غزوات النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم وحاله مع ملوك زمانه :

غزوات النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم وحاله مع ملوك زمانه  : 

تعداد الغزوات والسرايا:                                          

روى أهل السير : إنّ جميع ما غزى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بنفسه ستّ وعشرون غزوة على هذا النسق : الأبواء ـ بواط العشيرة ـ بدر الاُولى بدر الكبرى ـ السويق ذي أمر ـ اُحد ـ نجران ـ بنو سليم ـ الأسد ـ بنو النضير ـ ذات الرقاع ـ بدر الآخرة دومة الجندل ـ الخندق ـ بنو قريظة ـ بنو لحيان ـ بنو قرد ـ بنو المصطلّق ـ الحديبيّة ـ خيبر ـ الفتح ـ حنين ـ الطائف ـ تبوك ويلحق بها بنو قينقاع ـ قاتل في تسع وهي ؛ بدر الكبرى واُحد ـ والخندق ـ وبني قريظة ـ وبني المصطلق وبني لحيان ـ وخيبر ـ والفتح ـ وحنين ـ والطائف .

وأمّا سراياه فستّ وثلاثون : أوّلها ، سريّة حمزة لقى أبا جهل بسيف البحر في ثلاثين من المهاجرين وفي ذي القعدة بعث سعد بن أبي وقّاص في طلب عِير ثمّ عبيدة بن الحارث بعد سبعة أشهر في ستّين من المهاجرين نحو الجحفة إلى أبي سفيان فتراموا بالأحياء .

عن ابن إسحاق : وغزى في ربيع الآخر إلى قريش وبني ضمرة وكرز بن جابر الفهري حتّى بلغ بواط . السنة الثانية في صفر غزا ودّان حتّى بلغ الأبواء ، وفي ربيع الآخر غزوة العشيرة من بطن ينبع ووادع فيها بني مدلج وضمرة ، وأغار كرز بن جابر الفهريّ على سرح المدينة ، فاستخلف على المدينة زيد بن حارثة ، وخرج حتّى بلغ وادي سَفَوان بدر الاُولى ، وحامل لوائه علي ، ثمّ بعث في آخر رجب عبداللّه‏ بن جحش في أصحابه ليرصد قريشا ، فقتل واقد بن عبداللّه‏ التميميّ عمرو بن الجموح الحضرميّ ، وهرب الحكم بن كيسان وعثمان بن عبدالدار وأخوه واستأمن الباقون واستاقوا العير إلى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فقال : واللّه‏ ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام ، وذلك تحت النخلة ، فسمّي غزوة النخلة فنزل : «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ<

فأخذ العير وفدى الأسيرين ثمّ غزى بدر الكبرى.

غزوة بدر الكبرى :

>كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ<.

وكان سبب ذلك أنّ عيرا لقريش خرجت إلى الشام فيها خزائنهم ، فأمر النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم أصحابه بالخروج ليأخذوها ، فأخبرهم أنّ اللّه‏ تعالى قد وعده إحدى الطائفتين ؛ إمّا العير أو قريش إن أظفر بهم ، فخرج في ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً ، فلمّا قارب بدرا كان أبو سفيان في العير ، فلمّا بلغه أنّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم قد خرج يتعرّض العير خاف خوفا شديدا ومضى إلى الشام ، فلمّا وافى النقرة اكترى ضمضم بن عمرو الخزاعي بعشرة دنانير ، وأعطاه قلوصا ، وقال له : امض إلى قريش وأخبرهم أنّ محمّدا والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم فأدركوا العير ، وأوصاه أن يخرم ناقته ويقطع اُذنها حتّى يسيل الدم ، ويشقّ ثوبه من قبل ودبر ، فإذا دخل مكّة ولّى وجهه إلى ذنب البعير وصاح بأعلى صوته وقال :

ياآل غالب ياآل غالب ، اللطيمة اللطيمة ، العير العير ، أدركوا أدركوا وما أراكم تدركون ، فإنّ محمّدا والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم ، فخرج ضمضم يبادر إلى مكّة .

ورأت عاتكة بنت عبدالمطّلب قبل قدوم ضمضم في منامها بثلاثة أيّام كأنّ راكبا قد دخل مكّة ينادي : ياآل غدر ياآل غدر اغدوا إلى مصارعكم صبح ثالثة ، ثمّ وافى بجمله على أبي قبيس ، فأخذ حجرا فدهده من الجبل فما ترك دارا من دور قريش إلاّ أصابه منه فلذة ، وكان وادي مكّة قد سال من أسفله دما ، فانتبهت ذعرة فأخبرت العبّاس بذلك ، فأخبر العبّاس عتبة بن ربيعة فقال عتبة : هذه مصيبة تحدث في قريش ، وفشت الرؤيا في قريش وبلغ ذاك أبا جهل فقال : ما رأت عاتكة هذه الرؤيا ، وهذه نبيّة ثانية في بني عبدالمطّلب ، واللاّت والعزّى لننتظرنّ ثلاثة أيّام ، فان كان ما رأت حقّا فهو كما رأت ، وإن كان غير ذلك لنكتبنّ بيننا كتابا أنّه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالاً ولا نساءً من بني هاشم .

فلمّا مضى يوم قال أبو جهل : هذا يوم قد مضى ، فلمّا كان اليوم الثاني قال أبو جهل : هذا يومان قد مضيا ، فلمّا كان اليوم الثالث وافى ضمضم ينادي في الوادي : ياآل غالب ياآل غالب ، اللطيمة اللطيمة ، العير العير ، أدركوا وما أراكم تدركون ، فإنّ محمّدا صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم التي فيها خزائنكم ، فتصايح الناس بمكّة وتهيّأوا للخروج ، وقام سهيل بن عمرو وصفوان بن اُميّة وأبو البختري بن هشام ومنبّه ونبيه إبنا الحجّاج ونوفل بن خويلد ، فقال:

يامعشر قريش ، واللّه‏ ما أصابكم مصيبة أعظم من هذه ، أن يطمع محمّد والصباة من أهل يثرب أن يتعرّضوا لعيركم التي فيها خزائنكم ، فواللّه‏ ما قرشيّ ولا قرشيّة إلاّ ولها في هذا العير نشرة فصاعدا ، وإنّه لمن الذلّ والصغار أن يطمع محمّد في أموالكم ، ويفرّق بينكم وبين متجركم ، فاخرجوا ، وأخرج صفوان بن اُميّة خمسمائة دينار وجهّز بها ، وأخرج سهيل بن عمرو ، وما بقي أحد من عظماء قريش إلاّ أخرجوا مالاً وحملوا وقودا وخرجوا على الصعب والذلول لا يملكون أنفسهم كما قال اللّه‏ تبارك وتعالى : «خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ< وخرج معهم العبّاس بن عبدالمطّلب ونوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب ، وأخرجوا معهم القينات يشربون الخمور ويضربون بالدفوف ، وخرج رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، فلمّا كان بقرب بدر على ليلة منها بعث بسيس بن أبي الزغبا وعديّ بن عمرو ليتجسّسان خبر العير ، فأتيا ماء بدر وأناخا راحلتيهما ، واستعذبا من الماء ، وسمعا جاريتين قد تشبّثت إحداهما بالاُخرى وتطالبها بدرهم كان لها عليها ، فقالت : عير قريش نزلت أمس في موضع كذا وكذا وهي تنزل غدا ههنا ، وأنا أعمل لهم وأقضيك ، فرجعا إلى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فأخبراه بما سمعا . فأقبل أبو سفيان بالعير ، فلمّا شارف بدرا تقدّم العير وأقبل وحده حتّى انتهى إلى ماء بدر ، وكان بها رجل من جهينة يقال له كسب الجهنيّ فقال له : ياكسب هل لك علم بمحمّد وأصحابه ؟ قال : لا ، قال : واللاّت والعزّى لئن كتمتنا أمر محمّد لا تزال قريش لك معادية آخر الدهر ، فإنّه ليس أحد من قريش إلاّ وله شيء في هذا العير فلا تكتمني ، فقال : واللّه‏ ما لي علم بمحمّد ، وما بال محمّد وأصحابه بالتّجار إلاّ أنّي رأيت في هذا اليوم راكبين أقبلا فاستعذبا من الماء وأناخا راحلتيهما ورجعا ، فلا أدري من هما ، فجاء أبو سفيان إلى موضع مناخ إبلهما ، ففتّ أبعار الإبل بيده فوجد فيها النوى فقال : هذه علائف يثرب ، هؤلاء واللّه‏ عيون محمّد ، فرجع مسرعا وأمر بالعير فأخذ بها نحو ساحل البحر وتركوا الطريق ومرّوا مسرعين.

ونزل جبرئيل على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فأخبره أنّ العير قد أفلتت ، وأنّ قريشا قد أقبلت لمنع عيرها ، وأمره بالقتال ووعده النصر ، وكان نازلاً بالصفراء فأحبّ أن يبلوا الأنصار لأنّهم إنّما وعدوه أن ينصروه ، وكان في الدار ، فأخبرهم أنّ العير قد جازت ، وأنّ قريش قد أقبلت لتمنع عيرها ، وأنّ اللّه‏ قد أمرني بمحاربتهم ، فجزع أصحاب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم من ذلك وخافوا خوفا شديدا .

فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : أشيروا عليّ ، فقام أبو بكر فقال : يارسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم إنّها قريش وخيلاؤها ، ما آمنت منذ كفرت ولا ذلّت منذ عزّت ، ولم نخرج على هيئة الحرب ، فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : اجلس ، فجلس .

فقال : أشيروا عليّ ، فقام عمر فقال مثل مقالة أبي بكر ، فقال : اجلس ، ثمّ قام المقداد فقال : يارسول اللّه‏ إنّها قريش وخيلاؤها ، وقد آمنّا بك وصدّقناك ، وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند اللّه‏ ، واللّه‏ لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضنا معك ، ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى :«فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون < ولكنّا نقول : إذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون . فجزاه النبي خيرا ثمّ جلس .

ثمّ قال : أشيروا عليّ ، فقام سعد بن معاذ فقال : بأبي أنت واُمّي يارسول اللّه‏ كأنّك أردتنا ؟ قال : نعم ، قال : فلعلّك خرجت على أمر قد اُمرت بغيره ؟ قال : نعم ، قال : بأبي أنت واُمّي يارسول اللّه‏ إنّا قد آمنّا بك وصدّقناك ، وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند اللّه‏ ، فمرنا بما شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، واترك منه ما شئت ، والّذي أخذت منه أحبّ إليّ من الّذي تركت ، واللّه‏ لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك . فجزاه خيرا ، ثم قال : بأبي أنت واُمّي يارسول اللّه‏ ، واللّه‏ما خضت هذا الطريق قطّ ، وما لي به علم ، وقد خلّفنا بالمدينة قوما ليس نحن بأشدّ جهازا لك منهم ، ولو علموا أنّه الحرب لما تخلّفوا ، ولكن نعدّ لك الرواحل ونلقي عدوّنا ، فإنّا صبّر عند اللقاء ، أنجاد في الحرب ، وإنّا لنرجوا أن يقرّ اللّه‏ عينك بنا ، فإن يك ما تحبّ فهو ذاك ، وإن يك غير ذلك قعدت على راحلتك فلحقت بقومنا.

فقال رسول اللّه‏ : أو يحدث اللّه‏ غير ذلك ، كأنّي بمصرع فلان ههنا ، وبمصرع فلان ههنا ، وبمصرح أبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومنبّه ونبيه إبني الحجّاج ، فانّ اللّه‏ قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللّه‏ الميعاد ، فنزل جبرئيل على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بهذه الآية : «كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ<

إلى قوله : «وَلَوْ كَرِهَ الُْمجْرِمُون< .

فأمر رسول اللّه‏ بالرحيل حتّى نزل عشاءً على ماء بدر ، وهي العدوة الشاميّة ، وأقبلت قريش فنزلت بالعدوة اليمانيّة ، وبعثت عبيدها تستعذب من الماء ، فأخذوهم أصحاب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم وحبسوهم ، فقالوا لهم : من أنتم ؟ قالوا : نحن عبيد قريش ، قالوا : فأين العير ؟ قالوا : لا علم لنا بالعير ، فأقبلوا يضربونهم ، وكان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم يصلّي فانفتل من صلاته فقال : إن صدّقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم عليّ بهم ، فأتوا بهم . فقال لهم : من أنتم ؟ قالوا : يامحمّد نحن عبيد قريش ، قال : كم القوم ؟ قالوا : لا علم لنا بعددهم ، قال : كم ينحرون في كلّ يوم جزورا ؟ قالوا : تسعة إلى عشرة ، فقال رسول اللّه‏ : تسعمائة إلى ألف ، قال : فمن فيهم من بني هاشم ؟ قالوا : العباس بن عبدالمطّلب ونوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب ، فأمر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بهم فحبسوهم ، وبلغ قريشا ذلك فخافوا خوفا شديدا ، ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام فقال له : أما ترى هذا البغي ؟ واللّه‏ ما أبصر موضع قدمي ، خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت فجئنا بغيا وعدوانا ، واللّه‏ ما أفلح قوم قطّ بغوا ، ولوددت أنّ ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهب كلّه ولم نسر هذا المسير ، فقال له أبو البختريّ : إنّك سيّد من سادات قريش ، فتحمّل العير التي أصابها محمّد وأصحابه بنخلة ودم ابن الحضرميّ فإنّه حليفك ، فقال عتبة : أنت عليّ بذلك وما على أحد منّا خلاف إلاّ ابن الحنظليّة ـ يعني أبا جهل ـ فسر إليه وأعلمه أنّي قد تحمّلت العير التي قد أصابها محمّد ودم ابن الحضرميّ .

