصنعة أنه لم يكن يجوز أن يكون حشو الرمانة من الحب وحده، وذلك أن الحب لا يمد بعضه بعضاً، فجعل ذلك الشحم خلال الحب ليمده بالغذاء, ألا ترى أن أصول الحب مركوزة في ذلك الشحم، ثم لف بتلك اللفائف لتضمه وتمسكه فلا يضطرب، وغشي فوق ذلك بالقشرة المستحصفة لتصونه وتحصنه من الآفات؟ فهذا قليل من كثير من وصف الرمانة، وفيه أكثر من هذا لمن أراد الإطناب والتذرع في الكلام، ولكن فيما ذكرت لك كفاية في الدلالة والاعتبار.

* حمل اليقطين وما فيه من التدبير والحكمة

فكر يا مفضل في حمل اليقطين الضعيف مثل هذه الثمار الثقيلة من الدباء والقثاء والبطيخ، وما في ذلك من التدبير والحكمة. فإنه حين قدر أن يحمل مثل هذه الثمار، جعل نباته منبسطاً على الأرض. ولو كان ينتصب قائماً كما ينتصب الزرع والشجر، لما استطاع أن يحمل مثل هذه الثمار الثقيلة، ولتقصف (لينقصف) قبل إدراكها وانتهائها إلى غاياتها. فانظر كيف صار يمتد على وجه الأرض ليلقى عليها ثماره فتحملها عنه, فترى الأصل من القرع والبطيخ مفترشاً للأرض، وثماره مبثوثة عليها، وحواليه كأنه هرة ممتدة وقد اكتنفتها جراؤها لترضع منها.

موافاة أصناف النبات في الوقت المشاكل لها

وانظر كيف صارت الأصناف توافي في الوقت المشاكل لها من حمارة الصيف ووقدة الحر، فتلقاها النفوس بانشراح وتشوق إليها. ولو كانت توافي الشتاء لوافقت من الناس كراهة لها واقشعراراً منها، مع ما يكون فيها من المضرة للأبدان, ألا ترى أنه ربما أدرك شيء من الخيار في الشتاء فيمتنع الناس من أكله إلا الشره الذي لا يمتنع من أكل ما يضره ويسقم معدته؟

* في النخل وخلقة الجذع والخشب وفوائد ذلك‏

فكر يا مفضل في النخل، فإنه لما صار فيه إناث تحتاج إلى التلقيح، جعلت فيه ذكورة للقاح من غير غراس. فصار الذكر من النخل بمنزلة الذكر من الحيوان الذي يلقح الإناث لتحمل، وهو لا يحمل, تأمل خلقة الجذع كيف هو، فإنك تراه كالمنسوج نسجاً من خيوط ممدودة كالسدى، وأخرى معه معترضة كاللحمة، كنحو ما ينسج بالأيدي. وذلك ليشتد ويصلب ولا يتقصف من حمل القنوات الثقيلة وهز الرياح العواصف إذا صار نخلة. وليتهيأ للسقوف والجسور وغير ذلك مما يتخذ منه إذا صار جذعاً. وكذلك ترى الخشب مثل النسج، فإنك ترى بعضه مداخلاً بعضه بعضاً طولا وعرضا كتداخل أجزاء اللحم, وفيه مع ذلك متانة ليصلح لما يتخذ منه من الآلات، فإنه لو كان مستحصفاً كالحجارة، لم يمكن أن يستعمل في السقوف وغير ذلك مما يستعمل فيه الخشبة كالأبواب والأسرة والتوابيت وما أشبه ذلك, ومن جسيم المصالح في الخشب أنه يطفو على الماء، فكل الناس يعرف هذا منه، وليس كلهم يعرف جلالة الأمر فيه. فلو لا هذه الخلة، كيف كانت هذه السفن والأظراف تحمل أمثال الجبال من الحمولة؟! وأنى كان ينال الناس هذا الرفق وخفة المئونة في حمل التجارات من بلد إلى بلد، وكانت تعظم المئونة عليهم في حملها حتى يلقى كثير مما يحتاج إليه في بعض البلدان مفقودا أصلاً أو عسر وجوده؟

* العقاقير واختصاص كل منها

فكر في هذه العقاقير وما خص بها كل واحد منها من العمل في بعض الأدواء, فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة مثل الشيطرج، وهذا ينزف المرة السوداء مثل الأفتيمون، وهذا ينفي الرياح مثل السكبينج، وهذا يحلل الأورام، وأشباه هذا من أفعالها, فمن جعل هذه القوى فيها إلا من خلقها للمنفعة؟ ومن فطن الناس لها إلا من جعل هذا فيها؟ ومتى كان يوقف على هذا منها بالعرض والاتفاق، كما قال القائلون؟ وهب الإنسان فطن لهذه الأشياء بذهنه ولطيف رويته وتجاربه، فالبهائم كيف فطنت لها حتى صار بعض السباع يتداوى من جراحة إن أصابته ببعض العقاقير فيبرأ؟ وبعض الطير يحتقن من الحصر يصيبه بماء البحر فيسلم؟ وأشباه هذا كثير, ولعلك تشكك في هذا النبات النابت في الصحاري والبراري حيث لا أنس ولا أنيس، فتظن أنه فضل لا حاجة إليه, وليس كذلك، بل هو طعم لهذه الوحوش، وحبه علف للطير، وعوده وأفنانه حطب، فيستعمله الناس، وفيه بعد أشياء تعالج بها الأبدان، وأخرى تدبغ بها الجلود، وأخرى تصبغ به الأمتعة، وأشباه هذا من المصالح. ألست تعلم أن من أخس النبات وأحقره هذا البردي وما أشبهها؟ ففيها مع هذا من ضروب المنافع، فقد يتخذ من البردي القراطيس التي يحتاج إليها الملوك والسوقة، والحصر التي يستعملها كل صنف من الناس، ويعمل منه الغلف التي يوقى بها الأواني، ويجعل حشوا بين الظروف في الأسفاط لكيلا تعيب وتنكسر، وأشباه هذا من المنافع, فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق وكبيره، وبما له قيمة وما لا قيمة له. وأخس من هذا وأحقره الزبل والعذرة التي اجتمعت فيها الخساسة والنجاسة معًا، وموقعها من الزروع والبقول والخضر أجمع الموقع الذي لا يعدله شيء. حتى أن كل شيء من الخضر لا يصلح ولا يزكو إلا بالزبل والسماد الذي يستقذره الناس ويكرهون الدنو منه, واعلم أنه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته، بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين, وربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسًا في سوق العلم, فلا تستصغر العبرة في الشيء لصغر قيمته, فلو فطن طالبو الكيمياء لما في العذرة، لاشتروها بأنفس الأثمان وغالوا بها. قال المفضل: وحان وقت الزوال، فقام مولاي إلى الصلاة وقال: بكر إلي غدًا إن شاء الله تعالى، فانصرفت وقد تضاعف سروري بما عرفنيه مبتهجًا، بما آتانيه حامدًا لله على ما منحنيه، فبت ليلتي مسرورًا.

 

* المجلس الرابع‏

قال المفضل: فلما كان اليوم الرابع، بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي، فأمرني بالجلوس، فجلست. فقال ×: منا التحميد والتسبيح والتعظيم والتقديس للاسم الأقدم[32] والنور الأعظم العلي العلام، {ذي الجلال والإكرام}، ومنشئ الأنام ومفني العوالم والدهور، وصاحب السر المستور والغيب المحظور، والاسم المخزون والعلم المكنون، وصلواته وبركاته على مبلغ وحيه ومؤدي رسالته الذي بعثه {بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة}, فعليه وعلى آله من بارئه الصلوات الطيبات والتحيات الزاكيات الناميات، وعليه وعليهم السلام والرحمة والبركات في الماضين والغابرين أبد الآبدين، ودهر الداهرين، وهم أهله ومستحقوه.

* الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك‏

قد شرحت لك يا مفضل من الأدلة على الخلق والشواهد على صواب التدبير والعمد في الإنسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك ما فيه عبرة لمن اعتبر, وأنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها أناس من الجهال ذريعة إلى جحود الخلق والخالق والعمد والتدبير, وما أنكرت المعطلة والمنانية من المكاره والمصائب، وما أنكروه من الموت والفناء، وما قاله أصحاب الطبائع ومن زعم أن كون الأشياء بالعرض والاتفاق، ليتسع ذلك القول في الرد عليهم. {قاتلهم الله أنى يؤفكون}.

* الآفات ونظر الجهال إليها والجواب على ذلك‏

اتخذ أناس من الجهال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء واليرقان والبرد والجراد ذريعة إلى جحود الخالق والتدبير والخلق، فيقال في جواب ذلك: إنه إن لم يكن خالق ومدبر، فلم لا يكون ما هو أكثر من هذا وأفظع؟ فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض وتهوي الأرض فتذهب سفلا وتتخلف الشمس عن الطلوع أصلا، وتجف الأنهار والعيون حتى لا يوجد ماء للشفة، وتركد الريح حتى تخم الأشياء وتفسد، ويفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها. ثم هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء والجراد وما أشبه ذلك، ما بالها لا تدوم وتمتد حتى تجتاح كل ما في العالم، بل تحدث في الأحايين ثم لا تلبث أن ترفع؟ أفلا ترى أن العالم يصان ويحفظ من تلك الأحداث الجليلة التي لو حدث عليه شيء منها كان فيه بواره؟ ويلذع أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس وتقويمهم، ثم لا تدوم هذه الآفات بل تكشف عنهم عند القنوط منهم فيكون وقوعها بهم موعظة وكشفها عنهم رحمة, وقد أنكرت المنانية من المكاره والمصائب التي تصيب الناس، فكلاهما يقول: إن كان للعالم خالق رءوف رحيم، فلم تحدث فيه هذه الأمور المكروهة؟ والقائل بهذا القول يذهب إلى أنه ينبغي أن يكون عيش الإنسان في هذه الدنيا صافيا من كل كدر. ولو كان هكذا، كان الإنسان يخرج من الأشر والعتو إلى ما لا يصلح في دين ولا دنيا، كالذي ترى كثيرا من المترفين ومن نشأ في الجدة والأمن يخرجون إليه، حتى أن أحدهم ينسى أنه بشر وأنه مربوب، أو أن ضررا يمسه، أو أن مكروها ينزل به، أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفا أو يواسي فقيرا أو يرثي لمبتلى أو يتحنن على ضعيف أو يتعطف على مكروب, فإذا عضته المكاره ووجد مضضها، اتعظ وأبصر كثيرا مما كان جهله وغفل عنه، ورجع إلى كثير مما كان يجب عليه, والمنكرون لهذه الأمور المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمون الأدوية المرة البشعة، ويتسخطون من المنع من الأطعمة الضارة، ويتكرهون الأدب والعمل، ويحبون أن يتفرغوا للهو والبطالة، وينالوا كل مطعم ومشرب، ولا يعرفون ما تؤديهم إليه البطالة من سوء النشوء والعادة، وما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارة من الأدواء والأسقام، وما لهم في الأدب من الصلاح وفي الأدوية من المنفعة، وإن شاب ذلك بعض الكراه, فإن قالوا: فلم لم يكن الإنسان معصوما من المساوئ حتى لا يحتاج إلى أن تلذعه هذه المكاره؟ قيل: إذا كان يكون غير محمود على حسنه يأتيها ولا مستحقا للثواب عليها, فإن قالوا: وما كان يضره أن لا يكون محمودا على الحسنات مستحقا للثواب بعد أن يصير إلى غاية النعيم واللذات؟ قيل لهم: اعرضوا على امرئ صحيح الجسم والعقل أن يجلس منعما ويكفى كلما يحتاج إليه بلا سعي ولا استحقاق، فانظروا هل تقبل نفسه ذلك؟ بل ستجدونه بالقليل مما يناله بالسعي والحركة أشد اغتباطا وسرورا منه بالكثير مما يناله بغير الاستحقاق. وكذلك نعيم الآخرة أيضا يكمل لأهله بأن ينالوه بالسعي فيه والاستحقاق له، فالنعمة على الإنسان في هذا الباب مضاعفة، فإن أعد له الثواب الجزيل على سعيه في هذه الدنيا، وجعل له السبيل إلى أن ينال ذلك بسعي واستحقاق، فيكمل له السرور والاغتباط بما يناله منه, فإن قالوا: أوليس قد يكون من الناس من يركن إلى ما نال من خير وإن كان لا يستحقه؟ فما الحجة في منع من رضي أن ينال نعيم الآخرة على هذه الجملة؟ قيل لهم: إن هذا باب لو صح للناس لخرجوا إلى غاية الكلب والضراوة على الفواحش وانتهاك المحارم. [33] فمن كان يكف نفسه عن فاحشة أو يتحمل المشقة في باب من أبواب البر لوثق بأنه صائر إلى النعيم لا محالة؟ أو من كان يأمن على نفسه وأهله وماله من الناس لو لم يخف الحساب والعقاب؟ فكان ضرر هذا الباب سينال الناس في هذه الدنيا قبل الآخرة فيكون في ذلك تعطيل العدل والحكمة معا، وموضع للطعن على التدبير بخلاف الصواب ووضع الأمور في غير مواضعها.

* لما ذا تصيب الآفات جميع الناس وما الحجة في ذلك‏

وقد يتعلق هؤلاء بالآفات التي تصيب الناس فتعم البر والفاجر، أو يبتلى بها البر ويسلم الفاجر منها، فقالوا: كيف يجوز هذا في تدبير الحكيم؟ وما الحجة فيه؟ فيقال لهم: إن هذه الآفات وإن كانت تنال الصالح والطالح جميعًا، فإن الله عز وجل جعل ذلك صلاحًا للصنفين كليهما. أما الصالحون، فإن الذي يصيبهم من هذا يزدهم نعم ربهم عندهم في سالف أيامهم فيحدوهم ذلك على الشكر والصبر، وأما الطالحون، فإن مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم وردعهم عن المعاصي والفواحش، وكذلك يجعل لمن سلم منهم من الصنفين صلاحًا في ذلك. أما الأبرار، فإنهم يغتبطون بما هم عليه من البر والصلاح، ويزدادون فيه رغبة وبصيرة، وأما الفجار، فإنهم يعرفون رأفة ربهم وتطوله عليهم بالسلامة من غير استحقاق، فيحضهم ذلك على الرأفة بالناس والصفح عمن أساء إليهم, ولعل قائلا يقول: إن هذه الآفات التي تصيب الناس في أموالهم، فما قولك فيما يبتلون به في أبدانهم فيكون فيه تلفهم؟ كمثل الحرق والغرق والسيل والخسف، فيقال له: إن الله جعل في هذا أيضًا صلاحًا للصنفين جميعًا. أما الأبرار، فلما لهم في مفارقة هذه الدنيا من الراحة من تكاليفها، والنجاة من مكارهها، وأما الفجار، فلما لهم في ذلك من تمحيص أوزارهم وحبسهم عن الازدياد منها. وجملة القول أن الخالق تعالى ذكره بحكمته وقدرته قد يصرف هذه الأمور كلها إلى الخير والمنفعة, فكما أنه إذا قطعت الريح شجرة أو قطعت نخلة أخذها الصانع الرفيق واستعملها في ضروب من المنافع، فكذلك يفعل المدبر الحكيم في الآفات التي تنزل بالناس في أبدانهم وأموالهم فيصيرها جميعًا إلى الخير والمنفعة, فإن قال: ولم تحدث على الناس؟ [34] قيل له: لكيلا يركنوا إلى المعاصي من طول السلامة، فيبالغ الفاجر في ركوب المعاصي، ويفتر الصالح عن الاجتهاد في البر, فإن هذين الأمرين جميعًا يغلبان على الناس في حال الخفض والدعة، وهذه الحوادث التي تحدث عليهم تردعهم وتنبههم على ما فيه رشدهم, فلو خلوا منها لغلوا في الطغيان والمعصية، كما غلا الناس في أول الزمان حتى وجب عليهم البوار بالطوفان، وتطهير الأرض منهم.

* الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك‏

ومما ينتقده الجاحدون للعمد والتقدير الموت والفناء، فإنهم يذهبون إلى أنه ينبغي أن يكون الناس مخلدين في هذه الدنيا مبرئين من هذه الآفات، فينبغي أن يساق هذا الأمر إلى غايته فينظر ما محصوله, أفرأيت لو كان كل من دخل العالم ويدخله يبقون ولا يموت أحد منهم، ألم تكن الأرض تضيق بهم حتى تعوزهم المساكن والمزارع والمعايش؟ فإنهم والموت يفنيهم أولًا فأولًا يتنافسون في المساكن والمزارع حتى تنشب بينهم في ذلك الحروب وتسفك فيهم الدماء, فكيف كانت تكون حالهم لو كانوا يولدون ولا يموتون؟ وكان يغلب عليهم الحرص والشره وقساوة القلوب، فلو وثقوا بأنهم لا يموتون لما قنع الواحد منهم بشيء يناله ولا أفرج لأحد عن شيء يسأله ولا سلا عن شيء [35] مما يحدث عليه. ثم كانوا يملون الحياة وكل شيء من أمور الدنيا كما قد يمل الحياة من طال عمره حتى يتمنى الموت والراحة من الدنيا, فإن قالوا إنه كان ينبغي أن يرفع عنهم المكاره والأوصاب حتى لا يتمنوا الموت ولا يشتاقوا إليه، فقد وصفنا ما كان يخرجهم إليه من العتو والأشر الحامل لهم على ما فيه فساد الدنيا والدين. وإن قالوا إنه كان ينبغي أن لا يتوالدوا كيلا تضيق عنهم المساكن والمعايش، قيل لهم: إذا كان يحرم أكثر هذا الخلق دخول العالم والاستمتاع بنعم الله تعالى ومواهبه في الدارين جميعًا إذا لم يدخل العالم إلا قرن واحد لا يتوالدون ولا يتناسلون, فإن قالوا إنه كان ينبغي أن يخلق في ذلك القرن الواحد من الناس مثل ما خلق ويخلق إلى انقضاء العالم، يقال لهم: رجع الأمر إلى ما ذكرنا من ضيق المساكن والمعايش عنهم, ثم لو كانوا لا يتوالدون ولا يتناسلون لذهب موضع الأنس بالقرابات وذوي الأرحام والانتصار بهم عند الشدائد وموضع تربية الأولاد والسرور بهم, ففي هذا دليل على أن كل ما تذهب إليه الأوهام سوى ما جرى به التدبير خطأ وسفه من الرأي والقول.

* الطعن على التدبير من جهة أخرى والجواب عليه‏

ولعل طاعنًا يطعن على التدبير من جهة أخرى فيقول: كيف يكون هاهنا تدبير ونحن نرى الناس في هذه الدنيا من عز بز، فالقوي يظلم ويغصب، والضعيف يظلم ويسالم الخسف، والصالح فقير مبتلى، والفاسق معافى موسع عليه، ومن ركب فاحشة أو انتهك محرماً لم يعاجل بالعقوبة, فلو كان في العالم تدبير لجرت الأمور على القياس القائم، فكان الصالح هو المرزوق والطالح هو المحروم، وكان القوي يمنع من ظلم الضعيف، والمنتهك للمحارم يعاجل بالعقوبة, فيقال في جواب ذلك: إن هذا لو كان هكذا لذهب موضع الإحسان الذي فضل به الإنسان على غيره من الخلق، وحمل النفس على البر والعمل الصالح احتسابًا للثواب وثقة بما وعد الله عنه، ولصار الناس بمنزلة الدواب التي تساس بالعصا والعلف، ويلمع لها بكل واحد منهما ساعة فساعة فتستقيم على ذلك، ولم يكن أحد يعمل على يقين بثواب أو عقاب حتى كان هذا يخرجهم عن حد الإنسية إلى حد البهائم, ثم لا يعرف ما غاب ولا يعمل إلا على الحاضر من نعيم الدنيا، وكان يحدث من هذا أيضًا أن يكون الصالح إنما يعمل للرزق والسعة في هذه الدنيا، ويكون الممتنع من الظلم والفواحش إنما يكف عن ذلك لترقب عقوبة تنزل به من ساعته، حتى تكون أفعال الناس كلها تجري على الحاضر، لا يشوبه شيء من اليقين بما عند الله ولا يستحقون ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها, مع أن هذه الأمور التي ذكرها الطاعن من الغنى والفقر والعافية والبلاء ليست بجارية على خلاف قياسه، بل قد تجري على ذلك أحيانًا والأمر المفهوم. فقد ترى كثيرًا من الصالحين يرزقون المال لضروب من التدبير، وكيلا يسبق إلى قلوب الناس أن الكفار هم المرزوقون والأبرار هم المحرومون فيؤثرون الفسق على الصلاح. وترى كثيرًا من الفساق يعاجلون بالعقوبة إذا تفاقم طغيانهم وعظم ضررهم على الناس وعلى أنفسهم، كما عوجل فرعون بالغرق، وبختنصر بالتيه، [36] وبلبيس بالقتل. وإن أمهل بعض الأشرار بالعقوبة، وأخر بعض الأخيار بالثواب إلى الدار الآخرة لأسباب تخفى على العباد، لم يكن هذا مما يبطل التدبير. فإن مثل هذا قد يكون من ملوك الأرض ولا يبطل تدبيرهم، بل يكون تأخيرهم ما أخروه، وتعجيلهم ما عجلوه داخلاً في صواب الرأي والتدبي, وإذا كانت الشواهد تشهد وقياسهم يوجب أن للأشياء خالقًا حكيمًا قادرًا، فما يمنعه أن يدبر خلقه؟ فإنه لا يصلح في قياسهم أن يكون الصانع يهمل صنعته إلا بإحدى ثلاث خلال: إما عجز وإما جهل وإما شرارة، وكل هذا محال في صنعته عز وجل وتعالى ذكره. وذلك أن العاجز لا يستطيع أن يأتي بهذه الخلائق الجليلة العجيبة، والجاهل لا يهتدي لما فيها من الصواب والحكمة، والشرير لا يتطاول لخلقها وإنشائها, وإذا كان هذا هكذا، وجب أن يكون الخالق لهذه الخلائق يدبرها لا محالة، وإن كان لا يدرك كنه ذلك التدبير ومخارجه. فإن كثيرًا من تدبير الملوك لا تفهمه العامة ولا تعرف أسبابه، لأنها لا تعرف دخيلة أمر الملوك وأسرارهم، فإذا عرف سببه وجد قائماً على الصواب والشاهد المحنة,[37] ولو شككت في بعض الأدوية والأطعمة فيتبين لك من جهتين أو ثلاث أنه حار أو بارد، ألم تكن ستقضي عليه بذلك وتنفي الشك فيه عن نفسك؟ فما بال هؤلاء الجهلة لا يقضون على العالم بالخلق والتدبير مع هذه الشواهد الكثيرة؟ وأكثر منها ما لا يحصى كثرة. ولو كان نصف العالم وما فيه مشكلاً صوابه لما كان من حزم الرأي وسمت الأدب أن يقضي على العالم بالإهمال، لأنه كان في النصف الآخر وما يظهر فيه من الصواب وإتقان ما يردع الوهم عن التسرع إلى هذه القضية. فكيف وكل ما فيه إذا فتش وجد على غاية الصواب حتى لا يخطر بالبال شيء إلا وجد ما عليه الخلقة أصح وأصوب منه.

