سورة العاديات

{والعاديات ضبحا (1) فالموريات قدحا (2) فالمغيرات صبحا (3) فأثرن به نقعا (4) فوسطن به جمعا (5) إن الإنسان لربه لكنود (6) وإنه على‏ ذلك لشهيد (7) وإنه لحب الخير لشديد (8) أ فلا يعلم إذا بعثر ما في القبور (9) وحصل ما في الصدور (10) إن ربهم بهم يومئذ لخبير (11)}

 

عن أبي بصير, عن أبي عبد الله × في قوله: {والعاديات ضبحا فالموريات قدحا}، قال: هذه السورة نزلت في أهل وادي اليابس, قال: قلت: وما كان حالهم وقصتهم؟ قال: إن أهل وادي اليابس اجتمعوا اثني عشر ألف فارس وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا على أن لا يتخلف رجل عن رجل ولا يخذل أحد أحدا ولا يفر رجل عن صاحبه, حتى يموتوا كلهم على حلف واحد أو يقتلوا محمدا | وعلي بن أبي طالب ×، فنزل جبرئيل × على محمد | وأخبره بقصتهم وما تعاقدوا عليه وتواثقوا, وأمره أن يبعث فلانا إليهم في أربعة آلاف فارس من المهاجرين والأنصار، فصعد رسول الله | المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر المهاجرين والأنصار, إن جبرئيل أخبرني أن أهل وادي اليابس اثني عشر ألف فارس قد استعدوا وتعاقدوا وتعاهدوا أن لا يغدر رجل بصاحبه ولا يفر عنه ولا يخذله حتى يقتلوني وأخي علي بن أبي طالب ×, وقد أمرني أن أسير إليهم فلانا في أربعة آلاف فارس, فخذوا في أمركم واستعدوا لعدوكم وانهضوا إليهم على اسم الله وبركته يوم الإثنين إن شاء الله تعالى. فأخذ المسلمون عدتهم وتهيئوا وأمر رسول الله | فلانا بأمره, وكان فيما أمره به أنه إذا رآهم أن يعرض عليهم الإسلام فإن تابعوه وإلا واقعهم, فيقتل مقاتليهم ويسبي ذراريهم‏ ويستبيح أموالهم ويخرب ضياعهم وديارهم، فمضى فلان ومن معه من المهاجرين والأنصار في أحسن عدة وأحسن هيئة يسير بهم سيرا رفيقا حتى انتهوا إلى أهل وادي اليابس، فلما بلغ القوم نزول القوم عليهم ونزل فلان وأصحابه قريبا منهم، خرج إليهم من أهل وادي اليابس مائتا رجل مدججين بالسلاح، فلما صادفوهم قالوا لهم: من أنتم ومن أين أقبلتم وأين تريدون؟ ليخرج إلينا صاحبكم حتى نكلمه. فخرج إليهم فلان في نفر من أصحابه المسلمين فقال لهم: أنا فلان صاحب رسول الله، قالوا: ما أقدمك علينا؟ قال: أمرني رسول الله | أن أعرض عليكم الإسلام, فإن تدخلوا فيما دخل فيه المسلمون لكم ما لهم وعليكم ما عليهم وإلا فالحرب بيننا وبينكم، قالوا له: أما واللات والعزى لو لا رحم بيننا وقرابة قريبة لقتلناك وجميع أصحابك قتلة تكون حديثا لمن يكون بعدكم, فارجع أنت ومن معك واربحوا العافية, فإنا إنما نريد صاحبكم بعينه وأخاه علي بن أبي طالب ×, فقال فلان لأصحابه: يا قوم! القوم أكثر منكم أضعافا وأعد منكم وقد نأت داركم عن إخوانكم من المسلمين, فارجعوا نعلم رسول الله | بحال القوم، فقالوا له جميعا: خالفت يا فلان قول رسول الله | وما أمرك به, فاتق الله وواقع القوم ولا تخالف رسول الله |، فقال: إني أعلم ما لا تعلمون, الشاهد يرى ما لا يرى الغائب, فانصرف وانصرف الناس أجمعون، فأخبر رسول الله | بمقالة القوم وما رد عليهم فلان, فقال رسول الله |: يا فلان, خالفت أمري ولم تفعل ما أمرتك, وكنت لي والله عاصيا فيما أمرتك, فقام النبي | وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر المسلمين, إني أمرت فلانا أن يسير إلى أهل وادي اليابس وأن يعرض عليهم الإسلام ويدعوهم إلى الله فإن أجابوه وإلا واقعهم, وأنه سار إليهم وخرج إليه منهم مائتا رجل فإذا سمع كلامهم وما استقبلوه‏ به انتفخ صدره ودخله الرعب منهم وترك قولي ولم يطع أمري، وإن جبرئيل × أمرني عن الله أن أبعث إليهم فلانا مكانه في أصحابه في أربعة آلاف فارس, فسر يا فلان على اسم الله ولا تعمل كما عمل أخوك, فإنه قد عصى الله وعصاني, وأمره بما أمر به الأول, فخرج وخرج معه المهاجرون والأنصار الذين كانوا مع الأول يقتصد بهم في سيرهم حتى شارف القوم وكان قريبا منهم بحيث يراهم ويرونه، وخرج إليهم مائتا رجل فقالوا له ولأصحابه مثل مقالتهم للأول, فانصرف وانصرف الناس معه وكاد أن يطير قلبه مما رأى من عدة القوم وجمعهم ورجع يهرب منهم, فنزل جبرئيل × فأخبر محمدا | بما صنع هذا وأنه قد انصرف وانصرف المسلمون معه, فصعد النبي | المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأخبر بما صنع هذا وما كان منه, وأنه قد انصرف وانصرف المسلمون معه مخالفا لأمري عاصيا لقولي، فقدم عليه فأخبره مثل ما أخبره به صاحبه, فقال له: يا فلان, عصيت الله في عرشه وعصيتني وخالفت قولي وعملت برأيك, ألا قبح الله رأيك, وأن جبرئيل × قد أمرني أن أبعث علي بن أبي طالب × في هؤلاء المسلمين, وأخبرني أن الله يفتح عليه وعلى أصحابه، فدعا عليا × وأوصاه بما أوصى به الأول والثاني وأصحابه الأربعة آلاف فارس, وأخبره أن الله سيفتح عليه وعلى أصحابه. فخرج علي × ومعه المهاجرون والأنصار, فسار بهم سيرا غير سير فلان وفلان, وذلك أنه أعنف بهم في السير حتى خافوا أن ينقطعوا من التعب وتحفى‏ دوابهم, فقال لهم: لا تخافوا فإن رسول الله | قد أمرني بأمر وأخبرني أن الله سيفتح علي وعليكم, فأبشروا فإنكم على خير وإلى خير, فطابت نفوسهم وقلوبهم وساروا على ذلك السير والتعب حتى إذا كانوا قريبا منهم حيث يرونهم ويراهم‏ أمر أصحابه أن ينزلوا وسمع أهل وادي اليابس بقدوم علي بن أبي طالب × وأصحابه, فخرجوا إليه منهم مائتا رجل شاكين بالسلاح، فلما رآهم علي × خرج إليهم في نفر من أصحابه فقالوا لهم: من أنتم ومن أين أنتم ومن أين أقبلتم وأين تريدون؟ قال ×: أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله | وأخوه ورسوله إليكم، أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, ولكم إن آمنتم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم من خير وشر، فقالوا له: إياك أردنا وأنت طلبتنا, قد سمعنا مقالتك وما عرضت علينا, هذا ما لا يوافقنا فخذ حذرك واستعد للحرب العوان‏, واعلم أنا قاتلوك وقاتلو أصحابك والموعد فيما بيننا وبينك غدا ضحوة، وقد أعذرنا فيما بيننا وبينكم. فقال لهم علي ×: ويلكم! تهددوني بكثرتكم وجمعكم! فأنا أستعين بالله وملائكته والمسلمين عليكم, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فانصرفوا إلى مراكزهم وانصرف علي × إلى مركزه, فلما جنه الليل أمر أصحابه أن يحسنوا إلى دوابهم ويقضموا ويسرجوا. فلما انشق عمود الصبح صلى بالناس بغلس‏ ثم أغار عليهم بأصحابه, فلم يعلموا حتى وطئتهم الخيل فيما أدرك آخر أصحابه, حتى قتل مقاتليهم, وسبى ذراريهم, واستباح أموالهم, وخرب ديارهم وأقبل بالأسارى والأموال معه, ونزل جبرئيل × فأخبر رسول الله | بما فتح الله بعلي × وجماعة المسلمين، فصعد رسول الله | المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأخبر الناس بما فتح الله على المسلمين, وأعلمهم أنه لم يصب منهم إلا رجلين, ونزل فخرج يستقبل عليا × في جميع أهل المدينة من المسلمين, حتى لقيه على ثلاثة أميال من المدينة، فلما رآه علي × مقبلا نزل عن دابته ونزل النبي | حتى التزمه وقبل ما بين عينيه، فنزل جماعة المسملين إلى علي × حيث نزل رسول الله | وأقبل بالغنيمة والأسارى وما رزقهم الله به من أهل وادي اليابس. ثم قال جعفر بن محمد ×: ما غنم المسلمون مثلها قط إلا أن يكون من خيبر فإنها مثل ذلك, وأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك اليوم هذه السورة {والعاديات ضبحا} يعني بالعاديات الخيل تعدو بالرجال، والضبح صيحتها في أعنتها ولجمها {فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا} فقد أخبرتك أنها أغارت عليهم صبحا, قلت: قوله: {فأثرن به نقعا} قال: الخيل يؤثرن بالوادي نقعا {فوسطن به جمعا} قلت: قوله {إن الإنسان لربه لكنود} قال: لكفور {وإنه على ذلك لشهيد} قال: يعنيهما جميعا, قد شهدا جميعا وادي اليابس وكانا لحب الحياة لحريصين, قلت قوله: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير} قال: نزلت الآيتان فيهما خاصة, كانا يضمران ضمير السوء ويعملان به، فأخبر الله خبرهما وفعالهما فهذه قصة أهل وادي اليابس وتفسير العاديات. [1]

 

عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله × عن قول الله عز وجل: {والعاديات ضبحا} قال: وجه رسول الله | عمر بن الخطاب في سرية، فرجع منهزما يجبن أصحابه ويجبنونه أصحابه، فلما انتهى إلى النبي | قال لعلي ×: أنت صاحب القوم، فتهيأ أنت ومن تريده من فرسان المهاجرين والأنصار، فوجهه رسول الله | فقال له: اكمن النهار وسر الليل ولا تفارقك العين. قال: فانتهى علي × إلى ما أمره به رسول الله | فسار إليهم، فلما كان عند وجه الصبح أغار عليهم، فأنزل الله على نبيه | {والعاديات ضبحا} إلى آخرها. [2]

 

عن أبان بن تغلب, عن أبي جعفر × قال: إن رسول الله | أقرع بين أهل الصفة فبعث منهم ثمانين رجلا إلى بني سليم وأمر عليهم أبا بكر, فسار إليهم فلقيهم قريبا من الحرة وكانت أرضهم أشبة كثيرة الحجارة والشجر ببطن الوادي والمنحدر إليهم صعب, فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة, فلما قدموا على النبي | عقد لعمر بن الخطاب وبعثه فكمن له بنو سليم بين الحجارة وتحت الشجرة, فلما ذهب ليهبط خرجوا عليه ليلا فهزموه حتى بلغ جنده سيف البحر, فرجع عمر منه منهزما, فقام عمرو بن العاص إلى رسول الله | فقال: أنا لهم يا رسول الله, ابعثني إليهم, فقال له: خذ في شأنك, فخرج إليهم فهزموه وقتل من أصحابه ما شاء الله, ومكث رسول الله | أياما يدعو عليهم, ثم أرسل بلالا وقال: ايتني ببردي النجراني وقباي الخطية, ثم دعا عليا × فعقد له ثم قال: أرسلته كرارا غير فرار, ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني رسولك فاحفظني فيه وافعل به وافعل‏, فقال له من ذلك ما شاء الله. قال أبو جعفر ×: وكأني أنظر إلى رسول الله | شيع عليا × عن مسجد الأحزاب وعلي × على فرس أشقر مهلوب‏ وهو يوصيه, قال: فسار فتوجه نحو العراق حتى ظنوا أنه يريد بهم غير ذلك الوجه, فسار بهم حتى استقبل الوادي من فمه وجعل يسير الليل ويكمن النهار, حتى إذا دنا من القوم أمر أصحابه أن يطعموا الخيل وأوقفهم مكانا, وقال ×: لا تبرحوا مكانكم, ثم سار أمامهم, فلما رأى عمرو بن العاص ما صنع وظهر آية الفتح قال لأبي بكر: إن هذا شاب حدث وأنا أعلم بهذه البلاد منه, وهاهنا عدو هو أشد علينا من بني سليم, الضباع والذئاب, فإن خرجت علينا نفرت بنا وخشيت أن تقطعنا, فكلمه يخلي عنا نعلو الوادي, قال: فانطلق فكلمه وأطال, ولم يجبه حرفا, فرجع إليهم فقال: لا والله ما أجاب إلي حرفا, فقال عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب: انطلق إليه لعلك أقوى عليه من أبي بكر, قال: فانطلق عمر فصنع به ما صنع بأبي بكر فرجع فأخبرهم أنه لم يجبه حرفا, فقال أبو بكر: لا والله لا نزول من مكاننا, أمرنا رسول الله | أن نسمع لعلي × ونطيع, قال: فلما أحس علي × بالفجر أغار عليهم فأمكنه الله من ديارهم فنزلت‏ {والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا}, قال: فخرج رسول الله | وهو يقول: صبح علي × والله, جمع القوم ثم صلى وقرأ بها, فلما كان اليوم الثالث قدم علي × المدينة وقد قتل من القوم عشرين ومائة فارس, وسبى مائة وعشرين ناهدا. [3]

 

* فرات بن إبراهيم الكوفي في تفسيره, حدثني الحسين بن سعيد وجعفر بن محمد الفزاري معنعنا, عن أبي ذر الغفاري وغيره‏: أن النبي | أقرع بين أهل الصفة, فبعث منهم ثمانين رجلا ومن غيرهم إلى بني سليم, وولى عليهم وانهزموا مرة بعد مرة, فلبث بذلك أياما يدعو عليهم, قال: ثم دعا بلالا فقال له: ائتني ببردي النجراني, وقبائي الخطية, فأتاه بهما فدعا عليا × وبعثه في جيش إليهم, وقال: لقد وجهته كرارا غير فرار, قال فسار علي × وخرج معه النبي | يشيعه, فكأني أنظر إليه‏ عند مسجد الأحزاب وعلي × على فرس أشقر وهو يوصيه, ثم ودعه‏ النبي | وانصرف, قال: وسار علي × فيمن معه متوجها نحو العراق وظنوا أنه يريد بهم غير ذلك الوجه حتى أتاهم‏ الوادي, ثم جعل يسير الليل ويكمن النهار, فلما دنا من القوم أمر أصحابه فعلموا الخيل وأوقفهم‏ وقال: لا تبرحوا, إذا نبذ بإمامهم, فرام بعض أصحابه الخلاف وأبى بعض, حتى إذا طلع الفجر أغار عليهم علي × فمنحه الله أكتافهم وأظهره عليهم, فأنزل الله على نبيه محمد | الآية {والعاديات ضبحا} قال‏: فخرج النبي | لصلاة الفجر وهو يقول: ضبح والله جمع القوم, ثم صلى بالمسلمين فقرأ {والعاديات ضبحا} قال: فقتل منهم مائة وعشرين رجلا, وكان رئيس القوم الحارث بن بشر, وسبى منهم مائة وعشرين ناهدا, وعلى سيدي السلام. [4]

 

عن سلمان الفارسي قال: بينما نحن أجمع ما كنا حول النبي | ما خلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب × فإنه كان في منبر في الحار إذ أقبل أعرابي بدوي‏ يتخطى صفوف المهاجرين والأنصار, حتى جثا بين يدي رسول الله | وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله‏, فداك أبي وأمي يا رسول الله, فقال النبي |: وعليك السلام, من أنت يا أعرابي؟ قال: رجل من بني لجيم يا رسول الله, فقال النبي |: ما وراك يا أخا لجيم؟ قال: يا رسول الله, خلفت خثعما وقد تهيئوا وعبئوا كتائبهم, وخلفت الرايات تخفق فوق رءوسهم, يقدمهم الحارث بن مكيدة الخثعمي في خمسمائة من رجال خثعم, يتألون باللات والعزى أن لا يرجعوا حتى يردوا المدينة فيقتلونك ومن معك يا رسول الله‏, قال: فدمعت عينا النبي | حتى أبكى جميع أصحابه, ثم قال: معاشر الناس, سمعتم مقالة الأعرابي؟ قالوا: كل قد سمعنا يا رسول الله, قال: فمن منكم يخرج إلى هؤلاء القوم قبل أن يطئونا في ديارنا وحريمنا, لعل الله يفتح على يديه وأضمن له على الله الجنة, قال: فوالله ما قال أحدنا: أنا يا رسول الله, قال: فقام النبي | على قدميه وهو يقول: معاشر أصحابي, هل سمعتم مقالة الأعرابي؟ قالوا: كل قد سمعنا يا رسول الله, قال: فمن منكم يخرج إليهم قبل أن يطئونا في ديارنا وحريمنا لعل الله أن يفتح على يديه وأضمن له على الله اثني عشر قصرا في الجنة؟ قال: فوالله ما قال أحدنا: أنا يا رسول الله, قال: فبينما النبي | واقف إذ أقبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب × فلما نظر إلى النبي | وهو واقف ودموعه تنحدر كأنها جمان انقطع سلكه‏ على خديه, لم يتمالك أن رمى بنفسه عن بعيره إلى الأرض, ثم أقبل يسعى نحو النبي | يمسح بردائه الدموع عن وجه رسول الله | وهو يقول: ما الذي أبكاك؟ لا أبكى الله عينيك يا حبيب الله, هل نزل في أمتك شي‏ء من السماء؟ قال: يا علي, ما نزل فيهم إلا خير, ولكن هذا الأعرابي حدثني عن رجال خثعم بأنهم قد عبئوا كتائبهم وخفقت الرايات فوق رءوسهم, يكذبون قولي ويزعمون بأنهم لا يعرفون ربي, يقدمهم الحارث بن مكيدة الخثعمي في خمسمائة من رجال خثعم, يتألون باللات والعزى لا يرجعون حتى يردوا المدينة فيقتلوني ومن معي, وإني قلت لأصحابي: من منكم يخرج إلى هؤلاء القوم من قبل أن يطئونا في ديارنا وحريمنا لعل الله أن يفتح على يديه وأضمن له على الله اثني عشر قصرا في الجنة؟ فقال علي ×: فداك أبي وأمي يا رسول الله, صف لي هذه القصور, فقال رسول الله |: يا علي, بناء هذه القصور لبنة من ذهب ولبنة من فضة, ملاطها المسك الأذفر والعنبر, حصاها الدر والياقوت, ترابها الزعفران وكثيبها الكافور, في صحن كل قصر من هذه القصور أربعة أنهار: نهر من عسل, ونهر من خمر, ونهر من لبن, ونهر من ماء, محفوف بالأشجار والمرجان على حافتي كل‏ نهر من هذه الأنهار, وخلق فيها خيمة من درة بيضاء لا قطع فيها ولا فصل, قال لها: كوني, فكانت, يرى باطنها من ظاهرها, وظاهرها من باطنها, في كل خيمة سرير مفضض بالياقوت الأحمر, قوائمه من الزبرجد الأخضر, على كل سرير حوراء من الحور العين, على كل حوراء سبعون حلة خضراء, وسبعون حلة صفراء, يرى مخ ساقها خلف عظامها وجلدها وحليها وحللها, كما ترى الخمرة الصافية في الزجاجة البيضاء, مكللة بالجوهر, لكل حوراء سبعون ذواب,ة كل ذوابة بيد وصيف, وبيد كل وصيف مجمرة تبخر لتلك الذوابة, يفوح من ذلك المجمر بخار لا يفوح بنار ولكن بقدرة الجبار, قال: فقال علي ×: فداك أبي وأمي يا رسول الله, أنا لهم, فقال النبي |: يا علي, هذا لك وأنت له, أنجد إلى القوم, فجهزه رسول الله | في خمسين ومائة رجل من الأنصار والمهاجرين, فقام ابن عباس وقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله, تجهز ابن عمي في خمسين ومائة رجل من العرب إلى خمسمائة رجل, وفيهم الحارث بن مكيدة يعد بخمسمائة فارس, فقال النبي |: أمط عني يا ابن عباس, فوالذي بعثني بالحق لو كانوا على عدد الثرى وعلي × وحده لأعطى الله عليا عليهم النصرة حتى يأتينا بسبيهم أجمعين, فجهزه النبي | وهو يقول: اذهب يا حبيبي, حفظ الله من تحتك ومن فوقك وعن يمينك وعن شمالك والله خليفتي عليك, فسار علي × بمن معه حتى نزلوا بواد خلف المدينة بثلاثة أميال يقال له: وادي ذي خشب, قال: فوردوا الوادي ليلا فضلوا الطريق, قال: فرفع علي × رأسه إلى السماء وهو يقول: يا مهدي كل ضال, ويا منقذ كل غريق, ويا مفرج كل مغموم, لا تقو علينا ظالما, ولا تظفر بنا عدونا, واهدنا إلى سبيل الرشاد, قال: فإذا الخيل تقدح بحوافرها من الحجارة النار حتى عرفوا الطريق فسلكوه, فأنزل الله تعالى‏ على نبيه محمد |:‏ {والعاديات ضبحا} يعني الخيل‏ {فالموريات قدحا} قال: قدحت الخيل بحوافرها من الحجارة النار, {فالمغيرات صبحا} قال:‏ صبحهم علي × مع طلوع الفجر, وكان لا يسبقه أحد إلى الأذان, فلما سمع المشركون الأذان قال بعضهم لبعض: ينبغي أن يكون راع في رءوس هذه الجبال يذكر الله, فلما أن قال: أشهد أن محمدا رسول الله, قال بعضهم لبعض: ينبغي أن يكون الراعي من أصحاب الساحر الكذاب, وكان علي × لا يقاتل حتى تطلع الشمس وتنزل ملائكة النهار, قال: فلما أن ترجل النهار التفت علي × إلى صاحب راية النبي | فقال له: ارفعها, فلما أن رفعها ورآها المشركون عرفوها وقال بعضهم لبعض: هذا عدوكم الذي جئتم تطلبونه, هذا محمد وأصحابه, قال: قال: فخرج غلام من المشركين من أشدهم بأسا وأكثرهم كفرا, فنادى أصحاب‏ النبي |: يا أصحاب الساحر الكذاب, أيكم محمد؟ فليبرز إلي, فخرج إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب × وهو يقول: ثكلتك أمك, وأنت‏ الساحر الكذاب, محمد | جاء بالحق من عند الحق, قال له: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب أخو رسول الله وابن عمه وزوج ابنته ÷, قال: لك هذه المنزلة من محمد؟ قال له علي ×: نعم, قال: فأنت ومحمد شرع واحد, ما كنت أبالي لقيتك أو لقيت محمدا, قال‏ ثم شد على علي وهو يقول‏:

لاقيت ليثا يا علي ضيغما ... قرما كريما في الوغى مشرما

ليثا شديدا من رجال خثعما ... ينصر دينا معلما ومحكما

من يلقني يلق غلاما طال ما ... كاد القروم فأتته سلما         

فأجابه علي × وهو يقول‏:

لاقيت قرما هاشميا ضيغما ... ليثا شديدا في الوغى غشمشما

أنا علي سأبين خثعما ... بكل خطي يرى النقع دما

وكل صارم ضروب قمما              

قال‏: ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه, فاختلف بينهما ضربتان, فضربه‏ علي × ضربة فقتله وعجل الله بروحه إلى النار, ثم نادى علي ×: هل من مبارز؟! فبرز أخ للمقتول وهو يقول‏:

أقسم باللات والعزى قسم‏ ... أني لدى الحرب صبور ما أرم‏

من يلقني أذقه أنواع الألم‏              

فأجابه علي × وهو يقول‏:

بالله ربي إنني لأقسم‏ ... قسم حق ليس فيه مأثم‏

إنكم من شرنا لن تسلموا              

وحمل كل واحد منهما على صاحبه, فضربه علي × ضربة فقتله وعجل الله بروحه إلى النار, ثم نادى علي ×: هل من مبارز؟! فبرز له الحارث بن مكيدة وكان صاحب الجمع وهو يعد بخمسمائة فارس, وهو الذي أنزل الله تعالى فيه‏ {إن الإنسان لربه لكنود} قال: كفور, {وإنه على ذلك لشهيد} قال: شهيد عليه بالكفر, {وإنه لحب الخير لشديد} قال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ×, يعني باتباعه محمدا | قال: فبرز الحارث وهو يحرض‏ على الله وعلى رسوله | وهو يقول‏:

لأنصرن اللات نصرا حقا ... بكل عضب وأزال الحلقا

بكل صارم يرى منعقا         

فأجابه علي × وهو يقول‏:

أذودكم بالله عن محمد ... بقلب سيف قاطع مهند

أرجو بذاك الفوز يوما أرد ... على إلهي والشفيع أحمد

ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه, فضربه علي × ضربة قتله وعجل الله بروحه إلى النار, ثم نادى علي ×: هل من مبارز؟! فبرز إليه ابن عم له يقال له عمرو بن الفتاك, وهو يقول‏:

إني عمرو وأبي الفتاك‏ ... ونصل سيف بيدي هتاك‏

يقطع رأسا لم يزل كذاك‏              

فأجابه علي × وهو يقول‏:

فهاكها مترعة دهاقا ... كأس دهاق مزجت زعاقا

إني أنا المرء الذي إن لاقى‏ ... أقد هاما وأجذ ساقا            

ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه, فضربه علي × ضربة فقتله وعجل الله بروحه إلى النار, ثم نادى علي ×: هل من مبارز؟! فلم يبرز إليه أحد, فشد أمير المؤمنين × حتى توسط جمعهم, فذلك قول الله‏ {فوسطن به جمعا} فقتل علي × مقاتليهم‏, وسبى ذراريهم, وأخذ أموالهم, وأقبل بسبيهم إلى رسول الله |, فبلغ ذلك النبي | فخرج وجميع أصحابه حتى استقبل عليا × على ثلاثة أميال من المدينة, وأقبل النبي | يمسح الغبار عن وجه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب × بردائه ويقبل بين عينيه ويبكي وهو يقول: الحمد لله يا علي الذي شد بك أزري وقوى بك ظهري, يا علي إنني سألت الله فيك كما سأل أخي موسى بن عمران ×, وأن يشرك هارون في أمره, وقد سألت ربي أن يشد بك أزري, ثم التفت إلى أصحابه وهو يقول: معاشر أصحابي, لا تلوموني في حب علي بن أبي طالب ×, فإنما حبي عليا من أمر الله, والله أمرني أن أحب عليا وأدنيه, يا علي من أحبك فقد أحبني, ومن أحبني فقد أحب الله, ومن أحب الله أحبه الله, وكان حقا على الله أن يسكن محبيه الجنة. يا علي, من أبغضك فقد أبغضني, ومن أبغضني فقد أبغض الله, ومن أبغض الله أبغضه الله ولعنه, وكان حقا على الله أن يوقفه يوم القيامة موقف البغضاء, ولا يقبل منه صرف ولا عدل ولا إجارة. [5]

 

عن ابن عباس قال: دعا النبي | أبا بكر إلى غزوة ذات السلاسل, فأعطاه الراية فردها, ثم دعا عمر فأعطاه الراية فردها, ثم دعا خالد بن الوليد فأعطاه الراية فرجع فردها, فدعا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب × فأمكنه من الراية فسيرهم معه, وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوه, قال: فانطلق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب × بالعسكر وهم معه حتى انتهى إلى القوم, فلم يكن بينه وبينهم إلا جبل, قال: فأمرهم أن ينزلوا في أسفل الجبل, فقال لهم: اركبوا دوابكم, فقال خالد بن الوليد: يا أبا بكر وأنت يا عمر, ما ترون إلى هذا الغلام أين أنزلنا, أنزلنا في واد كثير الحيات كثير الهام‏ كثير السباع, نحن منه على إحدى ثلاث خصال: إما سبع يأكلنا ويأكل دوابنا, وإما حيات تعقرنا وتعقر دوابنا, وإما يعلم بنا عدونا فيقتلنا, قوموا بنا إليه, قال: فجاءوا إلى علي وقالوا: يا علي, أنزلتنا في واد كثير السباع كثير الهام كثير الحيات, نحن منه على إحدى ثلاث خصال: إما سبع يأكلنا ويأكل دوابنا, أو حيات تعقرنا وتعقر دوابنا, أو يعلم عدونا فيأتينا فيقتلنا, قال: فقال لهم علي ×: أليس قد أمركم رسول الله | أن تسمعوا لي وتطيعوني؟‏ قالوا: بلى, قال: فانزلوا, قال:‏ فرجعوا فأبت تحملهم الأرض, فاستفزهم خالد بن الوليد قال: قوموا بنا إليه, قال: فجاءوا إليه فردوا عليه ذلك الكلام, فقال: أليس قد أمركم رسول الله | أن تسمعوا لي وتطيعوني؟ قالوا: بلى, قال: فارجعوا, قال: فرجعوا, قال: فأبوا أن ينقادوا, واستفزهم خالد بن الوليد ثالثة فقالوا له مثل ذلك الكلام, فقال × لهم: أليس قد أمركم رسول الله | أن تسمعوا لي وتطيعوا أمري؟ قالوا: بلى, قال: فانزلوا بارك الله فيكم, ليس عليكم بأس, قال: فنزلوا وهم مرعوبين‏, قال: وما زال علي × ليلته قائما يصلي حتى إذا كان في السحر, قال لهم: اركبوا بارك الله فيكم, قال: فركبوا واطلع الجبل حتى إذا انحدر على القوم وأشرف عليهم, قال لهم: انزعوا أكمة دوابكم, قال: فشمت الخيل ريح الإناث, قال: فصهلت فسمع الخيل صهيل خيولهم‏, فولوا هاربين, قال: فقتل مقاتليهم‏ وسبى ذراريهم, قال: فهبط جبرئيل × على رسول الله | فقال: يا محمد {والعاديات ضبحا فالموريات قدحا. فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا} الآية, قال: فقال رسول الله | تخالط القوم ورب الكعبة, قال: وجاءه البشارة. [6]

 

عن أبي جعفر × قال: سألته عن قول الله عز وجل‏ {والعاديات ضبحا} قال: ركض الخيل في قفالها, {فالموريات قدحا} قال: توري وقد النار من حوافرها, {فالمغيرات صبحا} قال: أغار علي × عليهم صباحا, {فأثرن به نقعا} قال: أثر بهم علي × وأصحابه الجراحات حتى استنقعوا في دمائهم,‏ {فوسطن به جمعا} قال: توسط علي × وأصحابه ديارهم,‏ {إن الإنسان لربه لكنود} قال: إن فلانا لربه لكنود {وإنه على ذلك لشهيد} قال: إن الله شهيد عليه‏ {وإنه لحب الخير لشديد} قال: ذاك أمير المؤمنين ×. [7]

 

عن أبي عبد الله × في قوله عز وجل {إن الإنسان لربه لكنود} قال: كفور بولاية أمير المؤمنين ×. [8]

 

 


[1] تفسير القمي ج 2 ص 434, تفسير الصافي ج 5 ص 361, البرهان ج 5 ص 732, بحار الأنوار ج 21 ص 67, تفسير نور الثقلين ج 5 ص 652, تفسير كنز الدقائق ج 14 ص 403, تفسير فرات ص 599 نحوه

[2] الأمالي للطوسي ص 407, تفسير الصافي ج 5 ص 361, البرهان ج 5 ص 737, بحار الأنوار ج 21 ص 75, تفسير نور الثقلين ج 5 ص 651, تفسير كنز الدقائق ج 14 ص 403

[3] تأويل الآيات ص 811, البرهان ج 5 ص 736, تفسير كنز الدقائق ج 14 ص 400

[4] تفسير فرات ص 592, بحار الأنوار ج 21 ص 83

[5] تفسير فرات ص 593, بحار الأنوار ج 21 ص 84

[6] تفسير فرات ص 591, بحار الأنوار ج 21 ص 82

[7] تأويل الآيات ص 812, البرهان ج 5 ص 737, اللوامع النورانية ص 879, تفسير كنز الدقائق ج 14 ص 402

[8] تأويل الآيات ص 813, البرهان ج 5 ص 737, تفسير كنز الدقائق ج 14 ص 402