فقال أبو البختريّ : فقصدت خباه ، وإذا هو قد أخرج درعا له فقلت له : إنّ أبا الوليد بعثني إليك برسالة ، فغضب ثمّ قال : أما وجد عتبة رسولاً غيرك ؟ فقلت : أما واللّه‏ لو غيره أرسلني ما جئت ، ولكن أبا الوليد سيّد العشيرة ، فغضب غضبة اُخرى فقال : تقول سيّد العشيرة ؟ فقلت : أنا أقوله وقريش كلّها تقوله ، إنّه قد تحمّل العير ودم ابن الحضرميّ ، فقال : إنّ عتبة أطول الناس لسانا ، وأبلغه في الكلام ، ويتعصّب لمحمّد ، فإنّه من بني عبد مناف ، وإبنه معه ويريد أن يخدر الناس ، لا واللاّت والعزّى حتّى نقحم عليهم بيثرب ونأخذهم اُسارى ، فندخلهم مكّة ، وتتسامع العرب بذلك ، ولا يكون بيننا وبين متجرنا أحد نكرهه .

وبلغ أصحاب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم كثرة قريش ، ففزعوا فزعا شديدا ، وشكوا وبكوا واستغاثوا ، فأنزل اللّه‏ على رسوله «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ<

فلمّا أمسى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم وجنّه الليل ألقى اللّه‏ على أصحابه النعاس حتّى ناموا ، وأنزل اللّه‏ تبارك وتعالى عليهم السماء ، وكان نزول رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم في موضع لا يثبت فيه القدم ، فأنزل اللّه‏ عليهم السماء ، ولبّد الأرض حتّى ثبتت أقدامهم ، وهو قول اللّه‏ تبارك وتعالى : «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ذلك أنّ بعض أصحاب النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم احتلم «وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَوكان المطر على قريش مثل العزالي ، وعلى أصحاب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم رذاذا بقدر ما لبّد الأرض ، وخافت قريش خوفا شديدا ، فأقبلوا يتحارسون يخافون البيات ، فبعث رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم عمّار بن ياسر وعبداللّه‏ بن مسعود فقال : ادخلا في القوم وائتونا بأخبارهم ، فكانا يجولان بعسكرهم لا يرون إلاّ خائفا ذعرا إذا صهل الفرس وثبت على جحفلته ، فسمعوا منبه بن الحجّاج يقول:

 

لايترك الجوع لنا مبيتا  لابدّ أن نموت أو نميتا لمّا رجع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم إلى المدينة من بدر لم يقم بالمدينة إلاّ سبع ليالٍ حتّى غزا بنفسه ، يريد بني سليم حتّى بلغ ماء من مياههم يقال له : الكُدر ، فأقام عليه ثلاث ليال ثمّ رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا ، فأقام بها بقيّة شوّال وذا القعدة وفادى في إقامته جلّ اُسارى بدر من قريش .

غزوة السويق :

ثمّ كانت غزوة السويق ، وذلك أنّ أبا سفيان نذر أن لا يمسّ رأسه من جنابة حتّى يغزو محمّدا صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فخرج في مائة راكب من قريش ليبرّ يمينه ، حتّى إذا كان على بريد من المدينة أتى بني النضير ليلاً فضرب على حيّ بن أخطب بابه فأبى أن يفتح له ، فانصرف عنه إلى سلاّم بن مشكم وكان سيّد بني النضير فاستأذن عليه فأذن له وسارّه  ثمّ خرج في عقب ليلته حتّى أتى أصحابه وبعث رجالاً من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية يقال لها : العريض ، فوجدوا رجلاً من الأنصار وحليفا له فقتلوهما ، ثمّ انصرفوا ونذر بهم‏الناس ، فخرج رسول‏اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم في طلبهم حتّى بلغ قرقرة الكُدر ورجع ، وقد فاته أبو سفيان ، ورأوا زادا من أزواد القوم قد طرحوها يتخفّفون منها للنجاة ، (وكان فيها السويق فسمّيت غزوة السويق ووافقوا السوق وكانت لهم تجارات) فقال المسلمون حين رجع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بهم:

يارسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم أنطمع بأن تكون لنا غزوة ؟ فقال : نعم . ثمّ كانت غزوة ذي أمر بعد مقامه بالمدينة بقيّة ذي الحجّة والمحرّم مرجعه من غزوة السّويق ، وذلك لمّا بلغه أنّ جمعا من غطفان قد تجمّعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف المدينة ، عليهم رجل يقال له : دعثور بن الحارب بن محارب ، فخرج في أربعمائة رجل وخمسين رجلاً ، ومعهم أفراس ، وهرب منه الأعراب فوق ذرى الجبال ، ونزل صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ذا أمر وعسكر به ، وأصابهم مطر كثير ، فذهب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم لحاجة فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه ، وقد جعل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم وادي أمر بينه وبين أصحابه ، ثمّ نزع ثيابه فنشرها لتجفّ ، وألقاها على شجرة ، ثمّ اضطجع تحتها ، والأعراب ينظرون إلى كلّ ما يفعل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فقالت الأعراب لدُعثور وكان سيّدهم وأشجعهم : قد أمكنك محمّد ، وقد انفرد من بين أصحابه ، حيث إن غوّث بأصحابه لم يغث حتى تقتله ، فاختار سيفا من سيوفهم صارما ثمّ أقبل مشتملاً على السيف حتّى قام على رأس رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بالسيف مشهورا فقال:

يامحمّد من يمنعك منّي اليوم ؟ قال : اللّه‏ ، ودفع جبرئيل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه رسول اللّه‏ ، وقام على رأسه فقال : من يمنعك منّي ؟ قال : لا أحد ، وأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه‏ وأنّ محمّدا رسول اللّه‏ ، واللّه‏ لا اُكثّر عليك جمعا أبدا ، فأعطاه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم سيفه ثمّ أدبر ، ثمّ أقبل بوجهه ثمّ قال : واللّه‏ لأنت خير منّي ، قال رسول اللّه‏ : أنا أحقّ بذلك ، فأتى قومه فقيل له : أينما كنت تقول وقد أمكنك والسيف في يدك ؟ قال : قد كان واللّه‏ ذلك ولكنّي نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري فوقعت لظهري فعرفت أنّه ملك وشهدت أنّ محمّدا رسول اللّه‏ ، واللّه‏ لا اُكثر عليه ، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام ، ونزلت هذه الآية : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ.<

غزوة القردة :

ثمّ كانت غزوة القردة ؛ ماء من مياه نجد ، بعث رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم زيد بن حارثة بعد رجوعه من بدر إلى المدينة بستّة أشهر فأصابوا عيرا لقريش على القردة ، فيها أبو سفيان ومعه فضّة كثيرة ، وذلك لأنّ قريشا قد خافت طريقها الّتي كانت تسلك إلى الشام حين كان من وقعة بدر ، فسلكوا طريق العراق ، واستأجروا رجلاً من بكر بن وائل يقال له : فرات بن حيّان يدلّهم على الطريق ، فأصاب زيد بن حارثة تلك العير وأعجزته الرجال هربا

غزوة بني قينقاع :

ثمّ كانت غزوة بني قينقاع يوم السبت للنصف من شوّال على رأس عشرين شهرا من الهجرة ، وذلك أنّ رسول اللّه‏ جمعهم وإيّاه سوق بني قينقاع ، فقال لليهود : احذروا من اللّه‏ مثل ما نزل بقريش من قوارع اللّه‏ ، فأسلموا فأنّكم قد عرفتم نعتي وصفتي في كتابكم ، فقالوا : يامحمّد لا يغرنّك أنّك لقيت قومك فأصبت منهم ، فإنّا واللّه‏ لو حاربناك لعلمت أنّا خلافهم ، فكادت تقع بينهم المشاجرة ونزلت فيهم : «قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا<

 إلى قوله : «لاَّءُوْلِي الأَبْصَارِ»وروي أنّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم حاصرهم ستّة أيّام حتّى نزلوا على حكمه فقام عبداللّه‏ بن أُبي فقال : يارسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم مواليّ وحلفائي وقد منعوني من الأسود والأحمر ثلاثمائة دارع وأربعمائة حاسر  تحصدهم في غداة واحدة ، إنّي واللّه‏ لا آمن وأخشى الدوائر ، وكانوا حلفاء الخزرج دون الأوس ، فلم يزل يطلب فيهم حتّى وهبهم له ، فلمّا رأوا ما نزل بهم من الذلّ خرجوا من المدينة ونزلوا أذرعات ، ونزلت في عبداللّه‏ بن اُبي وناس من بني الخزرج : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء<إلى قوله : «فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِين.<

سيف ذو الفقار :

عن أبان بن عثمان ، عن أبي عبداللّه‏ عليه‏السلام قال : لمّا كان يوم اُحد انهزم أصحاب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، حتّى لم يبق معه إلاّ علي بن أبي طالب عليه‏السلام وأبو دُجانة سمّاك بن خرشة ، فقال له النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : ياأبا دُجانة أما ترى قومك ؟ قال : بلى ، قال : إلحق بقومك ، قال : ما على هذا بايعت اللّه‏ ورسوله ، قال : أنت في حلّ ، قال : واللّه‏ لا تتحدّث قريش بأنّي خذلتك وضررت حتّى أذوق ما تذوق ، فجزاه النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم خيرا . وكان علي عليه‏السلام كلّما حملت طائفة على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم استقبلهم وردّهم ، حتّى أكثر فيهم القتل والجراحات ، حتّى انكسر سيفه ، فجاء إلى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فقال : يارسول اللّه‏ إنّ الرجل يقاتل بسلاحه وقد انكسر سيفي ، فأعطاه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم سيفه ذا الفقار ، فما زال يدفع به عن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم حتّى أثِر وانكسر ، فنزل عليه جبرئيل وقال : يامحمّد إنّ هذه لهي المواساة من علي عليه‏السلام لك ، فقال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : إنّه منّي وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما ، وسمعوا دويّا من السماء : لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي

غزوة اُحد :

ثمّ كانت غزوة‏اُحد على رأس سنة من بدر ، ورئيس المشركين يومئذ أبوسفيان بن حرب ، وكان أصحاب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم يومئذ سبعمائة ، والمشركون ألفين ، وخرج رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بعد أن استشار أصحابه ، وكان رأيه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم أن يقاتل الرجال على أفواه السكك ، ويرمي الضعفاء من فوق البيوت ، فأبوا إلاّ الخروج إليهم ، فلمّا صار على الطريق قالوا : نرجع ، فقال : ما كان لنبي إذا قصد قوما أن يرجع عنهم ، وكانوا ألف رجل ، فلمّا كانوا في بعض الطريق انخزل عنهم عبداللّه‏ بن اُبيّ بثلث الناس وقال : واللّه‏ ما ندري على ما نقتل أنفسنا والقوم قومه ؟ وهمّت بنو حارثة وبنو سلمة بالرجوع ثمّ عصمهم اللّه‏ وهو قوله :

«إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ، وأصبح رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم متهيئا للقتال ، وجعل على راية المهاجرين عليا عليه‏السلام ، وعلى راية الأنصار سعد بن عبادة ، وقعد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم في راية الأنصار ، ثمّ مرّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم على الرماة وكانوا خمسين رجلاً وعليهم عبداللّه‏ بن جبير فوعظهم وذكّرهم وقال : «اتّقوا اللّه‏ واصبروا وإن رأيتمونا يخطفنا المشركون فلا تبرحوا مكانكم حتّى أرسل إليكم» وأقامهم عند رأس الشعب ، وكانت الهزيمة على المشركين ، وحسّهم المسلمون بالسيوف حسّا ، فقال أصحاب عبداللّه‏ بن جبير : الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون ؟

فقال عبداللّه‏ : أنسيتم قول رسول اللّه‏ ، أمّا أنا فلا أبرح موقفي الذي عهد إليّ فيه رسول اللّه‏ ما عهد ، فتركوا أمره وعصوه بعد ما رأوا ما يحبّون ، وأقبلوا على الغنائم ، فخرج كمين المشركين عليهم خالد بن الوليد فانتهى إلى عبداللّه‏ بن جبير فقتله ، ثمّ أتى الناس من أدبارهم ووضع في المسلمين السلاح فانهزموا ، وصاح إبليس لعنه اللّه‏ : قتل محمّد ، ورسول اللّه‏ يدعوهم في اُخراهم : «أيّها الناس إنّي رسول اللّه‏ ، إنّ اللّه‏ قد وعدني النصر فإلى أين الفرار» ؟ فيسمعون الصوت ولا يلوون على شيء ، وذهبت صيحة إبليس حتّى دخلت بيوت المدينة ، فصاحت فاطمة عليهاالسلام ، ولم تبق هاشميّة ولا قرشيّة إلاّ وضعت يدها على رأسها ، وخرجت فاطمة عليهاالسلام تصرخ.

قال الصادق عليه‏السلام : انهزم الناس عن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فغضب غضبا شديدا ، وكان إذا غضب انحدر من وجهه وجبهته مثل اللؤلؤ من العرق ، فنظر فإذا عليّ عليه‏السلام إلى جنبه فقال : ما لك لم تلحق ببني أبيك ؟ فقال علي : يارسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم أكفر بعد إيمان ؟ إنّ لي بك اُسوة ، فقال : أمّا لا ، فاكفني هؤلاء ، فحمل علي عليه‏السلام فضرب أوّل من لقي منهم ، فقال جبرئيل عليه‏السلام : إنّ هذه لهي المواساة يا محمّد ، قال : «إنّه منّي وأنا منه» قال جبرئيل : وأنا منكما .