* اسم هذا العالم بلسان اليونانية

واعلم يا مفضل أن اسم هذا العالم بلسان اليونانية الجاري المعروف عندهم قوسموس، وتفسيره الزينة، وكذلك سمته الفلاسفة ومن ادعى الحكمة. أفكانوا يسمونه بهذا الاسم إلا لما رأوا فيه من التقدير والنظام؟ فلم يرضوا أن يسموه تقديرًا ونظامًا، حتى سموه زينة ليخبروا أنه مع ما هو عليه من الصواب والإتقان على غاية الحسن والبهاء.

* عمي ماني عن دلائل الحكمة وادعاؤه علم الأسرار

اعجب يا مفضل من قوم لا يقضون على صناعة الطب بالخطإ وهم يرون الطبيب يخطئ، ويقضون على العالم بالإهمال ولا يرون شيئًا منه مهملا! بل اعجب من أخلاق من ادعى الحكمة حتى جهلوا مواضعها في الخلق، فأرسلوا ألسنتهم بالذم للخالق جل وعلا, بل العجب من المخذول ماني حين ادعى علم الأسرار وعمي عن دلائل الحكمة في الخلق، حتى نسبه إلى الخطإ، ونسب خالقه إلى الجهل. تبارك الحكيم الكريم.

* انتقاد المعطلة فيما راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل‏

وأعجب منهم جميعًا المعطلة الذين راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل، فلما أعوزهم ذلك خرجوا إلى الجحود والتكذيب, فقالوا: ولم لا يدرك بالعقل؟ قيل: لأنه فوق مرتبة العقل، كما لا يدرك البصر ما هو فوق مرتبته. فإنك لو رأيت حجرًا يرتفع في الهواء، علمت أن رامياً رمى به، فليس هذا العلم من قبل البصر، بل من قبل العقل، لأن العقل هو الذي يميزه فيعلم أن الحجر لا يذهب علوا من تلقاء نفسه, أفلا ترى كيف وقف البصر على حده فلم يتجاوزه؟ فكذلك يقف العقل على حده من معرفة الخالق فلا يعدوه، ولكن يعقله بعقل أقر أن فيه نفسًا ولم يعاينها ولم يدركها بحاسة من الحواس.

* معرفة العقل للخالق معرفة إقرار لا معرفة إحاطة

وعلى حسب هذا أيضًا نقول إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار، ولا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته. فإن قالوا: فكيف يكلف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به؟ قيل لهم: إنما كلف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه، وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه، ولم يكلفوا الإحاطة بصفته، كما أن الملك لا يكلف رعيته أن يعلموا: أطويل هو أم قصير؟ وأبيض هو أم أسمر؟ وإنما يكلفهم الإذعان لسلطانه والانتهاء إلى أمره, ألا ترى أن رجلاً لو أتى باب الملك، فقال: اعرض علي نفسك حتى أتقصى معرفتك، وإلا لم أسمع لك، كان قد أحل نفسه بالعقوبة؟ فكذا القائل إنه لا يقر بالخالق سبحانه حتى يحيط بكنهه متعرضًا لسخطه, فإن قالوا: أوليس قد نصفه؟ فنقول: هو العزيز الحكيم الجواد الكريم, قيل لهم: كل هذه صفات إقرار وليست صفات إحاطة، فإنا نعلم أنه حكيم ولا نعلم بكنه ذلك منه، وكذلك قدير وجواد وسائر صفاته. كما قد نرى السماء فلا ندري ما جوهرها، ونرى البحر ولا ندري أين منتهاه، بل فوق هذا المثال بما لا نهاية له, ولأن الأمثال كلها تقصر عنه، ولكنها تقود العقل إلى معرفته, فإن قالوا: ولم يختلف فيه؟ قيل لهم: لقصر الأوهام عن مدى عظمته، وتعديها أقدارها في طلب معرفته، وأنها تروم الإحاطة به وهي تعجز عن ذلك وما دونه.

* الشمس واختلاف الفلاسفة في وضعها وشكلها ومقدارها

فمن ذلك هذه الشمس التي تراها تطلع على العالم ولا يوقف على حقيقة أمرها، ولذلك كثرت الأقاويل فيها واختلفت الفلاسفة المذكورون في وصفها. فقال بعضهم: هي فلك أجوف مملوء نارًا له فم يجيش بهذا الوهج والشعاع، وقال آخرون: هي سحابة، وقال آخرون: هي جسم زجاجي يقبل نارية في العالم ويرسل عليه شعاعها، وقال آخرون: هي صفو لطيف ينعقد ماء البحر، وقال آخرون: هي أجزاء كثيرة مجتمعة من النار، وقال آخرون: هي من جوهر خامس سوى الجواهر الأربعة. ثم اختلفوا في شكلها، فقال بعضهم: هي بمنزلة صفيحة عريضة، وقال آخرون: هي كالكرة المدحرجة. وكذلك اختلفوا في مقدارها، فزعم بعضهم أنها مثل الأرض سواء، وقال آخرون: بل هي أقل من ذلك، وقال آخرون: بل هي أعظم من الجزيرة العظيمة، وقال أصحاب الهندسة:[38] هي أضعاف الأرض مائة وسبعين مرة, ففي اختلاف هذه الأقاويل منهم في الشمس دليل على أنهم لم يقفوا على الحقيقة من أمرها. فإذا كانت هذه الشمس التي يقع عليها البصر ويدركها الحس قد عجزت العقول عن الوقوف على حقيقتها، فكيف ما لطف عن الحس واستتر عن الوهم؟ فإن قالوا: ولم استتر؟ قيل لهم: لم يستتر بحيلة يخلص إليها كمن يحتجب من الناس بالأبواب والستور, وإنما معنى قولنا استتر أنه لطف عن مدى ما تبلغه الأوهام، كما لطفت النفس وهي خلق من خلقه وارتفعت عن إدراكها بالنظر, فإن قالوا: ولم لطف؟ تعالى عن ذلك علوا كبيرا، كان ذلك خطأ من القول، لأنه لا يليق بالذي هو {خالق كل شيء} إلا أن يكون مباينًا لكل شيء متعاليًا عن كل شيء، سبحانه وتعالى.

* الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء أربعة أوجه وتفصيل ذلك‏

فإن قالوا: كيف يعقل أن يكون مباينًا لكل شيء متعاليًا عن كل شيء؟ قيل لهم: الحق الذي[39] تطلب معرفته من الأشياء هو أربعة أوجه. فأولها أن ينظر: أَموجود هو أم ليس بموجود؟ والثاني أن يعرف ما هو في ذاته وجوهره، والثالث أن يعرف كيف هو وما صفته، والرابع أن يعلم لما ذا هو ولأي علة, فليس من هذه الوجوه شيء يمكن للمخلوق أن يعرفه من الخالق حق معرفته غير أنه موجود فقط, فإذا قلنا: وكيف؟ وما هو؟ فممتنع علم كنهه وكمال المعرفة به. وأما لما ذا هو؟ فساقط في صفة الخالق لأنه جل ثناؤه علة كل شيء، وليس شيء بعلة له. ثم ليس علم الإنسان بأنه موجود يوجب له أن يعلم ما هو وكيف هو، كما أن علمه بوجود النفس لا يوجب أن يعلم ما هي وكيف هي، وكذلك الأمور الروحانية اللطيفة.[40] فإن قالوا: فأنتم الآن تصفون من قصور العلم عنه وصفًا حتى كأنه غير معلوم؟ قيل لهم: هو كذلك من جهة إذا رام العقل معرفة كنهه والإحاطة به, وهو من جهة أخرى أقرب من كل قريب إذا استدل عليه بالدلائل الشافية، فهو من جهة كالواضح لا يخفى على أحد، وهو من جهة كالغامض لا يدركه أحد. وكذلك العقل أيضًا ظاهر بشواهده ومستور بذاته.

