مناظراته واحتجاجاته

مناظرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع أبي بكر في شأن فدك

 

عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: لما بويع أبو بكر واستقام له الاَمر على جميع المهاجرين والاَنصار بعث إلى فدك (1) من أخرج وكيل فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله منها .

فجاءت فاطمة الزهراء عليها السلام إلى أبي بكر ثمّ قالت : لِمَ تمنعني ميراثي من أبي رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأخرجت وكيلي من فدك ، وقد جعلها لي رسول الله صلى الله عليه وآله بأمر الله تعالى؟

فقال : هاتي على ذلك بشهود ، فجاءت بأمّ أيمن (2) ، فقالت له أمّ أيمن : لا أشهد يا أبا بكر حتى احتج عليك بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله ، أنشدك بالله ألست تعلم أن ّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال : « أم أيمن امرأة من أهل الجنة » (3). 

فقال : بلى .

قالت : « فاشهد : أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله : ( فآت ذا القربى حقّه ) (4) فجعل فدكاً لها طعمة بأمر الله (5). 

فجاء علي عليه السلام فشهد بمثل ذلك ، فكتب لها كتاباً ودفعه إليها ، فدخل عمر فقال : ما هذا الكتاب ؟ فقال : إنّ فاطمة عليها السلام ادعت في فدك ، وشهدت لها أم أيمن وعلي عليه السلام ، فكتبته لها ، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فتفل فيه ومزّقه (6) ، فخرجت فاطمة عليها السلام تبكي .

فلما كان بعد ذلك جاء علي عليه السلام إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والاَنصار فقال : يا أبا بكر لِمَ منعت فاطمة ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله .

فقال أبو بكر : هذا فيء للمسلمين ، فإن أقامت شهوداً أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله جعله لها وإلا فلا حقّ لها فيه .

فقال أمير المؤمنين عليه السلام : يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين .

قال : لا .

قال : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه، ثم ادعيت أنا فيه من تسأل البينة ؟

قال : إياك أسأل البينة .

قال : فما بال فاطمة سألتها البينة على ما في يديها ؟ وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وبعده ، ولم تسأل المسلمين بينة على ما ادعوها شهوداً ، كما سألتني على ما ادعيت عليهم ؟

فسكت أبو بكر فقال عمر : يا علي دعنا من كلامك ، فإنا لا نقوى على حجتك ، فإن أتيت بشهود عدول ، وإلا فهو فيء للمسلمين ، لا حق لك ولا لفاطمة عليهما السلام فيه .

فقال أمير المؤمنين عليه السلام : يا أبا بكر تقرأ كتاب الله ؟

قال: نعم.

قال: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ : ( إنّما يُريدُ اللهُ ليذهبَ عَنكُمْ الرِجسَ أهلَ البيت ويُطهّركُمْ تطهيراً ) (7) فيمن نزلت (8) ؟ فينا أم في غيرنا؟

قال: بل فيكم.

قال: فلو أنَّ شهوداً شهدوا على فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله بفاحشة ما كنت صانعاً ؟

قال: كنت أُقيم عليها الحد ، كما أُقيمه على نساء المسلمين.

قال: إذن كنت عند الله من الكافرين.

قال: ولِمَ ؟

قال: لاَنّك كنت رددت شهادة الله لها بالطهارة ، وقبلت شهادة الناس عليها ، كما رددت حكم الله وحكم رسوله ، أن جعل لها فدكاً قد قبضته في حياته، ثم قبلت شهادة إعرابي بائل على عقبيه ، عليها ، وأخذت منها فدكاً، وزعمت أنّه فيء للمسلمين ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « البينة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه » (9) فرددت قول رسول الله صلى الله عليه وآله : البينة على من ادعى ، واليمين على من ادعى عليه !

قال : فدمدم الناس وأنكروا ، ونظر بعضهم إلى بعض ، وقالوا : صدق والله عليّ بن أبي طالب عليه السلام ! ورجع إلى منزله .

قال : ثمّ دخلت فاطمة المسجد وطافت بقبر أبيها وهي تقول :

قد كان بعدك أنبــــاء وهنبثة ***لو كنت شاهدها لم تكثـر الخطب

إنّا فقدناك فقد الاَرض‌وابلهـــا ***واختلَّ قومك فاشهدهـم ولا تغب

قد كان جبريل بالآيات يؤنسنــا ***فغاب عنا فكلّ الخيــر محتجب

وكنت بدراً ونوراً يُستضــاء به*** عليك ينزل من ذي العـزَّة الكتب

تجهَّمتنا رجالٌ واستخف بنـــا***إذ غبت عنا فنحن اليوم‌نغـتصب

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت ***منا العيون بتهمال لها سكب (10)

-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

 

(1) فدك : هي : قرية بالحجاز ، بينها وبين المدينة يومان ، وقيل ثلاثة ، أفاءها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وآله صلحاً ، فيها عين فوّارة ونخل ، وقد كانت ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وآله خالصة ، لاَنها لم يوجب عليها بخيل ولا ركاب ، وقد أعطاها ابنته الزهراء عليها السلام فكانت بيدها في عهده صلى الله عليه وآله ، وروي إنّه صلى الله عليه وآله قال لفاطمة عليها السلام : قد كان لاَمّك خديجة على أبيك محمد صلى الله عليه وآله مهراً ، وأنّ أباك قد جعلها لك بذلك ، وانحلتكها تكون لك ولولدك بعدك ، وكتب كتاب النحلة عليّ عليه السلام في أديم ، وشهد عليه السلام على ذلك وأمّ أيمن ومولى لرسول الله صلى الله عليه وآله .

وجاء في الاَخبار كما في رواية الشيخ عبدالله بن حمّاد الاَنصاري ـ أن واردها ـ أربعة وعشرون ألف دينار في كلّ سنة ، وفي رواية غيره سبعون ألف دينار ، وجاء في نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في أمر فدك قال عليه السلام : بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّته السماء فشحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم الله وما أصنع بفدك وغير فدك ، والنفس مظانّها في غدٍ جدث ، تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها .

راجع : بحار الاَنوار : ج 17 ص 378 و ج 21 ص 23 وج 33 ص 474 ، سفينة البحار للقمّي : ج 2 ص 351 ، نهج البلاغة لاَمير المؤمنين عليه السلام ، تحقيق الدكتور صبحي الصالح : ص 417 كتاب رقم : 45 ، معجم البلدان للحموي : ج 4 ص 238 .

