باب 2- آخر و هو من الباب الأول

و فيه رسالة أبي الحسن الثالث صلوات الله عليه في الرد على أهل الجبر و التفويض و إثبات العدل و المنزلة بين المنزلتين بوجه أبسط مما مر

 1-  ف، ]تحف العقول[ من علي بن محمد سَلامٌ عَلَيْكُمْ و عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى و رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ فإنه ورد على كتابكم و فهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم و خوضكم في القدر و مقالة من يقول منكم بالجبر و من يقول بالتفويض و تفرقكم في ذلك و تقاطعكم و ما ظهر من العداوة بينكم ثم سألتموني عنه و بيانه لكم و فهمت ذلك كله اعلموا رحمكم الله أنا نظرنا في الآثار و كثرة ما جاءت به الأخبار فوجدناها عند جميع من ينتحل الإسلام ممن يعقل عن الله جل و عز لا تخلو من معنيين إما حق فيتبع و إما باطل فيجتنب و قد اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق و في حال اجتماعهم مقرون بتصديق الكتاب و تحقيقه مصيبون مهتدون و ذلك بقول رسول الله ص لا تجتمع أمتي على ضلالة فأخبر أن جميع ما اجتمعت عليه الأمة كلها حق هذا إذا لم يخالف بعضها بعضا و القرآن حق لا اختلاف بينهم في تنزيله و تصديقه فإذا شهد القرآن بتصديق خبر و تحقيقه و أنكر الخبر طائفة من الأمة لزمهم الإقرار به ضرورة حين اجتمعت في الأصل على تصديق الكتاب فإن هي جحدت و أنكرت لزمها الخروج من الملة فأول خبر يعرف تحقيقه من الكتاب و تصديقه و التماس شهادته عليه خبر ورد عن رسول الله ص و وجد بموافقة الكتاب و تصديقه بحيث لا تخالفه أقاويلهم حيث قال إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي و أهل بيتي لن تضلوا ما تمسكتم بهما و إنهما لن يفترقا حتى يردا  علي الحوض فلما وجدنا شواهد هذا الحديث في كتاب الله نصا مثل قوله جل و عز إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ

 و روت العامة في ذلك أخبارا لأمير المؤمنين ع أنه تصدق بخاتمه و هو راكع فشكر الله ذلك له و أنزل الآية فيه فوجدنا رسول الله ص قد أتى بقوله من كنت مولاه فعلي مولاه و بقوله أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي و وجدناه يقول علي يقضي ديني و ينجز موعدي و هو خليفتي عليكم من بعدي فالخبر الأول الذي استنبط منه هذه الأخبار خبر صحيح مجمع عليه لا اختلاف فيه عندهم و هو أيضا موافق للكتاب فلما شهد الكتاب بتصديق الخبر و هذه الشواهد الأخر لزم على الأمة الإقرار بها ضرورة إذ كانت هذه الأخبار شواهدها من القرآن ناطقة و وافقت القرآن و القرآن وافقها ثم وردت حقائق الأخبار عن رسول الله ص عن الصادقين ع نقلها قوم ثقات معروفون فصار الاقتداء بهذه الأخبار فرضا واجبا على كل مؤمن و مؤمنة لا يتعداه إلا أهل العناد و ذلك أن أقاويل آل رسول الله ص متصلة بقول الله و ذلك مثل قوله في محكم كتابه إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً و وجدنا نظير هذه الآية قول رسول الله ص من آذى عليا فقد آذاني و من آذاني فقد آذى الله و من آذى الله يوشك أن ينتقم منه و كذلك قوله ص من أحب عليا فقد أحبني و من أحبني فقد أحب الله و مثل قوله ص في بني وليعة لأبعثن إليهم رجلا كنفسي يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله قم يا علي فسر إليهم و قوله ص يوم خيبر لأبعثن إليهم غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله عليه فقضى  رسول الله ص بالفتح قبل التوجيه فاستشرف لكلامه أصحاب رسول الله ص فلما كان من الغد دعا عليا ع فبعثه إليهم فاصطفاه بهذه الصفة و سماه كرار غير فرار فسماه الله محبا لله و لرسوله فأخبر أن الله و رسوله يحبانه و إنما قدمنا هذا الشرح و البيان دليلا على ما أردنا و قوة لما نحن مبينوه من أمر الجبر و التفويض و المنزلة بين المنزلتين و بالله العون و القوة و عليه نتوكل في جميع أمورنا فإنا نبدأ من ذلك بقول