* أصحاب الطبائع ومناقشة أقوالهم‏

فأما أصحاب الطبائع فقالوا: إن الطبيعة لا تفعل شيئًا لغير معنى ولا تتجاوز عما فيه تمام الشيء في طبيعته، وزعموا أن الحكمة تشهد بذلك. فقيل لهم: فمن أعطى الطبيعة هذه الحكمة والوقوف على حدود الأشياء بلا مجاوزة لها؟ وهذا قد تعجز عنه العقول بعد طول التجارب. فإن أوجبوا للطبيعة الحكمة والقدرة على مثل هذه الأفعال فقد أقروا بما أنكروا، لأن هذه في صفات الخالق. وإن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة، فهذا وجه الخلق يهتف بأن الفعل للخالق الحكيم, وقد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد والتدبير في الأشياء وزعموا أن كونها بالعرض والاتفاق. وكان مما احتجوا به هذه الآيات التي تكون على غير مجرى العرف والعادة، كإنسان يولد ناقصًا أو زائدًا إصبعًا أو يكون المولود مشوهًا مبدل الخلق. فجعلوا هذا دليلا على أن كون الأشياء ليس بعمد وتقدير، بل بالعرض كيفما اتفق أن يكون. وقد كان أرسطاطاليس رد عليهم فقال: إن الذي يكون بالعرض والاتفاق إنما هو شيء يأتي في الفرط مرة لأعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها، وليس بمنزلة الأمور الطبيعية الجارية على شكل واحد جريًا دائمًا متتابعًا, وأنت يا مفضل ترى أصناف الحيوان أن يجري أكثر ذلك على مثال ومنهاج واحد، كالإنسان يولد وله يدان ورجلان وخمس أصابع كما عليه الجمهور من الناس. فأما ما يولد على خلاف ذلك فإنه لعلة تكون في الرحم أو في المادة التي ينشأ منها الجنين، كما يعرض في الصناعات حين يتعمد الصانع الصواب في صنعته فيعوق دون ذلك عائق في الأداة أو في الآلة التي يعمل فيها الشيء, فقد يحدث مثل ذلك في أولاد الحيوان للأسباب التي وصفنا. فيأتي الولد زائدًا أو ناقصًا أو مشوهًا، ويسلم أكثرها فيأتي سويا لا علة فيه, فكما أن الذي يحدث في بعض أعمال الأعراض لعلة فيه لا يوجب عليها جميعًا الإهمال وعدم الصانع، كذلك ما يحدث على بعض الأفعال الطبيعية لعائق يدخل عليها لا يوجب أن يكون جميعها بالعرض والاتفاق. فقول من قال في الأشياء: إن كونها بالعرض والاتفاق من قبيل أن شيئًا منها يأتي على خلاف الطبيعة بعرض يعرض له خطأ وخطل, فإن قالوا: ولم صار مثل هذا يحدث في الأشياء؟ قيل لهم: ليعلم أنه ليس كون الأشياء باضطرار من الطبيعة ولا يمكن أن يكون سواه كما قال القائلون، بل هو تقدير وعمد من خالق حكيم، إذ جعل للطبيعة تجري أكثر ذلك على مجرى ومنهاج معروف، وتزول أحيانًا عن ذلك لأعراض تعرض لها, فيستدل بذلك على أنها مصرفة مدبرة، فقيرة إلى إبداء الخالق وقدرته في بلوغ غايتها وإتمام عملها, تبارك {الله أحسن الخالقين}, يا مفضل, خذ {ما آتيتك} واحفظ ما منحتك {وكن} لربك {من الشاكرين} ولآلائه من الحامدين ولأوليائه من المطيعين. فقد شرحت لك من الأدلة على الخلق والشواهد على صواب التدبير والعمد قليلا من كثير وجزءا من كل, فتدبره وفكر فيه واعتبر به, فقلت: بمعونتك يا مولاي أقر على ذلك وأبلغه إن شاء الله. فوضع يده على صدري فقال: احفظ بمشيئة الله ولا تنس إن شاء الله, فخررت مغشيًا علي, فلما أفقت قال: كيف ترى نفسك يا مفضل؟ فقلت: قد استغنيت بمعونة مولاي وتأييده عن الكتاب الذي كتبته وصار ذلك بين يدي كأنما أقرؤه من كفي، فلمولاي الحمد والشكر كما هو أهله ومستحقه, فقال ×: يا مفضل, فرغ قلبك واجمع إليك ذهنك وعقلك وطمأنينتك, فسألقي إليك من علم ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله بينهما وفيهما من عجائب خلقه وأصناف الملائكة وصفوفهم ومقاماتهم ومراتبهم إلى سدرة المنتهى وسائر الخلق من الجن والإنس إلى الأرض السابعة السفلى وما تحت الثرى حتى يكون ما وعيته جزءًا من أجزاء انصرف إذا شئت مصاحبا مكلوءا, فأنت منا بالمكان الرفيع وموضعك من قلوب المؤمنين موضع الماء من الصدى ولا تسألن عما وعدتك {حتى أحدث لك منه ذكرًا}. قال المفضل: فانصرفت من عند مولاي، بما لم ينصرف أحد بمثله.[41]

 



[1] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 61: "وأن الخالق له واحد" أقول: ...وهو أن ائتلاف أجزاء العالم واحتياج بعضها إلى بعض وانتظام بعضها ببعض يدل على وحدة مدبرها, كما أن ارتباط أجزاء الشخص بعضها ببعض, وانتظام بعض أعضائه مع بعض يدل على وحدة مدبره, وقد قيل في تطبيق العالم الكبير على العالم الصغير لطائف لا يسع المقام ذكرها, وربما يستدل عليه أيضا بما قد تقرر من أن المتلازمين إما أن يكون أحدهما علة للآخر أو هما معلولا علة ثالثة.

[2] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 65: قوله ×: ذلك بما قدمت أيديهم, يحتمل أن يكون هذا لتعذيب الآباء وإن كان الأولاد يؤجرون لقباحة منظرهم, أو للأولاد لما كان في علمه تعالى صدوره عنهم باختيارهم.

[3] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 65: قوله ×: "فإن كان الإهمال," أي إذا لم يكن الأشياء منوطة بأسبابها ولم ترتبط الأمور بعللها, فكما جاز أن يحصل هذا الترتيب والنظام التام بلا سبب فجاز أن يصير التدبير في الأمور سببا لاختلالها, وهذا خلاف ما يحكم به عقول كافة الخلق لما نرى من سعيهم في تدبير الأمور وذمهم من يأتي بها على غير تأمل وروية. ويحتمل أن يكون المراد أن الوجدان يحكم بتضاد آثار الأمور المتضادة, وربما أمكن إقامة البرهان عليه أيضا, فإذا أتى الإهمال بالصواب يجب أن يأتي ضده وهو التدبير بالخطإ, وهذا أفظع وأشنع, والمراد بالمحال الأمر الباطل الذي لم يأت على وجهه الذي ينبغي أن يكون عليه. قال الفيروزآبادي: المحال من الكلام - بالضم - ما عدل عن وجهه.

[4] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 67: قوله ×: "فما يمنعهم" لعل المراد أنهم إذا قالوا بذلك فقد أثبتوا الصانع, فلم يسمونه بالطبيعة؟ وهي ليست بذات علم وإرادة وقدرة.

[5] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 67: قوله ×: "علم أن هذا الفعل" أي ظاهر بطلان هذا الزعم والذي صار سببا لذهولهم أن الله تعالى أجرى عادته بأن يخلق الأشياء بأسبابها, فذهبوا إلى استقلال تلك الأسباب في ذلك. وبعبارة أخرى, إن سنة الله وعادته قد جرت لحكم كثيرة أن تكون الأشياء بحسب بادئ النظر مستندة إلى غيره تعالى, ثم يعلم بعد الاعتبار والتفكر أن الكل مستند إلى قدرته وتأثيره تعالى, وإنما هذه الأشياء وسائل وشرائط لذلك, فلذا تحيروا في الصانع تعالى.

