باب 2- فضل الإنسان و تفضيله على الملك و بعض جوامع أحواله

 الآيات البقرة وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً إلى قوله سبحانه وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ الأنعام وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ الحجر وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ الإسراء وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا الأنبياء خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ الفرقان وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً   الروم اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الأحزاب إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فاطر وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ يس سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ الصافات إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ الزمر خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها المؤمن وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ الرحمن خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ و قال تعالى خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ التغابن هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ البلد لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ التين لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ   العلق اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ تفسير وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ هذه الآيات مما استدل به على تفضيل الإنسان على الملائكة و سيأتي وجه الاستدلال بها مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أي من آدم عليه السلام لأن الله تعالى خلقنا منه جميعا و خلق حواء من فضل طينته أو من ضلع من أضلاعه و من علينا بهذا لأن الناس إذا رجعوا إلى أصل واحد كانوا أقرب إلى التألف فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ أي مستقر في الرحم إلى أن يولد و مستودع في القبر أو مستقر في بطون الأمهات و مستودع في الأصلاب أو مستقر على ظهر الأرض في الدنيا و مستودع عند الله في الآخرة أو مستقرها أيام حياتها و مستودعها حيث يموت و حيث يبعث أو مستقر في القبر و مستودع في الدنيا أو مستقر فيه الإيمان و مستودع يسلب منه كما ورد في الخبر. مِنْ صَلْصالٍ أي طين يابس يصلصل أي يصوت إذا نقر و قيل من صلصل إذا نتن تضعيف صل مِنْ حَمَإٍ من طين تغير و اسود من طول مجاورة الماء مَسْنُونٍ أي مصور من سنة الوجه أو مصبوب لييبس أو مصور كالجواهر المذابة تصب في القوالب من السن و هو الصب كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف فيبس حتى نقر و صلصل ثم غير ذلك طورا بعد طور حتى سواه و نفخ فيه من روحه أو منتن من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فإن ما يسيل منهما يكون منتنا يسمى سنين. وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قال الرازي اعلم أن الإنسان جوهر مركب من النفس و البدن فالنفس الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في العالم السفلى لأن النفس النباتية قواها الأصلية ثلاثة و هي الاغتذاء و النمو و التوليد و النفس الحيوانية لها قوتان أخريان الحاسة و المحركة بالاختيار ثم إن النفس الإنسانية مختصة بقوة أخرى و هي القوة العاقلة المدركة لحقائق الأشياء كما هي و هي التي يتجلى

    فيها نور معرفة الله و يشرق فيها ضوء كبريائه و هو الذي يطلع على أسرار عالمي الخلق و الأمر و يحيط بأقسام مخلوقات الله من الأرواح و الأجسام كما هي و هذه القوة من سنخ الجواهر القدسية و الأرواح المجردة الإلهية فهذه القوة لا نسبة لها في الشرف و الفضل إلى تلك القوى الخمسة النباتية و الحيوانية و إذا كان الأمر كذلك ظهر أن النفس الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في هذا العالم و أما بيان أن البدن الإنساني أشرف أجسام هذا العالم فالمفسرون ذكروا أشياء. أحدها روى ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قال كل شي‏ء يأكل بفيه إلا ابن آدم فإنه يأكل بيديه عن الرشيد أنه أحضرت الأطعمة عنده فدعا بالملاعق و عنده أبو يوسف فقال له جاء في تفسير قوله تعالى وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ و جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فأحضرت الملاعق فردها و أكل بأصابعه. و ثانيها قال الضحاك بالنطق و التميز و تحقيق الكلام أن من عرف شيئا فإما أن يعجز عن تعريف غيره كونه عارفا بذلك الشي‏ء أو يقدر على هذا التعريف أما القسم الأول فهو جملة حال الحيوان سوى الإنسان فإنه إذا حصل في باطنها ألم أو لذة فإنها تعجز عن تعريف غيرها تلك الأحوال تعريفا تاما وافيا و أما القسم الثاني فهو الإنسان فإنه يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه و وقف عليه و أحاط به فكونه قادرا على هذا النوع من التعريف هو المراد بكونه ناطقا و بهذا البيان يظهر أن الإنسان الأخرس داخل في هذا الوصف لأنه و إن عجز عن تعريف غيره ما في قلبه بطريق اللسان فإنه يمكنه ذلك بطريق الإشارة و بطريق الكتابة و غيرهما و لا يدخل فيه الببغاء لأنه و إن قدر على تعريفات قليلة فلا قدرة له على تعريف جميع الأحوال على سبيل الكمال و التمام. و ثالثها قال عطاء بامتداد القامة و اعلم أن هذا الكلام غير تمام لأن

    الأشجار أطول قامة من الإنسان بل ينبغي أن يشرط فيه شرط و هو طول القامة مع استكمال القوة العقلية و القوة الحسية و الحركية. و رابعها قال يمان بحسن الصورة و الدليل عليه قوله تعالى وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ و لما ذكر الله تعالى خلقه الإنسان قال فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ و قال صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً و إن شئت فتأمل عضوا واحدا من أعضاء الإنسان و هو العين فخلق الحدقة سوداء ثم أحاط بذلك السواد بياض العين ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين ثم خلق فوق ذلك السواد بياض الجبهة ثم خلق فوق الجبهة سواد الشعر و ليكن هذا المثال الواحد أنموذجا لك في هذا الباب. و خامسها قال بعضهم من كرامات الآدمي أن آتاه الله الخط و تحقيق الكلام في هذا الباب أن العلم الذي يقدر الإنسان الواحد على استنباطه يكون قليلا أما إذا استنبط الإنسان علما و أودعه في الكتاب و جاء الإنسان الثاني و استعان بهذا الكتاب و ضم إليه من عند نفسه أشياء أخرى ثم لا يزالون يتعاقبون و ضم كل متأخر مباحث كثيرة إلى علوم المتقدمين كثرت العلوم و قويت الفضائل و المعارف و انتهت المباحث العقلية و المطالب الشرعية أقصى الغايات و أكمل النهايات و معلوم أن هذا الباب لا يتأتى إلا بواسطة الخط و الكتب و لهذه الفضيلة الكاملة قال تعالى اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ و سادسها أن أجسام هذا العالم إما البسائط و إما المركبات أما البسائط فهي الأرض و الماء و الهواء و النار و الإنسان ينتفع بكل هذه الأربعة أما الأرض فهي لنا كالأم الحاضنة قال تعالى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى و قد سماه الله تعالى بأسماء بالنسبة إلينا و هي الفراش و المهاد و المهد و أما الماء فانتفاعنا في الشرب و الزراعة و الحراسة ظاهر و أيضا سخر البحر لنأكل لحما طريا و نستخرج منه حلية نلبسها و نرى الفلك مواخر و أما الهواء فهو مادة حياتنا و لو لا هبوب الرياح لاستولى النتن على هذه المعمورة و أما النار فبها طبخ   الأغذية و الأشربة و نضجها و هي قائمة مقام الشمس و القمر في الليالي المظلمة و هي الدافعة لضرر البرد و أما المركبات فهي إما الآثار العلوية و إما المعادن و إما النبات و إما الحيوان و الإنسان كالمستولي على كل هذه الأقسام و المنتفع بها و المستسخر لكل أقسامها فهذا العالم بأسرها جرى مجرى قرية معمورة و خان مغلة و جميع منافعها و مصالحها مصروفة إلى الإنسان و الإنسان فيه كالرئيس المخدوم و الملك المطاع و سائر الحيوانات بالنسبة إليه كالعبيد و كل ذلك يدل على كونه مخصوصا من عند الله بمزيد التكريم و التفضيل. و سابعها أن المخلوقات تنقسم إلى أربعة أقسام إلى ما حصلت له هذه القوة العقلية الحكمية و لم تحصل له القوة الشهوانية و هم الملائكة و إلى ما يكون بالعكس و هم البهائم و إلى ما خلا عن القسمين و هو النبات و الجمادات و إلى ما حصل النوعان فيه و هو الإنسان و لا شك أن الإنسان لكونه مستجمعا للقوة العقلية القدسية و القوة الشهوانية البهيمية و الغضبية السبعية يكون أفضل من البهيمة و السبع و لا شك أيضا أنه أفضل من الأجسام الخالية عن القوتين مثل النبات و المعادن و الجمادات و إذا ثبت ذلك ظهر أن الله تعالى فضل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات بقي هاهنا بحث في أن الملك أفضل من البشر و المعنى أن الجوهر البسيط الموصوف بالقوة العقلية القدسية المحضة أفضل من البشر المستجمع لهاتين القوتين و ذلك بحث آخر. و ثامنها الموجود إما أن يكون أزليا و أبديا معا و هو الله سبحانه و إما أن لا يكون أزليا و لا أبديا و هو عالم الدنيا مع كل ما فيه من المعادن و النبات و الحيوان و هذا أخس الأقسام و إما أن يكون أزليا و لا يكون أبديا و هذا ممتنع الوجود لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه و إما أن لا يكون أزليا و لكنه يكون أبديا و هو

    الإنسان و الملك و لا شك أن هذا القسم أشرف من القسم الثاني و الثالث و ذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر المخلوقات. و تاسعها العالم العلوي أشرف من العالم السفلى و روح الإنسان من جنس الأرواح العلوية و الجواهر القدسية و ليس في موجودات العالم السفلى شي‏ء حصل من العالم العلوي إلا الإنسان فوجب كون الإنسان أشرف موجودات العالم السفلي. و عاشرها أشرف الموجودات هو الله تعالى و إذا كان كذلك فكل موجود كان قربه من الله أتم وجب أن يكون أشرف لكن أقرب موجودات هذا العالم من الله تعالى هو الإنسان بسبب أن قلبه مستنير بمعرفة الله و لسانه مشرف بذكر الله و جوارحه و أعضاؤه مكرمة بطاعة الله فوجب الجزم بأن أشرف موجودات هذا العالم السفلي هو الإنسان و لما ثبت أن الإنسان موجود ممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ثبت أن كلما حصل للإنسان من المراتب العالية و الصفات الشريفة فهي إنما حصلت بإحسان الله و إنعامه فلهذا المعنى قال تعالى وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ و من تمام كرامته على الله أنه لما خلقه في أول الأمر وصف نفسه بأنه أكرم فقال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ و وصف نفسه بالتكريم عند تربية الإنسان فقال وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ و وصف نفسه بالكرم في آخر الأحوال الإنسان فقال يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ و هذا يدل على أنه لا نهاية لكرم الله تعالى و تفضله و إحسانه مع الإنسان. الحادي عشر قال بعضهم هذا التكريم معناه أنه تعالى خلق آدم بيده و خلق غيره بطريق كن فيكون و من كان مخلوقا بيدي الله كانت العناية به أتم فكان أكرم و أكمل و لما جعلنا من أولاده وجب كون بني آدم أكرم و أكمل. وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ قال ابن عباس في البر على الخيل و البغال و الحمير و الإبل و في البحر على السفن و هذا أيضا من مؤكدات التكريم المذكور

    أولا لأنه تعالى سخر هذه الدواب له حتى يركبها و يحمل عليها و يغزو و يقاتل و يذب عن نفسه و كذلك تسخير الله تعالى المياه و السفن و غيرهما ليركبها و ينقل عليها و يتكسب بها بما يختص به ابن آدم كل ذلك مما يدل على أن الإنسان في هذا العالم كالرئيس المتبوع و الملك المطاع. وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ و ذلك لأن الأغذية إما حيوانية و إما إنسانية و كلا القسمين فإن الإنسان إنما يغتذي بألطف أنواعها و أشرف أقسامها بعد التنقية التامة و الطبخ الكامل و النضج البالغ و ذلك مما لا يصلح إلا للإنسان وَ فَضَّلْناهُمْ الفرق بين التفضيل و التكريم أنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل و النطق و الخط و الصورة الحسنة و القامة المديدة ثم إنه تعالى عرضه بواسطة ذلك العقل و الفهم لاكتساب العقائد الحقة و الأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم و الثاني هو التفضيل. عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا لم يقل و فضلناهم على الكل فهذا يدل على أنه حصل في مخلوقات الله تعالى شي‏ء لا يكون الإنسان مفضلا عليه و كل من أثبت هذا القسم قال إنه هو الملائكة فلزم القول بأن الملك أفضل من الإنسان و هذا القول مذهب ابن عباس و اختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط. و اعلم أن هذا الكلام مشتمل على بحثين أحدهما أن الأنبياء أفضل أم الملائكة و قد سبق القول فيه في سورة البقرة. و الثاني أن عوام الملائكة و عوام المؤمنين أيهما أفضل منهم من قال بتفضيل المؤمنين على الملائكة و احتجوا عليه بما روي عن زيد بن أسلم أنه قال قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم دنيا يأكلون فيها و يتنعمون و لم تعطنا ذلك في الآخرة فقال تعالى و عزتي و جلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان فقال أبو هريرة المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده هكذا   أورده الواحدي في البسيط و أما القائلون بأن الملك أفضل من البشر على الإطلاق فقد عولوا على هذه الآية و هو في الحقيقة تمسك بدليل الخطاب انتهى. و قال الطبرسي قدس سره استدل بعضهم بهذا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء قال لأن قوله عَلى كَثِيرٍ يدل على أن هاهنا من لم يفضلهم عليه و ليس إلا الملائكة لأن بني آدم أفضل من كل حيوان سوى الملائكة بالاتفاق و هذا باطل من وجوه أحدها أن التفضيل هاهنا لم يرد به الثواب لأن الثواب لا يجوز التفضيل به ابتداء و إنما المراد بذلك ما فضلهم الله به من فنون النعم التي عددنا بعضها. و ثانيها أن المراد بالكثير الجميع فوضع الكثير موضع الجميع و المعنى أنا فضلناهم على من خلقنا و هم كثير كما يقال بذلت له العريض من جاهي و أبحته المنيع من حريمي و لا يراد بذلك أني بذلت له عريض جاهي و منعته ما ليس بعريض و أبحته منيع حريمي و لم أبحه ما ليس منيعا بل المقصود أني بذلت له جاهي الذي من صفته أنه عريض و في القرآن و محاورات العرب من ذلك ما لا يحصى و لا يخفى ذلك على من عرف كلامهم. و ثالثها أنه إذا سلم أن المراد بالتفضيل زيادة الثواب و أن لفظة من في قوله مِمَّنْ خَلَقْنا تفيد التبعيض فلا يمتنع أن يكون جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم لأن الفضل في الملائكة عام لجميعهم أو أكثرهم و الفضل من بني آدم يختص بقليل من كثير و على هذا فغير منكر أن يكون الأنبياء أفضل من الملائكة و إن كان جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم انتهى. و أقول كلامه ره في هذه الآية مأخوذ مما سننقله عن السيد المرتضى رضي الله عنه.

    خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال البيضاوي كأنه خلقه منه لفرط استعجاله و قلة تأنيه كقولك خلق زيد من الكرم و جعل ما طبع عليه بمنزلة المطبوع هو منه مبالغة في لزومه له و لذلك قيل إنه على القلب و من عجلته مبادرته إلى الكفر و استعجاله الوعيد انتهى و في تفسير علي بن إبراهيم قال لما أجرى الله في آدم الروح من قدميه فبلغت إلى ركبتيه أراد أن يقوم فلم يقدر فقال الله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ. خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً قيل يعني الذي خمر به طينة آدم ثم جعله جزءا من مادة البشر ليجتمع و يسلس و يقبل الإشكال بسهولة أو النطفة فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً أي فقسمه قسمين ذوي نسب أي ذكورا ينسب إليهم و ذوات صهر أي إناثا يصاهر بهن وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً حيث خلق من مادة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة و طباع متباعدة و جعله قسمين متقابلين.

 و روي عن الصادق ع أنه سئل عن هذه الآية فقال إن الله تبارك و تعالى خلق آدم من الماء العذب و خلق زوجته من سنخه فبرأها من أسفل أعضائه فجرى بذلك الضلع بينهما سبب و نسب ثم زوجها إياه فجرى بينهما بسبب ذلك صهر فذلك قوله نَسَباً وَ صِهْراً فالنسب ما كان بسبب الرجال و الصهر ما كان بسبب النساء

و قد أوردنا أخبارا كثيرة في أبواب فضائل أمير المؤمنين ع أنها نزلت في النبي و أمير المؤمنين و تزويج فاطمة صلوات الله عليهم. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ قيل أي ابتدأكم ضعفاء أو خلقكم من أصل ضعيف و هو النطفة ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً و هو بلوغكم الأشد ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً إذا أخذ منكم السن يَخْلُقُ ما يَشاءُ من ضعف و قوة و شيبة.    إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ هذه الآية من المتشابهات و قد اختلف في تأويله المفسرون و الروايات على وجوه الأول أن المراد بالأمانة التكليف بالأوامر و النواهي و المراد بعرضها على السماوات و الأرض و الجبال العرض على أهلها و عرضها عليهم هو تعريفه إياهم أن في تضييع الأمانة الإثم العظيم و كذلك في ترك أوامر الله تعالى و أحكامه فبين سبحانه جرأة الإنسان على المعاصي و إشفاق الملائكة من ذلك فيكون المعنى عرضنا الأمانة على أهل السماوات و الأرض و الجبال من الملائكة و الإنس و الجن فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها أي فأبى أهلهن أن يحملوا تركها و عقابها و المأثم فيها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها أي أشفق أهلهن عن حملها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً لنفسه بارتكاب المعاصي جَهُولًا بموضع الأمانة في استحقاق العقاب على الخيانة فيها فالمراد بحمل الأمانة تضييعها قال الزجاج كل من خان الأمانة فقد حملها و من لم يحمل الأمانة فقد أداها. و الثاني أن معنى عَرَضْنَا عارضنا و قابلنا فإن عرض الشي‏ء على الشي‏ء و معارضته به سواء و المعنى أن هذه الأمانة في جلالة موقعها و عظم شأنها لو قيست السماوات و الأرض و الجبال و عورضت بها لكانت هذه الأمانة أرجح و أثقل وزنا و معنى قوله فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها ضعفن عن حملها كذلك وَ أَشْفَقْنَ مِنْها لأن الشفقة ضعف القلب و لذلك صار كناية عن الخوف الذي يضعف عنده القلب ثم قال إن هذه الأمانة التي من صفتها أنها أعظم من هذه الأشياء العظيمة تقلدها الإنسان فلم يحفظها بل حملها و ضيعها لظلمه على نفسه و لجهله بمبلغ الثواب و العقاب. و الثالث ما ذكره البيضاوي حيث قال تقرير للوعد السابق بتعظيم الطاعة و سماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء و المعنى أنها لعظمة شأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام و كانت ذات شعور و إدراك لأبين أن يحملنها و حملها الإنسان مع ضعف بنيته و رخاوة قوته لا جرم فاز الراعي لها و القائم بحقوقها بخير الدارين إِنَّهُ   كانَ ظَلُوماً

 حيث لم يف بها و لم يراع حقها جَهُولًا بكنه عاقبتها و هذا وصف للجنس باعتبار الأغلب انتهى. و قال الطبرسي قدس سره إنه على وجه التقدير أجرى عليه لفظ الواقع لأن الواقع أبلغ من المقدر معناه لو كانت السماوات و الأرض و الجبال عاقلة ثم عرضت عليها الأمانة و هي وظائف الدين أصولا و فروعا عرض تخيير لاستثقلت ذلك مع كبر أجسامها و شدتها و قوتها و لامتنعت من حملها خوفا من القصور عن أداء حقها ثم حملها الإنسان مع ضعف جسمه و لم يخف الوعيد لظلمه و جهله و على هذا يحمل ما روي عن ابن عباس أنها عرضت على نفس السماوات و الأرض فامتنعت من حملها. و الرابع أن معنى العرض و الإباء ليس هو على ما يفهم بظاهر الكلام بل المراد تعظيم شأن الأمانة لا مخاطبة الجماد و العرب تقول سألت الربع و خاطبت الدار فامتنعت عن الجواب و إنما هو إخبار عن الحال عبر عنه بذكر الجواب و السؤال و تقول أتى فلان بكذب لا تحمله الجبال و قال سبحانه فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ و خطاب من لا يفهم لا يصح فالأمانة على هذا ما أودع الله سبحانه السماوات و الأرض و الجبال من الدلائل على وحدانيته و ربوبيته فأظهرتها و الإنسان الكافر كتمها و جحدها لظلمه و يرجع إليه ما قيل المراد بالأمانة الطاعة التي تعم الطبيعية و الاختيارية و بعرضها استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار و إرادة صدوره من غيره و بحملها الخيانة فيها و الامتناع عن أدائها و منه قولهم حامل الأمانة و محتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته فيكون الإباء عنه أتيانا بما يمكن أن يتأتى منه و الظلم و الجهالة للخيانة و التقصير. و الخامس ما قيل إنه تعالى لما خلق هذه الأجرام فيها فهما و قال لها   إني قد فرضت فريضة و خلقت جنة لمن أطاعني فيها و نارا لمن عصاني فقلن نحن مسخرات على ما خلقتنا لا نحتمل فريضة و لا نبغي ثوابا و لا عقابا و لما خلق آدم عليه السلام عرض عليه مثل ذلك فتحمله و كان ظلوما لنفسه بتحمله ما يشق عليها جهولا بوخامة عاقبته. و السادس ما قيل إن المراد بالأمانة العقل و التكليف و بعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن و بإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة و الاستعداد و بحمل الإنسان قابليته و استعداده لها و كونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية و الشهوية و على هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوتين حافظا لهما عن التعدي و مجاوزة الحد و معظم مقصود التكليف تعديلهما و كسر سورتهما. و السابع أن المراد بالأمانة أداء الأمانة ضد الخيانة أو قبولها و تصحيح تتمة الآية على أحد الوجوه المتقدمة. الثامن أن المراد بالأمانة الإمامة و الخلافة الكبرى و حملها ادعاؤها بغير حق و المراد بالإنسان أبو بكر و قد وردت الأخبار الكثيرة في ذلك أوردتها في كتاب الإمامة و غيرها

 فقد روي بأسانيد عن الرضا ع قال الأمانة الولاية من ادعاها بغير حق كفر

 و قال علي بن إبراهيم الأمانة هي الإمامة و الأمر و النهي عرضت على السماوات و الأرض و الجبال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها قال أبين أن يدعوها أو يغصبوها أهلها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ الأول إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا

 و عن الصادق ع الأمانة الولاية و الإنسان أبو الشرور المنافق

 و عن الباقر ع هي الولاية أبين أَنْ يَحْمِلْنَها كفرا وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ و الإنسان أبو فلان

و مما يدل على أن المراد بها التكليف

 ما روي أن عليا ع كان إذا حضر وقت   الصلاة تغير لونه فسئل عن ذلك فقال حضر وقت أمانة عرضها الله عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها

و مما يدل على كون المراد بها الأمانة المعروفة

 ما في نهج البلاغة في جملة وصاياه للمسلمين ثم أداء الأمانة فقد خاب من ليس من أهلها أنها عرضت على السماوات المبنية و الأرض المدحوة و الجبال ذات الطول المنصوبة فلا أطول و لا أعرض و لا أعظم منها و لو امتنع شي‏ء منها بطول أو عرض أو قوة أو عز لامتنعن و لكن أشفقن من العقوبة و عقلن ما جهل من هو أضعف منهن و هو الإنسان إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا

 و عن الصادق ع أنه سئل عن الرجل يبعث إلى الرجل يقول ابتع لي ثوبا فيطلب في السوق فيكون عنده مثل ما يجد له في السوق فيعطيه من عنده قال لا يقربن هذا و لا يدنس نفسه إن الله عز و جل يقول إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ الآية

و الحق أن الجميع داخل في الآية بحسب بطونها كما قيل إن المراد بالأمانة التكليف بالعبودية لله على وجهها و التقرب بها إلى الله سبحانه كما ينبغي لكل عبد بحسب استعداده لها و أعظمها الخلافة الإلهية لأهلها ثم تسليم من لم يكن من أهلها لأهلها و عدم ادعاء منزلتها لنفسه ثم سائر التكاليف و المراد بعرضها على السماوات و الأرض و الجبال النظر إلى استعدادهن لذلك و بإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عبارة عن عدم اللياقة و تحمل الإنسان إياها تحمله لها من غير استحقاق تكبرا على أهلها أو مع تقصيره بحسب وصف الجنس باعتبار الأغلب فهذه معانيها الكلية و كل ما ورد في تأويلها في مقام يرجع إلى هذه الحقائق كما يظهر عند التدبر و التوفيق من الله سبحانه. قال السيد المرتضى رضي الله عنه في أجوبة المسائل العكبرية حيث سئل عن تفسير هذه الآية أنه لم يكن عرض في الحقيقة على السماوات و الأرض و الجبال بقول صريح أو دليل ينوب مناب القول و إنما الكلام في هذه الآية مجاز أريد به الإيضاح عن عظم الأمانة و ثقل التكليف بها و شدته على الإنسان و أن السماوات و الأرض و الجبال لو كانت مما يقبل لأبت حمل الأمانة و لم تؤد مع ذلك حقها و   نظير ذلك قوله تعالى تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا و معلوم أن السماوات و الأرض و الجبال جماد لا تعرف الكفر من الإيمان و لكن المعنى في ذلك إعظام ما فعله المبطلون و تفوه به الضالون و أقدم به المجرمون من الكفر بالله تعالى و أنه من عظمه جار مجرى ما يثقل باعتماده على السماوات و الأرض و الجبال و أن الوزر به كذلك و كان الكلام في معناه ما جاء به التنزيل مجازا و استعارة كما ذكرناه و مثل ذلك قوله تعالى وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ الآية و معلوم أن الحجارة جماد لا يعلم فيخشى أو يرجو و يؤمل و إنما المراد بذلك تعظيم الوزر في معصية الله تعالى و ما يجب أن يكون العبد عليه من خشية الله تعالى و قد بين الله ذلك بقوله في نظير ما ذكرناه وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ الآية فبين بهذا المثل عن جلالة القرآن و عظم قدره و علو شأنه و أنه لو كان كلام يكون به ما عده و وصفه لكان بالقرآن لعظم قدره على سائر الكلام و قد قيل إن المعنى في قوله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عرضها على أهل السماوات و أهل الأرض و أهل الجبال و العرب يخبر عن أهل الموضع بذكر الموضع و يسميهم باسمه قال الله تعالى وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ يريد أهل القرية و أهل العير و كان العرض على أهل السماوات و أهل الأرض و أهل الجبال قبل خلق آدم و خيروا بين التكليف لما كلفه آدم و بنوه فأشفقوا من التفريط فيه و استعفوا منه فاعفوا فتكلفه الإنسان ففرط فيه و ليست الآية على ما ظنه السائل أنها هي الوديعة و ما في بابها و لكنها التكليف الذي وصفناه و لقوم من أصحاب الحديث الذاهبين إلى الإمامة جواب تعلقوا به من جهة بعض الأخبار و هي أن الأمانة هي الولاية لأمير المؤمنين عليه السلام و إنها عرضت قبل خلق آدم على السماوات و الأرض و الجبال ليأتوا بها على شروطها فأبين من حملها على ذلك خوفا من تضييع الحق فيها و كلفها الناس فتكلفوها و لم يؤد أكثرهم حقها انتهى.

    لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ تعليل للحمل من حيث إنه نتيجة كالتأديب للضرب في ضربته تأديبا و ذكر التوبة في الوعد إشعار بأن كونهم ظلوما جهولا في جبلتهم لا يخليهم عن فرطات وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً حيث تاب على فرطاتهم و أثاب بالفوز على طاعاتهم و كَذلِكَ أي كاختلاف الثمار و الجبال. خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي الأنواع و الأصناف مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من النبات و الشجر وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ الذكر و الأنثى وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ أي و أزواجا مما لم يطلعهم الله عليه و لم يجعل لهم طريقا إلى معرفته و سيأتي تأويل آخر برواية علي بن إبراهيم مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي ممتزج متماسك يلزم بعضه بعضا يقال طين لازب يلزق باليد لاشتداده و قال علي بن إبراهيم يعني يلزق باليد ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها أي من جزئها أو من طينتها أو من نوعها أو لأجلها و لانتفاعها. فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بأن خلقكم منتصب القامة بادي البشرة متناسب الأعضاء و التخطيطات متهيأ لمزاولة الصنائع و اكتساب الكمالات وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي اللذائذ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ قيل إيماء بأن خلق البشر و ما يميز به عن سائر الحيوانات من البيان و هو التعبير عما في الضمير و إفهام الغير لما أدركه لتلقي الوحي و تعرف الحق و تعلم الشرع

 و في تفسير علي بن إبراهيم، عن أبيه عن الحسين بن خالد عن الرضا ع في قوله الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ قال الله علم محمدا القرآن قلت خَلَقَ الْإِنْسانَ قال ذلك أمير المؤمنين قلت عَلَّمَهُ الْبَيانَ قال علمه تبيان كل شي‏ء يحتاج الناس إليه الخبر

 مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ قيل الصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة و الفخار الخزف و قد خلق الله آدم من تراب جعله طينا ثم حمأ مسنونا ثم صلصالا فلا يخالف   ذلك قوله مِنْ تُرابٍ و نحوه. فَمِنْكُمْ كافِرٌ أي يصير كافرا أو كان في علم الله أنه كافر

 و في الكافي، و تفسير علي بن إبراهيم، عن الصادق ع أنه سئل عن تفسير هذه الآية فقال عرف الله إيمانهم بولايتنا و كفرهم بتركها يوم أخذ عليهم الميثاق في صلب آدم و هم ذر

 لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قيل في تعب و مشقة فإنه يكابد مصائب الدنيا و شدائد الآخرة و قال علي بن إبراهيم أي منتصبا و سيأتي تفسيره في الخبر أنه منتصب في بطن أمه. أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما وَ لِساناً يترجم عن ضمائره وَ شَفَتَيْنِ يستر بهما فاه و يستعين بهما على النطق و الأكل و الشرب و غيرها وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ طريقي الخير و الشر و قيل الثديين و أصله المكان المرتفع

 و في الكافي، عن الصادق ع نجد الخير و الشر

 و في مجمع البيان، عن أمير المؤمنين ع سبيل الخير و سبيل الشر

 و عنه ع أنه قيل له إن أناسا يقولون في قوله وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أنهما الثديان فقال لا هما الخير و الشر

 لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ قيل يريد به الجنس فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أي تعديل بأن خص بانتصاب القامة و حسن الصورة و استجماع خواص الكائنات و نظائر سائر الممكنات ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ بأن جعلناه من أهل النار أو إلى أسفل سافلين و هو النار و قيل أرذل العمر

 و قال علي بن إبراهيم نزلت في الأول و في المناقب عن الكاظم ع قال الإنسان الأول ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ببغضه أمير المؤمنين

و أقول على سبيل الاحتمال يمكن أن يكون رده إلى أسفل سافلين ابتلاؤه بالقوى الشهوانية و العلائق الجسمانية فإن روحه كان من عالم القدس فلما ابتلي   بعد التعلق بالبدن بالصفات البهيمية و العلائق الدنية فقد تنزل من أعلى عليين إلى أسفل سافلين فهم باقون في تلك الدركات منهمكون في تلك التعلقات إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم نفضوا عن أذيالهم أدناس تلك النشأة الفانية و اختاروا الدرجات العالية فرجعوا إلى النشأة الأولى و تعلقت أرواحهم بالملإ الأعلى فصاروا أشرف من الملائكة المقربين و سكنوا في غرفات الجنان آمنين. بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ أي جميع المخلوقات على مقتضى حكمته

 و عن الباقر ع خلق نورك القديم قبل الأشياء

 مِنْ عَلَقٍ أي من دم جامد بعد النطفة الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ قال علي بن إبراهيم علم الإنسان بالكتابة التي بها يتم أمور الدنيا في مشارق الأرض و مغاربها عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ من أنواع الهدى و البيان و قال علي بن إبراهيم قال يعني علم عليا من الكتابة لك ما لم يعلم قبل ذلك قيل عدد سبحانه مبدأ الإنسان و منتهاه إظهارا لما أنعم عليه من نقله من أخس المراتب إلى أعلاها تقريرا لربوبيته و تحقيقا لأكرميته. فائدة اعلم أن المسلمين اختلفوا في تفضيل الملائكة على البشر أو العكس فذهب أكثر الأشاعرة إلى أن الأنبياء أفضل من الملائكة و صرح بعضهم بأن عوام البشر من المؤمنين أفضل من عوام الملائكة و خواص الملائكة أفضل من عوام البشر أي غير الأنبياء و ذهب أكثر المعتزلة إلى أن الملائكة أفضل من جميع البشر و لا خلاف بين الإمامية في أن الأنبياء و الأئمة ع أفضل من جميع الملائكة و الأخبار في ذلك مستفيضة أوردناها في كتاب النبوة و سائر مجلدات الحجة و أما سائر المؤمنين ففي فضل كلهم أو بعضهم على جميع الملائكة أو بعضهم فلا يظهر من الآيات و الأخبار ظهورا بينا يمكن الحكم بأحد الجانبين فنحن فيه من المتوقفين. قال الشيخ المفيد قدس الله سره في كتاب المقالات اتفقت الإمامية على أن أنبياء الله و رسله من البشر أفضل من الملائكة و وافقهم على ذلك أصحاب   الحديث و أجمعت المعتزلة على خلاف ذلك و زعم الجمهور منهم أن الملائكة أفضل من الأنبياء و الرسل و قال نفر منهم سوى من ذكرناه بالوقف في تفضيل أحد الفريقين على الآخر و كان اختلافهم في هذا الباب على ما وصفناه و إجماعهم على خلاف القطع بفضل الأنبياء على الملائكة ع حسب ما شرحناه. ثم قال أما الرسل من الملائكة و الأنبياء ع فقولي فيهم مع أئمة آل محمد ع كقولي في الأنبياء و الرسل ع و أما باقي الملائكة فإنهم و إن بلغوا بالملائكة فضلا فالأئمة من آل محمد ع أفضل منهم و أعظم ثوابا عند الله عز و جل بأدلة ليس موضعها هذا الكتاب انتهى. و قال صاحب الياقوت الأنبياء أفضل من الملائكة لاختصاصهم بشرف الرسالة مع مشقة التكليف و قال العلامة قدس سره في شرحه اختلف الناس في ذلك فذهب الإمامية و جماعة من الأشاعرة إلى أن الأنبياء ع أشرف من الملائكة و قالت المعتزلة و الفلاسفة بل الملائكة أشرف و قال الصدوق قدس سره في رسالة العقائد اعتقادنا في الأنبياء و الرسل و الحجج ع أنهم أفضل من الملائكة ثم ذكر الدلائل و بسط القول فيها كما ذكرناه في كتاب الإمامة و قال السيد الشريف المرتضى رضي الله عنه في كتاب الغرر و الدرر في تفضيل الأنبياء على الملائكة ع اعلم أنه لا طريق من جهة العقل إلى القطع بفضل مكلف على الآخر لأن الفضل المراعي في هذا الباب هو زيادة استحقاق الثواب و لا سبيل إلى معرفة مقادير الثواب من ظواهر فعل الطاعات لأن الطاعتين قد تتساوى في ظاهر الأمر حالهما و إن زاد ثواب واحدة على الأخرى زيادة عظيمة و إذا لم يكن للعقل في ذلك مجال فالمرجع فيه إلى السمع فإن دل سمع مقطوع به من ذلك على شي‏ء عول عليه و إلا كان الواجب التوقف عنه و الشك فيه و ليس في القرآن و لا في سمع مقطوع على صحته ما يدل على فضل نبي على ملك و لا ملك على نبي و سنبين أن آية واحدة مما يتعلق به في تفضيل الأنبياء على الملائكة ع يمكن أن يستدل بها

    على ضرب من الترتيب نذكره. و المعتمد في القطع على أن الأنبياء أفضل من الملائكة على إجماع الشيعة الإمامية على ذلك لأنهم لا يختلفون في هذا بل يزيدون عليه و يذهبون إلى أن الأئمة ع أفضل من الملائكة أجمعين و إجماعهم حجة لأن المعصوم في جملتهم و قد بينا في مواضع من كتبنا كيفية الاستدلال بهذه الطريقة و رتبناه و أجبنا عن كل سؤال يسأل عنه فيها و بينا كيف الطريق مع غيبة الإمام إلى العلم بمذاهبه و أقواله و شرحنا ذلك فلا معنى للتشاغل به هاهنا و يمكن أن يستدل على ذلك بأمره تعالى للملائكة بالسجود لآدم ع و أنه يقتضي تعظيمه عليهم و تقديمه و إكرامه و إذا كان المفضول لا يجوز تعظيمه و تقديمه على الفاضل علمنا أن آدم ع أفضل من الملائكة و كل من قال إن آدم أفضل من الملائكة ذهب إلى أن جميع الأنبياء ع أفضل من جميع الملائكة و لا أحد من الأمة فصل بين الأمرين. فإن قيل و من أين أنه أمرهم بالسجود على جهة التقديم و التعظيم. قلنا لا يخلو تعبدهم بالسجود له من أن يكون على سبيل القبلة و الجهة من غير أن يقترن به تعظيم و تقديم أو يكون على ما ذكرناه فإن كان الأول لم يجز أنفة إبليس من السجود و تكبره عنه و قوله أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ و قوله أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ و القرآن كله ناطق بأن امتناع إبليس من السجود إنما هو لاعتقاده التفضيل به و التكرمة فلو لم يكن الأمر على هذا لوجب أن يرده الله تعالى عنه و يعلمه أنه ما أمره بالسجود على وجه تعظيمه له و لا تفضيله بل على الوجه الآخر الذي لا حظ للتفضيل فيه و ما جاز إغفال ذلك و هو سبب معصية إبليس و ضلالته فلما لم يقع ذلك دل على أن الأمر بالسجود لم يكن إلا على جهة التفضيل و التعظيم و كيف يقع شك في أن الأمر على ما ذكرنا و كل نبي أراد تعظيم آدم ع و وصفه بما اقتضى الفخر و الشرف نفسه بإسجاد الملائكة له و جعل   ذلك من أعظم فضائله و هذا مما لا شبهة فيه. فأما اعتماد بعض أصحابنا في تفضيل الأنبياء على الملائكة على أن المشقة في طاعة الأنبياء ع أكثر و أوفر من حيث كانت لهم شهوات في القبائح و نفار عن الواجبات فليس بمعتمد لأنا لا نقطع على أن مشاق الأنبياء أعظم من مشاق الملائكة في التكليف و الشك في مثل ذلك واجب و ليس كل شي‏ء لم يظهر لنا ثبوته وجب القطع على انتفائه و نحن نعلم على الجملة أن الملائكة إذا كانوا مكلفين فلا بد من أن تكون عليهم مشاق في تكليفهم لو لا ذلك ما استحقوا ثوابا على طاعاتهم و التكليف إنما يحسن في كل مكلف تعريضا للثواب و لا يكون التكليف شاقا عليهم إلا و تكون لهم شهوات فيما حظر عليهم و نفار عما أوجب و إذا كان الأمر على هذا فمن أين يعلم أن مشاق الأنبياء ع أكثر من مشاق الملائكة و إذا كانت المشقة عامة لتكليف الأمة و لا طريق إلى القطع على زيادتها في تكليف بعض و نقصانها في تكليف آخرين فالواجب التوقف و الشك و نحن الآن نذكر شبه من فضل الملائكة على الأنبياء ع و نتكلم عليها بعون الله. فمما تعلقوا به في ذلك قوله تعالى حكاية عن إبليس مخاطبا لآدم و حواء ع ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ فرغبهما في التناول من الشجرة في منزلة الملائكة حتى تناولا و عصيا و ليس يجوز أن يرغب عاقل في أن يكون على منزلة هي دون منزلته حتى يحمله ذلك على خلاف الله تعالى و معصيته و هذا يقتضي فضل الملائكة على الأنبياء ع و تعلقوا أيضا بقوله تعالى لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ و تأخير ذكر الملائكة في مثل هذا الخطاب يقتضي تفضيلهم لأن العادة إنما جرت أن يقال لن يستنكف الوزير أن يفعل هذا و لا الخليفة فيقدم الأدون و يؤخر الأعظم و لم تجر بأن يقال لن يستنكف الأمير أن يفعل كذا و لا الحارس و هذا يقتضي تفضيل الملائكة

    على الأنبياء ع و تعلقوا بقوله تعالى وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا قالوا و ليس بعد بني آدم مخلوق يستعمل في الخبر عنه لفظة من التي لا تستعمل إلا في العقلاء إلا الجن و الملائكة و لما لم يقل و فضلناهم على من بل قال على كثير ممن خلقنا علم أنه إنما أخرج الملائكة عمن فضل بني آدم عليه لأنه لا خلاف في بني آدم أنه أفضل من الجن و إذا كان وضع الخطاب يقتضي مخلوقا لم يفضل بنو آدم فلا شبهة في أنهم الملائكة و تعلقوا بقوله تعالى وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ فلو لا أن حال الملائكة أفضل من حال النبي لما قال ذلك فيقال لهم في ما تعلقوا به أولا لم زعمتم أن قوله تعالى إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ معناه أن تصيرا أو تتقلبا إلى صفة الملائكة فإن هذه اللفظة ليست بصريح لما ذكرتم بل أحسن الأحوال أن تكون محتملة له و ما أنكرتم أن يكون المعنى أن المنهي عن تناول الشجرة غيركما و إذا النهي يختص الملائكة و الخالدين دونكما و يجري ذلك مجرى قول أحدنا لغيره ما نهيت عن كذا إلا أن تكون فلانا و إنما يعني أن المنهي هو فلان دونك و لم يرد إلا أن تتقلب فتصير فلانا و لما كان غرض إبليس إيقاع الشبهة لهما فمن أوكد الشبهة إيهامهما أنهما لم ينهيا و إنما المنهي غيرهما و من وكيد ما تفسد به هذه الشبهة أن يقال ما أنكرتم أن يكونا رغبا في أن ينقلا إلى صفة الملائكة و خلقهم كما رغبهما إبليس في ذلك و لا تدل هذه الرغبة على أن الملائكة أفضل منهما لأنه بالتقلب إلى خلقة غيره لا يتقلب و لا يتغير الحقيقة بانقلاب الصورة و الخلق فإنه إنما يستحق الثواب على الأعمال دون الهيئات و غير ممتنع أن   يكونا رغبا في أن يصيرا على الهيئة الملائكة و صورها و ليس ذلك يرغبه في الثواب و لا الفضل فإن الثواب فضل لا يتبع الهيئات و الصور أ لا ترى أنهما رغبا في أن يكونا من الخالدين و ليس الخلود مما يقتضي مزية في ثواب و لا فضلا فيه و إنما هو نفع عاجل و كذلك لا يمتنع أن يكون الرغبة منهما في أن يصيرا ملكين إنما كانت على هذا الوجه. و يمكن أن يقال للمعتزلة خاصة و كل من أجاز على الأنبياء الصغائر ما أنكرتم أن يكونا اعتقدا أن الملك أفضل من النبي و غلطا في ذلك و كان منهما ذنبا صغيرا لأن الصغائر عندكم تجوز على الأنبياء فمن أين لكم إذا اعتقدا أن الملائكة أفضل من الأنبياء و رغبا في ذلك أن الأمر على ما اعتقداه مع تجويزكم عليهم الذنوب و ليس لهم أن يقولوا إن الصغائر إنما تدخل في أفعال الجوارح دون القلوب لأن ذلك تحكم بغير برهان و ليس يمتنع على أصولهم أن تدخل الصغائر في أفعال القلوب و الجوارح معا لأن حد الصغيرة عندهم ما نقص عقابه عن ثواب طاعات فاعله و ليس يمتنع معنى هذا الحد في أفعال القلوب كما لا يمتنع في أفعال الجوارح. و يقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا ما أنكرتم أن يكون هذا القول إنما توجه إلى قوم اعتقدوا أن الملائكة أفضل من الأنبياء فأخرج الكلام على حسب اعتقادهم و أخر ذكر الملائكة لذلك و يجري هذا القول مجرى قول من قال منا لغيره لن يستنكف أبي أن يفعل كذا و لا أبوك و إن كان القائل يعتقد أن أباه أفضل و إنما أخرج الكلام على حسب اعتقاد المخاطب لا المخاطب. و مما يجوز أن يقال أيضا أنه لا تفاوت في الفضل بين الأنبياء و الملائكة و إن ذهبنا إلى أن الأنبياء أفضل منهم و مع التقارب و التداني يحسن أن يؤخر ذكر الأفضل الذي لا تفاوت بينه و بين غيره في الفضل و إنما مع التفاوت و التنافي لا يحسن ذلك أ لا ترى أنه يحسن أن يقول القائل ما يستنكف الأمير فلان من كذا و لا الأمير

    فلان من كذا و إن كانا متساويين متناظرين أو متقاربين و لا يحسن أن يقول ما يستنكف الأمير من كذا و لا الحارس لأجل التفاوت و أقوى من هذا أن يقال إنما أخر ذكر الملائكة عن ذكر المسيح لأن جميع الملائكة أكثر ثوابا لا محالة من المسيح منفردا و هذا لا يقتضي أن كل واحد منهم أفضل من المسيح ع و إنما الخلاف في ذلك. و يقال لهم في ما تعلقوا به ثالثا ما أنكرتم أن يكون المراد بقوله تعالى عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا إنا فضلناهم على من خلقنا و هم كثير و لم يرد التبعيض و يجري ذلك مجرى قوله تعالى وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا معناه لا تشتروا بها ثمنا قليلا فكل ثمن تأخذونه عنها قليل و لم يرد التخصيص و المنع من الثمن القليل خاصة و مثله قول الشاعر

من أناس ليس في أخلاقهم عاجل الفحش و لا سوء الجزع.

 و إنما أراد نفي الفحش كله عن أخلاقهم و إن وصفه بأنه عاجل و نفي الجزع عنهم و إن وصفه بالسوء و هذا من غريب البلاغة و دقيقها و نظائره في الشعر و الكلام الفصيح لا تحصى و قد كنا أملينا في تأويل هذه الآية كلاما منفردا استقصيناه و شرحنا هذا الوجه و أكثرنا من ذكر أمثلته. و وجه آخر في تأويل هذه الآية و هو أنه غير ممتنع أن يكون جميع الملائكة أفضل من جميع بني آدم و إن كان في جملة بني آدم من الأنبياء ع من يفضل كل واحد منهم على كل واحد من الملائكة لأن الخلاف إنما هو في فضل كل بني آدم على كل ملك و غير ممتنع أن يكون جميع الملائكة فضلاء يستحق كل واحد منهم الجزيل الأكثر من الثواب فيزيد ثواب جميعهم على ثواب جميع بني آدم لأن الأفاضل من بني آدم أقل عددا و إن كان في بني آدم آحاد كل واحد منهم أفضل من كل واحد من الملائكة. و وجه آخر و مما يمكن أن يقال في هذه الآية أيضا أن مفهوم الآية إذا تؤملت يقتضي أنه تعالى لم يرد الفضل الذي هو زيادة الثواب و إنما أراد النعم و   المنافع الدنيوية أ لا ترى إلى قوله تعالى وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ و الكرامة إنما هي الترقية و ما يجري مجراه ثم قال وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ و لا شبهة في أن الحمل لهم في البر و البحر و رزق الطيبات خارج مما يستحق به و الثواب و يقتضي التفضيل الذي وقع إطلاقه فيه و يجب أن يكون ما عطف عليه من التفضيل داخلا في هذا الباب و في هذا القبيل فإنه أشبه من أن يكون المراد به غير ما سياق الآية وارد به و مبني عليه و أقل الأحوال أن تكون لفظة فَضَّلْناهُمْ مجتمعة للأمرين فلا يجوز الاستدلال بها على خلاف ما نذهب إليه. و يقال لهم فيما تعلقوا به رابعا لا دلالة في هذه الآية على أن حال الملائكة أفضل من حال الأنبياء لأن الغرض في الكلام إنما هو نفي ما لم يكن عليه لا التفضيل لذلك على ما هو عليه أ لا ترى أن أحدنا لو ظن أنه على صفة و هو ليس عليها جاز أن ينفيها عن نفسه بمثل هذا اللفظ و إن كان على أحوال هي أفضل من تلك الحال و أرفع و ليس يجب إذا انتفى مما تبرأ منه من علم الغيب و كون خزائن الله تعالى عنده أن يكون فيه فضل أن يكون ذلك معتمدا في كل ما يقع النفي له و التبرؤ منه و إذا لم يكن ملكا عنده خزائن الله تعالى جاز أن ينتفي من الأمرين من غير ملاحظة لأن حاله دون هاتين الحالتين. و مما يوضح هذا و يزيل الإشكال فيه أنه تعالى حكى عنه قوله في آية أخرى وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً و نحن نعلم أن هذه منزلة غير جليلة و هو على كل حال أرفع منها و أعلى فما المنكر أن يكون نفي الملكية عنه في أنه لا يقتضي أن حاله دون حال الملك بمنزلة نفي هذه المنزلة و التعلق بهذه الآية ضعيف جدا و فيما أوردناه كفاية و بالله التوفيق انتهى. و ذكر رضي الله عنه نحوا من هذا في أجوبة المسائل التي وردت عليه من الري. و قال الدواني في شرح العقائد هم أي الأنبياء أفضل من الملائكة العلوية عند

    أكثر الأشاعرة و من الملائكة السفلية بالاتفاق و عامة البشر من المؤمنين أيضا أفضل من عامة الملائكة و عند المعتزلة و أبي عبد الله الحليمي و القاضي أبي بكر منا الملائكة أفضل و المراد بالأفضل أكثر ثوابا و ذلك أن عبادة الملائكة فطرية لا مزاحم لهم عنها بخلاف عبادة البشر فإن لهم مزاحمات فتكون عبادتهم أشق و قال النبي ص أفضل الأعمال أضرها أي أشقها. قلت و على هذا يندفع ما يتوهم أن إساءة الأدب مع الملائكة كفر و مع آحاد المؤمنين ليس بكفر فتكون الملائكة أفضل لأن ذلك يدل على أن كون الملك أشرف بسبب كثرة مناسبته مع المبدأ في النزاهة و قلة الوسط لا على أنه أفضل بمعنى كونه أكثر ثوابا. و قال شارح المقاصد ذهب جمهور أصحابنا و الشيعة إلى أن الأنبياء أفضل من الملائكة خلافا للمعتزلة و القاضي و أبي عبد الله الحليمي و صرح بعض أصحابنا بأن عوام البشر من المؤمنين أفضل من عوام الملائكة و خواص الملائكة أفضل من عوام البشر أي غير الأنبياء لنا وجوه عقلية و نقلية. الأولى أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم و الحكيم لا يأمر بسجود الأفضل للأدنى و إباء إبليس و استكباره و التعليل بأنه خير من آدم لكونه من نار و آدم من طين يدل أن المأمور به كان سجود تكرمة و تعظيم لا سجود تحية و زيارة و لا سجود الأعلى للأدنى إعظاما له و رفعا لمنزلته و هضما لنفوس الساجدين. الثاني أن آدم أنبأهم بالأسماء و بما علمه الله من الخصائص و المعلم أفضل من المتعلم و سوق الآية ينادي على أن الغرض إظهار ما خفي عليهم من أفضلية آدم و دفع ما توهموا فيه من النقصان و لذا قال تعالى أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و بهذا يندفع ما يقال إن لهم أيضا علوما جمة أضعاف العلم بالأسماء   لما شاهدوا من اللوح و حصلوا في الأزمنة المتطاولة بالتجارب و الأنظار المتوالية. الثالث قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ و قد خص من آل إبراهيم و آل عمران غير الأنبياء بدليل الإجماع فيكون آدم و نوح و جميع الأنبياء مصطفون على العالمين الذين منهم الملائكة إذ لا مخصص للملائكة من العالمين و لا جهة لتفسيره بالكثير من المخلوقات. الرابع أن للبشر شواغل عن الطاعات العلمية و العملية كالشهوة و الغضب و سائر الحاجات الشاغلة و الموانع الخارجة و الداخلة فالمواظبة على العبادات و تحصيل الكمالات بالقهر و الغلبة على ما يضاد القوة العاقلة يكون أشق و أفضل و أبلغ في استحقاق الثواب و لا معنى للأفضلية سوى استحقاق الثواب و الكرامة. لا يقال لو سلم انتفاء الشهوة و الغضب و سائر الشواغل في حق الملائكة فالعبادة مع كثرة البواعث و الشواغل إنما يكون أشق و أفضل من الأخرى إذا استويا في المقدار و باقي الصفات و عبادة الملائكة أكثر و أدوم فإنهم يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ و الإخلاص الذي به القوام و النظام و اليقين الذي هو الأساس و التقوى التي هي الثمرة فيهم أقوى و أقوم لأن طريقهم العيان لا البيان و المشاهدة لا المراسلة لأنا نقول انتفاء الشواغل في حقهم مما لا ينازع فيه أحد و وجود المشقة و الألم في العبادة و العمل عند عدم المنافي و المضاد مما لا يعقل قلت أو كثرت و كون باقي الصفات في حق الأنبياء أضعف و أدنى مما لا يسمع و لا يقبل و قد يتمسك بأن للملائكة عقلا بلا شهوة و للبهائم شهوة بلا عقل و للإنسان كليهما فإذا ترجح شهوته على عقله يكون أدنى من البهائم لقوله تعالى بَلْ هُمْ أَضَلُّ فإذا ترجح عقله على شهوته يجب أن يكون أعلى من الملائكة و هذا عائد إلى ما سبق لأن تمام تقريره هو أن الكافر آثر النقصان مع التمكن من الكمال و كل من فعل كذا فهو أضل

    و أرذل ممن آثره بدونه لأن إيثار الشي‏ء مع وجود المضاد و المنافي أرجح و أبلغ من إيثاره بدونه فيلزم أن يكون من آثر الكمال مع التمكن من النقصان أفضل و أكمل ممن آثره بدونه. و أما التمسك بقوله تعالى وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ و التكريم المطلق لأحد الأجناس يشعر بفضله على غيره فضعيف لأن التكريم لا يوجب التفضيل سيما مع قوله تعالى وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا فإنه يشير بعدم التفضيل على القليل و ليس غير الملائكة بالإجماع كيف و قد وصف الملائكة أيضا بأنهم عِبادٌ مُكْرَمُونَ. ثم قال و احتج المخالفون أيضا بوجوه نقلية و عقلية أما النقليات فمنها قوله تعالى وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ خصهم بالتواضع و ترك الاستكبار في السجود و فيه إشارة إلى أن غيرهم ليس كذلك و أن أسباب التكبر و التعظم حاصلة لهم و وصفهم باستمرار الخوف و امتثال الأوامر و من جملتها اجتناب المنهيات. و منها قوله تعالى وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ وصفهم بالقرب و الشرف عنده و بالتواضع المواظبة على الطاعة و التسبيح. و منها قوله تعالى بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ إلى أن قال وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وصفهم بالكرامة المطلقة و الامتثال و الخشية و هذه الأمور أساس كافة الخيرات. و الجواب أن جميع ذلك إنما يدل على فضيلتهم لا على أفضليتهم لا سيما على الأنبياء.   و منها قوله تعالى قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ فإن مثل هذا الكلام إنما يحسن إذا كان الملك أفضل. و الجواب أنه إنما قال ذلك حين استعجله قريش العذاب الذي أوعدوا به بقوله تعالى وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ و المعنى أني لست بملك حتى يكون لي القوة و القدرة على إنزال العذاب بإذن الله كما كان لجبرئيل ع أو يكون له العلم بذلك بإخبار من الله تعالى بلا واسطة. و منها قوله تعالى ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أي إلا كراهة أن تكونا ملكين يعني أن الملائكة بالمرتبة العليا و في الأكل من الشجرة ارتقاء إليهما. و الجواب أن ذلك تمويه من الشيطان و تخييل أن ما يشاهد في الملك من حسن الصورة و عظم الخلق و كمال القوة يحصل بأكل الشجرة و لو سلم فغايته التفضيل على آدم قبل النبوة. و منها قوله تعالى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى يعني جبرئيل ع و المعلم أفضل من المتعلم. و الجواب أن ذلك بطريق التبليغ و إنما تعليم من الله تعالى. و منها قوله تعالى لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ أي لا يترفع عيسى من العبودية و لا من هو أرفع منه درجة كقولك لن يستنكف من هذا الأمر الوزير و لا السلطان و لو عكست أحلت بشهادة علماء البيان و البصراء بأساليب الكلام و عليه قوله تعالى وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى

    أي مع أنهم أقرب مودة لأهل الإسلام و لهذا خص الملائكة بالمقربين منهم لكونهم أفضل. و الجواب أن الكلام سيق لرد مقالة النصارى و غيرهم في المسيح و ادعائهم فيه مع النبوة البنوة بل الألوهية و الترفع عن العبودية لكونه روح الله ولد بلا أب لكونه يبرئ الأكمه و الأبرص و المعنى لا يترفع عيسى عن العبودية و لا من هو فوقه في هذا المعنى و هم الملائكة الذين لا أب لهم و لا أم و لا يقدرون على ما لا يقدر عليه عيسى ع و لا دلالة على الأفضلية بمعنى كثرة الثواب و سائر الكمالات أ لا ترى أن فيما ذكرت من المثال لم يقصد الزيادة و الرفعة في الفضل و الشرف و الكمال بل في ما هو مظنة الاستنكاف و الرضا كالغلبة و الاستكبار و الاستعلاء في السلطان و قرب المودة في النصارى. و منها اطراد تقديم ذكر الملائكة على ذكر الأنبياء و الرسل و لا تعقل له جهة سوى الأفضلية. و الجواب أنه يجوز أن يكون بجهة تقدمهم في الوجود أو في قوة الإيمان بهم و الاهتمام به لأنه أخفى فالإيمان بهم أقوى و بالتحريص عليه أحرى. و أما العقليات فمنها أن الملائكة روحانيات مجردة في ذاتها متعلقة بالهياكل العلوية مبرأة عن ظلمة المادة و عن الشهوة و الغضب اللذين هما مبدءا الشرور و القبائح متصفة بالكمالات العلمية و العملية بالفعل من غير شوائب الجهل و النقص و الخروج عن القوة إلى الفعل على التدريج و من احتمال الغلط قوية على الأفعال العجيبة و إحداث السحب و الزلازل و أمثال ذلك مطلعة على أسرار الغيب سابقة إلى أنواع الخير و لا كذلك حال البشر. و الجواب أن مبني ذلك على قواعد الفلسفة دون الملة. و منها أن أعمالهم الموجبة للمثوبات أكثر لطول زمانهم و أدوم لعدم تخلل الشواغل و أقوم لسلامتها عن مخالطة المعاصي المنقصة للثواب و علومهم أكمل و أكثر لكونهم نورانيين يشاهدون اللوح المحفوظ المنتقش بالكائنات و أسرار المغيبات.   و الجواب أن هذا لا يمنع كون أعمال الأنبياء و علومهم أفضل و أكثر ثوابا لجهات أخر كقهر المضاد و المنافي و تحمل المتاعب و المشاق و نحو ذلك على ما مر انتهى. و أقول و العمدة في ذلك الأخبار الكثيرة الدالة على فضل الأنبياء و الأئمة ع على الملائكة و إن كان فيها ما يوهم خلاف ذلك و هي متفرقة في أبواب مجلدات الحجة لم نوردها هاهنا حذرا من الإطناب و حجم الكتاب

1-  الاحتجاج، في ما سأل الزنديق الصادق ع الرسول أفضل أم الملك المرسل إليه قال ع بل الرسول أفضل

2-  مجالس ابن الشيخ، عن أبيه عن جماعة عن أبي المفضل الشيباني عن علي بن محمد بن الحسن النخعي عن جده سليم بن إبراهيم بن عبيد عن نصر بن مزاحم المنقري عن إبراهيم بن الزبرقان عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن أبيه ع في قوله تعالى وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ يقول فضلنا بني آدم على سائر الخلق وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ يقول على الرطب و اليابس وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يقول من طيبات الثمار كلها وَ فَضَّلْناهُمْ يقول ليس من دابة و لا طائر إلا هي تأكل و تشرب بفيها لا ترفع بيدها إلى فيها طعاما و لا شرابا غير ابن آدم فإنه يرفع إلى فيه بيده طعامه فهذا من التفضيل

 بيان لعله أراد بالرطب الحيوانات المتحركة النامية و باليابس الأخشاب اليابسة التي تعمل منها السفن و يحتمل كون النشر على خلاف ترتيب اللف فالرطب البحر و اليابس البر

3-  مجالس ابن الشيخ، عن أبيه عن جماعة عن أبي المفضل عن أحمد بن الحسن بن هارون عن يحيى بن السري الضرير عن محمد بن حازم أبي معاوية الضرير قال دخلت على هارون الرشيد قيل لي و كانت بين يديه المائدة فسألني عن تفسير هذه الآية وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ   الآية فقلت يا أمير المؤمنين قد تأولها جدك عبد الله بن عباس أخبرني الحجاج بن إبراهيم الخوزي عن ميمون بن مهران عن ابن عباس في هذه الآية وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ قال كل دابة تأكل بفيها إلا ابن آدم فإنه يأكل بالأصابع قال أبو معاوية فبلغني أنه رمى بملعقة كانت بيده من فضة و تناول من الطعام بإصبعه

4-  و منه، عن أبيه عن جماعة عن أبي المفضل عن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن حجاج بن تميم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله تعالى عز و جل وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ إلى قوله تَفْضِيلًا قال ليس من دابة إلا و هي تأكل بفيها إلا ابن آدم فإنه يأكل بيده

5-  العلل، عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن الحكم عن عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق ع فقلت الملائكة أفضل أم بنو آدم فقال قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع إن الله عز و جل ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة و ركب في البهائم شهوة بلا عقل و ركب في بني آدم كلتيهما فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة و من غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم

6-  صحيفة الرضا، بالإسناد عنه ع عن آبائه ع قال قال رسول الله ص مثل المؤمن عند الله كمثل ملك مقرب و إن المؤمن عند الله عز و جل أعظم من الملك و ليس شي‏ء أحب إلى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة

7-  و منه، بهذا الإسناد قال قال رسول الله ص إن المؤمن ليعرف في السماء   كما يعرف الرجل أهله و ولده و إنه أكرم عند الله عز و جل من ملك مقرب

8-  العياشي، عن جابر عن أبي جعفر ع في قوله تعالى وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا قال خلق كل شي‏ء منكبا غير الإنسان فإنه خلق منتصبا

9-  الكافي، عن العدة عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن غالب بن عثمان عن بشير الدهان عن أبي عبد الله ع قال قال الله عز و جل يا ابن آدم اذكرني في ملإ أذكرك في ملإ خير من ملئك

10-  و منه، بالإسناد المتقدم عن ابن فضال رفعه قال قال الله عز و جل لعيسى ع يا عيسى اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي و اذكرني في ملئك أذكرك في ملإ خير من ملإ الآدميين

 بيان ربما يستدل بالخبرين على كون الملائكة أفضل من بني آدم و يمكن أن يجاب بأن خيرية ملإ الملائكة باعتبار كون الجميع معصومين بخلاف ملإ البشر لا ينافي كون بعض البشر أفضل من الملائكة على أنه يمكن أن يكون المراد بالملإ الثاني ما يشتمل على أرواح النبيين ع لكن وقع التصريح في بعض الأخبار بملإ من الملائكة

11-  كتاب تفضيل أمير المؤمنين، الكراجكي عن علي بن الحسن بن مندة عن الحسن بن يعقوب البزاز عن علي بن إبراهيم عن أبيه قال لما حمل المأمون أبا هدية مولى أنس إلى خراسان بلغني ذلك فخرجت في لقائه فصادفني في بعض المنازل فرأيت رجلا طويلا خفيف العارضين منحنيا من الكبر و قد اجتمع عليه الناس فقلت له حدثني رحمك الله فإني أتيتك من بلد بعيد أسمع منك فلم يحدثني من الزحمة التي كانت عليه ثم رحل فتبعته إلى المرحلة الأخرى فلما نزل أتيته فقلت له حدثني   رحمك الله تعالى قال أنت صاحبي بالأمس قلت نعم قال إذا و الله لا أحدثك إلا قائما لما بدا مني إليك لأني سمعت رسول الله ص يقول من كان عنده علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار ثم قام قائما و قال كنت رأيت مولاي أنس بن مالك و هو معصب بعصابة بيضاء فقلت و ما هذه العصابة قال هذه دعوة علي بن أبي طالب فقلت و كيف فقال أهدي إلى رسول الله ص طائر و رسول الله ص في بيت أم سلمة رضي الله عنها و أنا حينئذ أحجب رسول الله ص فأصلحته أم سلمة رضي الله عنها و أتت به رسول الله ص و قالت أم سلمة الزم الباب لينال رسول الله ص منه فلزمت الباب و قدمته إلى النبي ص فلما وضعته بين يديه رفع رسول الله ص يديه و قال اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر فسمعت دعوة رسول الله ص و أحببت أن يكون رجلا من قومي فأتى علي بن أبي طالب فقلت إن رسول الله عنك مشغول فانصرف ثم دعا رسول الله ص ثانية و قال اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر فأتى علي بن أبي طالب فقلت إن رسول الله عنك مشغول فانصرف ثم رفع رسول الله ص رأسه و دعا ثالثة و قال يا رب ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر فأتى علي فقلت رسول الله عنك مشغول فقال و ما يشغل رسول الله ص عني و دفعني فدخل فلما رآه رسول الله ص قبل ما بين عينيه و قال يا أخي من الذي حبسك عني و قد دعوت الله ثلاثا أن يأتيني بأحب خلقه إليه يأكل معي من هذا الطائر فقال يا رسول الله قد جئت ثلاثا كل ذلك يردني أنس فقال لم رددت عليا فقلت يا رسول الله إني سمعت دعوتك فأحببت أن يكون رجلا من الأنصار فأفتخر به إلى الأبد فقال علي ع اللهم ارم أنسا بوضح لا يستره من الناس فظهر علي هذا الذي ترى و هي دعوة علي

 بيان في سائر الأخبار أن دعوة أمير المؤمنين ع عليه حين استشهده فأبى أن يشهد و هذا من الأخبار المتواترة و مما احتج به يوم الشورى فصدقوه و يدل على أنه ع أفضل جميع خلق الله و خرج الرسول ص بالإجماع و النصوص المتواترة   فيدل على فضله على الملائكة و كل من قال بفضله قال بفضل سائر الأئمة و جميع الأنبياء ع فثبت فضل الجميع

12-  و من الكتاب المذكور، عن محمد بن أحمد بن شاذان عن طلحة بن أحمد عن عبد الحميد القناد عن هشام بن بشير عن ابن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله ص علي أفضل من خلق الله غيري و الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة و أبوهما خير منهما و إن فاطمة سيدة نساء العالمين و لو أن لفاطمة خيرا من علي لم أزوجها منه

13-  و منه، عن ابن شاذان عن محمد بن عبد الله عن جعفر بن علي الدقاق عن عبد الله بن محمد الكاتب عن سليمان بن الربيع عن نصر بن مزاحم عن علي بن عبد الله عن الأشعث عن مرة عن أبي ذر قال نظر النبي ص إلى علي بن أبي طالب ع فقال خير الأولين و الآخرين من أهل السماوات و الأرضين هذا سيد الصديقين و سيد الوصيين و إمام المتقين و قائد الغر المحجلين إذا كان يوم القيامة جاء على ناقة من نوق الجنة قد أضاءت القيامة من نورها على رأسه تاج مرصع بالزبرجد و الياقوت فتقول الملائكة هذا ملك مقرب و يقول النبيون هذا نبي مرسل فينادي مناد من تحت بطنان العرش هذا الصديق الأكبر هذا وصي حبيب الله رب العالمين هذا علي بن أبي طالب ع فيجي‏ء علي حتى يقف على متن جهنم فيخرج منها من يحب و يأتي أبواب الجنة فيدخل فيها أولياءه بغير حساب

14-  و منه، عن ابن شاذان عن الحسن بن أحمد عن أبي بكر بن محمد عن عيسى بن مهران عن عيسى بن عبد الحميد عن قيس بن الربيع عن الأعمش عن عباية عن حميد المغربي قال قال أمير المؤمنين ع قال رسول الله ص أنا سيد الأولين و الآخرين و أنت يا علي سيد الخلائق بعدي أولنا كآخرنا

 أقول الاستدلال بهذه الأخبار بتقريب ما مر

    -15  و من الكتاب المذكور، عن ابن شاذان عن جعفر بن محمد بن مسروق اللحام عن حسين بن محمد عن أحمد بن علوية عن إبراهيم بن محمد الثقفي عن عبد الله بن صالح عن حريز بن عبد الحميد عن مجاهد عن ابن عباس قال سمعت رسول الله ص يقول لما أسري بي إلى السماء ما مررت بملإ من الملائكة إلا سألتني عن علي بن أبي طالب حتى ظننت أن اسم علي بن أبي طالب في السماوات أشهر من اسمي فلما بلغت السماء الرابعة و نظرت إلى ملك الموت قال لي يا محمد ما خلق الله خلقا إلا و أنا أقبض روحه إلا أنت و علي فإن الله جل جلاله يقبض أرواحكما بقدرته و جزت تحت العرش إذ أنا بعلي بن أبي طالب واقفا تحت العرش فقلت يا علي سبقتني فقال جبرئيل من هذا الذي تكلمه يا محمد فقلت هذا علي بن أبي طالب فقال يا محمد ليس هذا علي بن أبي طالب و لكنه ملك من الملائكة خلقه الله تعالى على صورة علي بن أبي طالب ع فنحن الملائكة المقربون كلما اشتقنا إلى وجه علي بن أبي طالب ع زرنا هذا الملك لكرامة علي بن أبي طالب على الله سبحانه

 أقول دلالته أولا و آخرا على فضله لا يخفى على المتأمل و دلت عليه الأخبار المستفيضة الدالة على مباهاة الله به ع ليلة المبيت و يوم أحد و قول جبرئيل ع أنا منكما

16-  العيون، و العلل، و كمال الدين، عن الحسن بن محمد بن سعيد الهاشمي عن فرات بن إبراهيم عن ابن عقدة عن العباس بن عبد الله البخاري عن محمد بن القاسم بن إبراهيم عن أبي الصلت الهروي عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين ع قال قال رسول الله ص ما خلق الله عز و جل خلقا أفضل مني و لا أكرم عليه مني قال علي ع فقلت يا رسول الله فأنت أفضل أو جبرئيل فقال ص يا علي إن الله تبارك و تعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين و فضلني على جميع النبيين و المرسلين و الفضل بعدي لك يا علي و للأئمة ع من بعدك و إن الملائكة لخدامنا و خدام محبينا يا علي الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ   يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ... وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا بولايتنا يا علي لو لا نحن ما خلق آدم و لا حواء و لا الجنة و لا النار و لا السماء و لا الأرض فكيف لا نكون أفضل من الملائكة و قد سبقناهم إلى معرفة ربنا و تسبيحه و تهليله و تقديسه و ساق الحديث إلى قوله فكيف لا نكون أفضل من الملائكة و قد سجدوا لآدم كلهم أجمعون لكوننا في صلبه و إنه لما عرج بي إلى السماء أذن جبرئيل مثنى مثنى و أقام مثنى مثنى ثم قال لي تقدم يا محمد فقلت له يا جبرئيل أ تقدم عليك فقال نعم لأن الله تبارك و تعالى فضل أنبياءه على الملائكة أجمعين و فضلك خاصة إلى آخر الخبر بطوله

17-  العلل، بإسناده إلى عمرو بن جميع عن أبي عبد الله ع قال كان جبرئيل ع إذا أتى النبي ص قعد بين يديه قعدة العبيد و كان لا يدخل حتى يستأذنه

18-  الاحتجاج، و تفسير الإمام، قال سأل المنافقون النبي ص فقالوا يا رسول الله أخبرنا عن علي هو أفضل أم ملائكة الله المقربون فقال رسول الله ص و هل شرفت الملائكة إلا بحبها لمحمد و علي و قبولها لولايتهما إنه لا أحد من محبي علي نظف قلبه من قذر الغش و الدغل و الغل و نجاسة الذنوب إلا كان أطهر و أفضل من الملائكة الخبر

19-  كمال الدين، بإسناده إلى الرضا ع قال قال رسول الله ص أنا سيد من خلق الله و أنا خير من جبرئيل و إسرافيل و حملة العرش و جميع الملائكة المقربين و أنبياء الله المرسلين الحديث

    و أقول الأخبار في ذلك كثيرة قد أوردناها في أبواب فضائل النبي ص و الأئمة ع فيرجع إليها.

تذييل

 قال السيد الأجل المرتضى في كتاب الغرر بعد أن سئل عن تفسير قوله تعالى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قد ذكر في هذه الآية وجوه من التأويل نحن نذكرها و نرجح الأرجح منها فأولها أن يكون معنى القول المبالغة في وصف الإنسان بكثرة العجلة و أنه شديد الاستعجال لما يؤثره من الأمور لهج باستدناء ما يجلب إليه نفعا أو يدفع عنه ضررا و لهم عادة في استعمال مثل هذا اللفظ عند المبالغة كقولهم لمن يصفونه بكثرة النوم ما خلقت إلا من نوم و ما خلق فلان إلا من شر إذا أرادوا كثرة وقوع الشر منه و ربما قالوا إنما أنت أكل و شرب و ما أشبه ذلك قالت الخنساء تصف بقرة

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت و إنما هي إقبال و إدبار.

 و إنما أرادت ما ذكرناه من كثرة وقوع الإقبال و الإدبار منها و يشهد لهذا التأويل قوله عز و جل في موضع آخر وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا و يطابقه أيضا قوله تعالى فَلا تَسْتَعْجِلُونِ لأن وصفهم بكثرة العجلة و أن من شأنهم فعلها توبيخا لهم و تقريعا ثم نهاهم عن الاستعجال باستدعاء الآيات من حيث كانوا متمكنين من مفارقة طريقتهم في الاستعجال و قادرين على التثبت و التأيد. و ثانيها ما أجاب به أبو عبيدة و قطرب بن المستنير و غيرهما من أن في الكلام قلبا و المعنى خلق العجل من الإنسان و استشهدوا على ذلك بقوله سبحانه وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي قد بلغت الكبر و بقوله تعالى ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ و المعنى أن العصبة تنوء بها و تقول العرب عرضت الناقة على الحوض و إنما هو عرضت الحوض على الناقة ثم ذكر ره شواهد و أبياتا كثيرة في ذلك ثم قال و يبقى على صاحب هذا الجواب مع التغاضي له عن حمل كلامه تعالى على القلب أن   يقال و ما المعنى و الفائدة في قوله عز و جل خلق العجل من الإنسان أ تريدون بذلك أن الله تعالى خلق العجلة في الإنسان و هذا لا يجوز لأن العجلة فعل من أفعال الإنسان فكيف تكون مخلوقة فيه لغيره و لو كان كذلك لما جاز أن ينهاهم عن الاستعجال في الآية فيقول سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ لأنه لا ينهاهم عما خلقه فيهم فإن قالوا لم يرد أنه تعالى خلقها لكنه أراد كثرة فعل الإنسان لها و أنه لا يزال يستعملها قيل لهم هذا هو الجواب الذي قدمناه من غير حاجة إلى القلب و التقديم و التأخير و إذا كان هذا المعنى يتم و ينتظم على ما ذكرناه من غير قلب فلا حاجة بنا إليه و قد ذكر أبو القاسم البلخي هذا الجواب في تفسيره و اختاره و قواه و سأل نفسه عنه و قال كيف جاز أن يقول فَلا تَسْتَعْجِلُونِ و هو خلق العجلة فيهم و أجاب بأنه قد أعطاهم قدرة على مغالبة طبائعهم و كفها و قد يكون الإنسان مطبوعا عليها و هو مع ذلك مأمور بالتثبت قادر على أن يجانب العجلة و ذلك كخلقه في البشر شهوة النكاح و أمرهم في كثير من الأوقات بالامتناع منه و هذا الذي ذكره البلخي تصريح بأن المراد بالعجل غيره و هو الطبع الداعي إليه و الشهوة المتناولة له و يجب أيضا أن يكون المراد بمن هاهنا في لأن شهوة العجل لا تكون مخلوقة من الإنسان و إنما تكون فيه و هذا تجوز على تجوز و توسع على توسع لأن القلب أولا مجاز ثم هو من بعيد المجاز و ذكر العجل و المراد به غيره مجاز آخر و إقامة من مقام في كذلك على أنه تعالى إذا نهاهم عن العجلة بقوله عز و جل فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أي معنى لتقديم قوله إني خلقت شهوة العجلة فيهم و الطبع الداعي إليها على ما عبر به البلخي و هذا إلى أن يكون عذرا لهم أقرب منه إلى أن يكون حجة عليهم و أيسر الأحوال أن لا يكون عذرا و لا احتجاجا فلا يكون لتقديمه معنى و في الجواب الأول حسن تقديم ذلك على طريق الذم و التوبيخ و التقريع من غير إضافة له إليه عز و جل فالجواب الأول أوضح و أصح. و ثالثها جواب روي عن الحسن قال يعني بقوله مِنْ عَجَلٍ أي من ضعف و هي النطفة المنتنة المهينة الضعيفة و هذا قريب إن كان في اللغة شاهد على أن العجل   يكون عبارة عن الضعف أو عن معناه. و رابعها ما حكي أن أبا الحسن الأخفش أجاب به و هو أن يكون المراد أن الإنسان خلق من تعجيل الأمر لأنه تعالى قال إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فإن قيل كيف يطابق هذا الجواب قوله من بعد فَلا تَسْتَعْجِلُونِ قلنا يمكن أن يكون وجه المطابقة أنه لما استعجلوا بالآيات و استبطئوها أعلمهم تعالى أنه ممن لا يعجزه شي‏ء إذا أراده و لا يمتنع عليه و أن من خلق الإنسان بلا كلفة و لا مئونة بأن قال له كن فكان مع ما فيه من بدائع الصنعة و عجائب الحكمة التي يعجز عنها كل قادر و يحار فيها كل ناظر لا يعجزه إظهار ما استعجلوه من الآيات. و خامسها ما أجاب به بعضهم من أن العجل الطين فكأنه تعالى قال خلق الإنسان من طين كما قال في موضع آخر بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ و استشهد بقول الشاعر.

و النبع يخرج بين الصخر ضاحية و النخل ينبت بين الماء و العجل.

 و وجدنا قوما يطعنون في هذا الجواب و يقولون ليس بمعروف أن العجل هو الطين و قد حكى صاحب كتاب العين عن بعضهم أن العجل الحمأة و لم يستشهد عليه إلا أن البيت الذي أنشدناه يمكن أن يكون شاهدا له و قد رواه تغلب عن ابن الأعرابي و خالف في شي‏ء من ألفاظه و إذا صح هذا الجواب فوجه المطابقة بين ذلك و بين قوله تعالى فَلا تَسْتَعْجِلُونِ على نحو ما ذكرناه و هو أن من خلق الإنسان مع الحكمة الظاهرة فيه من الطين لا يعجزه إظهار ما استعجلوه من الآيات أو يكون المعنى أنه لا يجب بمن خلق من الطين المهين و كان أصله هذا الأصل الحقير الضعيف أن يهزأ برسل الله تعالى و آياته و شرائعه لأنه تعالى قال قبل هذه الآية وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ.   و سادسها أن يكون المراد بالإنسان آدم ع و معنى مِنْ عَجَلٍ أي في سرعة من خلقه لأنه تعالى لم يخلقه مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ كما خلق غيره و إنما ابتدأه الله ابتداء و أنشأه إنشاء فكأنه تعالى نبه بذلك على الآية العجيبة في خلقه له و أنه عز و جل يري عباده من آياته و بيناته أولا ما تقتضيه مصالحهم و تستدعيه أحوالهم. و سابعها ما روي عن مجاهد و غيره أن الله تعالى خلق آدم بعد خلق كل شي‏ء آخر نهار يوم الجمعة على سرعة معاجلا به غروب الشمس و روي أن آدم ع لما نفخت فيه الروح و بلغت أعالي جسده و لم تبلغ أسافله قال رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس. و ثامنها ما روي عن ابن عباس و السدي أن آدم ع لما خلق و جعلت الروح في أكثر جسده وثب عجلان مبادرا إلى ثمار الجنة و قال قوم بل هم بالوثوب فهذا معنى قوله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ و هذه الأجوبة الثلاثة المتأخرة مبنية على أن المراد بالإنسان فيها آدم ع دون غيره