 الصادق ع لا جبر و لا تفويض و لكن منزلة بين المنزلتين

و هي صحة الخلقة و تخلية السرب و المهلة في الوقت و الزاد مثل الراحلة و السبب المهيج للفاعل على فعله فهذه خمسة أشياء جمع بها الصادق ع جوامع الفضل فإذا نقص العبد منها خلة كان العمل عنه مطروحا بحسبه فأخبر الصادق ع بأصل ما يجب على الناس من طلب معرفته و نطق الكتاب بتصديقه فشهد بذلك محكمات آيات رسوله لأن الرسول ص و آله ع لا يعدو شي‏ء من قوله و أقاويلهم حدود القرآن فإذا وردت حقائق الأخبار و التمست شواهدها من التنزيل فوجد لها موافقا و عليها دليلا كان الاقتداء بها فرضا لا يتعداه إلا أهل العناد كما ذكرنا في أول الكتاب و لما التمسنا تحقيق ما قاله الصادق ع من المنزلة بين المنزلتين و إنكاره الجبر و التفويض وجدنا الكتاب قد شهد له و صدق مقالته في هذا

 و خبر عنه أيضا موافقا لهذا أن الصادق ع سئل هل أجبر الله العباد على المعاصي فقال الصادق ع هو أعدل من ذلك فقيل له فهل فوض إليهم فقال ع هو أعز و أقهر لهم من ذلك

 و روي عنه أنه قال الناس في القدر على ثلاثة أوجه رجل يزعم أن الأمر مفوض إليه فقد وهن الله في سلطانه فهو هالك و رجل يزعم أن الله جل و عز أجبر العباد على المعاصي و كلفهم ما لا يطيقون فقد ظلم الله في حكمه فهو هالك و رجل يزعم أن الله كلف العباد ما يطيقون و لم يكلفهم ما لا يطيقون فإذا أحسن حمد الله و إذا أساء استغفر الله فهذا  مسلم بالغ

فأخبر ع أن من تقلد الجبر و التفويض و دان بهما فهو على خلاف الحق فقد شرحت الجبر الذي من دان به يلزمه الخطاء و أن الذي يتقلد التفويض يلزمه الباطل فصارت المنزلة بين المنزلتين بينهما ثم قال و أضرب لكل باب من هذه الأبواب مثلا يقرب المعنى للطالب و يسهل له البحث عن شرحه تشهد به محكمات آيات الكتاب و تحقق تصديقه عند ذوي الألباب و بالله التوفيق و العصمة فأما الجبر الذي يلزم من دان به الخطاء فهو قول من زعم أن الله جل و عز أجبر العباد على المعاصي و عاقبهم عليها و من قال بهذا القول فقد ظلم الله في حكمه و كذبه و رد عليه و قوله وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً و قوله ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ و قوله إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ مع آي كثيرة في ذكر هذا فمن زعم أنه مجبر على المعاصي فقد أحال بذنبه على الله و قد ظلمه في عقوبته و من ظلم الله فقد كذب كتابه و من كذب كتابه فقد لزمه الكفر باجتماع الأمة و مثل ذلك مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك نفسه و لا يملك عرضا من عروض الدنيا و يعلم مولاه ذلك منه فأمره على علم منه بالمصير إلى السوق لحاجة يأتيه بها و لم يملكه ثمن ما يأتيه به من حاجته و علم المالك أن على الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها منه إلا بما يرضى به من الثمن و قد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل و النصفة و إظهار الحكمة و نفي الجور و أوعد عبده إن لم يأته بحاجته أن يعاقبه على علم منه بالرقيب الذي على حاجته أنه سيمنعه و علم أن المملوك لا يملك ثمنها و لم يملكه ذلك فلما صار العبد إلى السوق و جاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولى لها وجد عليها مانعا يمنع منها إلا بشراء و ليس يملك العبد ثمنها فانصرف إلى مولاه خائبا بغير قضاء حاجته فاغتاظ مولاه من ذلك و عاقبه عليه أ ليس يجب في عدله و حكمته أن لا يعاقبه و هو يعلم أن عبده لا يملك عرضا من عروض الدنيا و لم يملكه ثمن حاجته فإن عاقبه عاقبه ظالما متعديا عليه مبطلا لما وصف من عدله و حكمته و نصفته و إن لم يعاقبه كذب نفسه في وعيده إياه حين أوعده بالكذب و الظلم اللذين ينفيان العدل و الحكمة تعالى عما يقولون علوا كبيرا فمن دان بالجبر أو بما يدعو