[6] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 70: "روح المخاطبة," بالفتح, أي راحتها ولذتها, والشجو: الحزن. ولا يتوهم جواز الاستدلال به على عدم حرمة الغناء مطلقا لاحتمال أن يكون المراد الأفراد المحللة منها كما ذكرها الأصحاب... أو يكون فائدة إدراك تلك اللذة عظم الثواب في تركها لوجهه تعالى.

[7] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 73: بيان: الجفن: غطاء العين من أعلى وأسفل, والأشفار: هي حروف الأجفان التي عليها الشعر والأشراج العرى. وكأنه × شبه الأشفار بالعرى والخيط المشدود بها, فإن بهما ترفع الأستار وتسدل عند الحاجة إليهما, أو بالعرى التي تكون في العيبة من الأدم وغيره, يكون فيها خيط إذا شدت به يكون ما في العيبة محفوظا مستورا, وكلاهما مناسب والأول أنسب.

[8] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 75: وقوله ×: "إلا من خلقه مؤملا" إشارة إلى أن الأمل والرجاء في البقاء هو السبب لتحصيل النسل, ولذا جعل الإنسان ذا أمل لبقاء نوعه.

[9] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 80: قوله ×: "ولعلك ترى," يحتمل أن يكون الغرض دفع توهم السائل, كون ذكر التمثيل بعد ذكر القوى ومنافعها على الوجه الذي ذكره الأطباء واكتفوا به إطنابا وتكرارا, وحاصله أن الأطباء إنما ذكروها على ما يحتاجون إليه في صناعتهم من ذكر أفعال تلك القوى وسبب تعطلها, ولذا لم يحتاجوا إلى ذكر ما أوردنا من التمثيل, ونحن إنما ذكرنا هذا التمثيل لتتضح دلالتها على صانعها ومدبرها, إذ هذه مقصودنا من ذكرها.

ويحتمل أن يكون الغرض رفع توهم أن ذكره هذه القوى بعد كونها مذكورة في كتب الأطباء فضل لا حاجة إليه, بأن الغرض مختلف في بياننا وبيانهم, وبذلك يختلف التقرير أيضا, فلذا ذكرنا هاهنا بهذا التقرير الشافي, فالضمير في قوله ×: "وصفت" على بناء المجهول, راجع إلى القوى والعائد محذوف, أي وصفت به لكنه بعيد.

[10] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 89: قوله ×: "في تشابه الأشياء" أي قد يشبه مال شخص بمال شخص آخر, كثوب أو نعل أو دينار أو درهم, فيصير سببا للاشتباه والتشاجر والتنازع, فضلا عن تشابه الصورة فإنه أعظم فسادا, والمراد أن الناس كثيرا ما يشتبه عليهم أمر رجلين لتشابه لباسهما ومركوبهما وغير ذلك, فيؤخذ أحدهما بالآخر, فكيف مع تشابه الصورة.

[11] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 89: قوله ×: "واشتبهت مقاديرها" أي لم يعرف غاية ما ينتهي إليه مقداره فيشتبه الأمر عليه فيما يريد أن يهيئه لنفسه من دار ودابة وثياب وزوجة.

[12] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 89: قوله ×: "ويجفو" أي يبعد ويجتنب ولا يداوم على الصناعات اللطيفة أي التي فيها دقة ولطافة, قال الجزري: "وفي الحديث: اقرءوا القرآن ولا تجفوا عنه, أي تعاهدوه وتبعدوا عن تلاوته," انتهى.

والحاصل أن الله تعالى جعل الإنسان بحيث تثقل عن الحركة والمشي قبل سائر الحيوانات وتكل عن الأعمال الدقيقة لتعظم عليه مئونة تحصيل ما يحتاج إليه, فلا يبطر ولا يطغى, أو ليكون لهذه الأعمال أجر فيصير سببا لمعايش أقوام يزاولونها, والدعار في بعض النسخ بالمهملة من الدعر محركة الفساد والفسق والخبث وفي بعضها بالمعجمة من الدغرة وهي أخذ الشي‏ء اختلاسا...

قوله ×: "وتخلل مواضع الخطإ," يحتمل أن تكون الجملة حالية, أي تأتي بالصواب, مع أنها تدخل مواضع هي مظنة الخطإ من قولهم: تخللت القوم, أي دخلت خلالهم, ويحتمل أن يكون المراد بالتخلل: التخلف أو الخروج من خلالها, لكن تطبيقهما على المعاني اللغوية يحتاج إلى تكلف.

[13] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 92: المراد: إما استئناف قرن بعد قرن وزمان بعد زمان, أو إعادة أهل الأكوار والأدوار جميعا في القيامة, والأول أظهر. وقال الجزري: "قيل للقرن: طبق, لأنهم طبق للأرض, ثم ينقرضون فيأتي طبق آخر."

[14] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 92: أي قالها في ضمن نظائر لها أو مع نظائرها.

[15] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 92: قوله ×: "ولا يغرون," في بعض النسخ بالغين المعجمة والراء المهملة على بناء المفعول, من قولهم أغريت الكلب بالصيد, أي لا يؤثر فيهم الإغراء والتحريص على جميع الأعمال التي يحتاج إليها الخلق من ذلك العمل الذي تأتي به الدواب. وفي بعضها: بالعين المهملة والزاي المعجمة من عزي من باب تعب, أي صبر على ما نابه. والأول أظهر, والفادح من قولهم فدحه الدين أثقله, ثم اعلم أنه ينبغي حمل السؤال على أنه كان يمكن أن يكتفى بخلق الحيوانات, لأن بعضهم ينقادون ويطيعون بعضا, فالجواب منطبق من غير تكلف.

[16] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 95: بيان: وأوكدها أي أوكد الأشياء وأحوجها إلى هذا النوع من الخلق هذه الصناعات, ويحتمل إرجاع الضمير إلى جنس البشر, فيكون فعلا أي ألزمها أو ألهمها هذه الصناعات, ولا يبعد إرجاعه إلى الأكف أيضا.

[17] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 110: قوله ×: "غبيا جاهلا"، أي ليس له عقل يتصرف في سائر الأشياء على نحو تصرفه في ذلك الأمر المخصوص، فظهر أن خصوص هذا الأمر إلهام من مدبر حكيم، أو خلقة وطبيعة جبله عليها ليصدر عنه خصوص هذا الأمر لما فيه من المصلحة، مع كونه غافلا عن المصلحة أيضا. ولعل هذا يؤيد ما يقال: إن الحيوانات العجم غير مدركة للكليات.

ويقال: دلفت الكتيبة في الحرب، أي تقدمت، ويقال: دلفناهم، فالعساكر تحتمل الرفع والنصب. والرجلُ، بالفتح، جمع راجل خلاف الفارس، وانساب: جرى ومشى مسرعا. ولا يئودها، أي لا يثقلها. ولجة الماء: معظمه، والمجذاف: ما تجري به السفينة. وانتجع: طلب الكلأ في موضعه، وحافات الآجام: جوانبها، وعكف على الشيء: أقبل عليه مواظبا.

وقال الفيروزآبادي: القرمز صبغ أرمني يكون من عصارة دود في آجامهم. وقال: الحلزون، محركة، دابة تكون في الرمث، أي بعض مراعي الإبل. ويظهر من كلامه × اتحادهما، ويحتمل أن يكون المراد أن من صبغ الحلزون تفطنوا بإعمال القرمز للصبغ لتشابههما.

[18] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 114: إيضاح: الدولة بالفتح والضم انقلاب الزمان، ودالت الأيام أي دارت، والله يداولها بين الناس.

وهدأ، كمنع، هدءًا وهدوءًا أي سكن. ويقال: نكيت في العدو نكاية إذا قتلت فيهم وجرحت.

وجثم الإنسان والطائر والنعام يجثم جثما وجثوما، أي لزم مكانه ولم يبرح، والمراد هنا جثومهم في الليل.