(2) أمّ أيمن هي : بركة بنت ثعلبة كنّيت بابنها أيمن بن عبيد ، مولاة النبي صلى الله عليه وآله وحاضنته ، ورثها رسول الله صلى الله عليه وآله من أمة ، ولما تزوّج خديجة عليها السلام أعتقها ، وهي من المهاجرات الاَوائل ، هاجرت الهجرتين إلى أرض الحبشة وإلى المدينة ، وقد شهدت حنيناً واُحداً وخيبر ، وكانت في اُحد تسقي الماء وتداوي الجرحى ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يزورها وكان يقول لها : يا أمة ، وإذا نظر إليها قال : هذه بقية أهل بيتي ، وروي عنه صلى الله عليه وآله انّه قال : من أراد أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن ، فتزوجها زيد بن حارثة ـ بعد عبيد الحبشي ـ فولدت له اُسامة بن زيد ، وكانت أمّ أيمن على درجة كبيرة من الفضل والولاء لاَهل البيت صلى الله عليه وآله ، وذكر الشيخ المفيد عليه الرحمة في خبر فدك : انّ النبي صلى الله عليه وآله لما أعطى فدكاً لفاطمة عليها السلام قال لها ولعلي عليه السلام : يا أم أيمن اشهدي ويا علي اشهد ، ومن شدّة حب أمّ أيمن لفاطمة عليها السلام كما رواه في الخرائج انها لما توفيت فاطمة عليها السلام حلفت أم أيمن أن لا تكون بالمدينة إذ لا تطيق أن تنظر إلى مواضع كانت بها ، فخرجت إلى مكة الخ ، توفيت أم أيمن ـ رضي الله عنها ـ بعد النبي صلى الله عليه وآله بخمسة أشهر وقيل توفيت في خلافة عثمان .

راجع : تهذيب التهذيب لابن حجر : ج 12 ص 459 ، أعلام النساء : ج 1 ص 127 ، سفينة البحار : ج 2 ص 736 ، الاختصاص للمفيد : ص 184 ، تنقيح المقال للمامقاني : ج 3 ص 70 فصل النساء .

(3) جاء في كنز العمال : ج 12 ص 146 ح 34416 ، من سرّه أن يتزوّج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن ، وح 34417 عنه صلى الله عليه وآله : أم أيمن أمي بعد أمي .

(4) سورة الروم : الآية 38 .

(5) روى السيوطي في الدر المنثور : ج 5 ص 273 في تفسير قوله تعالى : ( فآت ذا القربى حقّه ) قال : أخرج البزّاز ، وأبو يعلى وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة عليها السلام فأعطاها فدكاً .

وأخرج نحوه عن ابن مردويه عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال : لما نزلت : ( فآت ذا القربى حقّه ) أقطع رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة فدكاً .

(6) إلى هنا ذكر الخبر الشيخ المفيد ـ عليه الرحمة ـ في الاختصاص : ص 183 ـ 185 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 16 ص 274 و ص 235 .

(7) سورة الاَحزاب : الآية 33 .

(8) روى محب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص 21 ، عن عمر بن أبي سلمة ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله قال نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله ( إنّما يُريدُ اللهُ ليذهبَ عَنكُمْ الرِجسَ أهلَ البيت ويُطهّركُمْ تطهيراً ) في بيت أم سلمة رضي الله عنها فدعى النبي صلى الله عليه وآله فاطمة وحسناً وحسيناً فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره ثم قال : « اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً » ، قالت أم سلمة : وأنا معهم يا رسول الله ؟ قال : « أنت على مكانك وأنت على خير » ، ومن المصادر التي ذكرت ذلك ، راجع: صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة ، ب فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله: ج4 ص 1883 ح61، سنن الترمذي: ج5 ص 327 ح3205 ، المستدرك للحاكم: ج3 ص 133، شواهد التنزيل للحسكاني: ج2 ص18ـ 139 ح 638 ـ 774، أسباب النزول للواحدي: ص203، فرائد السمطين: ج2 ص9 ح356 ، وغيرها الكثير من المصادر المعتمدة عند الجمهور .

(9) كنز العمال : ج 6 ص 187 ح 187 ح 15282 و 15283 (كتاب الدعوى) ، سنن الترمذي : ج 3 ص 626 ح 1341 ، السنن الكبرى للبيهقي : ج 8 ص 279 ، وسائل الشيعة للحر العاملي : ج 18 ص 170 (ب3 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعاوى).

(10) الاَحتجاج للطبرسي : ج 1 ص 90 ـ 93 ، علل الشرائع للصدوق : ج 1 ص 191 ، ب 151 ح 1 ، تفسير القمّي : ج 2 ص 155 ـ 157 .


 


مناظرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع الزبير (1) في حديث العشرة المبشرة بالجنة

 


عن سليم بن قيس الهلالي قال : لما التقى أمير المؤمنين عليه السلام أهل البصرة يوم الجمل نادى الزبير : يا أبا عبدالله أخرج إلي ؟ فخرج الزبير ومعه طلحة ، فقال لهما : والله إنكما لتعلمان ، وأولوا العلم من آل محمد ، وعائشة بنت أبي بكر ، أنّ كلّ أصحاب الجمل ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وآله ، وقد خاب من افترى !! 

قالا له : كيف نكون معلونين ، ونحن أصحاب بدر وأهل الجنّة ؟ !

فقال لهما علي عليه السلام : لو علمت أنكم من أهل الجنة لما استحللت قتالكم ؟ !

فقال له الزبير : أما سمعت حديث سعيد بن عمرو بن نفيل وهو يروي : أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : « عشرة من قريش في الجنة » (2) فقال له علي عليه السلام : سمعته يحدث بذلك عثمان في خلافته ؟

فقال له الزبير : أفتراه كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ 

فقال له علي عليه السلام : لست أخبرك بشيء حتى تسميهم ؟! 

قال الزبير : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعيد بن عمرو بن نفيل. 

فقال له علي عليه السلام : عددت تسعةً فمن العاشر ؟

قال له : أنت.

فقال له علي عليه السلام : قد أقررت أني من أهل الجنة ، وأما ما ادعيت لنفسك وأصحابك فأنا به من الجاحدين الكافرين.

قال له الزبير : أفتراه كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ قال عليه السلام : ما أراه كذب، ولكنه والله ، اليقين...الخ (3). 

وممّا روي في محاورتهما أيضاً يوم الجمل ما ذكره أبو الفرج بن الجوزي بسنده عن عبد السلام ـ رجل من حية ـ قال : خلا علي عليه السلام بالزبير يوم الجمل فقال : أنشدك الله ؟ هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأنت لاوي يدي سقيفة بني فلان: لتقاتلنه وأنت ظالم له ؟ ثمّ لينصرنّ عليك ؟!

ثمّ قال : قد سمعته لا جرم ، لا أقاتلك !

ومن طريق آخر بسنده عن أبي جرو المازني قال : سمعت علياً عليه السلام وهو ناشد الزبير ، فقال : أنشدك الله يا زبير ، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : إنك تقاتلني وأنت ظالم ؟ !

قال : بلى ، ولكني نسيت (4) 

وفي رواية اُخرى قال له : نشدتك الله ! أتذكر يوم مررت بي ورسول الله صلى الله عليه وآله متكىء على يدك ، وهو جاءٍ من بني عوف ، فسلّم عليَّ وضحك في وجهي، فضحكت إليه ، لم أزده على ذلك ، فقلت : لا يترك ابن أبي طالب يا رسول الله زهوه ! فقال لك : مه إنه ليس بذي زهو ، أما إنك ستقاتله وأنت له ظالم!!

فاسترجع الزبير وقال : لقد كان ذلك ، ولكن الدهر أنسانيه ، ولاَنصرفن عنك، فرجع. (5)

وفي رواية ثالثة عن أبي مخنف في كتاب الجمل ، قال : برز عليّ عليه السلام يوم الجمل ، ونادى بالزبير : يا أبا عبدالله، مراراً ، فخرج الزبير فتقاربا حتى اختلفت أعناق خيلهما ، فقال له علي عليه السلام : إنما دعوتك لاَذكِّرك حديثاً قاله لي ولك رسول الله صلى الله عليه وآله : أتذكر يوم رآك وأنت معتنقي ، فقال لك : أتحبه ؟ قلت : وما لي لا أحبّه وهو أخي وابن خالي ! فقال : أما إنّك ستحاربه وأنت ظالم له !

فاسترجع الزبير ، وقال : أذكرتني ما أنسانيه الدّهر ، ورجع إلى صفوفه.

فقال له عبدالله ابنه : لقد رجعت إلينا بغير الوجه الذي فارقتنا به !

فقال : أذكرني عليّ عليه السلام حديثاً أنسانيه الدهر ، فلا أحاربه أبداً ، وإني لراجع وتارككم منذ اليوم.

فقال له عبدالله : ما أراك إلاّ جبنت عن سيوف بني عبد المطلب ، إنّها لسيوف حداد ، تحملها فتية أنجاد.

فقال الزبير : ويلك ! أتهيجني على حربه ، أما إني قد حلفت ألاّ أحاربه !

قال : كفّر عن يمينك ، لا تتحدث نساء قريش أنك جبنت ، وما كنت جباناً؟!

فقال الزبير : غلامي مكحول حرّ ، كفّارة عن يميني (6) ثمّ انصل سنان رمحه، وحمل على عسكر علي عليه السلام برمح لا سنان له.

فقال علي عليه السلام : أفرجوا له ، فأنه مخرج ، ثمّ عاد إلى أصحابه ، ثمّ حمل ثانية، ثمّ ثالثة ، ثمّ قال لابنه : أجبنا ويلك ترى !

فقال : لقد أعذرت.

قال أبو مخنف : لما أذكر عليّ عليه السلام الزبير بما أذكره به ورجع الزبير ، قال :

نادى عليُّ بـأمـر لستُ أنكره *** وكان عمرُ أبيك الخير مـُذْ حينِ

فقلت حسبك من عذلٍ أبا حسنٍ *** بعض الذي قلت مُنذ اليوم يكفيني

ترك الاَمور التي تخشى مغبتها *** والله أمـثـلُ في الدنيا وفي الدين

فاخترت عاراً على نار مؤجّجة *** أنى يقومُ لـهـا خلقٌ من الطين

قال : لما خرج علي عليه السلام لطلب الزبير ، خرج حاسراً ، وخرج إليه الزبير دارعاً مدججاً ، فقال للزبير : يا أبا عبدالله ، قد لعمري أعددت سلاحاً ، وحبذا! فهل أعددت عند الله عذراً ؟!

فقال الزبير : إنّ مردَّنا إلى الله ؟

قال علي عليه السلام : ( يومئذٍ يُوفيهُمُ الله دينهم الحقّ ويعلمون انّ الله هو الحق المبين) (7) ثمّ أذكره الخبر ، فلما كرّ الزبير راجعاً إلى أصحابه نادماً واجماً، رجع عليّ عليه السلام إلى أصحابه جدلاً مسروراً ، فقال له أصحابه : يا أمير المؤمنين ، تبرز إلى الزبير حاسراً ، وهو شاكٍ في السلاح ، وأنت تعرف شجاعته !

قال : إنّه ليس بقاتلي ، إنّما يقتلني رجل خامل الذكر ، ضئيل النسب غيلةً في غير مأقِطِ (8) حرب ، ولا معركة رجال ، ويلُ امّهِ أشقى البشر ، ليودَّنّ أنّ أمّه هبلت به ! أما إنّه وأحمر ثمود لمقرونان في قرن (9) .

----------------------------------------------------------------------------------------------------------------


(1) هو : الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد القرشي ، كنيته أبو عبدالله واُمّه صفية بنت عبد المطلب ، فهو ابن عمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وابن أخي خديجة الكبرى ، كان من ناصري أمير المؤمنين عليه السلام وشيعته قبل أن ينحرف عنه ويعاديه ، فهو أحد الاَربعة الذين استجابوا لاَمير المؤمنين عليه السلام لما دعاهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله لاَخذ حقه ، روي عن سلمان انّه قال فيه : وكان الزبير أشدنا بصيرة في نصرته ، كما انّه وهب حقّه يوم الشورى لاَمير المؤمنين عليه السلام لما دختله من حمية النسب ، وهو أحد الذين شهدوا على وصية فاطمة عليها السلام كما شهد دفنها ليلاً ، وهو الذي اخترط سيفه دفاعاً عن أمير المؤمنين عليه السلام لما أخرج من منزله ملبباً حتى رموه بصخرة فأصابت قفاه ، وسقط السيف من يده ، فأخذوه وكسروه ، هذا مع ما عرف عنه من الشجاعة التي ظهرت في أيّام النبي صلى الله عليه وآله واشتراكه في الغزوات معه ، وروي أن الزبير كان ممن أعير الاِيمان وكان إيمانه مستودعاً ، فمشى في ضوء نوره ثمّ سلبه الله إياه ، وقد سعى ابنه عبدالله في عدول أبيه عن أمير المؤمنين عليه السلام فكان سبباً في انحرافه عن ناحية أهل البيت عليهم السلام ، وجاء عنه عليه السلام انّه قال : لا زال الزبير منا حتى أدرك فرخه ، وفي رواية اُخرى : ما زال الزبير منّا أهل البيت حتى شب ابنه عبدالله ، قتله ابن جرموز غدراً في وادي السباع، وله خمس وسبعون سنة ، وأتى عمرو علياً بسيف الزبير وخاتمه ، فقال علي عليه السلام : سيف طالما جلا الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله .

راجع ترجمته في : سفينة البحار للقمي : ج 1 ص 543 ـ 545 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 1 ص 231 ـ 236 وج 2 ص 167 ، سير أعلام النبلاء : ج 1 ص 41 ترجمة رقم : 3 ، الطبقات الكبرى لابن سعد : ج 3 ص 100 ، تهذيب الكمال للمزي : ج 9 ص 319 ترجمة رقم : 1971.

(2) راجع : مسند أحمد بن حنبل : ج 1 ص 193 ، الجامع الصحيح للترمذي : ج 5 ص 605 ح 3747 وص 606 ح 3748 ، سنن أبي داود : ج 4 ص 212 ح 4649 ، الرياض النضرة لمحب الدين : ج 1 ص 34 ـ 35 ، المستدرك للحاكم : ج 3 ص 316 ـ 317 و 440 ، كنز العمال : ج 11 ص 638 ح 33105 و 33106 وص 646 ح 33137 ، سلسلة الاَحاديث الصحيحة : ج 3 ص 419 ح 1435. وقد فند المأمون العباسي هذا الحديث كما جاء في مناظرته مع العامة ، وقد قال له أحدهم : إن النبي صلى الله عليه وآله شهد لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة ؟ فقال له المأمون : لو كان هذا كما زعمتم ، لكان عمر لا يقول لحذيفة : نشدتك بالله أمن المنافقين أنا ؟ فإن كان قد قال له النبي صلى الله عليه وآله : أنت من أهل الجنة ولم يصدقه حتى زكّاه حذيفة فصدّق حذيفة ولم يصدق النبي صلى الله عليه وآله فهذا على غير الإيلام ، وإن كان قد صدق النبي صلى الله عليه وآله فلم سأل حذيفة ؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما. راجع عيون أخبار الرضا عليه السلام : ج 1 ص 203 ، مناظرات في الاِمامة : ص 227 المناظرة الاَربعون.

وراجع كلام العلامة الاَميني قدس سره حول الحديث المذكور في كتابه الغدير : ج 10 ص 118 ـ 131 ح 37 فقد استوفى البحث حوله دلالة وسنداً.

(3) الاِحتجاج للطبرسي : ج 1 ص 162 ، بحار الاَنوار : ج 32 ص 197 ح 147 و ص 216 ح 171 و ج 36 ص 324 ح 182.

(4) العلل المتناهية لابن الجوزي : ج 2 ص 847 ـ 848 ح 1417 و 1418 ، تاريخ الاُمم والملوك: ج 4 ص 509 ، الكامل في التاريخ : ج 3 ص 240.

(5) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 167.

(6) قال همام الثقفي في فعل الزبير وما فعل وعتقه عبده في قتال علي عليه السلام :

أيعتــق مكحــــولاً ويعصــــي نبيّــــه *** لقد تاه عن قصــدالهــــدى ثمّ عــــوق

أينــــوي بهذا الصــــدق والبر والتقــــى *** سـيـعـلـم يـومـاً مـن يـبـر ويـصـدق

لشتان مـا بيــــن الضـــلال والهــــدى *** وشتان من يعصي النبي صلى الله عليه وآله ويعتق

ومـن هــــــــو في ذات الاِله مشمــــر *** يكبــــر بــــراً ربّـــه ويصــــدق

أخـي الحقّ أن يعصى النبي صلى الله عليه وآله سفاهة *** ويعتـق‌مــــن عصيــــانه ويطلــــق

كدافــــق مــــاء للســــراب يؤمـــه *** ألاّ في ضلال مــــا يصــــب‌ويدفـــق

بحار الاَنوار : ج 32 ص 204 ح 158.

(7) سورة النور : الآية 25.

(8)المأقط : ساحة القتال.

(9) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج1 ص 233 ـ 235 ، البداية والنهاية : ج 7 ص 240ـ241، الفتوح لابن أعثم: ج2 ص309 ـ 312، بحار الاَنوار: ج32 ص189 ح140.

 


مناظرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع رجل قدري في المشيئة


روى ابن عساكر ـ بسنده ـ عن الحرث ، قال : جاء رجلٌ إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القَدَر ؟

قال عليه السلام : طريق مظلم لا تسلكه !!

قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القَدَر ؟

قال عليه السلام : بحر عميق لا تلجه.

قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القَدَر ؟

قال عليه السلام : سر الله قد خفي عليك فلا تلجه.

قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القَدَر ؟

قال عليه السلام : سرّ الله قد خفي عليك فلا تفشه.

قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القَدَر ؟

قال عليه السلام : أيّها السائل إذاً الله خلقك لما شاء أو لما شئت؟

قال : بل لما شاء.

قال : فيستعملك كما شاء أو كما شِئْت ؟

قال: بل كما شاء.

قال عليه السلام : فيبعثك يوم القيامة كما شاء أو كما شئت ؟

قال : بل كما شاء.

قال عليه السلام : أيّها السائل ألست تسأل ربّك العافية ؟

قال : نعم.

قال عليه السلام : فمن أي شيء تسأله العافية ، أمِن البلاء الذي ابتلاك به غيره ؟

قال : من البلاء الذي ابتلاني به.

قال عليه السلام : أيّها السائل تقول : لا حول ولا قوّة إلاّ بمن ؟

قال : إلاّ بـالله العلي العظيم.

قال عليه السلام : أفتعلم ما تفسيرها ؟

قال : تعلّمني ممّا علّمك الله يا أمير المؤمنين ؟

قال عليه السلام : إنّ تفسيرها ، لا تقدر على طاعة الله ، ولا يكون له قوّةٌ في معصية في الاَمرين جميعاً إلاّ بالله.

أيّها السائل ألك مع الله مشيئة (1) أو فوق الله مشيئة ، أو دون الله مشيئة ؟ فإن قلت ، إنّ لك دون الله مشيئة فقد اكتفيت بها عن مشيئة الله ، وإن زعمت أنّ لك فوق الله مشيئة فقد ادّعيت أنّ قوّتك ومشيئتك غالبتان على قوّة الله ومشيئته ، وإن زعمت أنّ لك مع الله مشيئة فقد ادّعيت مع الله شركاً في مشيئته.

أيّها السائل إنّ الله يشجّ ويداوي ، فمنه الداء ومنه الدواء (2) ، أعقلت عن الله أمره.

قال : نعم.

قال علي عليه السلام : الآن أسلم أخوكم ، فقوموا فصافحوه.

ثمّ قال علي عليه السلام : لو أن عندي رجلاً من القدرية لاَخذت برقبته ثمّ لا أزال أجأها حتى أقطعها ، فإنّهم يهود هذه الاُمّة ونصاراها ومجوسها.(3)

____________

(1) أي ليس للعبد مشيئة مستقلة دون مشيئة الله تعالى ، قال تعالى : ( وَمَا تَشاؤن إلاّ أن يَشاء الله إنّ الله كان عليماً حكيماً ).

(2) قال تعالى : ( وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلاّ هو ).

(3) ترجمة الاِمام علي بن أبي طالب عليه السلام من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 3 ص 285 ـ 286 ، ح 1307 ، العقد الفريد للاَندلسي : ج 2 ص 218 ـ 219 ، دستور معالم الحِكَمْ من كلام أمير المؤمنين عليه السلام للقضاعي : ص 107 ـ 109 ، تذكرة الخواص لابن الجوزي : ص 144 ، بتفاوت.

 

 

مناظرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع رجل من أهل الشام في القضاء والقدر


قال الشيخ الصدوق ـ عليه الرحمة ـ : وأخبرني الشيخ أدام الله عزّه مرسلاًعن عمرو بن وهب اليماني قال : حدّثني عمرو بن سعد عن محمد بن جابر عن أبي إسحاق السبيعي قال : قال شيخ من أهل الشام حضر صفين مع أمير المؤمنين عليه السلام بعد انصرافهم من صفين : أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام ، أكان بقضاء من الله وقدر ؟

قال : نعم يا أخا أهل الشام ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، ما وطئنا موطئاً، ولا هبطنا وادياً ، ولا علونا تلعة ، إلاّ بقضاء من الله وقدر.(1) 

فقال الشامي : عند الله تعالى أحتسب عنائي إذاً يا أمير المؤمنين ، وما أظن أن لي أجراً في سعيي إذا كان الله قضاه عليَّ وقدَّره لي.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام : إنّ الله قد أعظم لكم الاَجر على مسيركم وأنتم سائرون ، وعلى مقامكم وأنتم مقيمون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليها مضطرين ، ولا عليها مجبرين.

فقال الشامي : فكيف يكون ذلك والقضاء والقدر ساقانا ، وعنهما كان مسيرنا وانصرافنا ؟ !

فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : ويحك يا أخا أهل الشام! لعلك ظننت قضاءً لازماً وقدراً حتماً ، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، وسقط الوعد والوعيد ، والاَمر من الله عز وجل والنهي منه ، وما كان المحسن أولى بثواب الاِحسان من المسيء ، ولا المسيء أولى بعقوبة المذنب من المحسن ، تلك مقالة عبدة الاَوثان وحزب الشيطان وخصماء الرحمن وشهداء الزور وقدرية (2) هذه الاُمّة ومجوسها (3) إن الله أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلَّف يسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُطع مكرهاً ، ولم يُعصَ مغلوباً ، ولم يكلف عسيراً ، ولم يرسل الاَنبياء لعباً ، ولم ينزل الكتب على العباد عبثاً ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالاَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا باطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) (4) . قال الشامي : فما القضاء والقدر اللذان كان مسيرنا بهما وعنهما ؟

قال : الاَمر من الله تعالى في ذلك والحكم منه ثمّ تلا : ( وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرَاً مَّقْدُورَاً ) (5) .

فقام الشامي مسروراً فرحاً لما سمع هذا المقال وقال : فرّجت عنّي يا أمير المؤمنين ، فرَّج الله عنك وأنشأ يقول :

أنت الاِمام الذي نرجـو بطاعته *** يوم النشور من الرحمـن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً *** جزاك ربك عنّـا فيـه ‌إحســانا

نفى الشكوك مقال منـك متّضح *** وزاد ذا العلم والاِيمــان إيقانـا

فلن أرى عاذراً في فعل ‌فـاحشة *** ما كنت راكبهـا ظلماً وعـدوانا

كلا ولا قائلاً يومــاً لداهيــة *** أرداه فيها لدينا غيـر شيطــانا

ولا أراد ولا شاء الفســوق لنا *** قبل البيان لنا ظلمـاً وعــدوانا

نفسي الفداء لخير الخلــق كُلِّهِمُ *** بعد النبي علي الخيـر مــولانا

أخي النبي ومولى المؤمنيـن معاً *** وأوّل الناس تصديقـاً وإيمــانا

وبعل بنت رسـول الله سيّدنــا *** أكرم به وبها سراً وإعـلانا (6)


____________

(1) قيل إن القضاء والقدر هو : الاَمر من الله تعالى والحكم بمعنى أنّه تعالى بيّن ذلك وكتبه وأعلم أنّهم سيفعلون ذلك في اللوح المحفوظ وبيّنه لملائكته ، وقدر ذلك في سابق علمه وقد اشتهر في الحديث النبوي الشريف إن كلّ شيء بقضاءٍ وقدر ، وانّه يجب الاِيمان بالقدر خيره وشرّه ، وأنّ أفعال العباد واقعة بقضاء الله وقدره ، لا بمعنى أنّه تعالى خلق أفعالهم وأوجدها ـ كي ينسب فعل العباد له ـ إذ لو كان بهذا المعنى لسقط اللوم عن العاصي وعقابه ، ولم يستحق المطيع الثواب على عمله ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

فالاَفعال الصادرة من العبد كلّها واقعة بقدرته واختياره غير مجبور على فعله ، بل له أن يفعل غير مضطر ، وله أن لا يفعل غير مكره. وهذا ما جاء عن أئمّة الهدى ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ، قال إمامنا الصادق عليه السلام : لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمرٌ بين أمرين. وهذا ما ذهبت إليه الاِمامية ومن حذا حذوهم.

فأفعال العباد واقعة تحت قدرتهم واختيارهم ، ولكن غير خارجة عن قدرة الله تعالى ، إذ هو المفيض على الخلق ، فليست أفعالهم واقعة تحت الجبر بتمكينه لهم ، ولم يفوّض لهم خلق الاَفعال فتكون خارجة عن قدرته وسلطانه ، بل له الحكم والاَمر ، وهو على كلّ شيء قدير.

وهناك من ذهب إلى أنّ الفاعل لاَفعال المخلوقين من المعاصي هو الله تعالى ومع ذلك يعاقبهم عليها وهو الفاعل للطاعة ومع ذلك يثيبهم عليها ، وانّه لا فعل للعبد أصلاً ـ وهم المجبرة ـ ولا فاعل سواه ولا شريك له في ذلك فنسبوا إلى الله الظلم بمقالتهم هذه ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ، وقد فنّد أمير المؤمنين عليه السلام مقالتهم هذه وزعمهم الباطل قال عليه السلام : ( لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ) إذ كيف يجبرهم على الطاعة ثمّ يثيبهم على عمل لم يصدر منهم ، وكيف يجبرهم على المعصية ثم يعاقبهم عليها إذ لا عقاب على عمل لم يفعله العبد ( وسقط الوعد والوعيد ) الوعد على الطاعة بالثواب ، والوعيد على المعصية بالعقاب حيث انّه تعالى وعد المطيعين بالثواب الجزيل ، وأوعد العاصين بالعقاب ، ولا يكون ذلك إلاّ باختيارهم وإرادتهم، ولذا أمرهم تعالى ونهاهم وأرسل الرسل لهم وأنزل الكتب عليهم وكلفهم ، ومع الجبر لا قدرة لهم فلا تكليف فيبطل كلّ ذلك ما داموا مجبورين على أفعالهم. وليس هناك أدلّ من الوجدان على قدرة العبد واختياره وانّه غير مجبور على فعله فله أن يفعل وله أن لا يفعل وهو الصواب ، ولذا نجد القرآن الكريم ينسب الاَفعال إلى أصحابها ويحملهم مسؤولية أفعالهم إن خيراً فخير وان شرّاً فشر. فمن تلك الآيات الشريفة قوله تعالى : ( من يعمل مثقال ذرّة ) ، ( من يعمل سوءاً يجز به ) ، ( كلّ امرىءٍ بما كسب رهين ) ، ( جزاءاً بما كانوا يعملون ) إلى غير ذلك من آيات الوعد والوعيد والذم والمدح.

وقد سئل الاِمام أبو الحسن الهادي ـ صلوات الله عليه ـ عن أفعال العباد ، فقيل له : هل هي مخلوقة لله تعالى ؟ فقال عليه السلام لو كان خالقاً لها لما تبرّأ منها وقد قال سبحانه : ( إن الله بريءٌ من المشركين ورسولهُ ) التوبة | 3.

راجع : كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 315 ، تصحيح الاعتقاد ـ من مصنّفات الشيخ المفيد ـ : ج 5 ص 43 ، الباب الحادي عشر للعلاّمة الحلّي : ص 59 ، حقّ اليقين في معرفة اُصول الدين لشبّر : ج 1 ص 60 ، عقائد الاِمامية للمظفّر : ص 267.

(2) القدرية قيل : هم جاحدوا القدر القائلون بنفي كون الخير والشر كلّه بتقدير الله ومشيئته ، وسمّوا بذلك لمبالغتهم في نفيه. وقالت المعتزلة : القدريّة هم القائلون بأنّ الخير والشرّ كلّه من الله وبتقديره ومشيئته لاَنّ الشائع نسبة الشخص إلى ما يثبته ، وقال أبو سعيد الحميري: وسميت القدريّة : قدريّة لكثرة ذكرهم القدر ، وقولهم في كلّ ما يفعلونه قدّره الله عليهم ، والقدرية يسمون: العدلية ، بهذا الاسم ، والصحيح ما قلناه لاَنّ من أكثر من ذكر شيء نُسب إليه ، مثل من أكثر من رواية النحو ، نسب إليه ، فقيل : نحوي ، ومن أكثر من رواية اللغة نسب إليها ، فقيل : لغوي، وكذلك من أكثر من ذكر القدر ، وقال في كلّ فعل يفعله : قدّره الله عليه ، قيل : قدري ، والقياس في ذلك مطرد.

وأمّا في أخبار أهل البيت عليهم السلام فقد يطلق القدري على الجبري والتفويضي، كما عن حريز ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل زعم أنّ الله عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم الله عزّ وجلّ في حكمه وهو كافر ، ورجل يزعم أنّ الاَمر مفوّض إليهم فهذا وهّن الله في سلطانه فهو كافر ، ورجل يقول : إنّ الله عزّ وجلّ كلّف العباد ما يطيقون ، ولم يكلّفهم ما لا يطيقون، فإذا أحسن حمد الله ، وإذا أساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ.

راجع : معجم الفرق الاسلامية للاَمين : ص 190 ، الحور العين أبو سعيد الحميري : ص204، بحار الاَنوار : ج 5 ص 9 ح 14 ، سفينة البحار : ج 2 ص 409.

(3) جاء في كنز العمّال ج 1 ص 121 ، ح 2677 : إنّ لكلّ اُمّة مجوس ومجوس اُمّتي هذه القدرية الخ ، وجاء في سفينة البحار ج2 ص409، وقد ورد في صحاح الاَحاديث: لعن الله القدريّة على لسان سبعين نبيّاً.

(4) سورة ص : الآية 27.

(5) سورة الاَحزاب : الآية 38.

(6) الفصول المختارة للشيخ المفيد : ص 42 ـ 43 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق : ج 2 ص 127 ـ 128 ح 38 ، كنز الفوائد للكراجكي : ج 1 ص 363 ـ 364 ، الاحتجاج للطبرسي : ج 1 ص 208 ـ 209 ، ترجمة الاِمام علي عليه السلام من تاريخ مدينة دمشق : ج 3 ص 284 ـ 285 ح 1306 ، نهج البلاغة لاَمير المؤمنين عليه السلام تحقيق صبحي الصالح : ص 481 من كلام له رقم : 78 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 18 ص 227 ـ 228 ، بتفاوت.

 


نصراني يسأل عمر وعلي عليه السلام يجيب:

 

روى أبو المليح الهذلي عن أبيه قال: كنا جلوساً عند عمر بن الخطاب إذ دخل علينا رجل من أهل الروم، قال له: أنت من العرب؟!

قال: نعم.

قال: أما إني أسألك عن ثلاثة أشياء، فإن خرجت إلي منها آمنت بك، وصدقت نبيك محمداً.

قال: سل عما بدا لك يا كافر.

قال: أخبرني عما لا يعلمه الله، وعما ليس لله، وعما ليس عند الله.

قال عمر: ما أتيت يا كافر إلا كفراً.

إذ دخل علينا أخو رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال لعمر: أراك مغتماً.

فقال: وكيف لا أغتم يا ابن عم رسول الله، وهذا الكافر يسألني عما لا يعلمه الله، وعما ليس لله، وعما ليس عند الله، فهل لك في هذا شيء يا أبا الحسن؟!

قال: نعم.

قال: فرج الله عنك، وإلا [و] قد تصدع قلبي. فقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أحب أن يدخل المدينة فليقرع الباب.

فقال: أما مالا يعلمه الله، فلا يعلم الله أن له شريكاً ولا وزيراً، ولا صاحبة، ولا ولداً. وشرحه في القرآن {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ}(1).

وأما ما ليس عند الله، فليس عنده ظلم للعباد.

وأما ما ليس لله، فليس له ضد ولا ند، ولا شبه ولا مثل.

قال: فوثب عمر، وقبل ما بين عيني علي (عليه السلام) ثم قال: يا أبا الحسن، منكم أخذنا العلم، وإليكم يعود، ولولا علي لهلك عمر.

فما برح النصراني حتى أسلم، وحسن إسلامه(2).

------------------------------------------------------------------------------------------------------

1- الآية 18 من سورة يونس.

2- البحار: ج40 ص286 عن صفوة الأخبار.

 

 

اسئلة يهودي من أهل المدينة

 

عن أبي الطفيل قال شهدت الصلاة على أبي بكر الصديق، ثم اجتمعنا إلى عمر بن الخطاب، فبايعناه، وأقمنا أياما نختلف إلى المسجد إليه، حتى أسموه أمير المؤمنين، فبينما نحن عنده جلوس إذ أتاه يهودي من يهود المدينة، ـ وهم يزعمون: أنه من ولد هارون أخي موسى بن عمران (عليهما السلام) ـ حتى وقف على عمر فقال له: يا أمير المؤمنين! أيكم أعلم بنبيكم وبكتاب نبيكم حتى أسأله عما أريد.

فأشار له عمر إلى علي بن أبي طالب فقال: هذا أعلم بنبينا وبكتاب نبينا.

قال اليهودي: أكذاك أنت يا علي؟!

قال: سل عما تريد.

قال: إني سائلك عن ثلاث، وثلاث، وواحدة.

قال له علي: ولم لا تقول إني سايلك عن سبع؟!

قال له اليهودي: أسألك عن ثلاث، فإن أصبت فيهن أسألك عن الثلاث الأخر، فإن أصبت فيهن أسألك عن الواحدة، وإن أخطأت في الثلاث الأول لم أسألك عن شئ.

وقال له علي: وما يدريك إذا سألتني فأجبتك، أخطأت أم أصبت؟!

قال: فضرب بيده على كمه، فاستخرج كتاباً عتيقاً، فقال: هذا كتاب ورثته عن آبائي وأجدادي، بإملاء موسى وخط هارون، وفيه هذه الخصال الذي أريد أن أسألك عنها.

فقال علي: والله عليك إن أجبتك فيهن بالصواب أن تسلم.

قال له: والله لئن أجبتني فيهن بالصواب لأسلمن الساعة علي يديك.

قال له علي: سل.

قال: أخبرني عن أول حجر وضع على وجه الأرض.

وأخبرني عن أول شجرة نبتت على وجه الأرض.

وأخبرني عن أول عين نبعت على وجه الأرض،

قال له علي: يا يهودي، إن أول حجر وضع على وجه الأرض، فإن اليهود يزعمون: أنه صخرة بيت المقدس، وكذبوا، لكنه الحجر الأسود،

نزل به آدم معه من الجنة، فوضعه في ركن البيت، فالناس يمسحون به، ويقبلونه، ويجددون العهد والميثاق فيما بينهم وبين الله.

قال اليهودي: أشهد بالله لقد صدقت.

قال له علي: وأما أول شجرة نبتت على وجه الأرض، فإن اليهود يزعمون: أنها الزيتونة، وكذبوا، ولكنها نخلة العجوة، نزل بها معه آدم من الجنة، فأصل التمر كله من العجوة.

قال له اليهودي: أشهد بالله لقد صدقت.

قال: وأما أول عين نبعت على وجه الأرض، فإن اليهود يزعمون: أنها العين التي تحت صخرة بيت المقدس، وكذبوا، ولكنها عين الحياة التي نسي عندها صاحب موسى السمكة المالحة، فلما أصابها ماء العين عاشت وسمرت(التسمير: الإرسال، سمرت: ذهبت.) فاتبعها موسى وصاحبه، فأتيا الخضر.

فقال اليهودي: أشهد بالله لقد صدقت.

قال له علي: سل.

قال: أخبرني عن منزل محمد، أين هو في الجنة؟!

قال علي: ومنزل محمد من الجنة جنة عدن في وسط الجنة، أقربه من عرش الرحمن عز وجل.

قال له اليهودي: أشهد بالله لقد صدقت.

قال له علي: سل.

قال: أخبرني عن وصي محمد في أهله كم يعيش بعده؟! وهل يموت أو يقتل؟!

قال علي: يا يهودي يعيش بعده ثلاثين سنة، ويخضب هذه من هذه، وأشار إلى رأسه.

قال: فوثب اليهودي وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله(1).

------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

 

1- العسل المصفى في تهذيب زين الفتى ج1 ص305 و 306 والغدير ج6 ص268 و 269 عنه. وراجع: كمال الدين ص294 ـ 296 وكتاب الغيبة للنعماني ص97 ـ 100 وغاية المرام ج1 ص217 ـ 219 والإمام علي (عليه السلام" في آراء الخلفاء للشيخ مهدي فقيه إيماني ص131 ـ 133 وفرائد السمطين ج1 ص354 ح280.

 

 

 

 

 


 

 

أسئلة أخرى لليهود وأمير المؤمنين عله السلام يجيب 

 

حدثنا أبي رضي الله عنه قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار، عن محمد بن - أحمد بن يحيى بن عمران الاشعري قال: حدثني أبوعبدالله الرازي، عن أبي الحسن عيسى بن محمد بن عيسى بن عبدالله المحمدي من ولد محمد بن الحنفية، عن محمد بن جابر(1) عن عطاء، عن طاووس قال: أتي قوم من اليهود عمر بن الخطاب وهو يومئذ وال علي الناس فقالوا: أنت والي هذا الامر بعد نبيكم.

وقد أتيناك نسألك عن أشياء إن أنت أخبرتنا بها آمنا وصدقنا واتبعناك، فقال عمر: سلوا عما بدالكم، قالوا: أخبرنا عن أقفال السماوات السبع ومفاتيحها، وأخبرنا عن قبر سار بصاحبه؟ وأخبرنا عمن أنذر قومه ليس من الجن ولا من الانس؟ وأخبرنا عن موضع طلعت فيه الشمس ولم تعد إليه، وأخبرنا عن خمسة لم يخلقوا في الارحام، عن واحد واثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وستة وسبعة، وعن ثمانية وتسعة وعشرة وحادي عشر وثاني عشر؟ قال فأطرق عمر ساعة ثم فتح عينيه ثم قال: سألتم عمر بن الخطاب عما ليس له به علم ولكن ابن عم رسول الله صلى الله عليه واله يخبركم بما سألتموني عنه، فأرسل إليه فدعاه فلما أتاه قال له: يا أباالحسن إن معاشر اليهود سألوني عن أشياء لم اجبهم فيها بشئ وقد ضمنوا لي إن أخبرتهم أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه واله فقال لهم علي عليه السلام: يا معشر اليهود اعرضوا علي مسائلكم فقالوا له مثل ما قالوا لعمر، فقال لهم علي عليه السلام: أتريدون أن تسألوا عن شئ سوى هذا قالوا لا: يا أبا شبر وشبير، فقال لهم علي عليه السلام: أما أقفال السماوات فالشرك بالله، ومفاتيحها قول لا إله إلا الله، وأما القبر الذي سار بصاحبه فالحوت سار بيونس في بطنه البحار السبعة وأما الذي أنذر قومه ليس من الجن ولا من الانس فتلك نملة سليمان بن داود عليهما السلام، أما الموضع الذي طلعت فيه الشمس فلم تعد إليه فذاك البحر الذي أنجى الله عزوجل فيه موسى عليه السلام وغرق فيه فرعون وأصحابه، و أما الخمسة الذين لم يخلقوا في الارحام فآدم وحواء وعصى موسى وناقة صالح وكبش إبراهيم عليهم السلام، وأما الواحد فالله الواحد لا شريك له، وأما الاثنان فادم وحواء وأما الثلاثة فجبريل وميكائيل وإسرافيل، وأما الاربعة فالتوراة والانجيل والزبور و الفرقان، وأما الخمس فخمس صلوات مفروضات على النبي صلى الله عليه وآله، وأما الستة فقول الله عزوجل: " ولقد خلقنا السموات والارض وما بينهما في ستة أيام " وأما السبعة فقول الله عزوجل: " وبنينا فوقكم سبعا شدادا " وأما الثمانية فقول الله عزوجل " ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " وأما التسعة فالآيات المنزلات على موسى بن عمران عليه السلام، وأما العشرة فقول الله عزوجل: " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر " وأما الحاديعشر فقول يوسف لابيه " إني رأيت أحد عشر كوكبا " وأما الاثنى عشر فقول الله عزوجل لموسى عليه السلام: " اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا " قال: فأقبل اليهود يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله و إنك ابن عم رسول الله صلى الله عليه واله، ثم أقبلوا على عمر فقالوا: نشهد أن هذا أخو رسول الله صلى الله عليه واله والله إنه أحق بهذا المقام منك.

وأسلم من كان معهم وحسن إسلامهم.

--------------------------------------------------------------------------------

الخصال للصدوق ص456 ـ 457 وبحار الأنوار ج10 ص7 ـ 9.


علي (عليه السلام) وأسقف نجران:


وقالوا: إن أسقف نجران قدم على عمر بن الخطاب في صدر خلافته فقال: يا أمير المؤمنين، إن أرضنا باردة شديدة المؤنة، لا يحتمل الجيش وأنا ضامن لخراج أرضي أحمله إليك في كل عام كملاً. 

قال: فضمنه إياه. فكان يحمل المال، ويقدم به في كل سنة، و يكتب له عمر البراءة بذلك.

فقدم الأسقف ذات مرة ومعه جماعة، وكان شيخاً جميلاً مهيباً، فدعاه عمر إلى الله، وإلى رسوله، وكتابه، وذكر له أشياء من فضل الاسلام، وما يصير إليه المسلمون من النعيم والكرامة.

فقال له الأسقف: يا عمر! أتقرأون في كتابكم: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ}(1) فأين (تكون) النار؟!

فسكت عمر، وقال لعلي (عليه السلام): أجبه أنت.

قال له علي (عليه السلام): أنا أجيبك يا أسقف، أرأيت إذا جاء الليل أين يكون النهار؟! وإذا جاء النهار أين يكون الليل؟!

فقال الأسقف: ما كنت أرى أن أحدا ليجيبني عن هذه المسألة. مَنْ هذا الفتى يا عمر؟!

فقال: علي بن أبي طالب، ختن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وابن عمه. وهو أبو الحسن والحسين.

فقال الأسقف: فأخبرني يا عمر! عن بقعة من الأرض طلع (طلعت) فيها الشمس مرة واحدة ثم لم تطلع قبلها ولا بعدها؟!

قال عمر: سل الفتى.

فسأله فقال: أنا أجيبك هو البحر، حيث انفلق لبني إسرائيل، ووقعت فيه الشمس مرة واحدة لم تقع قبلها ولا بعدها.

فقال الأسقف: أخبرني عن شيء في أيدي الناس شبه بثمار الجنة.

قال عمر: سل الفتى.

فسأله، فقال علي أنا أجيبك هو القرآن، يجتمع عليه أهل الدنيا فيأخذون منه حاجتهم فلا ينقص منه شيء، فكذلك ثمار الجنة.

فقال الأسقف: صدقت. قال: أخبرني! هل للسموات من قفل؟!

فقال علي (عليه السلام): قفل السماوات الشرك بالله..

فقال الأسقف: وما مفتاح ذلك القفل؟!

قال: شهادة أن لا إله إلا الله، لا يحجبها شيء دون العرش.

فقال: صدقت.

فقال: أخبرني عن أول دم وقع على وجه الأرض؟!

فقال علي (عليه السلام): أما نحن فلا نقول كما يقولون: دم الخشاف (لعله الخفاش). ولكن أول دم وقع على وجه الأرض مشيمة حواء، حيث ولدت هابيل بن آدم.

قال: صدقت. وبقيت مسألة واحدة، أخبرني أين الله؟!

فغضب عمر، فقال علي: أنا أجيبك وسل عما شئت، كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ أتاه ملك فسلم. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أين أرسلت؟!

 

فقال: من السماء السابعة من عند ربي.

ثم أتاه آخر فسأله فقال: أرسلت من الأرض السابعة من عند ربي.

فجاء ثالث من الشرق، ورابع من المغرب، فسألهما فأجابا كذلك.

فالله عز وجل هيهنا وهاهنا، في السماء إله، وفي الأرض إله(1).

-----------------------------------------------------------------------------------------

 

1- الغدير ج6 ص242 و 243 والعسل المصفى من تهذيب زين الفتى ج1 ص309 و 310 وخصائص الأئمة للشريف الرضي ص90 والإرشاد ج1 ص201 و 202 والإحتجاج ج1 ص209 وعجائب أحكام أمير المؤمنين (عليه السلام" ص185 وبحار الأنوار ج10 ص58 وج31 ص594 وج40 ص248. والفضائل لابن شاذان ص427 ـ 430 و (ط المطبعة الحيدرية) ص149 والروضة في فضائل أمير المؤمنين ص162 وإثبات الهداة ج1 ص180 وإحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص223 عن در بحر المناقب لابن حسنويه، وعن الأربعين لابن أبي الفوارس.

 

 

 

 

 

 

 


علي (عليه السلام) و كعب الأحبار:

 

روي عن ابن عباس: أنه حضر مجلس عمر بن الخطاب يوماً وعنده كعب الحبر، إذ قال عمر: يا كعب، أحافظ أنت للتوراة؟!

قال كعب: إني لأحفظ منها كثيراً.

فقال رجل من جنبة المجلس: يا أمير المؤمنين، سله: أين كان الله جل ثناؤه قبل أن يخلق عرشه؟! ومم خلق الماء الذي جعل عليه عرشه؟!

فقال عمر: يا كعب، هل عندك من هذا علم؟!

فقال كعب: نعم يا أمير المؤمنين، نجد في الأصل الحكيم: أن الله تبارك وتعالى كان قديماً قبل خلق العرش، وكان على صخرة بيت المقدس في

الهواء، فلما أراد أن يخلق عرشه تفل تفلة كانت منها البحار الغامرة، واللجج الدائرة، فهناك خلق عرشه من بعض الصخرة التي كانت تحته، وآخر ما بقي منها لمسجد قدسه.

قال ابن عباس: وكان علي بن أبي طالب (عليه السلام) حاضراً، فعظم عليٌّ ربه، وقام على قدميه، ونفض ثيابه.

فأقسم عليه عمر، لما عاد إلى مجلسه، ففعل.

قال عمر: غص عليها يا غواص، ما تقول يا أبا الحسن، فما علمتك إلا مفرجاً للغم؟!

فالتفت علي (عليه السلام) إلى كعب فقال: غلط أصحابك، وحرفوا كتب الله، وفتحوا (باب. ظ.) الفرية عليه.

 

يا كعب، ويحك، إن الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله، ولا تسع عظمته. والهواء الذي ذكرت لا يجوز أقطاره.

ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكانت لهما قدمته.

وعز الله وجل أن يقال: له مكان يومى إليه.

والله ليس كما يقول الملحدون، ولا كما يظن الجاهلون، ولكن كان ولا مكان، بحيث لا تبلغه الأذهان.

وقولي: (كان) عجز عن كونه.. وهو مما علَّم من البيان. يقول الله عز وجل {خَلَقَ الإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(1).

فقولي له: (كان) مما علمني من البيان، لأنطق بحججه و عظمته. وكان ولم يزل ربنا مقتدرا على ما يشاء، محيطا بكل الأشياء.

ثم كوَّن ما أراد بلا فكرة حادثة له أصاب، ولا شبهة دخلت عليه فيما أراد.

وأنه عز وجل خلق نوراً ابتدعه من غير شيء، ثم خلق منه ظلمة، وكان قديراً أن يخلق الظلمة لا من شيء، كما خلق النور من غير شيء.

ثم خلق من الظلمة نوراً، وخلق من النور ياقوتة، غلظها كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين، ثم زجر الياقوتة فماعت (أي: ذابت) لهيبته، فصارت ماء مرتعداً، ولا يزال مرتعدا إلى يوم القيامة.

ثم خلق عرشه من نوره، و جعله على الماء.

وللعرش عشرة آلاف لسان، يسبح الله كل لسان منها بعشرة آلاف لغة، ليس فيها لغة تشبه الأخرى.

وكان العرش على الماء من دونه حجب الضباب (مثل الشيباء) وذلك قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ}(2).

يا كعب ويحك، إن من كانت البحار تفلته على قولك، كان أعظم من أن تحويه صخرة بيت المقدس، أو تحويه الهواء الذي أشرت إليه أنه حل فيه.

فضحك عمر بن الخطاب، وقال: هذا هو الأمر، و هكذا يكون العلم، لا كعلمك يا كعب، لا عشت إلى زمان لا أرى فيه أبا حسن(3).

-----------------------------------------------------------------------------------------------------

 

1- الآية 4 من سورة الرحمن.

2- الآية 7 من سورة هود.

 

3- بحار الأنوار ج40 ص194ـ 196 وج30 ص101 ومجموعة ورام (تنبيه الخواطر) ج2 ص5 و 6.