   إلى الجبر فقد ظلم الله و نسبه إلى الجور و العدوان إذ أوجب على من أجبر العقوبة و من زعم أن الله أجبر العباد فقد أوجب على قياس قوله إن الله يدفع عنهم العقوبة و من زعم أن الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب فقد كذب الله في وعيده حيث يقول بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ و قوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً و قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً مع آي كثيرة في هذا الفن فمن كذب وعيد الله يلزمه في تكذيبه آية من كتاب الله الكفر و هو ممن قال الله أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بل نقول إن الله عز و جل جازى العباد على أعمالهم و يعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي ملكهم إياها فأمرهم و نهاهم بذلك و نطق كتابه مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ و قال جل ذكره يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ و قال الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَفهذه آيات محكمات تنفي الجبر و من دان به و مثلها في القرآن كثير اختصرنا ذلك لئلا يطول الكتاب و بالله التوفيق فأما التفويض الذي أبطله الصادق ع و خطأ من دان به و تقلده فهو قول القائل إن الله جل ذكره فوض إلى العباد اختيار أمره و نهيه و أهملهم و في هذا كلام دقيق لمن يذهب إلى تحريره و دقته و إلى هذا ذهبت الأئمة المهتدية من عترة الرسول ع فإنهم قالوا لو فوض إليهم على جهة الإهمال لكان لازما له رضى ما اختاروه و استوجبوا به الثواب و لم يكن عليهم فيما جنوه العقاب إذا كان الإهمال واقعا و تنصرف هذه المقالة على معنيين إما أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول اختيارهم بآرائهم ضرورة كره ذلك أم أحب فقد لزمه الوهن أو يكون جل و عز عجز عن تعبدهم بالأمر و النهي على إرادته كرهوا أو أحبوا ففوض أمره و نهيه إليهم

   و أجراهما على محبتهم إذ عجز عن تعبدهم بإرادته فجعل الاختيار إليهم في الكفر و الإيمان و مثل ذلك مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه و يعرف له فضل ولايته و يقف عند أمره و نهيه و ادعى مالك العبد أنه قاهر عزير حكيم فأمر عبده و نهاه و وعده على اتباع أمره عظيم الثواب و أوعده على معصيته أليم العقاب فخالف العبد إرادة مالكه و لم يقف عند أمره و نهيه فأي أمر أمره به أو أي نهي نهاه عنه لم يأته على إرادة المولى بل كان العبد يتبع إرادة نفسه و اتباع هواه و لا يطيق المولى أن يرده إلى اتباع أمره و نهيه و الوقوف على إرادة ففوض اختيار أمره و نهيه إليه و رضي منه بكل ما فعله على إرادة العبد لا على إرادة المالك و بعثه في بعض حوائجه و سمى له الحاجة فخالف على مولاه و قصد لإرادة نفسه و اتبع هواه فلما رجع إلى مولاه نظر إلى ما أتاه به فإذا هو خلاف ما أمره به فقال له لم أتيتني بخلاف ما أمرتك فقال العبد اتكلت على تفويضك الأمر إلي فاتبعت هواي و إرادتي لأن المفوض إليه غير محظور عليه فاستحال التفويض أو ليس يجب على هذا السبب إما أن يكون المالك للعبد قادرا يأمر عبده باتباع أمره و نهيه على إرادته لا على إرادة العبد و يملكه من الطاقة بقدر ما يأمره به و ينهاه عنه فإذا أمره بأمر و نهاه عن نهي عرفه الثواب و العقاب عليهما و حذره و رغبه بصفة ثوابه و عقابه ليعرف العبد قدرة مولاه بما ملكه من الطاقة لأمره و نهيه و ترغيبه و ترهيبه فيكون عدله و إنصافه شاملا له و حجته واضحة عليه للإعذار و الإنذار فإذا اتبع العبد أمر مولاه جازاه و إذا لم يزدجر عن نهيه عاقبه أو يكون عاجزا غير قادر ففوض أمره إليه أحسن أم أساء أطاع أم عصى عاجز عن عقوبته و رده إلى اتباع أمره و في إثبات العجز نفي القدرة و التأله و إبطال الأمر و النهي و الثواب و العقاب و مخالفة الكتاب إذ يقول وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ و قوله عز و جل اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ و قوله وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ و قوله اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً و قوله وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ فمن زعم أن الله تعالى فوض أمره

   و نهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز و أوجب عليه قبول كل ما عملوا من خير و شر و أبطل أمر الله و نهيه و وعده و وعيده لعلة ما زعم أن الله فوضها إليها لأن المفوض إليه يعمل بمشيته فإن شاء الكفر أو الإيمان كان غير مردود عليه و لا محظور فمن دان بالتفويض على هذا المعنى فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده و وعيده و أمره نهيه و هو من أهل هذه الآية أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تعالى الله عما يدين به أهل التفويض علوا كبيرا لكن نقول إن الله عز و جل خلق الخلق بقدرته و ملكهم استطاعة تعبدهم بها فأمرهم و نهاهم بما أراد فقبل منهم اتباع أمره و رضي بذلك لهم و نهاهم عن معصيته و ذم من عصاه و عاقبه عليها و لله الخيرة في الأمر و النهي يختار ما يريد و يأمر به و ينهى عما يكره و يعاقب عليه بالاستطاعة التي ملكها عباده لاتباع أمره و اجتناب معاصيه لأنه ظاهر العدل و النصفة و الحكمة البالغة بالغ الحجة بالإعذار و الإنذار و إليه الصفوة يصطفي من يشاء من عباده لتبليغ رسالته و احتجاجه على عباده اصطفى محمدا ص و بعثه برسالاته إلى خلقه فقال من قال من كفار قومه حسدا و استكبارا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يعني بذلك أمية بن أبي الصلت و أبا مسعود الثقفي فأبطل الله اختيارهم و لم يجز لهم آراءهم حيث يقول أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ و لذلك اختار من الأمور ما أحب و نهى عما كره فمن أطاعه أثابه و من عصاه عاقبه و لو فوض من اختيار أمره إلى عباده لأجاز لقريش اختيار أمية بن الصلت و أبي مسعود الثقفي إذ كانا عندهم أفضل من محمد ص فلما أدب الله المؤمنين بقوله وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ فلم يجز لهم الاختيار بأهوائهم و لم يقبل منهم إلا اتباع أمره و اجتناب نهيه على يدي من اصطفاه فمن أطاعه رشد و من عصاه ضل و غوى و لزمته الحجة بما ملكه من الاستطاعة لاتباع أمره و اجتناب  نهيه فمن أجل ذلك حرمه ثوابه و أنزل به عقابه

 و هذا القول بين القولين ليس بجبر و لا تفويض و بذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعي الأسدي حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم و يقعد و يفعل فقال له أمير المؤمنين سألت عن الاستطاعة تملكها من دون الله أو مع الله فسكت عباية فقال له أمير المؤمنين قل يا عباية قال و ما أقول قال ع إن قلت إنك تملكها مع الله قتلتك و إن قلت تملكها دون الله قتلتك قال عباية فما أقول يا أمير المؤمنين ع قال ع تقول إنك تملكها بالله الذي يملكها من دونك فإن يملكها إياك كان ذلك من عطائه و إن يسلبكها كان ذلك من بلائه هو المالك لما ملكك و القادر على ما عليه أقدرك أ ما سمعت الناس يسألون الحول و القوة حين يقولون لا حول و لا قوة إلا بالله قال عباية و ما تأويلها يا أمير المؤمنين قال ع لا حول عن معاصي الله إلا بعصمة الله و لا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون الله قال فوثب عباية فقبل يديه و رجليه

 و روي عن أمير المؤمنين ع حين أتاه نجدة يسأله عن معرفة الله قال يا أمير المؤمنين بما ذا عرفت ربك قال ع بالتمييز الذي خولني و العقل الذي دلني قال أ فمجبول أنت عليه قال لو كنت مجبولا ما كنت محمودا على إحسان و لا مذموما على إساءة و كان المحسن أولى باللائمة من المسي‏ء فعلمت أن الله قائم باق و ما دونه حدث حائل زائل و ليس القديم الباقي كالحدث الزائل قال نجدة أجدك أصبحت حكيما يا أمير المؤمنين قال أصبحت مخيرا فإن أتيت السيئة بمكان الحسنة فأنا المعاقب عليها

 و روي عن أمير المؤمنين ع أنه قال لرجل سأله بعد انصرافه من الشام فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام بقضاء و قدر قال نعم يا شيخ ما علوتم تلعة و لا هبطتم واديا إلا بقضاء و قدر من الله فقال الشيخ عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال مه يا شيخ فإن الله قد عظم أجركم في مسيركم و أنتم سائرون و في مقامكم و أنتم مقيمون و في انصرافكم و أنتم منصرفون و لم تكونوا في شي‏ء من أموركم  مكرهين و لا إليه مضطرين لعلك ظننت أنه قضاء حتم و قدر لازم و لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب و العقاب و لسقط الوعد و الوعيد و لما ألزمت الأشياء أهلها على الحقائق ذلك مقالة عبدة الأوثان و أولياء الشياطين إن الله جل و عز أمر تخييرا و نهى تحذيرا و لم يطع مكرها و لم يعص مغلوبا و لم يخلق السماوات وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ فقام الشيخ فقبل رأس أمير المؤمنين ع و أنشأ يقول