والتظاهر: التعاون، ونور الشجر أي أخرج نوره، وحدم النار: شدة احتراقها.

والتقصي: بلوغ أقصى الشيء ونهايته، والغابر: الباقي والماضي، والمراد هنا الثاني.

وبزغت الشمس بزوغًا، أي شرقت، أو البزوغ ابتداء الطلوع.

وقال الجوهري: اعتل عليه واعتله إذا اعتاقه عن أمر، انتهى.

وليلة داجية أي مظلمة.

[19] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 117: قوله × "لا تفارق مراكزها"، لعل المراد أنه ليس لها حركة بينة ظاهرة كما في السيارات، أو أنها لا تختلف نسب بعضها إلى بعض بالقرب والبعد، بحيث تكون الجملة التالية مفسرة لها.

ويحتمل أن يكون المراد بمراكزها البروج التي تنسب إليها، على ما هو المصطلح بين العرب من اعتبار محاذاة تلك الأشكال في الانتقال إلى البروج، وإن انتقلت عن مواضعها، وعليه ينبغي أن يُحمل المعنى المقصود هنا.

[20] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 117: قوله × "وبعضها مطلقة تنتقل في البروج"، أي أن منها ما يتحرك وينتقل بين البروج.

أو أن المراد ما ذكر سابقًا من كون انتقالها في البروج ظاهرًا بينًا يعرفه كل أحد، ولكن الأول أظهر، كما سيتضح من كلامه × لاحقًا.

ويحتمل أن يكون المراد بمراكزها البروج التي تنسب إليها، على ما هو المصطلح بين العرب من اعتبار محاذاة تلك الأشكال في الانتقال إلى البروج، وإن انتقلت عن مواضعها، وعليه ينبغي أن يُحمل المعنى المقصود هنا.

[21] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 117: قوله × قوله × "فإن الإهمال معنى واحد"، يحتمل أن يكون المراد أن الطبيعة أو الدهر، اللذين يجعلونهما أصحاب الإهمال مؤثرين، كل منهما أمر واحد غير ذي شعور وإرادة، ولا يمكن صدور الأمرين المختلفين عن مثل ذلك، كما مرّ سابقًا.

أو أن المراد أن العقل يحكم بأن هذين الأمرين المتسقين الجاريين على قانون الحكمة لا يكونان إلا من حكيم راعى فيهما دقائق الحكم.

أو أن الإهمال، أي عدم الحاجة إلى العلة وترجيح الأمر الممكن من غير مرجح، كما يزعمون، هو أمر واحد حاصل فيهما، فلماذا صارت إحداهما راتبة والأخرى منتقلة؟ ولماذا لم يعكس الأمر؟

والأول أظهر، كما لا يخفى.

[22] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 117: قوله × قوله × "في البروج الراتبة" يدل ظاهرًا على ما أشرنا إليه من أنه × راعى في انتقال البروج محاذاة نفس الأشكال، وإن أمكن أن يكون المراد بيان حكمة بطء الحركة ليصلح كون تلك الأشكال علامات للبروج، ولو بقربها منها، لكنه بعيد.

[23] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 117: قوله × "والشعريين"، قال الجوهري:

الشعرى: الكوكب الذي يطلع بعد الجوزاء، وطلوعه يكون في شدة الحر، وهما الشعريان: الشعرى العبور: التي في الجوزاء.

الشعرى القميصاء: التي في الذراع. وتزعم العرب أنهما أختا سهيل، انتهى.

والقفار: جمع قفر، وهو الخلاء من الأرض. وخطف البرق البصر: أي ذهب به. ووهج النار (بالتسكين): توقدها.

[24] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 119: قوله × "لا يجاوز ذلك"، أي في معظم المعمورة.

وقال الفيروزآبادي: خوت الدار: تهدمت. النجوم خيا: أمحلت فلم تمطر، كأخوت. المنتكث: المهزول. الترسل: الرفق والتؤدة، انتهى.

[25] العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 120: قوله × "والهواء يؤديه" يدل على ما هو المنصور من تكيف الهواء بكيفية الصوت، كما فُصّل في محله.

ويقال: "كربه الأمر": أي شقّ عليه. "فدحه الدين": أي أثقل كاهله. "ريثما فعل كذا": أي بقدر ما فعله.

[26]  العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 124: قوله ×: "إن مهب الشمال أرفع"، أي بعد ما خرجت الأرض من الكروية الحقيقية، صار ما يلي الشمال منها في أكثر المعمورة أرفع مما يلي الجنوب. لذا ترى أكثر الأنهار، كدجلة والفرات وغيرهما، تجري من الشمال إلى الجنوب. لما كان الماء الساكن في جوف الأرض تابعًا للأرض في ارتفاعه وانخفاضه، فلذا صارت العيون المتفجرة تجري هكذا من الشمال إلى الجنوب حتى تجري على وجه الأرض. لذا حكموا بفوقية الشمال على الجنوب في حكم اجتماع البئر والبالوعة. إذا تأملت فيما ذكرنا، يظهر لك ما بينه × من الحكم في ذلك، وأنه لا ينافي كروية الأرض.

[27]  العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 124: قوله ×: "فإنه سوى الأمر الجليل"، الضمير راجع إلى الماء، وهو اسم "إن"، و"يمزج" خبره، أي للماء، سوى النفع الجليل المعروف، وهو كونه سببًا لحياة كل شيء، منافع أخرى، منها أنه يمزج مع الأشربة.

قال الجوهري: "الحميم: الماء الحار. وقد استحممت إذا اغتسلت به، ثم صار كل اغتسال استحمامًا بأي ماء كان." انتهى.

الوصب, بفتح الواو وكسر الصاد: المرض. المكتنف بفتح النون: من الكنف، بمعنى الحفظ والإحاطة، واكتنفه أي أحاط به.

يظهر منه أن نوعًا من الياقوت يتكون في البحر، وقيل: أُطلق على المرجان مجازًا، ويحتمل أن يكون المراد ما يُستخرج منه بالغوص وإن لم يتكوّن فيه.

اليلنجوج: عود البخور. "من العراق"، أي البصرة، و"إلى العراق"، أي الكوفة، أو بالعكس.

[28]  العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 125: قوله ×: "ويعجز"، أي لولا كثرة الهواء، لعجز الهواء عما يستحيل إليه من السحاب والضباب، التي تتكون من الهواء أولًا فأولًا، أي تدريجيًا، أي كان الهواء لا يفي بذلك أو لا يتسع لذلك.

الضباب بالفتح: ندى كالغيم، أو سحاب رقيق كالدخان. الأحايين: جمع "أحيان"، وهو جمع "حين"، بمعنى الدهر والزمان.

[29]  العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 125: قوله ×: "فلا هي تمسك بالمادة والحطب"، أي دائمًا، بحيث إذا انطفأت لم يمكن إعادتها. المادة: الزيادة المتصلة، والمراد هنا الدهن.

"ومثله": ودفاء الأبدان (بالكسر)، دفع البرد عنها.

[30]  العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 133: قوله ×: "معجما"، لعل المراد شدة ارتباطها. قال الفيروزآبادي: "باب معجم كمكرم، مقفل." انتهى. يحتمل أن يكون كناية عن خفائها، كقوله |: "صلاة النهار عجماء."

[31]  العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 133: قوله ×: "فيحتبس الحرارة الغريزية"، يدل على أن الحرارة الغريزية لا تختص بالحيوان، بل توجد في النبات أيضًا، كما صرّح به جماعة من المحققين. يقال: "رصفت الحجارة في البناء رصفًا"، أي ضممت بعضها إلى بعض. استحصف: استحكم. التذرع: كثرة الكلام والإفراط فيه.

[32]  العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 143: قوله × للاسم الأقدم: لعل المراد بالاسم المسمى، أو المراد الاسم الذي أظهره وأثبته في اللوح قبل سائر الأسماء، أو المراد الاسم الذي يخص الذات، فهو أسبق الأسماء في الاعتبار وأشرفها كما يظهر من الآثار.