وثاب إلى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم جماعة من أصحابه ، واُصيب من المسلمين سبعون رجلاً ، منهم أربعة من المهاجرين : حمزة بن عبدالمطّلب وعبداللّه‏ بن جحش ومصعب بن عمير وشمّاس بن عثمان بن الشّريد والباقون من الأنصار.

قال : وأقبل يومئذ اُبيّ بن خلف وهو على فرس له وهو يقول : هذا ابن أبي كبشة بوء بذنبك لا نجوت إن نجوت ، ورسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بين الحارث بن الصمة وسهل بن حنيف يعتمد عليهما ، فحمل عليه فوقّاه مصعب بن عمير بنفسه فطعن مصعبا فقتله ، فأخذ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم عنزة كانت في يد سهل بن حنيف ثمّ طعن اُبيّا في جرّبان الدرع فاعتنق فرسه فانتهى إلى عسكره وهو يخور خوار الثور ، فقال أبو سفيان : ويلك ما أجزعك ؟ إنّما هو خدش ليس بشيء ، فقال : ويلك يابن حرب أتدري من طعنني ؟ إنّما طعنني محمّد ، وهو قال لي بمكّة : إنّي سأقتلك ، فعلمت أنّه قاتلي ، واللّه‏ لو أنّ ما بي كان بجميع أهل الحجاز لقضت عليهم ، فلم يزل يخور الملعون حتّى صار إلى النار .

وفي كتاب أبان بن عثمان : إنّه لمّا انتهت فاطمة عليهاالسلام وصفيّة إلى رسول اللّه‏ ونظرتا إليه ، قال لعلي عليه‏السلام : أمّا عمّتي فاحبسها عنّي ، وأمّا فاطمة فدعها ، فلمّا دنت فاطمة عليهاالسلام من رسول اللّه‏ صلىالله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ورأته قد شجّ في وجهه واُدمي فوه إدماء ، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول : اشتدّ غضب اللّه‏ على من أدمى وجه رسول اللّه‏ ، وكان يتناول في يده رسول اللّه‏ ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء فلا يتراجع منه شيء .

قال الصادق عليه‏السلام : واللّه‏ لو سقط منه شيء على الأرض لنزل العذاب . وكان وحشي يقول : قال لي جبير بن مطعم وكنت عبدا له : إنّ عليّا قتل عمّي يوم بدر يعني طعيمة فإن قتلت محمّدا فأنت حرّ ، وإن قتلت عمّ محمّد فأنت حرّ ، وإن قتلت ابن عمّ محمّد فأنت حرّ ، فخرجت بحربة لي مع قريش إلى اُحد اُريد العتق لا اُريد غيره ، ولا أطمع في محمّد ، وقلت : لعلّي اُصيب من عليّ أو حمزة غرّة فأزرقه ، وكنت لا اُخطئ في رمي الحراب ، تعلّمته من الحبشة في أرضها ، وكان حمزة يحمل حملاته ثمّ يرجع إلى موقفه.

قال أبو عبداللّه‏ عليه‏السلام : وزرقه وحشي فوق الثدي فسقط ، وشدّوا عليه فقتلوه ، فأخذ وحشي الكبد فشدّ بها إلى هند بنت عتبة ، فأخذتها فطرحتها في فيها فصارت مثل الداغصة فلفظتها .

ثمّ ولّى أبو سفيان إلى أصحابه وقال : اتّخذوا الليل جملاً وانصرفواثمّ دعا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم عليّا فقال : اتّبعهم فانظر أين يريدون ، فإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنّهم يريدون المدينة ، وإن كانوا ركبوا الإبل وساقوا الخيل فهم متوجّهون إلى مكّة ، وقيل ؛ إنّه بعث لذلك سعد بن أبي وقّاص فرجع فقال : رأيت خيلهم تضرب بأذنابها مجنونة مدبرة ، ورأيت القوم قد تجمّلوا سائرين ، فطابت أنفس المسلمين بذهاب العدوِّ ، فانتشروا يتّبعون قتلاهم ، فلم يجدوا قتيلاً إلاّ وقد مثّلوا به إلاّ حنظلة بن أبي عامر ، كان أبوه مع المشركين فترك له ، ووجدوا حمزة قد شقّ بطنه وجدع أنفه وقطعت أُذناه واُخذ كبده ، فلمّا انتهى إليه رسول اللّه‏ خنقته العبرة وقال : لأُمثلنّ بسبعين من قريش ، فأنزل اللّه‏ سبحانه : «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ<  فقال : بل أصبر  , قال : وانصرف رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم إلى المدينة حين دفن القتلى ، فمرّ بدور بني الأشهل وبني ظفر ، فسمع بكاء النوائح على قتلاهنّ ، فترقرقت عينا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم وبكى ، ثمّ قال : لكنّ حمزة لا بواكي له اليوم ، فلمّا سمعها سعد بن معاذ وأسيد بن حضير قالا : لا تبكينّ امرأة حميمها حتّى تأتي فاطمة عليهاالسلام فتُسعدها ، فلمّا سمع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم الواعية على حمزة وهو عند فاطمة عليهاالسلام على باب المسجد قال : ارجعن رحمكنّ اللّه‏ فقد آسيتنّ بأنفسكنّ .

 

غزوة حمراء الأسد :

وظفر في طريقه بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص وبأبي غرّة الجمحي ، وكان أبو غرّة اُسر يوم بدر فأطلقه النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، لأنّه شكى إليه فقرا وكثرة العيال ، فأخذ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم عليه العهود أن لا يقاتله ولا يعين على قتاله ، فخرج معهم يوم اُحد وحرّض على المسلمين ، فلمّا اُتي به رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم قال : يامحمّد امنن عليّ ، قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : «المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين» وأمر به فقتله ، وأمّا معاوية وهو الذي جدع أنف حمزة ، ومثّل به مع من مثّل به ، وكان قد أخطأ الطريق ، فلمّا أصبح أتى دار عثمان بن عفّان فلمّا رآه قال عثمان : أهلكتني وأهلكت نفسك .

فقال : أنت أقربهم منّي رحما ، وقد جئتك لتجيرني ، فأدخله عثمان داره وصيّره في ناحية منها ، ثمّ خرج إلى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ليأخذ له منه أمانا ، فسمع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم يقول : إنّ معاوية في المدينة وقد أصبح بها فاطلبوه ، فقال بعضهم : ما كان ليعدو منزل عثمان فاطلبوه ، فدخلوا منزل عثمان فأشارت اُمّ كلثوم إلى الموضع الّذي صيّره فيه ، فاستخرجوا من تحت حمارة لهم ، فانطلقوا به إلى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فقال عثمان حين رآه : والّذي بعثك بالحقّ ما جئت إلاّ لأطلب له الأمان فهبه لي ، فوهبه له وأجّله ثلاثة أيّام ، وأقسم لئن وجد بعدها يمشي في أرض المدينة وما حولها ليقتلنّه ، فخرج عثمان فجهّزه واشترى له بعيرا ، ثمّ قال له : ارتحل ، وسار رسول اللّه‏ إلى حمراء الأسد ، وأقام معاوية إلى اليوم الثالث ليعرف أخبار النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، ويأتي بها قريشا ، فلمّا كان في اليوم الرابع قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : إنّ معاوية أصبح قريبا لم يبعد فاطلبوه ، فأصابوه وقد أخطأ الطريق ، فأدركوه ، وكان اللّذان أسرعا في طلبه زيد بن حارثة وعمّار بن ياسر فوجداه بالحماء فضربه زيد بالسيف ، فقال عمّار : إنّ لي فيه حقّا ، فرماه بسهم ، فقتلاه ثمّ انصرفا إلى المدينة بخبره.

غزوة الرجيع :

روى ابن إسحاق عن أشياخه أنّ قوما من المشركين قدموا على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فقالوا : إنّ فينا إسلاما ، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقّهوننا ويقرؤننا القرآن ، ويعلّموننا شرائع الإسلام ، فبعث معهم عشرة ، منهم عاصم بن ثابت ، ومرثد بن أبي مرثد ، وعبداللّه‏ بن طارق ، وخبيب بن عديّ ، وزيد بن الدثنة ، وخالد بن أبي البكير ، ومعقب بن عبيد ، وأمّر عليهم مرثدا ، فخرجوا حتّى إذا كانوا بالرجيع وهو ماء لهذيل غدروا بالقوم ، واستصرخوا عليهم هذيلاً ، فخرج بنو لحيان فلم يرع القوم إلاّ رجال بأيديهم السيوف ، فأخذ أصحاب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم سيوفهم فقالوا لهم : إنّا واللّه‏ ما نريد قتالكم ، إنّما نريد أن نصيب بكم من أهل مكّة ، ولكم العهد والميثاق أن لا نقتلكم ، فأمّا عاصم ومرثد وخالد ومعقب فقالوا : واللّه‏ لا نقبل من مشرك عهدا ، فقاتلوهم حتّى قتلوا ، وأمّا زيد وخبيب وابن طارق فاستأمروا ، وأمّا عاصم بن ثابت فإنّه نثر كنانته وفيها سبعة أسهم فقتل بكلّ سهم رجلاً من عظماء المشركين ثمّ قال : «اللّهم إنّي حميت دينك صدر النهار فارحم لحمي آخر النهار» ثمّ أحاط به المشركون فقتلوه ، وأرادوا رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد وكانت نذرت أن تشرب في قحفه الخمر ، لأنّه قتل إبنيها يوم اُحد فحمته الدبر ، فقالوا : امهلوه حتّى يمسي فتذهب عنه ، فبعث اللّه‏ الوادي فاحتمله فسمّي حمى الدبر ، وخرجوا بالنفر الثلاثة ، حتّى إذا كانوا بمرّ الظهران انتزع عبداللّه‏ بن طارق يده منهم وأخذ سيفه واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتّى قتلوه فقبر بمرّ الظهران ، وقدموا بخبيب وزيد مكّة ، فابتاع حجير بن أبي أهاب خبيبا لابن اُخته عقبة بن الحارث ليقتله بأبيه ، وابتاع صفوان بن اُمية زيدا ليقتله بأبيه ، فحبسوهما حتّى خرجت الأشهر الحرم ثمّ أخرجوهما إلى التنعيم فقتلوهما ، وقال قائل لزيد عند قتله : أتحبّ أنّ الآن في أهلك وأنّ محمّدا مكانك ؟ فقال : واللّه‏ ما أحبّ أنّ محمّدا يشاك بشوكة وإنّي جالس في أهلي ، فقال أبو سفيان : واللّه‏ ما رأيت من قوم قط أشدّ حبّا لصاحبهم من أصحاب محمّد.

 

 

غزوة بني النضير :

كانت غزوة بني نضير في ربيع الأوّل ، وكانت منازلهم بناحية الفرع وما والاها بقرية يقال لها زهرة ، وإنّهم‏لمّا نقضوا العهد وعاقدوا المشركين على حرب النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم خرج صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم يوم السبت ، وصلّى في مسجد قبا ، ومعه نفر من أصحابه ، ثمّ أتى بني النضير فكلّمهم أن يعينوه في ديّة رجلين كان قد آمنهما فقتلهما عمرو بن اُميّة وهو لايعلم ، فقالوا : نفعل ، وهمّوا بالغدر به ، فقال عمرو بن الحجاش : أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة ، فقال سلام بن مشكم : لا تفعلوا ، فواللّه‏ لنخبرنّ بما هممتم ، فجاء جبرئيل فأخبره صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فخرج راجعا إلى المدينة ثم دعا عليا وقال : لا تبرح من مكانك ، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عنّي فقل : توجّه إلى المدينة ، ففعل ذلك ، ثمّ لحقوا به فبعث النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم محمّد بن مسلمة إليه وأمرهم بالجلاء وقال : لا تساكنوني وقد هممتم بما هممتم به ، وقد أجّلتكم عشرا ، فأرسل إليهم ابن اُبيّ ؛ لا تخرجوا فانّ معي ألفين من قومي وغيرهم ، يدخلون حصونكم فيموتون من آخرهم ويمدّكم قريظة وحلفاؤهم من غطفان ، فطمع حيي بن أخطب فيما قال ابن اُبيّ ، فخرج إليهم النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فصلّى العصر بفضاء بني النضير وعلي عليه‏السلام يحمل رايته ، واستخلف على المدينة ابن اُمّ مكتوم ، فلمّا رأوا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم قاموا على حصونهم معهم النبل والحجارة ، فاعتزلتهم قريظة ، وخفرهم ابن اُبي فحاصرهم رسول اللّه‏ وقطع نخلهم ، وكانت النخلة من نخيلهم من ثمن وصيف وأحبّ إليهم من وصيف فقالوا : نحن نخرج من بلادك ، فأجلاهم عن المدينة ، وولّى إخراجهم محمّد بن مسلمة ، وحملوا النساء والصبيان وتحمّلوا على ستمائة بعير ، وقال لهم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : «اخرجوا ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلاّ الحلقة» وهي السلاح ، فقبض رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم الأموال والحلقة فوجد من الحلقة خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا ، وكانت غنائم بني النضير صفيّا لرسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم خالصة ، لم يخمسها ولم يسهم منها لأحد ، وقد أعطى ناسا منها.

غزوة ذات الرقاع :

كان سببها أنّ قادما قدم المدينة بجلب له ، فأخبر أصحاب رسول اللّه‏صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم أنّ أنمارا وثعلبة قد جمعوا لهم الجموع ، فبلغ ذلك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فخرج ليلة السبت لعشر خلون من المحرم في أربعمائة وقيل : في سبعمائة ، فمضى حتّى أتى محالهم بذات الرقاع ، وهي جبل ، فلم يجد إلاّ نسوة فأخذهنّ وفيهنّ جارية وضيئة ، وهربت الأعراب إلى رؤوس الجبال ، وخاف المسلمون أن يغيروا عليهم ، فصلّى بهم النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم صلاة الخوف ، وكان أوّل ما صلاّها ، وانصرف راجعا إلى المدينة ، فابتاع من جابر بن عبداللّه‏ جملاً بأوقية وشرط له ظهره إلى المدينة ، وسأله عن دين أبيه فأخبره ، فقال : إذا قربت المدينة وأردت أن تجدّ نخلك فآذنّي ، واستغفر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم في تلك الليلة خمسا وعشرين مرّة .

غزوة عسفان :

 في جمادى الاُولى من السنة السادسة خرج رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه ، وأظهر أنّه يريد الشام ليصيب من القوم غرّة ، وأسرع السير حتّى نزل على منازل بني لحيان بين أثح وعسفان ، فوجدهم قد حذروا وتمنّعوا في رؤوس الجبال ، فلمّا أخطأه ما أراد منهم خرج في مائتي راكب حتّى نزل عسفان تخويفا لأهل مكّة ، وأرسل فارسين من الصحابة حتّى بلغا كراع الغميم ثمّ عاد

غزوة الأحزاب وبني قريظة :

>يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ<

فإنّها نزلت في قصّة الأحزاب من قريش ، والعرب الّذين تحزّبوا على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، قال : وذلك أنّ قريشا قد تجمّعت في سنة خمس من الهجرة ، وساروا في العرب وجلبوا واستنفروهم لحرب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فوافوا في عشرة آلاف ، ومعهم كنانة وسليم وفزارة ، وكان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم حين أجلى بني النضير وهم بطن من اليهود من المدينة ، وكان رئيسهم حييّ بن أخطب ، وهم يهود من بني هارون عليه‏السلام ، فلمّا أجلاهم من المدينة صاروا إلى خيبر ، وخرج حيي بن أخطب إلى قريش بمكّة وقال لهم : إنّ محمّدا قد وتركم ووترنا ، وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا ، وأجلى بني عمّنا بني قينقاع ، فسيروا في الأرض وأجمعوا حلفاءكم وغيرهم حتّى نسير إليهم ، فإنّه قد بقي من قومي بيثرب سبعمائة مقاتل وهم بنو قريظة ، وبينهم وبين محمّد عهد وميثاق ، وأنا أحملهم على نقض العهد بينهم وبين محمّد ، ويكونون معنا عليهم فتأتونه أنتم من فوق وهم من أسفل ، وكان موضع بني قريظة من المدينة على قدر ميلين ، وهو الموضع الذي يسمّى ببئر بني المطّلب ، فلم يزل يسير معهم حيي بن أخطب في قبائل العرب حتّى اجتمعوا قدر عشرة آلاف من قريش وكنانة ، والأقرع بن حابس في قومه ، وعباس بن مرداس في بني سليم ، فبلغ ذلك رسول اللّه‏ واستشار أصحابه ، وكانوا سبعمائة رجل ، فقال سلمان : يارسول اللّه‏ إنّ القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة ، قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : فما نصنع ؟ قال : نحفر خندقا يكون بيننا وبينهم حجابا فيمكنك معهم في المطاولة ولا يمكنهم أن يأتونا من كلّ وجه ، فإنّا كنّا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنا دهم من عدوّنا نحفر الخنادق ، فيكون الحرب من مواضع معروفة ، فنزل جبرئيل على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فقال : أشار بصواب ، فأمر رسول اللّه‏ بحفره من ناحية أحد إلى راتج ، وجعل على كلّ عشرين خطوة وثلاثين خطوة قوما من المهاجرين والأنصار يحفرونه ، فأمر فحملت المساحي والمعاول ، وبدأ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم وأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين بنفسه ، وأمير المؤمنين عليه‏السلام ينقل التراب من الحفرة حتّى عرق رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم وعيّ وقال : لا عيش إلاّ عيش الآخرة اللهم اغفر للأنصار والمهاجرين ، فلمّا نظر الناس إلى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم يحفر اجتهدوا في الحفر ونقلوا التراب .

فلمّا كان في اليوم الثاني بكّروا إلى الحفر وقعد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم في مسجد الفتح ، فبينا المهاجرون والأنصار يحفرون إذ عرض لهم جبل لم تعمل المعاول فيه فبعثوا جابر بن عبداللّه‏ الأنصاري إلى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم يعلمه ذلك ، فقال جابر : فجئت إلى المسجد ورسول اللّه‏ مستلقى على قفاه ورداؤه تحت رأسه وقد شدّ على بطنه حجرا ، فقلت : يارسول اللّه‏ إنّه قد عرض لنا جبل لا تعمل المعاول فيه ، فقام مسرعا حتّى جاءه ، ثمّ دعا بماء في إناء وغسل وجهه وذراعيه ومسح على رأسه ورجليه ، ثمّ شرب ومجّ ذلك الماء في فيه ، ثمّ صبّه على ذلك الحجر ، ثمّ أخذ معولاً فضرب ضربة فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور الشام ، ثمّ ضرب اُخرى فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور المدائن ، ثمّ ضرب اُخرى فبرقت برقة اُخرى فنظرنا فيها إلى قصور اليمن ، فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : أمّا إنّه سيفتح اللّه‏ عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرق ، ثمّ إنهال علينا الجبل كما ينهال الرمل . فقال جابر : فعلمت أنّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم مقوي ـ أي جائع ـ لما رأيت على بطنه الحجر ، فقلت : يارسول اللّه‏ هل لك في الغداء ؟ قال : ما عندك ياجابر ؟

فقلت : عناق وصاع من شعير ، فقال : تقدّم وأصلح ما عندك.

قال جابر : فجئت إلى أهلي فأمرتها فطحنت الشعير ، وذبحت العنز وسلختها ، وأمرتها أن تخبز وتطبخ وتشوّي ، فلمّا فرغت من ذلك جئت إلى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فقلت : بأبي واُمّي أنت يارسول اللّه‏ قد فرغنا فاحضر مع من أحببت ، فقام صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم إلى شفير الخندق ثمّ قال : يامعشر المهاجرين والأنصار أجيبوا جابرا ، وكان في الخندق سبعمائة رجل ، فخرجوا كلّهم ، ثمّ لم يمرّ بأحد من المهاجرين والأنصار إلاّ قال : أجيبوا جابرا ، قال جابر : فتقدّمت وقلت لأهلي : قد واللّه‏ أتاك رسول اللّه‏ بما لا قبل لك به ، فقالت : أعلمته أنت ما عندنا ؟ قال : نعم ، قالت : هو أعلم بما أتى ، قال جابر : فدخل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فنظر في القدر ثمّ قال : اغرفي وأبقي ، ثمّ نظر في التنّور ، ثمّ قال : أخرجي وأبقي ، ثمّ دعا بصحفة فثرد فيها وغرف فقال : ياجابر أدخل عليّ عشرة ، فأدخلت عشرة ، فأكلوا حتّى نهلوا وما يرى في القصعة إلاّ آثار أصابعهم ، ثمّ أدخلت عشرة اُخرى فأكلوا حتّى نهلوا ، قال جابر : فأقبلت اُدخل عشرة عشرة فيأكلون حتّى أكلوا كلّهم .

قال : وحفر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم الخندق ، وجعل له ثمانية أبواب ، وجعل على كلّ باب رجلاً من المهاجرين ورجلاً من الأنصار مع جماعة يحفظونه ، وقدمت قريش وكنانة وسليم وهلال فنزلوا الزغابة ، ففرغ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم من حفر الخندق قبل قدوم قريش بثلاثة أيّام ، وأقبلت قريش ومعهم حيي بن أخطب ، فلمّا نزلوا العقيق جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في جوف الليل ، وكانوا في حصنهم قد تمسّكوا بعهد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فدقّ باب الحصن فسمع كعب بن أسيد قرع الباب ، فقال : من أنت ؟ قال : حيي بن أخطب ، هذه قريش في قادتها قد نزلت بالعقيق مع حلفائهم من كنانة ، وهذه فزارة مع قادتها قد نزلت الزغابة ،

وهذه سليم قد نزلوا حصن بني ذبيان ، ولا يفلت محمّد وأصحابه من هذا الجمع أبدا ، فافتح الباب وانقض العهد بينك وبين محمّد ، فقال كعب : لست بفاتح لك الباب ، ارجع من حيث جئت ، فقال حيي : ما يمنعك من فتح الباب إلاّ خشيشتك التي في التنور تخاف أن اُشركك فيها ، فافتح فإنّك آمن من ذلك ، فقال له كعب : لعنك اللّه‏ لقد دخلت عليّ من باب دقيق ، ثمّ قال : افتحوا له الباب ، ففتحوا له ، فقال : ويلك ياكعب انقض العهد بينك وبين محمّد ولا تردّ رأيي ، فإنّ محمّدا لا يفلت من هذا الجمع أبدا ، فإن فاتك هذا الوقت لا تدرك مثله أبدا ، قال : واجتمع كل من كان في الحصن من رؤساء اليهود ، فقال لهم كعب : ما ترون ؟ قالوا : أنت سيّدنا والمطاع فينا وصاحب عهدنا وعقدنا فإن نقضت نقضنا معك .

وقال : قد وقع الأمر ، فتجهّزوا وتهيّأوا للقتال ، وبلغ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ذلك ، فغمّه غمّا شديدا وفزع أصحابه ، ورجع حيي بن أخطب إلى أبي سفيان وقريش فأخبرهم بنقض بني قريظة العهد بينهم وبين رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، ففرحت قريش بذلك.

وأقبلت قريش ، فلمّا نظروا إلى الخندق قالوا : هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك ، فقيل لهم : هذا من تدبير الفارسيّ الذي معه ، فوافى عمرو بن عبد ود وهبيرة بن وهب وضرار بن الخطّاب إلى الخندق ، وكان رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم قد صفّ أصحابه بين يديه ، فصاحوا بخيلهم حتّى طفروا الخندق إلى جانب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فصاروا أصحاب رسول اللّه‏ كلّهم خلف رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، وقدّموا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بين أيديهم ، وقال رجل من المهاجرين لرجل بجنبه من إخوانه : أما ترى هذا الشيطان عمرو ؟ ألا واللّه‏ ما يفلت من يديه أحد ، فهلمّوا ندفع إليه محمّدا ليقتله ونلحق نحن بقومنا .

وركّز عمرو بن عبد ود رمحه في الأرض وأقبل يجول جولة ويرتجز ويقول : هل من مبارز ؟ فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : من لهذا الكلب ؟ فلم يجبه أحد ، فقام إليه علي عليه‏السلام فقال : أنا له يارسول اللّه‏ ، فقال : ياعلي هذا عمرو بن عبد ود فارس يليل ، قال : أنا علي بن أبي طالب ، فقال له رسول اللّه‏ : اُدن منّي ، فدنا منه ،

فعمّمه بيده ودفع إليه سيفه ذا الفقار ، وقال له : «إذهب وقاتل بهذا ، اللّهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته» فمرّ أمير المؤمنين عليه‏السلام يهرول في مشيته وهو يقول :

 

 لا تعجلنّ فقد أتاك  مجيب صوتك غير عاجز  ذو نيّة وبصيرة  والصدق منجي كلّ فائز ...  إلى آخر الأبيات . .

فقال له عمرو : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب ابن عمّ رسول اللّه‏ وختنه ، فقال : واللّه‏ إنّ أباك كان لي صديقا ونديما ، وإنّي أكره أن أقتلك ، ما أمن ابن عمّك حين بعثك إليّ أن أختطفك برمحي هذا فاتركك شائلاً بين السماء والأرض لا حيّ ولا ميّت ؟ فقال له أمير المؤمنين : قد علم ابن عمّي أنّك إن قتلتني دخلت الجنّة وأنت في النار ، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنّة.

فقال عمرو : كلتاهما لك ياعلي ، تلك إذا قسمة ضيزى

 فقال علي عليه‏السلام : دع هذا ياعمرو ، إنّي سمعت منك وأنت متعلّق بأستار الكعبة تقول :

لا يعرض عليّ أحد في الحرب ثلاث خصال إلاّ أجبته إلى واحدة منها ، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلى واحدة ، قال : هات ياعلي ؟ قال : تشهد أن لا إله إلاّ اللّه‏ وأنّ محمّدا رسول اللّه‏ ، قال : نحّ عنّي هذا ، قال : فالثانية ؛ أن ترجع وتردّ هذا الجيش عن رسول اللّه‏ ، فإن يك صادقا فأنتم أعلى به عينا ، وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره ، فقال : إذا تتحدّث نساء قريش بذلك وينشد الشعراء في أشعارها أنّي جبنت ورجعت على عقبي من الحرب وخذلت قوما رأسوني عليهم ، فقال له أمير المؤمنين عليه‏السلام : فالثالثة ؛ أن تنزل إليّ ، فإنّك راكب وأنا راجل حتّى اُنابذك ، فوثب عن فرسه وعرقبه(3) وقال : هذه خصلة ما ظننت أنّ أحدا من العرب يسومني عليها ، ثمّ بدأ فضرب أمير المؤمنين عليه‏السلام بالسيف على رأسه ، فاتّقاه أمير المؤمنين عليه‏السلام بالدرقة فقطعها ، وثبت السيف على رأسه ، فقال له علي : ياعمرو أما كفاك أنّي بارزتك وأنت فارس العرب حتّى استعنت عليّ بظهير ؟ فالتفت عمرو إلى خلفه ، فضربه أمير المؤمنين عليه‏السلام مسرعا على ساقيه فأطنّهما(1) جميعا ، وارتفعت بينهما عجاجة ، فقال المنافقون : قتل علي بن أبي طالب ، ثمّ انكشفت العجاجة ، ونظروا فإذا أمير المؤمنين عليه‏السلام على صدره ، قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه ، ثمّ أخذ رأسه وأقبل إلى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو ، وسيفه يقطر منه الدم وهو يقول والرأس بيده :

 

 أنا علي بن عبدالمطّلب   الموت خير للفتى من الهرب

 

صفية بنت عبدالمطّلب :

عن أبي الزبير ، عن أبيه ، عن صفية بنت عبدالمطّلب أنّها قالت : كنّا مع حسّان بن ثابت في حصن فارع ، والنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بالخندق ، فإذا يهودي يطوف بالحصن ، فخفنا أن يدلّ على عورتنا

 فقلت لحسّان : لو نزلت إلى هذا اليهودي ، فإنّي أخاف أن يدلّ على عورتنا ، قال : يابنت عبدالمطّلب لقد علمت ما أنا بصاحب هذا ، قالت : فتحزّمت ثمّ نزلت وأخذت عمودا وقتلته به ، ثمّ قلت لحسان : اُخرج فاسلبه ، قال : لا حاجة لي في سلبه .

غزوة بني المصطلق :

كانت بعد غزوة بني قريظة غزوة بني المصطلق من خزاعة ، ورأسهم الحارث بن أبي ضرار ، وقد تهيّأ للمسير إلى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، وهي غزوة المريسيع ، وهو ماء ، وقعت في شعبان سنة خمس ، وقيل : في شعبان سنة ستّ واللّه‏ أعلم ، قالت جويرية بنت الحارث زوجة الرسول : أتانا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ونحن على المريسيع فأسمع أبي وهو يقول : أتانا ما لا قبل لنا به ، قالت : وكنت أرى مِن الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من الكثرة ، فلمّا أن أسلمت وتزوّجني رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ورجعنا جعلت أنظر إلى المسلمين ، فليسوا كما كنت أرى ، فعرفت أنّه رعب من اللّه‏ عزّ وجلّ يلقيه في قلوب المشركين ، قالت : ورأيت قبل قدوم النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بثلاث ليال كأنّ القمر يسير من يثرب حتّى وقع في حجري ، فكرهت أن اُخبر بها أحدا من الناس ، فلمّا سبينا رجوت الرؤيا ، فأعتقني رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم وتزوّجني ، وأمر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم أصحابه أن يحملوا عليهم حملة رجل واحد ، فما أفلت منهم إنسان ، وقتل عشرة منهم ، واُسر سائرهم ، وكان شعار المسلمين يومئذ : «يامنصور أمت» وسبى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم الرجال والنساء والذراري والنعم والشاء ، فلمّا بلغ الناس أنّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم تزوّج جويرية بنت الحارث قالوا : أصهار رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها.

 

 

هرقل ومحمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم:

روي أنّ هرقل بعث رجلاً من غسّان وأمره أن يأتيه بخبر محمّد وقال له : احفظ لي من أمره ثلاثا : اُنظر على أيّ شيء تجده جالسا ، ومن على يمينه ، وإن استطعت أن تنظر إلى خاتم النبوّة فافعل .

 فخرج الغسّاني حتّى أتى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فوجده جالسا على الأرض ، ووجد علي بن أبي طالب عليه‏السلام عن يمينه ، وجعل رجليه في ماء يفور ، فقال : من هذا على يمينه ؟ قيل : ابن عمّه ، فكتب ذلك ، ونسي الغسّاني الثالثة ، فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : تعال اُنظر إلى ما أمرك به صاحبك ، فنظر إلى خاتم النبوّة ، فانصرف الرجل إلى هرقل ، قال : ما صنعت ؟ قال : وجدته جالسا على الأرض والماء يفور تحت قدميه ، ووجدت عليّا ابن عمّه عن يمينه ، وأنسيت ما قلت لي في الخاتم فدعاني فقال : >هلمّ إلى ما أمرك به صاحبك» فنظرت إلى خاتم النبوّة ، فقال هرقل : هذا الّذي بشّر به عيسى بن مريم ، إنّه يركب البعير فاتّبعوه وصدّقوه ، ثمّ قال للرسول : اُخرج إلى أخي فأعرض عليه فإنّه شريكي في الملك ، فقلت له فما طاب نفسه عن ذهاب ملكه

قيصر ومحمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم:

روي أنّ دحية الكلبيّ قال : بعثني رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بكتاب إلى قيصر ، فأرسل إلى الأسقف ، فأخبره بمحمّد وكتابه فقال : هذا النبي الّذي كنّا ننتظره ، بشّرنا به عيسى بن مريم ، وقال الأسقف : أمّا أنا فمصدّقه ومتّبعه .

فقال قيصر : أمّا أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي ، ثمّ قال قيصر : التمسوا لي من قومه ههنا أحدا أسأله عنه ، وكان أبو سفيان وجماعة من قريش دخلوا الشام تجّارا فأحضرهم وقال : ليدن منّي أقربكم نسبا به ، فأتاه أبو سفيان فقال : أنا سائل عن هذا الرجل الذي يقول : إنّه نبي ، ثم قال لأصحابه : إن كذب فكذّبوه ، قال أبو سفيان : لولا حيائي أن يأثر أصحابي عنّي الكذب لأخبرته بخلاف ما هو عليه.

فقال : كيف نسبه فيكم ؟ قلت : ذو نسب ، قال : هل قال هذا القول منكم أحد ؟ قلت : لا ، قال : فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل ؟ قلت : لا ، قال : فأشراف الناس اتّبعوه أو ضعفاؤهم ؟ قلت : ضعفاؤهم ، قال : فهل يزيدون أو ينقصون ؟

قلت : يزيدون ، قال : يرتدّ أحد منهم سخطا لدينه ؟ قلت : لا ، قال : فهل يغدر ؟ قلت : لا . قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت : نعم ، قال : كيف حربكم وحربه ؟ قلت : ذو سجال مرّة له ومرّة عليه ، قال : هذه آية النبوّة ، قال : فما يأمركم ؟ قلت : يأمرنا أن نعبد اللّه‏ وحده ولا نشرك به شيئا ، وينهانا عمّا كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالصلاة والصوم والعفاف والصدق وأداء الأمانة والوفاء بالعهد ، قال : هذه صفة نبيّ ، وقد كنت أعلم أنّه يخرج ، ولم أظنّ أنّه منكم ، فإنّه يوشك أن يملك ما تحت قدميّ هاتين ، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشّمت لقاءه ، ولو كنت عنده لقبّلت قدميه ، وإنّ النصارى اجتمعوا على الاُسقف ليقتلوه فقال : اذهب إلى صاحبك فاقرأ عليه سلامي وأخبره أنّي أشهد أن لا إله إلاّ اللّه‏ وأنّ محمّدا رسول اللّه‏ ، وأنّ النصارى أنكروا ذلك عليّ ، ثمّ خرج إليهم فقتلوه.

المقوقس ومحمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم:

بعث رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس .

أمّا المقوقس فإنّه لمّا وصل إليه حاطب أكرمه ، وأخذ كتاب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم وكتب في جوابه : قد علمت أنّ نبيّا قد بقي ، وقد أكرمت رسولك ، وأهدي رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم أربع جوار ؛ منهنّ مارية اُمّ إبراهيم واُختها سيرين ، وحمارا يقال له : يعفور ، وبغلة يقال لها : الدلدل ، ولم يسلم ، فقبل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم هديته وقال : «ظنّ الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه» ، واصطفى مارية لنفسه ، وأمّا سيرين فوهبها لحسّان بن وهب ، وأمّا الحمار فهلك منصرفه من حجّة الوداع ، وأمّا البغلة فبقيت إلى زمان معاوية

كسرى ومحمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم:

روي عن محمّد بن إسحاق قال : قال بعث رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم عبداللّه‏ بن  حذافة بن قيس إلى كسرى بن هرمز ملك فارس وكتب : >بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم ، من محمّد رسول اللّه‏ إلى كسرى عظيم فارس ، سلام على من اتّبع الهدى ، وآمن باللّه‏ ورسوله ، وشهد أن لا إله إلاّ اللّه‏ وحده لا شريك له وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأدعوك بداعية اللّه‏ عزّوجلّ ، فإنّي أنا رسول اللّه‏ إلى الناس كافّة لاُنذر من كان حيّا ويحقّ القول على الكافرين ، فأسلم تسلم ، فإن أبيت فإنّ إثم المجوس عليك<.

فلمّا قرأ كتاب رسول اللّه‏ شققه وقال : يكتب إليّ بهذا الكتاب وهو عبدي ؟ فبلغني أنّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم قال : «مزّق اللّه‏ ملكه» حين بلغه أنّه شقّق كتابه ، ثمّ كتب كسرى إلى باذان وهو على اليمن ؛ أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز من عندك رجلين فليأتياني به ، فبعث باذان قهرمانه وهو بانوبه وكان كاتبا حاسبا وبعث معه برجل من الفرس يقال له : خرخسك ، فكتب معهما إلى رسول اللّه‏ يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى ، وقال بانوبه : ويلك اُنظر ما الرجل ، وكلّمه وأتني بخبره ، فخرجا حتّى قدما المدينة على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، وكلّمه بابوية وقال : إنّ ملك الملوك كسرى كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك ، وقد بعثني إليك لتنطلق معي ، فإن فعلت كتبت فيك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك ويكفّ عنك به ، وإن أبيت فهو من قد علمت ، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرّب بلادك ، وكانا قد دخلا على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما ، فكره النظر إليهما ، وقال : ويلكما من أمركما بهذا ؟ قالا : أمرنا بهذا ربّنا ، يعنيان كسرى ، فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : لكن ربّي أمرني باعفاء لحيتي وقصّ شاربي ، ثمّ قال لهما رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : «ارجعا حتّى تأتياني غدا» وأتى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم الخبر من السماء أنّ اللّه‏ عزّ وجلّ قد سلّط على كسرى إبنه شيرويه فقتله في شهر كذا وكذا لكذا وكذا من الليلفلمّا أتيا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم قال لهما : إنّ ربّي قد قتل ربّكما ليلة كذا وكذا من شهر كذا وكذا بعد ما مضى من الليل كذا وكذا ، سلّط عليه شيرويه فقتله ، فقالا : هل تدري ما تقول ؟! إنّا قد نقمنا منك ما هو أيسر من هذا ، فنكتب بها عنك ونخبر الملك ؟ قال : «نعم ، أخبراه ذلك عنّي ، وقولا له : إنّ ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى وينتهي إلى منتهى الخفّ والحافر ، وقولا له : إنّك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملّكتك على قومك< . ثمّ أعطى خرخسك منطقة فيها ذهب وفضّة كان أهداها له بعض الملوك ، فخرجا من عنده حتّى قدما على باذان وأخبراه الخبر ، فقال : واللّه‏ ما هذا بكلام ملك ، وإنّي لأرى الرجل نبيّا كما يقول ، ولننظر ما قد قال ، فلئن كان ما قد قال حقّا ما فيه كلام أنّه نبيّ مرسل ، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا ، فلم يلبث باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه : امّا بعد فإنّي قد قتلت كسرى ، ولم أقتله إلاّ غضبا لفارس لما كان استحلّ من قتل أشرافهم ، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممّن قبلك ، واُنظر الرجل الذي كان كسرى كتب إليك فيه فلا تهجه حتّى يأتيك أمري فيه ، فلمّا انتهى كتاب شيرويه باذان قال : إنّ هذا الرجل لرسول ، فأسلم وأسلمت الأبناء من فارس من كان منهم باليمن

غزوة خيبر :

قال الطبرسيّ رحمه‏الله : لمّا قدم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم المدينة من الحديبيّة مكث بها عشرين ليلة ، ثمّ خرج منها غاديا إلى خيبر ، وذكر ابن إسحاق باسناده عن أبي مروان الأسلميّ عن أبيه عن جدّه قال:

خرجنا مع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم إلى خيبر ، حتّى إذا كنّا قريبا منها وأشرفنا عليها قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : «قفوا» فوقف الناس ، فقال : «اللّهم ربّ السماوات السبع وما أظللن ، وربّ الأرضين السبع وما أقللن ، وربّ الشياطين وما أظللن ، إنّا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شرّ هذه القرية وشرّ أهلها وشرّ ما فيها ، أقدموا بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم » . وعن سلمة بن الأكوع قال : خرجنا مع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً ، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع : ألا تسمعنا من هنيهاتك ؟ وكان عامر رجلاً شاعرا فجعل يقول :

 

 لا همّ لولا أنت ما اهتدينا     ولا تصدّقنا ولا صلّينا        فاغفر فداء لك ما اقتنينا                                           وثبّت الأقدام إن لاقينا     وأنزلن سكينة علينا    إنّا إذا صيح بنا أنينا     وبالصياح عوّلوا علينا

فقال رسول اللّه‏ : «من هذا السائق» ؟ قالوا : عامر ، قال : «يرحمه اللّه‏» قال عمر وهو على جمل : وجبت يارسول اللّه‏ ، لولا أمتعتنا به ، وذلك أنّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ما استغفر لرجل قطّ يخصّه إلاّ استشهد ، قالوا : فلمّا جدّ الحرب وتصافّ القوم خرج يهوديّ وهو يقول:

 

 قد علمت خيبر أنّي مرحبٌ  شاكي السلاح بطل مجرّب

إذ الحروب أقبلت تلهب

فبرز إليه عامر وهو يقول :

 

 قد علمت خيبر أنّي عامرٌ  شاكي السلاح بطلٌ مغامرٌ

فاختلفا ضربتين ، فوقع سيف اليهودي في ترس عامر ، وكان سيف عامر فيه قصر ، فتناول به ساق اليهودي ليضربه فرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه ، قال سلمة : فإذا نفر من أصحاب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم يقولون : بطل عمل عامر قتل نفسه ، قال : فأتيت النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم وأنا أبكي فقلت : قالوا : إنّ عامرا بطل عمله ، فقال : «من قال ذلك» ؟ قلت : نفر من أصحابك ، فقال : كذب اُولئك بل اُوتي من الأجر مرّتين ، قال : فحاصرناهم حتّى إذا أصابتنا مخمصة شديدة ، ثمّ إنّ اللّه‏ فتحها علينا . وذلك أنّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم أعطى اللواء عمر بن الخطاب ، ونهض من نهض معه من الناس ، فلقوا أهل خيبر ، فانكشف عمر وأصحابه ، فرجعوا إلى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم يجبنه أصحابه ويجبنهم ، وكان رسول اللّه‏ أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس ، فقال حين أفاق من وجعه : «ما فعل الناس بخيبر» ؟ فأُخبر ، فقال : «لأعطين الراية غدا رجلاً يحبّ اللّه‏ ورسوله ويحبّه اللّه‏ ورسوله كرّارا غير فرّار لا يرجع حتّى يفتح اللّه‏ على يديه» .

وروي عن سعد بن سهل أنّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم قال يوم خيبر : «لاُعطين هذه الراية غدا رجلاً يفتح اللّه‏ على يديه يحبّ اللّه‏ ورسوله ويحبّه اللّه‏ ورسوله» قال : فبات الناس يدركون بجملتهم أيّهم يعطاها ، فلمّا أصبح الناس غدوا على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم كلّهم يرجون أن يعطاها ، فقال : «أين علي بن أبي طالب» ؟ فقالوا : يارسول اللّه‏ هو يشتكي عينيه ، قال : «فأرسلوا إليه» فاُتي به فبصق رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية ، فقال علي عليه‏السلام : يارسول اللّه‏ اُقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا ؟ قال : انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم ، ثمّ ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ اللّه‏ ، فواللّه‏ لئن يهدي اللّه‏ بك رجلاً واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم ، قال سلمة : فبرز مرحب وهو يقول :

قد علمت خيبر أنّي مرحب (الأبيات)

فبرز له علي عليه‏السلام وهو يقول :

 

 أنا الّذي سمّتني اُمّي حيدرة    كليث غابات كريه المنظره    أو فيهم بالصاع كيل السندرة

فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله ، وكان الفتح على يده ، أورده مسلم في الصحيح ؛ خرجنا مع علي عليه‏السلام حين بعثه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم ، فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده ، فتناول علي عليه‏السلام باب الحصن فتترّس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتّى فتح اللّه‏ عليه ، ثمّ ألقاه من يده ، فلقد رأيتني في سبعة نفر أنا منهم نجهد على أن نقلّب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلّبه .

وبإسناده عن ليث بن أبي سليم عن أبي جعفر عليه‏السلام قال : حدّثني جابر بن عبداللّه‏ ؛ أنّ عليّا عليه‏السلام حمل الباب يوم خيبر حتّى صعد المسلمون عليه فاقتحموها ففتحوها ، وإنّه حرّك بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلاً.

ثمّ لم يزل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم يفتح الحصون حصنا فحصنا ، ويحوز الأموال حتّى انتهوا إلى حصن الوطيح والسلالم ، وكان آخر حصون خيبر افتتح ، وحاصرهم رسول اللّه‏ بضع عشر ليلة وعن حذيفة بن اليمان قال: لمّا خرج جعفر بن أبي طالب من أرض حبشة إلى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، قدم جعفر والنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بأرض خيبر ، فأتاه بالفرع من الغالية والقطيفة ، فقال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : لأدفعنّ هذه القطيفة إلى رجل يحبّ اللّه‏ ورسوله ويحبّه اللّه‏ ورسوله ، فمدّ أصحاب النبي أعناقهم إليها ، فقال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : «أين علي» ؟ فوثب عمّار بن ياسر فدعا عليّا عليه‏السلام ، فلمّا جاء قال له النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : «ياعلي خذ هذه القطيفة إليك» فأخذها علي عليه‏السلام ، وأمهل حتّى قدم المدينة فانطلق إلى البقيع وهو سوق المدينة فأمر صائغا ففصّل القطيفة سلكا سلكا ، فباع الذهب وكان ألف مثقال ، ففرّقه علي عليه‏السلام في فقراء المهاجرين والأنصار ، ثمّ رجع إلى منزله ولم يترك من الذهب قليلاً ولا كثيرا ، فلقيه النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم من غد في نفر من أصحابه فيهم حذيفة وعمّار فقال : «ياعليّ إنّك أخذت بالأمس ألف مثقال ، فاجعل غدائي اليوم وأصحابي هؤلاء عندك» ولم يكن علي عليه‏السلام يرجع يومئذ إلى شيء من العروض : ذهب أو فضّة .

فقال حياءً منه وتكرما : نعم يارسول اللّه‏ ، وفي الرحب والسعة ادخل يانبيّ اللّه‏ أنت ومن معك ، قال : فدخل النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، ثمّ قال لنا : ادخلوا ، قال حذيفة : وكنّا خمسة نفر ؛ أنا وعمّار وسلمان وأبو ذر والمقداد ، فدخلنا ودخل علي على فاطمة يبتغي عندها شيئا من زاد ، فوجد في وسط البيت جفنة من ثريد تفور وعليها عراق كثير ، وكأنّ رائحتها المسك ، فحملها علي عليه‏السلام حتّى وضعها بين يدي رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ومن حضر معه ، فأكلنا منها حتّى تملأنا ، ولا ينقص منها قليل ولا كثير ، وقام النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم حتّى دخل على فاطمة عليهاالسلام وقال : «أنّى لك هذا الطعام يافاطمة» فردّت عليه ونحن نسمع قولهما ، فقالت : هو من عند اللّه‏ إنّ اللّه‏ يرزق من يشاء بغير حساب ، فخرج النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم إلينا مستعبرا وهو يقول : الحمد للّه‏ الّذي لم يمتني حتّى رأيت لابنتي ما رأى زكريا لمريم ، كان إذا دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا فيقول لها : يامريم أنّى لك هذا ؟ فتقول : هو من عند اللّه‏ إنّ اللّه‏ يرزق من يشاء بغير حساب

غزوة مؤتة :

عن محمّد بن شهاب الزهريّ قال :

لمّا قدم جعفر بن أبي طالب من بلاد الحبشة بعثه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم إلى مؤتة ، واستعمل على الجيش معه زيد بن حارثة وعبداللّه‏ بن رواحة ، فمضى الناس معهم حتّى كانوا بنحو البلقاء ، فلقيهم جموع هرقل من الروم والعرب ، فانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها : مؤتة ، فالتقى الناس عندها واقتتلوا قتالاً شديدا ، وكان اللواء يومئذ مع زيد بن حارثة فقاتل به حتّى شاط في رماح القوم ، ثمّ أخذه جعفر فقاتل به قتالاً شديدا ثمّ اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها وقاتل حتّى قتل ، قال : وكان جعفر أوّل رجل من المسلمين عقر فرسه في الإسلام ، ثمّ أخذ اللواء عبداللّه‏ بن رواحة فقتل ، ثمّ أخذ اللواء خالد بن الوليد فناوش القوم وراوغهم حتّى انحاز بالمسلمين منهزما ، ونجا بهم من الروم ، وأنفذ رجلاً يقال له : عبدالرحمن بن سمرة إلى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم بالخبر ، قال عبدالرحمن : فسرت إلى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فلمّا وصلت إلى المسجد قال لي رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : «على رسلك ياعبدالرحمن» ثمّ قال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : «أخذ اللواء زيد فقاتل به فقتل رحم اللّه‏ زيدا ، ثمّ أخذ اللواء جعفر وقاتل وقتل رحم اللّه‏ جعفرا ، ثم أخذ اللواء عبداللّه‏ بن رواحة وقاتل فقتل فرحم اللّه‏ عبداللّه‏» قال : فبكى أصحاب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم وهم حوله ، فقال لهم النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : «وما يبكيكم» ؟ فقالوا : وما لنا لا نبكي وقد ذهب خيارنا وأشرافنا وأهل الفضل منّا ، فقال لهم : «لا تبكوا فإنّما مثل اُمّتي مثل حديقة قام عليها صاحبها فأصلح رواكبها وبني مساكنها وحلق سعفها فأطعمت عاما فوجا ثمّ عاما فوجا ثمّ عاما فوجا فلعلّ آخرها طعما أن يكون أجودها قنوانا وأطولها شمراخا ، والّذي بعثني بالحقّ نبيّا ليجدنّ عيسى بن مريم في اُمّتي خلفا من حواريه» قال : وقال كعب بن مالك ، يرثي جعفر بن أبي طالب والمستشهدين معه :

 هدّت العيون ودمع عينك يهملُ  سحّا كما وكف الضباب المخضلُ  وكأنّ ما بين الجوانح والحشا  ممّا تأوّبني شهاب مدخلُ  وجدا على النفر الّذين تتابعوا  يوما بمؤتة اُسندوا لم ينقلوا  فتغيّر القمر المنير لفقدهم  والشمس قد كسفت وكادت تأفلُ(1)وعن العبّاس بن موسى بن جعفر قال : سألت أبي عليه‏السلام عن المأتم(2) فقال : إنّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم لمّا انتهى إليه قتل جعفر بن أبي طالب دخل على أسماء بنت عميس امرأة جعفر فقال : أين بنيَّ ؟ فدعت بهم وهم ثلاثة ؛ عبداللّه‏ وعون ومحمّد ، فمسح رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم رؤوسهم ، فقالت : إنّك تمسح رؤوسهم كأنّهم أيتام ، فعجب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم من عقلها ، فقال : «ياأسماء ألم تعلمي أنّ جعفرا رضوان اللّه‏ عليه استشهد» فبكت ، فقال لها رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : «لا تبكي فإنّ اللّه‏ أخبرني أنّ له جناحين في الجنّة من ياقوت أحمر» فقالت : يارسول اللّه‏ ، لو جمعت الناس وأخبرتهم بفضل جعفر لا ينسى فضله ، فعجب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم من عقلها ، ثمّ قال : «ابعثوا إلى أهل جعفر طعاما» فجرت السنّة(3) .

غزوة ذات السلاسل :

قال الطبرسي : قيل : بعث رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم سريّة إلى حيّ مِن كنانة ، فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري أحد النقباء فتأخّر رجوعهم ، فقال المنافقون : قتلوا جميعا ، فأخبر اللّه‏ تعالى عنه بقوله : «وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً<

عن مقاتل ، وقيل : نزلت السورة لمّا بعث النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم عليّا إلى ذات السلاسل فأوقع بهم ، وذلك بعد أن بعث إليهم مرارا غيره من الصحابة ، فرجع كلّ منهم إلى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، وهو المروي عن أبي عبداللّه‏ في حديث طويل قال : وسميت هذه الغزوة ذات السلاسل لأنّه اُسر منهم وقتل وسبي وشدّ اُساراهم في الحبال مكتّفين كأنّهم في السلاسل ، ولمّا نزلت السورة خرج رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم إلى الناس فصلّى بها الغداة وقرأ فيها : «وَالْعَادِيَاتِ» ، فلمّا فرغ من صلاته قال أصحابه : هذه السورة لم نعرفها ، فقال رسول اللّه‏ : نعم إنّ عليا قد ظفر بأعداء اللّه‏ ، وبشّرني بذلك جبرئيل عليه‏السلام في هذه الليلة ، فقدم علي عليه‏السلام بعد أيّام بالاُسارى والغنائم . «وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً»قيل : هي الخيل في الغزو تعدو في سبيل اللّه‏ ، عن ابن عبّاس وأكثر المفسّرين قالوا : أقسم بالخيل العادية لغزو الكفّار وهي تضبح ضبحا ، وضبحها صوت أجوافها إذا عدت ، ليس بصهيل ولا حمحمة ولكنّه صوت نفس .

>فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً» هي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت في الحجارة والأرض المخصبة ، «فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً» يريد الخيل تغير بفرسانها على العدوّ وقت الصبح ، «فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً» يقال : ثار الغبار أو الدخّان وأثرته أي هيّجته والهاء في «به» عائد إلى معلوم يعني بالمكان أو بالوادي «فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً<

أي صرن بعدوهن أو بذلك المكان وسط جمع العدو .

وروي أنّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم لمّا بعث سريّة ذات السلاسل وعقد الراية وسار بها أبو بكر حتّى إذا صار بها بقرب المشركين اتّصل خبرهم فتحرّزوا ولم يصل المسلمون إليهم ، فأخذ الراية عمر وخرج مع السريّة فاتّصل بهم خبرهم فتحرّزوا ولم يصل المسلمون إليهم ، فأخذ الراية عمرو بن العاص فخرج في السريّة فانهزموا ، فأخذ الراية علي وضمّ إليه أبا بكر وعمر وعمرو بن العاص ومن كان معه في تلك السرية ، وكان المشركون قد أقاموا رقباء على جبالهم ينظرون إلى كلّ عسكر يخرج إليهم من المدينة على الجادة فيأخذون حذرهم واستعدادهم ، فلمّا خرج علي عليه‏السلام ترك الجادّة وأخذ بالسرية في الأودية بين الجبال ، فلمّا رأى عمرو بن العاص وقد فعل علي ذلك علم أنّه سيظفر بهم فحسده ، فقال لأبي بكر وعمر ووجوه السريّة :

إنّ عليّا رجل غرّ لا خيرة له بهذه المسالك ، ونحن أعرف بها منه ، وهذا الطريق الذي توجّه فيه كثير السباع ، وسيلقى الناس من معرّتها أشدّ ما يحاذرونه من العدو ، فسألوه أن يرجع عنه إلى الجادّة ، فعرّفوا أمير المؤمنين عليه‏السلام قال : من كان طائعا للّه‏ ولرسوله منكم فليتبعني ، ومن أراد الخلاف على اللّه‏ ورسوله فلينصرف عنّي ، فسكتوا وساروا معه ، فكان يسير بهم بين الجبال في الليل ويكمن في الأدوية بالنهار ، وصارت السّباع التي فيها كالسنانير إلى أن كبس المشركين وهم غارّون آمنون وقت الصبح ، فظفر بالرجال والذراري والأموال فحاز ذلك كلّه ، وشدّ الرجال في الحبال كالسلاسل ، فلذلك سمّيت غزاة ذات السلاسل ، فلمّا كانت الصبيحة التي أغار فيها أمير المؤمنين عليه‏السلام على العدوّ ـ ومن المدينة إلى هناك خمس مراحل ـ خرج النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فصلّى بالناس وقرأ «والعاديات» في الركعة الاُولى ، وقال : هذه سورة أنزلها اللّه‏ عليّ في هذا الوقت يخبرني فيها بإغارة علي على العدو ، وجعل حسده لعلي حسدا له فقال : «إِنَّ الاْءِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ»والكنود : الحسود ، وهو عمرو بن العاص ههنا إذ هو كان يحبّ الخير وهو الحياة حين أظهر الخوف من السباع ، ثمّ هدّده اللّه‏(2) .

فتح مكّة :

>يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ<

نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، ولفظ الآية عامّ ومعناه خاص ، وكان سبب ذلك ، أنّ حاطب بن أبي بلتعة كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة ، وكان عياله بمكّة ، وكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فصاروا إلى عيال حاطب وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألوه عن خبر محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ؛ هل يريد أن يغزو مكّة.

فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك ، فكتب إليهم حاطب أنّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم يريد ذلك ، ودفع الكتاب إلى امرأة تسمّى صفيّة ، فوضعته في قرونها ، ومرّت ، فنزل جبرئيل على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فأخبره بذلك ، فبعث رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم أمير المؤمنين والزبير بن العوّام في طلبها ، فلحقوها ، فقال أمير المؤمنين : أين الكتاب ؟ فقالت : ما معي شيء ، ففتّشوها فلم يجدوا معها شيئا ، فقال الزبير : ما نرى معها شيئا ؟ فقال أمير المؤمنين عليه‏السلام : واللّه‏ ما كذّبنا رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ولا كذب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم على جبرئيل عليه‏السلام ولا كذّب جبرئيل على اللّه‏ جلّ ثناؤه ، واللّه‏ لتظهرنّ الكتاب أو لاُردنّ رأسك إلى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فقالت : تنحّيا حتّى اُخرجه ، فأخرجت الكتاب من قرونها ، فأخذه أمير المؤمنين عليه‏السلام وجاء به إلى رسول اللّه‏ ، فقال رسول اللّه‏ : ياحاطب ما هذا ؟ فقال حاطب : واللّه‏ يارسول اللّه‏ ما نافقت ولا غيّرت ولا بدّلت ، وإنّي أشهد أن لا إله إلاّ اللّه‏ وأنّك رسول اللّه‏ حقّا ، ولكنّ أهلي وعيالي كتبوا إليّ بحسن صنيع قريش إليهم ، فأحببت أن اُجازي قريشا بحسن معاشرتهم ، فأنزل اللّه‏ جلّ ثناؤه على رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ» إلى قوله : «لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ<

وروي أيضا أنّ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم خرج قاصدا مكّة في عشرة آلاف من المسلمين ، فلم يشعر أهل مكّة حتّى نزل تحت العقبة ، وكان أبو سفيان وعكرمة بن أبي جهل خرجا إلى العقبة يتجسّسان خبرا ، ونظرا إلى النيران فاستعظما ، فلمّا يعلما لمن النيران ، وكان العبّاس قد خرج من مكّة مستقبلاً إلى المدينة فردّه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم معه ، والصحيح أنّه منذ يوم بدر كان بالمدينة ، فلمّا نزل تحت العقبة ركب العبّاس بغلة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم وصار إلى العقبة طمعا أن يجد من أهل مكّة من ينذرهم إذ سمع كلام أبي سفيان يقول لعكرمة : ما هذه النيران ؟ فقال العبّاس : ياأبا سفيان نعم هذا رسول اللّه‏ ، قال أبو سفيان : ما ترى أن أصنع ؟ قال : تركب خلفي فأصير بك إلى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فآخذ لك الأمان ، قال : وتراه يؤمنني ؟ قال : نعم فإنّه إذا سألته شيئا لم يردّني.

فركب أبو سفيان خلفه وانصرف عكرمة إلى مكّة ، فصار إلى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فقال العباس : هذا أبو سفيان صار معي إليك فتؤمنه بسببي ، فقال : أسلم تسلم ياأبا سفيان ، فقال : ياأبا القاسم ما أكرمك وأحلمك ؟ قال : أسلم تسلم ، قال : ما أكرمك وأحلمك ؟ قال : أسلم تسلم ، فوكزه العبّاس وقال : ويلك إن قالها الرابعة ولم تسلم قتلك ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : خذه ياعمّ إلى خيمتك وكانت قريبة .

فلمّا جلس في الخيمة ندم على مجيئه مع العبّاس ، وقال في نفسه : من فعل بنفسه مثل ما فعلت أنا ؟ جئت فأعطيت بيدي ، ولو كنت انصرفت إلى مكّة فجمعت الأحابيش وغيرهم فلعلّي كنت أهزمه ، فناداه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم من خيمته فقال : «إذا كان اللّه‏ يخزيك» فجاءه العباس فقال : يريد أبو سفيان أن يجيئك يارسول اللّه‏ ، قال : هاته ، فلمّا دخل قال : ألم يأن أن تسلم ؟ فقال له العبّاس : قل وإلاّ فيقتلك ، قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه‏ وأنّك رسول اللّه‏ ، فضحك صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فقال : ردّه إلى عندك ، فقال العبّاس : إنّ أبا سفيان يحبّ الشرف فشرّفه ، فقال : من دخل داره فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن .

فلمّا صلّى بالناس الغداة فقال للعبّاس : «خذه إلى رأس العقبة فأقعده هناك ليراه الناس جنود اللّه‏ ويراها» فقال أبو سفيان : ما أعظم ملك ابن أخيك ؟ قال العبّاس : ياأبا سفيان هي نبوّة ، قال : نعم ، ثمّ قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : تقدّم إلى مكّة فأعلمهم بالأمان ، فلمّا دخلها قالت هند : اقتلوا هذا الشيخ الضالّ ، فدخل النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم مكّة ، وكان وقت الظهر ، فأمر بلالاً فصعد على ظهر الكعبة فأذّن ، فما بقي صنم بمكّة إلاّ سقط على وجهه ، فلمّا سمع وجوه قريش الأذان قال بعضهم في نفسه : الدخول في بطن الأرض أهون من سماع هذا ، وقال آخر : الحمد للّه‏ الذي لم يعش والدي إلى هذا اليوم.

فقال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : «يافلان قد قلت في نفسك كذا ويافلان قلت في نفسك

كذا» فقال أبو سفيان : أنت تعلم أنّي لم أقل شيئا ، قال : اللّهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون.

*غزوة حنين :

>وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ < فإنّه كان سبب غزات حنين ، أنّه لمّا خرج رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم إلى فتح مكّة أظهر أنّه يريد هوازن ، وبلغ الخبر هوازن ، فتهيّؤا وجمعوا الجموع والسلاح ، واجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النضري فرأسوه عليهم ، وخرجوا وساقوا معهم أموالهم ونساءهم وذراريهم ومرّوا حتّى نزلوا بأوطاس ، وكان دريد بن الصمة الجشمي في القوم ، وكان رئيس جشم ، وكان شيخا كبيرا قد ذهب بصره فلمس الأرض بيده فقال : في أيّ واد أنتم ؟ قالوا : بوادي أوطاس ، قال : نعم مجال خيل لا حزن ضرس ولا سهل دهس ، ما لي أسمع رغاء البعير ونهيق الحمار وخوار البقر وثغاء الشاة وبكاء الصبي ، فقالوا : إنّ مالك بن عوف ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وذراريهم ليقاتل كلّ امريء عن نفسه وماله وأهله ، فقال دريد : راعي ضأن وربّ الكعبة ما له وللحرب ؟ ثمّ قال : ادعوا لي مالكا فلما جاءه قال له : يامالك ما فعلت ؟ قال : سقت مع الناس أموالهم ونساءهم ليجعل كل رجل أهله وماله وراء ظهره فيكون أشدّ لحربه . فقال : يامالك إنّك أصبحت رئيس قوم ، وانّك تقاتل رجلاً كريما ، وهذا اليوم لما بعده ، ولم تصنع في تقدمه بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا ، ويحك وهل يلوي المنهزم على شيء ؟ اُردد بيضة هوازن إلى عليا بلادهم وممتنع محالّهم ، وألق الرجال على متون الخيل فإنه لا ينفعك إلاّ رجل بسيفه وفرسه ، فإن كان لك لحق بك من ورائك ، وإن كانت عليك لا تكون قد فضحت في أهلك وعيالك ، فقال له مالك : إنّك قد كبرت وذهب علمك وعقلك ، فلم يقبل من دريد .

وبلغ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم اجتماع هوازن بأوطاس ، فجمع القبائل ورغّبهم في الجهاد ووعدهم النصر وأنّ اللّه‏ قد وعده أن يغنمه أموالهم ونساءهم وذراريهم فرغب الناس وخرجوا على راياتهم ، وعقد اللواء الأكبر ودفعه إلى أمير المؤمنين وكلّ من دخل مكّة براية أمره أن يحملها وخرج في إثني عشر ألف رجل ، عشرة آلاف ممّن كانوا معه . فمضوا حتّى كان من القوم على مسيرة بعض ليلة ، قال : وقال مالك بن عوف لقومه : ليصيّر كلّ رجل منكم أهله وماله خلف ظهره واكسروا جفون سيوفكم وامكثوا في شعاب هذا الوادي وفي الشجر فإذا كان في غلس

 الفجر فاحملوا حملة رجل واحد وهدّوا القوم فإنّ محمّدا لم يلق أحدا يحسن الحرب ، قال : فلمّا صلّى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم الغداة انحدر في وادي حنين وهو واد له انحدار بعيد وكانت بنو سليم على مقدّمته فخرج عليه كتائب هوازن من كلّ ناحية فانهزمت بنو سليم وإنهزم من وراءهم ولم يبق أحد إلاّ انهزم ، وبقي أمير المؤمنين يقاتلهم في نفر قليل ومرّ المنهزمون برسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم لا يلوون على شيء ، وكان العبّاس آخذا بلجام بغلة رسول اللّه‏ عن يمينه وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطّلب عن يساره فأقبل رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ينادي : « يامعشر الأنصار أين ؟ إليَّ أنا رسول اللّه‏ » . فلم يلو أحد عليه ، وكانت نسيبة بنت كعب المازنيّة تحثو في وجوه المنهزمين التراب وتقول : إلى أين تفرّون ؟ عن اللّه‏ وعن رسوله ، ومرّ بها عمر فقالت له : ويلك ما هذا الذي صنعت ؟ فقال لها : هذا أمر اللّه‏ ، فلمّا رأى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم الهزيمة ركض نحو علي بغلته فرآه قد شهر سيفه فقال : ياعباس اصعد هذا الظرب وناد : ياأصحاب البقرة وياأصحاب الشجرة إلى أين تفرّون ؟ هذا رسول اللّه‏ ، ثم رفع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم يده فقال :

>اللّهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان» فنزل عليه جبرئيل فقال : يارسول اللّه‏ دعوت بما دعا به موسى حيث فلق له البحر ونجّاه من فرعون ، ثمّ قال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم لأبي سفيان بن الحارث : ناولني كفّا من حصى ، فناوله فرماه في وجوه المشركين ، ثمّ قال : «شاهت الوجوه» ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال : «اللّهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد» فلمّا سمعت الأنصار نداء العبّاس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم يقولون : لبّيك ، ومرّوا برسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم واستحيوا أن يرجعوا إليه ، ولحقوا بالراية ، فقال رسول اللّه‏ للعبّاس : من هؤلاء ياأبا الفضل ؟ فقال : يارسول اللّه‏ هؤلاء الأنصار ، فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : «الآن حمى الوطيس» أي التنور ، والمراد اشتدّت الحرب ، ونزل النصر من السماء وانهزمت هوازن ، وكانوا يسمعون قعقعة السلاح في الجوّ ، وتفرّقوا في كلّ وجه ، وغنم اللّه‏ رسوله أموالهم ونساءهم وذراريهم ، وهو قول اللّه‏ تعالى : «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍعن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‏السلام قال : قال رجل من بني نضر بن معاوية يقال له شجرة بن ربيعة للمؤمنين وهو أسير في أيديهم : أين الخيل البلق والرجال عليهم الثياب البيض ؟ فإنّما كان قتلنا بأيديهم ، وما كنّا نراكم فيهم إلاّ كهيئة الشامة ، قالوا : تلك الملائكة .

*غزوة الطائف وأوطاس:

لمّا فضّ اللّه‏ تعالى جمع المشركين بحنين تفرّقوا فرقتين ، فأخذت الأعراب ومن تبعهم إلى أوطاس ، وأخذت ثقيف ومن تبعها إلى الطائف ، فبعث النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم أبا عامر الأشعريّ إلى أوطاس في جماعة منهم أبو موسى الأشعري ، وبعث أبا سفيان صخرا إلى الطائف ، فأمّا أبو عامر فإنّه تقدّم بالراية وقاتل حتّى قتل دونها ، فقال المسلمون لأبي موسى : أنت ابن عمّ الأمير وقد قتل فخذ الراية حتّى نقاتل دونها ، فأخذها أبو موسى فقاتل والمسلمون حتّى فتح اللّه‏ عليهم ، وأمّا أبو سفيان فإنّه لقيته ثقيف فضربوه على وجهه فانهزم ورجع إلى النبي ،

فقال : بعثتني مع قوم لا يرفع بهم الدلاء من هذيل والأعراب ، فما أغنوا عنّي شيئا ، فسكت النبي عنه .

ثمّ سار بنفسه إلى الطائف فحاصرهم أيّاما ، وأنفذ أمير المؤمنين في خيل ، وأمره أن يطأ ما وجد ويكسر كلّ صنم وجده ، فخرج حتّى لقيته خيل خثعم في جمع كثير ، فبرز لهم رجل من القوم يقال له شهاب من الصبح فقال : هل من مبارز ؟ فقال أمير المؤمنين : من له ؟ فلم يقم إليه أحد ، فقام إليه أمير المؤمنين عليه‏السلام فوثب أبو العاص بن الربيع زوج بنت النبي فقال : تكفّاه أيّها الأمير ، فقال : لا ، ولكن إن قتلت فأنت على الناس ، فبرز إليه أمير المؤمنين وهو يقول:

 إنّ على كلّ رئيس حقّا  أن يروي الصعدة أو يدقّا ثمّ ضربه وقتله ، ومضى في تلك الخيل حتّى كسر الأصنام ، وعاد إلى رسول اللّه‏ وهو محاصر أهل الطائف ، فلمّا رآه النبي كبّر للفتح ، وأخذ بيده فخلا به وناجاه طويلاً ، فروى عبدالرحمن بن سيّابة عن جابر بن عبداللّه‏ الأنصاري أنّ رسول اللّه‏ لمّا خلى بعلي يوم الطائف أتاه عمر بن الخطّاب فقال : أتناجيه دوننا ؟ وتخلو به دوننا ؟ فقال : ياعمر ما أنا انتجيته بل اللّه‏ انتجاه ، قال : فأعرض عمر ، وهو يقول : هذا كما قلت لنا يوم الحديبيّة : لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء اللّه‏ آمنين ، فلم ندخله وصددنا عنه ، فناداه النبي : لم أقل لكم أنّكم تدخلونه في ذلك العام ، ثمّ خرج من حصن الطائف نافع بن غيلان بن معتّب في خيل من ثقيف فلقيه أمير المؤمنين ببطن وجّ فقتله ، وانهزم المشركون ولحق القوم من الرعب ، فنزل منهم جماعة إلى النبي فأسلموا ، وكان حصار النبي للطائف تسعة عشر يوما

*غزوة تبوك :

ثمّ كانت غزاة تبوك ، فأوحى اللّه‏ عزّ إسمه إلى نبيّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم :

أن يسير إليها بنفسه ويستنفر الناس للخروج معه ، وأعلمه أنّه لا يحتاج فيها إلى حرب ، ولا يمنى بقتال عدوّ ، وإنّ الاُمور تنقاد له بغير سيف ، وتعيده بامتحان أصحابه بالخروج معه واختبارهم ليتميّزوا بذلك وتظهر به سرائرهم ، فاستنفرهم النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم إلى بلاد الروم ، وقد أينعت ثمارهم ، واشتدّ القيظ عليهم ، فأبطأ أكثرهم عن طاعته رغبةً في العاجل وحرصا على المعيشة وإصلاحها ، وخوفا من شدّة القيظ وبعد الشقّة ولقاء العدوّ ، ثمّ نهض بعضهم على استثقال للنهوض وتخلّف آخرون ، ولمّا أراد النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم الخروج استخلف أمير المؤمنين في أهله وولده وأزواجه ومهاجره .

وقال له : ياعلي إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك ، وذلك أنّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم علم من خبث نيّات الأعراب وكثير من أهل مكّة ومن حولها ممّن غزاهم وسفك دماءهم فأشفق أن يطلبوا المدينة عند نأيه عنها

 وحصوله ببلاد الروم أو نحوها ، فمتى لم يكن فيها من يقوم مقامه لم يؤمن من معرّتهم وإيقاع الفساد في دار هجرته والتخطّي إلى ما يشين أهله ومخلّفيه ، وعلم صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم أنّه لا يقوم مقامه في إرهاب العدوّ وحراسة دار الهجرة وحياطة من فيها إلاّ أمير المؤمنين عليه‏السلام ، فاستخلفه استخلافا ظاهرا ، ونصّ عليه بالإمامة من بعده نصّا جليّا ، وذلك فيما تظاهرت به الرواة أنّ أهل النفاق لمّا علموا باستخلاف رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم عليا على المدينة حسدوه لذلك ، وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه ، وعلموا أنّها تتحرّس به ولا يكون فيها للعدوّ مطمع ، فأرجفوا به وقالوا : لم يستخلفه رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم إكراما له وإجلالاً ومودّة وإنّما خلّفه استثقالاً له ، فلمّا بلغ أمير المؤمنين عليه‏السلام ارجاف المنافقين به أراد تكذيبهم ، فلحق بالنبي ، فقال : يارسول اللّه‏ إنّ المنافقين يزعمون أنّك خلّفتني استثقالاً ومقتا ، فقال له النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : «ارجع ياأخي إلى مكانك ، فإنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك ، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي ، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ؟< فتضمّن هذا القول من رسول اللّه‏ نصّه عليه بالإمامة ، وهذه فضيلة لم يشرك فيها أحد من الخلق أمير المؤمنين .

وفي كتاب دلائل النبوّة للشيخ أبي بكر أحمد البيهقي : أخبرنا أبو عبداللّه‏ الحافظ وذكر الإسناد مرفوعا إلى أبي الأسود عن عروة قال:

لمّا رجع رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم قافلاً من تبوك إلى المدينة حتّى إذا كان ببعض الطريق مكر به ناس من أصحابه ، فتأمّروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق أرادوا أن يسلكوها معه ، فاُخبر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم خبرهم ، فقال : من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم ، فأخذ النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم العقبة ، وأخذ الناس بطن الوادي إلاّ النفر الذين أرادوا المكر به ، استعدّوا وتلثّموا ، وأمر رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم حذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر فمشيا معه مشيا ، وأمر عمّار أن يأخذ بزمام الناقة ، وأمر حذيفة بسوقها ، فبينا هم يسيرون إذ سمعوا ركزة القوم من ورائهم قد غشوه ، فغضب رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، وأمر حذيفة أن يردّهم ، فرجع ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم وضربهم ضربا بالمحجن ، وأبصر القوم وهم متلثّمون ، فرعبهم اللّه‏ حين أبصروا حذيفة ، وظنّوا أنّ مكرهم قد ظهر عليه ، فأسرعوا حتّى خالطوا الناس ، وأقبل حذيفة حتّى أدرك رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم ، فلمّا أدركه قال : اضرب الراحلة ياحذيفة ، وامش أنت ياعمّار ، فأسرعوا فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس ، فقال النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : يا حذيفة هل عرفت من هؤلاء الرهط أو الركب أحدا ؟ فقال حذيفة : عرفت راحلة فلان وفلان ، وكان ظلمة الليل غشيتهم وهم متلثّمون ، فقال صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : هل علمتم ما شأن الركب وما أرادوا ؟ قالوا : لا يارسول اللّه‏ ، قال : فإنّهم مكروا ليسيروا معي حتّى إذا أظلمت بي العقبة طرحوني منها ، قالوا : أفلا تأمر بهم يارسول اللّه‏ إذا جاؤك الناس فتضرب أعناقهم ؟ قال : أكره أن يتحدّث الناس ويقولون : إنّ محمّدا قد وضع يده في أصحابه ، فسمّاهم لهما ، ثمّ قال : اكتماهم .

وكان النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم في غزوة تبوك قد ظهر منه معجزات شتّى :

فمنها ؛ أنّه لمّا وصل إلى وادي القرى وقد أمسى بالحجر قال : انّها ستهبّ الليلة ريح شديدة فلا يقومنّ منكم أحد إلاّ مع صاحبه ، ومن كان له بعير فليوثقه بعقاله ، فهاجت ريح شديدة أفزعت الناس ، فلم يقم أحد إلاّ مع صاحبه ، إلاّ رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وآخر لطلب بعير له ، فأمّا الخارج لحاجته فقد خنق في مذهبه ، وأمّا الّذي خرج في طلب البعير فاحتملته الريح فطرحته في جبل طيئ ، ثمّ دعا للّذي اُصيب في مذهبه فعاد إليه ، وأمّا الذي وقع بجبل طيّئ فإنّ طيّئا أهدته للنبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم حين قدم المدينة.

ومنها ؛ أنّه صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم قال : إنّكم ستأتون غدا إن شاء اللّه‏ عين تبوك ، وإنّكم لن تأتوها إلاّ حين يضحى النهار ، فمن جاءها فلا يمسّ من مائها شيئا حتّى آتي ، قال معاذ : فجئناها وقد سبق إليها رجلان من المنافقين ، والعين مثل الشراك تبضّ بشيء يسير من الماء ، فسألهما هل مسستما من ماءها شيئا ؟ فقالا : نعم ، فقال لهما ما شاء أن يقول ، ثمّ أمر فغرفوا من العين قليلاً قليلاً حتّى اجتمع شيء ، ثمّ غسل النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فيه وجهه ويديه ، ثمّ أعاده فيه فجاءت العين بماء كثير ، فاستقى الناس وكفاهم

*غزوة عمرو بن معدي كرب:

لمّا عاد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم من تبوك إلى المدينة قدم إليه عمرو بن معدي كرب ، فقال له النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : أسلم ياعمرو يؤمنك اللّه‏ من الفزع الأكبر ، قال : يامحمّد وما الفزع الأكبر ؟ فإنّي لا أفزع ، فقال ياعمرو : إنّه ليس كما تظنّ وتحسب ، إنّ الناس يصاح بهم صيحة واحدة فلا يبقى ميّت إلاّ نشر ، ولا حيّ إلاّ مات إلاّ ما شاء اللّه‏ ، ثمّ يصاح بهم صيحة اُخرى فينشر من مات ، ويصفّون جميعا ، وتنشقّ السماء ، وتهدّ الأرض ، وتخرّ الجبال هدّا ، وترمي النار بمثل الجبال شررا ، فلا يبقى ذو روح إلاّ انخلع قلبه ، وذكر ذنبه وشغل بنفسه إلاّ من شاء اللّه‏ ، فأين أنت ياعمرو من هذا ، قال : ألا إنّي أسمع أمرا عظيما . فآمن باللّه‏ ورسوله ، وآمن من معه من قومه ناس ورجعوا إلى قومهم ، ثمّ إنّ عمرو بن معدي كرب نظر إلى اُبي بن عثعث الخثعمي فأخذ برقبته ، ثمّ جاء به إلى النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم فقال : أعدني على هذا الفاجر الذي قتل والدي ، فقال رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم : أهدر  الإسلام ما كان في الجاهلية ، فانصرف عمرو مرتدّا ، فأغار على قوم من بني الحارث بن كعب ومضى إلى قومه ، فاستدعى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم علي بن أبي طالب عليه‏السلام ، وأمّره على المهاجرين وأنفذه إلى بني زبيد ، وأرسل خالد بن الوليد في الأعراب ، وأمره أن يعمد لجعفيّ فإذا التقيا فأمير الناس أمير المؤمنين عليه‏السلام .

فسار أمير المؤمنين عليه‏السلام واستعمل على مقدّمته خالد بن سعيد بن العاص ، واستعمل خالد على مقدّمته أبا موسى الأشعري ، فأمّا جعفيّ فإنّها لمّا سمعت بالجيش افترقت فرقتين ؛ فذهبت فرقة إلى اليمن ، وانضمّت الفرقة الاُخرى إلى بني زبيد ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه‏السلام ، فكتب إلى خالد بن الوليد ؛ أن قف حيث أدركك رسولي ، فلم يقف ، فكتب إلى خالد بن سعيد بن العاص ؛ تعرّض له حتّى تحبسه ، فاعترض له خالد حتّى حبسه ، وأدركه أمير المؤمنين عليه‏السلام فعنّفه على خلافه ، ثمّ سار حتّى لقى بني زبيد بواد يقال له : كثر ، فلمّا رآه بنو زبيد قالوا لعمرو : كيف أنت ياأبا ثور إذا لقيك هذا الغلام القرشيّ فأخذ منك الأتاوه ؟ فقال : سيعلم إن لقيني ، قال : وخرج عمرو فقال : من يبارز ؟ فنهض إليه أمير المؤمنين عليه‏السلام ، فقامإليه خالد بن سعيد وقال له : دعني ياأبا الحسن بأبي أنت واُمّي اُبارزه .

فقال له أمير المؤمنين عليه‏السلام : إن كنت ترى أنّ لي عليك طاعة فقف مكانك ، فوقف ، ثمّ برز إليه أمير المؤمنين عليه‏السلام فصاح به صيحة فانهزم عمرو ، وقتل أخوه وابن أخيه وأخذت امرأته ركانة بنت سلامة ، وسبي منهم نسوان وانصرف أمير المؤمنين عليه‏السلام ، وخلف علـى بني زبيد خالد بن سعيد ليقبض صدقاتهم ،

ويؤمّن من عاد إليه من هرابهم مسلما ، فرجع عمرو بن معدي كرب واستأذن على خالد بن سعيد فأذن له فعاد إلى الإسلام .