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته يوم النجاة من الرحمن غفراناأوضحت من ديننا ما كان ملتبسا جزاك ربك عنا فيه رضوانافليس معذرة في فعل فاحشة عندي لراكبها ظلما و عصيانا

 فقد دل قول أمير المؤمنين ع على موافقة الكتاب و نفي الجبر و التفويض اللذين يلزمان من دان بهما و تقلدهما الباطل و الكفر و تكذيب الكتاب و نعوذ بالله من الضلالة و الكفر و لسنا ندين بجبر و لا تفويض لكنا نقول بمنزلة بين المنزلتين و هو الامتحان و الاختيار بالاستطاعة التي ملكنا الله و تعبدنا بها على ما شهد به الكتاب و دان به الأئمة الأبرار من آل الرسول صلوات الله عليهم و مثل الاختبار بالاستطاعة مثل رجل ملك عبدا و ملك مالا كثيرا أحب أن يختبر عبده على علم منه بما يئول إليه فملكه من ماله بعض ما أحب و وقفه على أمور عرفها العبد فأمره أن يصرف ذلك المال فيها و نهاه عن أسباب لم يحبها و تقدم إليه أن يجتنبها و لا ينفق من ماله فيها و المال يتصرف في أي الوجهين فصرف المال أحدهما في اتباع أمر المولى و رضاه و الآخر صرفه في اتباع نهيه و سخطه و أسكنه دار اختبار أعلمه أنه غير دائم له السكنى في الدار و أن له دارا غيرها و هو مخرجه إليها فيها ثواب و عقاب دائمان فإن أنفذ العبد المال الذي ملكه مولاه في الوجه الذي أمره به جعل له ذلك الثواب الدائم في تلك الدار التي أعلمه أنه مخرجه إليها و إن أنفق المال في الوجه الذي نهاه عن إنفاقه فيه جعل له ذلك العقاب الدائم في دار الخلود  و قد حد المولى في ذلك حدا معروفا و هو المسكن الذي أسكنه في الدار الأولى فإذا بلغ الحد استبدل المولى بالمال و بالعبد على أنه لم يزل مالكا للمال و العبد في الأوقات كلها إلا أنه وعد أن لا يسلبه ذلك المال ما كان في تلك الدار الأولى إلا أن يستتم سكناه فيها فوفى له لأن من صفات المولى العدل و الوفاء و النصفة و الحكمة أو ليس يجب إن كان ذلك العبد صرف ذلك المال في الوجه المأمور به أن يفي له بما وعده من الثواب و تفضل عليه بأن استعمله في دار فانية و أثابه على طاعته فيها نعيما دائما في دار باقية دائمة و إن صرف العبد المال الذي ملكه مولاه أيام سكناه تلك الدار الأولى في الوجه المنهي عنه و خالف أمر مولاه كذلك يجب عليه العقوبة الدائمة التي حذره إياها غير ظالم له لما تقدم إليه و أعلمه و عرفه و أوجب له الوفاء بوعده و وعيده بذلك يوصف القادر القاهر و أما المولى فهو الله جل و عز و أما العبد فهو ابن آدم المخلوق و المال قدرة الله الواسعة و محنته إظهار الحكمة و القدرة و الدار الفانية هي الدنيا و بعض المال الذي ملكه مولاه هو الاستطاعة التي ملك ابن آدم و الأمور التي أمر الله بصرف المال إليها هو الاستطاعة لاتباع الأنبياء و الإقرار بما أوردوه عن الله جل و عز و اجتناب الأسباب التي نهى عنها هي طرق إبليس و أما وعده فالنعيم الدائم و هي الجنة و أما الدار الفانية فهي الدنيا و أما الدار فهي الدار الباقية و هي الآخرة و القول بين الجبر و التفويض هو الاختبار و الامتحان و البلوى بالاستطاعة التي ملك العبد و شرحها في خمسة الأمثال التي ذكرها الصادق ع أنها جمعت جوامع الفضل و أنا مفسرها بشواهد من القرآن و البيان إن شاء الله تفسير صحة الخلقة أما قول الصادق ع فإن معناه كمال الخلق للإنسان بكمال الحواس و ثبات العقل و التمييز و إطلاق اللسان بالنطق و ذلك قول الله وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا

   فقد أخبر عز و جل عن تفضيله بني آدم على سائر خلقه من البهائم و السباع و دواب البحر و الطير و كل ذي حركة تدركه حواس بني آدم بتمييز العقل و النطق و ذلك قوله لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ و قوله يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ و في آيات كثيرة فأول نعمة الله على الإنسان صحة عقله و تفضيله على كثير من خلقه بكمال العقل و تمييز البيان و ذلك أن كل ذي حركة على بسيط الأرض هو قائم بنفسه بحواسه مستكمل في ذاته ففضل بني آدم بالنطق الذي ليس في غيره من الخلق المدرك بالحواس فمن أجل النطق ملك الله ابن آدم غيره من الخلق حتى صار آمرا ناهيا و غيره مسخر له كما قال الله كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ و قال وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها و قال وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ‏ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ فمن أجل ذلك دعا الله الإنسان إلى اتباع أمره و إلى طاعته بتفضيله إياه باستواء الخلق و كمال النطق و المعرفة بعد أن ملكهم استطاعة ما كان تعبدهم به بقوله فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا و قوله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها و قوله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها و في آيات كثيرة فإذا سلب العبد حاسة من حواسه رفع العمل عنه بحاسته كقوله لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ الآية فقد رفع عن كل من كان بهذه الصفة الجهاد و جميع الأعمال التي لا يقوم إلا بها و كذلك أوجب على ذي اليسار الحج و الزكاة لما ملكه من استطاعة ذلك و لم يوجب على الفقير الزكاة و الحج قوله تعالى وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا و قوله في الظهار وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ إلى قوله فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً كل ذلك دليل على أن الله تبارك و تعالى لم يكلف عباده إلا ما ملكهم استطاعته بقوة العمل به و نهاهم عن مثل ذلك فهذه صحة الخلقة  و أما قوله تخلية السرب فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه و يمنعه العمل بما أمره الله به و ذلك قوله في من استضعف و حظر عليه العمل فلم يجد حيلة و لم يهتد سبيلا مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فأخبر أن المستضعف لم يخل سربه و ليس عليه من القول شي‏ء إذا كان مطمئن القلب بالإيمان و أما المهلة في الوقت فهو العمر الذي يمتع به الإنسان من حد ما يجب عليه المعرفة إلى أجل الوقت و ذلك من وقت تمييزه و بلوغ الحلم إلى أن يأتيه أجله فمن مات على طلب الحق و لم يدرك كماله فهو على خير و ذلك قوله وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ الآية و إن كان لم يعمل بكمال شرائعه لعلة ما لم يمهله في الوقت إلى استتمام أمره و قد حظر على البالغ ما لم يحظر على الطفل إذا لم يبلغ الحلم في قوله تعالى وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ الآية فلم يجعل عليهن حرجا في إبداء الزينة للطفل و كذلك لا تجري عليه الأحكام و أما قوله الزاد فمعناه الجدة و البلغة التي سيتعين بها العبد على ما أمره الله به و ذلك قوله ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ الآية أ لا ترى أنه قبل عذر من لم يجد ما ينفق و ألزم الحجة كل من أمكنته البلغة و الراحلة للحج و الجهاد و أشباه ذلك كذلك قبل عذر الفقراء و أوجب لهم حقا في مال الأغنياء بقوله لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية فأمر بإعفائهم و لم يكلفهم الإعداد لما لا يستطيعون و لا يملكون و أما قوله في السبب المهيج فهو النية التي هي داعية الإنسان إلى جميع الأفعال و حاستها القلب فمن فعل فعلا و كان بدين لم يعقد قلبه على ذلك لم يقبل

   الله منه عملا إلا بصدق النية كذلك أخبر عن المنافقين بقوله يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ ثم أنزل على نبيه ص توبيخا للمؤمنين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ الآية فإذا قال الرجل قولا و اعتقد في قوله دعته النية إلى تصديق القول بإظهار الفعل و إذا لم يعتقد القول لم يتبين حقيقة و قد أجاز الله صدق النية و إن كان الفعل غير موافق لها لعلة مانع يمنع إظهار الفعل في قوله إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ و قوله لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ الآية فدل القرآن و أخبار الرسول ص أن القلب مالك لجميع الحواس يصحح أفعالها و لا يبطل ما يصحح القلب شي‏ء فهذا شرح جميع الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق ع أنها تجمع المنزلة بين المنزلتين و هما الجبر و التفويض فإذا اجتمع في الإنسان كمال هذه الخمسة الأمثال وجب عليه العمل كملا لما أمر الله عز و جل به و رسوله و إذا نقص العبد منها خلة كان العمل عنه مطروحا بحسب ذلك فأما شواهد القرآن على الاختبار و البلوى بالاستطاعة التي تجمع القول بين القولين فكثيرة و من ذلك قوله وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ و قال سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ و قال الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ و قال في الفتن التي معناها الاختبار وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ الآية و قال في قصة قوم موسى فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ و قول موسى إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أي اختبارك فهذه الآيات يقاس بعضها ببعض و يشهد بعضها لبعض و أما آيات البلوى بمعنى الاختبار قوله لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ و قوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ و قوله إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ و قوله خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا و قوله وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ و قوله وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ و كل ما في القرآن من بلوى هذه الآيات التي شرح أولها فهي اختبار و أمثالها في القرآن كثيرة فهي إثبات الاختبار و البلوى إن الله جل و عز لم يخلق الخلق عبثا و لا أهملهم

   سدى و لا أظهر حكمته لعبا بذلك أخبر في قوله أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً فإن قال قائل فلم يعلم الله ما يكون من العباد حتى اختبرهم قلنا بلى قد علم ما يكون منهم قبل كونه و ذلك قوله وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ و إنما اختبرهم ليعلمهم عدله و لا يعذبهم إلا بحجة بعد الفعل و قد أخبر بقوله وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا و قوله وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا و قوله رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ فالاختبار من الله بالاستطاعة التي ملكها عبده و هو القول بين الجبر و التفويض بهذا نطق القرآن و جرت الأخبار عن الأئمة من آل الرسول فإن قالوا ما الحجة في قول الله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ و ما أشبهها قيل مجاز هذه الآيات كلها على معنيين أما أحدهما فإخبار عن قدرته أي إنه قادر على هداية من يشاء و ضلالة من يشاء و إذا أجبرهم بقدرته على أحدهما لم يجب لهم ثواب و لا عليهم عقاب على نحو ما شرحنا في الكتاب و المعنى الآخر أن الهداية منه تعريفه كقوله وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أي عرفناهم فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فلو جبرهم على الهدى لم يقدروا أن يضلوا و ليس كلما وردت آية مشتبهة كانت الآية حجة على محكم الآيات اللواتي أمرنا بالأخذ بها من ذلك قوله مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ الآية و قال فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي أحكمه و أشرحه أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ وفقنا الله و إياكم من القول و العمل لما يحب و يرضى و جنبنا و إياكم معاصيه بمنه و فضله و الحمد لله كثيرا كما هو أهله و صلى الله على محمد و آله الطيبين و حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ. ظلم الله على بناء التفعيل أي نسبه إلى الظلم قوله ع و من زعم أن الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب أي عموما بحيث لا يعاقب أحدا منهم كما هو مقتضى الجبر فلا ينافي سقوط بعضها بالعفو أو الشفاعة قوله ع و لما لزمت  الأشياء أي الخطايا و الذنوب و في بعض النسخ الأسماء و هو أوفق بما روي عنه ع في موضع آخر أي لا يصح إطلاق المؤمن و الكافر و الصالح و الطالح و أشباهها على الحقيقة. فذلكة اعلم أن الذي استفاض عن الأئمة ع هو نفي الجبر و التفويض و إثبات الأمر بين الأمرين و قد اعترف به بعض المخالفين أيضا قال إمامهم الرازي حال هذه المسألة عجيبة فإن الناس كانوا مختلفين فيها أبدا بسبب أن ما يمكن الرجوع فيها إليها متعارضة متدافعة فمعول الجبرية على أنه لا بد لترجيح الفعل على الترك من مرجح ليس من العبد و معول القدرية على أن العبد لو لم يكن قادرا على فعل لما حسن المدح و الذم و الأمر و النهي و هما مقدمتان بديهيتان ثم من الأدلة العقلية اعتماد الجبرية على أن تفاصيل أحوال الأفعال غير معلومة للعبد و اعتماد القدرية على أن أفعال العباد واقعة على وفق تصورهم و دواعيهم و هما متعارضتان و من الإلزامات الخطابية أن القدرة على الإيجاد صفة كمال لا يليق بالعبد الذي هو منبع النقصان و أن أفعال العباد تكون سفها و عبثا فلا يليق بالمتعالي عن النقصان و أما الدلائل السمعية فالقرآن مملو بما يوهم بالأمرين و كذا الآثار فإن أمة من الأمم لم تكن خالية من الفرقتين و كذا الأوضاع و الحكايات متدافعة من الجانبين حتى قيل إن وضع النرد على الجبر و وضع الشطرنج على القدر إلا أن مذهبنا أقوى بسبب أن القدح في قولنا لا يترجح الممكن إلا بمرجح يوجب انسداد باب إثبات الصانع و نحن نقول الحق ما قال بعض أئمة الدين أنه لا جبر و لا تفويض و لكن أمر بين أمرين و ذلك أن مبنى المبادي القريبة لأفعال العبد على قدرته و اختياره و المبادي البعيدة على عجزه و اضطراره فالإنسان مضطر في صورة مختار كالقلم في يد الكاتب و الوتد في شق الحائط و في كلام العقلاء قال الحائط للوتد لم تشقني فقال سل من يدقني انتهى. و أما معنى الجبر فهو ما ذهبت إليه الأشاعرة من أن الله تعالى أجرى الأعمال على أيدي العباد من غير قدرة مؤثرة لهم فيها و عذبهم عليها.

   و أما التفويض فهو ما ذهب إليه المعتزلة من أنه تعالى أوجد العباد و أقدرهم على تلك الأفعال و فوض إليهم الاختيار فهم مستقلون بإيجادها على وفق مشيتهم و قدرتهم و ليس لله في أفعالهم صنع. و أما الأمر بين الأمرين فالذي ظهر مما سبق من الأخبار هو أن لهداياته و توفيقاته تعالى مدخلا في أفعال العباد بحيث لا يصل إلى حد الإلجاء و الاضطرار كما أن سيدا أمر عبده بشي‏ء يقدر على فعله و فهمه ذلك و وعده على فعله شيئا من الثواب و على تركه شيئا من العقاب فلو اكتفى من تكليف عبده بذلك و لم يزد عليه مع علمه بأنه لا يفعل الفعل بمحض ذلك لم يكن ملوما عند العقلاء لو عاقبه على تركه و لا يقول عاقل بأنه أجبره على ترك الفعل و لو لم يكتف السيد بذلك و زاد في ألطافه و الوعد بإكرامه و الوعيد على تركه و أكد ذلك ببعث من يحثه على الفعل و يرغبه فيه ثم فعل بقدرته و اختياره ذلك الفعل فلا يقول عاقل بأنه جبره على ذلك الفعل ثم فعل بقدرته و اختياره ذلك الفعل فلا يقول عاقل بأنه جبره على ذلك الفعل و أما فعل ذلك بالنسبة إلى جماعة و تركه بالنسبة إلى آخرين فيرجع إلى حسن اختيارهم و صفاء طويتهم أو سوء اختيارهم و قبح سريرتهم فالقول بهذا لا يوجب نسبة الظلم إليه تعالى بأن يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها كما يلزم الأولين و لا عزله تعالى عن ملكه و استقلال العباد بحيث لا مدخل لله في أفعالهم فيكونون شركاء لله في تدبير عالم الوجود كما يلزم الآخرين و قد مرت شواهد هذا المعنى في الأخبار

 و يؤيده ما رواه الكليني عن أبي عبد الله ع أنه سأله رجل أجبر الله العباد على المعاصي قال لا فقال ففوض إليهم الأمر قال لا قال فما ذا قال لطف من ربك بين ذلك

و يظهر من  بعض الأخبار أن المراد بالتفويض المنفي هو كون العبد مستقلا في الفعل بحيث لا يقدر الرب تعالى على صرفه عنه و الأمر بين الأمرين هو أنه جعلهم مختارين في الفعل و الترك مع قدرته على صرفهم عما يختارون و منهم من فسر الأمر بين الأمرين بأن الأسباب القريبة للفعل يرجع إلى قدرة العبد و الأسباب البعيدة كالآلات و الأسباب و الأعضاء و الجوارح و القوى إلى قدرة الرب تعالى فقد حصل الفعل بمجموع القدرتين و فيه أن التفويض بهذا المعنى لم يقل به أحد حتى يرد عليه و منهم من قال الأمر بين الأمرين هو كون بعض الأشياء باختيار العبد و هي الأفعال التكليفية و كون بعضها بغير اختياره كالصحة و المرض و النوم و اليقظة و الذكر و النسيان و أشباه ذلك و يرد عليه ما أوردناه على الوجه السابع و الله تعالى يعلم و حججه ع و بسط القول في تلك المسألة و إيراد الدلائل و البراهين على ما هو الحق فيها و دفع الشكوك و الشبه عنها لا يناسب ما هو المقصود من هذا الكتاب و الله يهدي من يشاء إلى الحق و الصواب