[33]  العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 144: ثم اعلم أنه ينبغي أن تحمل العصمة المأخوذة في السؤال على غير المعنى المشهور الذي سيأتي تحقيقه في باب عصمة الأئمة ×، بل المراد العصمة بمعنى الإلجاء الذي لم يبق معه اختيار، ولذا فرع × عليه عدم استحقاق الثواب، وإلا فالعصمة التي اتصفت بها الأنبياء والأئمة × لا ينافي ذلك، كما سنحققه في مقامه إن شاء الله تعالى. ويمكن أن يقال على تقدير أن يكون المراد هذا المعنى أيضاً بأنه إذا صار هذا عاماً في جميع البشر، لا يتأتى في بعض المواد التي لا تستحق ذلك من نفوس الأشرار والفجار إلا بالإلجاء الرافع للاستحقاق.

قوله ×: "إلى غاية الكلب والضراوة"، قال الجوهري: "دفعت عنك كلب فلان"، أي شره وأذاه، والكلب أيضاً شبيه بالجنون. وقال: "ضري الكلب بالصيد ضراوة"، أي تعود. أقول: لما كان السؤال مبنياً على فرض العصمة ظاهراً، فتصحيح هذا الجواب في غاية الإشكال، وخطر بالبال وجوه:

الأول: أن لا يكون السؤال مبنياً على فرض العصمة، بل يكون المراد أنه لما ذكرت أن العصمة تنافي الاستحقاق، فنقول: لمَ لمْ يبذل لهم الثواب على أي حال بأن يكلفهم العمل ليستحقوا الثواب إن أرادوا استحقاقه، وإلا أعطاهم من غير استحقاق، إذ كثير من الناس يطلبون النعيم بغير استحقاق، فلا يكون عليهم في الدنيا والآخرة سخط على المخالفة، وعلى هذا الجواب ظاهر الانطباق على السؤال كما لا يخفى.

الثاني: أن يكون السؤال مبنياً على فرض العصمة في بعضهم، وهم الذين يطلبون الثواب ولا يريدون استحقاقه، كما هو ظاهر السياق، ويكون حاصل الجواب أنه لو كان المجبور على الخيرات مثاباً، فمقتضى العدل أن يكون غير المجبور الطالب للخير والاستحقاق غير معاقب على حال، وإلا لكان له الحجة على ربه بأنك لم تعصمني كما عصمت غيري، ومنعت عني اللطف بالبلايا والصوارف عن المعاصي في الدنيا، ثم تعذبني على المعاصي.

فعلى هذا، فلو علم غير المعصومين ذلك، لدعتهم الدواعي النفسانية إلى غاية الفساد، وهذا وجه وجيه، لكن يحتاج إلى طي بعض المقدمات.

الثالث: أن يكون السؤال مبنياً على ذلك الفرض أيضاً، لكن يكون الجواب مبنياً على أنه قد يستلزم المحال نقيضه، إذ الكلام في هذا النوع من الخلق المسمى بالإنسان، الذي اقتضت الحكمة أن يكون قد ركبت فيه أنواع الشهوات والدواعي، فلو فرضته على غير تلك الحالة، لكان من قبيل فرض الشيء إنساناً وملكاً، وهما لا يجتمعان. فعلى هذا، يلزمه أيضاً لفرض كونه إنساناً أن يدعوه عدم خوف العقاب والفراغ إلى الأشر والبطر وأنواع المعاصي، وحاصله يرجع إلى تغيير الجواب الأول إلى جواب آخر لا يرد عليه السؤال على غاية اللطف والدقة.

[34]  العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 145: قوله ×: "فإن قال، ولم يحدث على الناس"، أقول: لما كان آخر الكلام موهماً لأن هذه الأمور بعد حدوثها يصيرها الله تعالى إلى الحكمة والصلاح، سأل ثانياً: ما السبب في أصل الحدوث حتى يحتاج إلى أن يجعله الله صلاحاً؟ ويحتمل أن يكون مراده: أنا علمنا أن في وجودها صلاحاً، فهل في عدمها فساد؟

والجواب على التقديرين ظاهر. وقال الفيروزآبادي: "عوز الشيء كفرح لم يوجد، وأعوزه الشيء احتاج إليه، والدهر أحوجه". وقال: "تناشبوا تضاموا وتعلق بعضهم ببعض". وقال: "نشب الأمر كلزم زنة ومعنى". وقال: "أفرجوا عن الطريق والقتيل"، أي انكشفوا، و"عن المكان"، أي تركوه. انتهى.

والمراد هنا عدم التخلية بين أحد وبين ما يريده.

[35]  العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 145: قوله ×: "ولا سلا عن شيء"، أي لا ينسى ويتسلى عن شيء من المصائب، إذ بتذكر الموت تزول شدة المحن، من قولهم: "سلا عن الشيء"، أي نسيه. وقال الجوهري: "بزه يبزه بزا"، أي سلبه، وفي المثل: "من عز بز"، أي من غلب أخذ السلب. وقال: "سامه خسفاً وخسفاً"، بالضم، أي أولاه ذلاً. وقال الفيروزآبادي: "لمع بيده"، أي أشار. وقال: "تفاقم الأمر"، أي عظم.

[36]  العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 145: قوله ×: "وبخت نصر بالتيه"، أقول: لعله إشارة إلى ما ذكره جماعة من المؤرخين، أن ملكاً من الملائكة لطم بخت نصر لطمة، فمسخه وصار في الوحش في صورة أسد، وهو مع ذلك يعقل ما يفعله الإنسان، ثم رده الله تعالى إلى صورة الإنس وأعاد إليه ملكه، فلما عاد إلى ملكه أراد قتل دانيال، فقتله الله على يد واحد من غلمانه.

وقيل في سبب قتله أن الله أرسل عليه بعوضة، فدخلت في منخره وصعدت إلى رأسه، فكان لا يقر ولا يسكن حتى يدق رأسه، فمات من ذلك.

وبلبيس غير معروف عند المؤرخين، والتطاول هنا مبالغة في الطول بمعنى الفضل والإحسان. ودخلة الرجل مثلثة: نيته ومذهبه وجمع أمره وبطانته.

[37]  العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 146: قوله ×: "والشاهد المحنة"، أي بالشاهد يمكن امتحان الغائب.

[38]  العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 150: قوله ×: "قال أصحاب الهندسة"، أقول: المشهور بين متأخريهم أن جرم الشمس مائة وستة وستون مثلاً وربع وثمن لجرم الأرض، وما ذكره × لعله كان مذهب قدمائهم، مع أنه قريب من المشهور، والاختلاف بين قدمائهم ومتأخريهم في أمثال ذلك كثير.

[39]  العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 150: قوله ×: "الحق الذي"، أي الأمور الحقة الثابتة التي تطلب معرفتها من بين الأشياء، وفي بعض النسخ: "لحق"، أي ما يحق وينبغي أن تطلب معرفته من أحوال الأشياء، هو أربعة أوجه.

وقال الجوهري: "قولهم لقيته في الفرط بعد الفرط"، أي الحين بعد الحين. والصدى، بالفتح: العطش.

[40]  العلامة المجلسي في البحار ج 3 ص 150: ثم اعلم أن بعض تلك الفقرات تومئ إلى تجرد النفس، والله يعلم وحججه، صلوات الله عليهم أجمعين.

وذكر العلامة الطباطبائي في حامش البحار ج 3 ص 150: بل الى وجود أمور اخرى غير النفس مجردة كما يشعر به قوله: "وكذلك الأمور الروحانية اللطيفة" ومنه يظهر أن وصف شي‏ء بأنه روحانى أو لطيف في الأخبار يشعر بتجرده.

[41] بحار الأنوار ج 3 ص 57, كتاب توحيد المفضل

 

 

تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية