باب 12- العلّة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين عليه السلام فدك لما ولي الناس

 ع الدقّاق، عن الأسدي، عن النخعي، عن النوفلي، عن عليّ بن سالم، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال قلت له لم لم يأخذ أمير المؤمنين عليه السلام فدك لمّا ولي الناس و لأيّ علّة تركها فقال له لأنّ الظالم و المظلومة قد كانا قدما على اللّه عزّ و جلّ و أثاب اللّه المظلومة و عاقب الظالم، فكره أن يسترجع شيئا قد عاقب اللّه عليه غاصبه و أثاب عليه المغصوبة.

 ع ابن هاشم، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم الكرخي قال سألت أبا عبد اللّه عليه السلام فقلت له لأيّ علّة ترك أمير المؤمنين عليه السلام فدكا لمّا ولي الناس فقال للاقتداء برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا فتح مكّة و قد باع عقيل بن أبي طالب داره، فقيل له يا رسول اللّه أ لا ترجع إلى دارك فقال )ص( و هل ترك عقيل لنا دارا، إنّا أهل بيت لا نسترجع شيئا يؤخذ منّا ظلما، فلذلك لم يسترجع فدكا لمّا ولي.

 ن، ع القطّان، عن أحمد الهمداني، عن عليّ بن الحسن بن فضال، عن أبيه، عن أبي الحسن عليه السلام قال سألته عن أمير المؤمنين عليه السلام لم لم يسترجع فدك لمّا ولي الناس فقال لأنّا أهل بيت وليّنا اللّه عزّ و جلّ لا يأخذ لنا حقوقنا ممّن يظلمنا إلّا هو، و نحن أولياء المؤمنين، إنّما نحكم لهم و نأخذ حقوقهم ممّن يظلمهم، و لا نأخذ لأنفسنا.

 تبيين

اعلم أنّ بعض المخالفين تمسّكوا في تصحيح ما زعموه في أمر الميراث و قصّة فدك بإمضاء أمير المؤمنين عليه السلام ما فعلته الخلفاء لمّا صار الأمر إليه، و قد استدلّ قاضي القضاة بذلك على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن شاهدا في قضيّة فدك، إذ لو كان هو الشاهد فيها لكان الأقرب أن يحكم بعلمه، و كذلك في ترك الحجر لنساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، ثم قال و ليس لهم بعد ذلك إلّا التعلّق بالتقيّة التي هي مفزعهم عند لزوم الكلام، و لو علموا ما عليهم في ذلك لاشتدّ هربهم منه، لأنّه إن جاز للأئمّة التقيّة و حالهم في العصمة ما يقولون ليجوزنّ ذلك من رسول اللّه، و تجويز ذلك فيه يوجب أن لا يوثق بنصّه على أمير المؤمنين عليه السلام لتجويز التقيّة، و متى قالوا يعلم بالمعجز إمامته فقد أبطلوا كون النصّ طريقا للإمامة، و الكلام مع ذلك لازم لهم، بأن يقال جوّزوا مع ظهور المعجز أن يدّعي الإمامة تقيّة، و أن يفعل سائر ما يفعله تقيّة و كيف يوثق مع ذلك بما ينقل عن الرسول و عن الأئمّة و هلّا جاز أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام نبيّا بعد الرسول و ترك ادّعاء ذلك تقيّة و خوفا فإنّ الشبهة في ذلك أوكد من النصّ، لأنّ التعصّب للنبيّ في النبوة أعظم من التعصّب لأبي بكر و غيره في الإمامة فإن عوّلوا في ذلك على علم الاضطرار فعندهم أنّ الضرورة في النصّ على الإمامة قائمة، و إن فزعوا في ذلك إلى الإجماع، فمن قولهم أنّه لا يوثق به و يلزمهم في الإجماع أن يجوز أن يقع على طريق التقيّة لأنّه لا يكون أوكد من قول الرسول و قول الإمام عندهم، و بعد، فقد ذكر الخلاف في ذلك كما ذكر الخلاف في أنّه إله، فلا يصحّ على شروطهم أن يتعلّقوا بذلك. و أجاب عنه السيّد الأجل رضي اللّه عنه في الشافي بما هذا لفظه أمّا قوله إن جازت التقيّة للأئمّة و حالهم في العصمة ما يدّعون جازت على الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فالفرق بين الأمرين واضح، لأنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله مبتدئ بالشرع، و مفتتح لتعريف الأحكام التي لا تعرف إلّا من جهته و بيانه، فلو جازت عليه التقيّة لأخلّ ذلك بإزاحة علّة المكلّفين، و لفقدوا الطريق إلى معرفة مصالحهم الشرعيّة، و قد بيّنا أنّها لا تعرف إلّا من جهته، و الإمام بخلاف هذا الحكم، لأنّه مفيد للشرائع التي قد علمت من غير جهته، و ليس يقف العلم بها و الحقّ فيها على قوله دون غيره، فمن اتّقى في بعض الأحكام بسبب يوجب ذلك لم يخل تقيّته بمعرفة الحقّ و إمكان الوصول إليه، و الإمام و الرسول و إن استويا في العصمة فليس يجب أن يستويا في جواز التقيّة للفرق الذي ذكرناه، لا أنّ الإمام لم يجز التقيّة عليه لأجل العصمة، و ليس للعصمة تأثير في جواز التقيّة و لا نفي جوازها.

 فإن قيل أ ليس من قولكم إنّ الإمام حجّة في الشرائع و قد يجوز عندكم أن ينتهي الأمر إلى أن يكون الحقّ لا يعرف إلّا من جهته و بقوله، بأن يعرض الناقلون عن النقل فلا يرد إلّا من جهة من يقوم الحجّة بقوله و هذا يوجب مساواة الإمام للرسول فيما فرّقتم بينهما فيه. قلنا إذا كانت الحال في الإمام ما صوّرتموه و تعيّنت الحجّة في قوله، فإنّ التقيّة لا تجوز عليه كما لا تجوز على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. فإن قيل فلو قدّرنا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قد بيّن جميع الشرائع و الأحكام التي يلزمه بيانها حتّى لم يبق شبهة في ذلك و لا ريب، لكان يجوز عليه و الحال هذه التقيّة في بعض الأحكام. قلنا ليس يمنع عند قوّة أسباب الخوف الموجبة للتقيّة أن يتّقي إذا لم يكن التقيّة مخلّة بالوصول إلى الحقّ و لا منفرة عنه. ثم يقال له أ ليست التقيّة عندك جائزة على جميع المؤمنين عند حصول أسبابها و على الإمام و الأمير. فإن قال هي جائزة على المؤمنين و ليست جائزة على الإمام و الأمير. قلنا و أيّ فرق بين ذلك و الإمام و الأمير عندك ليسا بحجّة في شي‏ء كما أنّ النبيّ )ص( حجّة فيمنع من ذلك لمكان الحجّة بقولهما، فإن اعترف بجوازها عليهما قيل له فإلا جاز على النبيّ )ص( قياسا على الأمير و الإمام. فإن قال لأنّ قول النبيّ )ص( حجّة، و ليس الإمام و الأمير كذلك. قيل له و أيّ تأثير في الحجّة في ذلك إذا لم تكن التقيّة مانعة من إصابة الحقّ، و لا بمخلّة بالطريق إليه. و خبرنا عن الجماعة التي نقلها في باب الأخبار حجّة لو ظفر بهم جبّار ظالم متفرّقين أو مجتمعين فسألهم عن مذاهبهم و هم يعلمون أو يغلب في ظنونهم أنّهم متى ذكروها على وجهها قتلهم و أباح حريمهم أ ليست التقيّة جائزة على هؤلاء مع الحجّة في أقوالهم فإن منع من جواز التقيّة على ما ذكرناه دفع ما هو معلوم. و قيل له و أيّ فرق بين هذه الجماعة و بين من نقص عن عدّتها في جواز التقيّة فلا يجد فرقا. فإن قال إنّما جوّزنا التقيّة على من ذكرتم لظهور الإكراه و الأسباب الملجئة إلى التقيّة و منعناكم من مثل ذلك، لأنّكم تدعون تقيّة لم تظهر أسبابها و لا الأمور الحاملة عليها من إكراه و غيره. قيل له هذا اعتراف بما أردناه من جواز التقيّة عند وجود أسبابها، و صار الكلام الآن في تفصيل هذه الجملة، و لسنا نذهب في موضع من المواضع إلى أنّ الإمام اتّقى بغير سبب موجب لتقيّة، و حامل على فعله، و الكلام في التفصيل غير الكلام في الجملة، و ليس كلّ الأسباب التي توجب التقيّة تظهر لكلّ أحد، و يعلمها جميع الخلق، بل ربّما اختلفت الحال فيها، و على كلّ حال فلا بدّ أن تكون معلومة لمن وجب تقيّته، و معلومة أو مجوّزة لغيره، و لهذا قد نجد بعض الملوك يسأل رعيّته عن أمر فيصدقه بعضهم في ذلك و لا يصدقه آخرون، و يستعملون ضربا من التورية، و ليس ذلك إلّا لأنّ من صدق لم يخف على نفسه و من جرى مجرى نفسه، و من ورّى فلأنّه خاف على نفسه و غلب في ظنّه وقوع الضرر به متى صدق فيما سئل عنه، و ليس يجب أن يستوي حال الجميع، و أن يظهر لكلّ أحد

 السبب في تقيّة من اتّقى ممّن ذكرناه بعينه حتى يقع الإشارة إليه على سبيل التفصيل، و حتى يجري مجرى العرض على السيف في الملإ من الناس، بل ربّما كان ظاهرا كذلك، و ربّما كان خافيا. فإن قيل مع تجويز التقيّة على الإمام كيف السبيل إلى العلم بمذاهبه و اعتقاده و كيف يتخلّص لنا ما يفتي به على سبيل التقيّة من غيره. قلنا أوّل ما نقوله في ذلك أنّ الإمام لا يجوز أن يتّقي فيما لا يعلم إلّا من جهته، و الطريق إليه إلّا من ناحيته، و قوله و إنّما يجوز التقيّة عليه فيما قد بان بالحجج و البيّنات و نصبت عليه الدلالات حتى لا يكون تقيّته فيه مزيلة لطريق إصابة الحقّ و موقعة للشبهة، ثم لا تبقى في شي‏ء إلّا و يدلّ على خروجه منه مخرج التقيّة، إمّا لما يصاحب كلامه أو يتقدّمه أو يتأخّر عنه، و من اعتبر جميع ما روي عن أئمّتنا عليهم السلام على سبيل التقيّة وجده لا يعرى ممّا ذكرناه. ثم إنّ التقيّة إنّما تكون من العدوّ دون الوليّ، و من المتّهم دون الموثوق به، فما يصدر منهم إلى أوليائهم و شيعتهم و نصحائهم في غير مجالس الخوف يرتفع الشكّ في أنّه على غير جهة التقيّة، و ما يفتون به العدوّ أو يمتحنون به في مجالس الجور يجوز أن يكون على سبيل التقيّة كما يجوز أن يكون على غيرها، ثم يقلب هذا السؤال على المخالف فيقال له إذا أجزت على جميع الناس التقيّة عند الخوف الشديد و ما يجري مجراه، فمن أين تعرف مذاهبهم و اعتقادهم و كيف تفصل بين ما يفتي به المفتي منهم على سبيل التقيّة و بين ما يفتي به و هو مذهب له يعتقد بصحّته فلا بدّ من الرجوع إلى ما ذكرناه. فإن قال أعرف مذهب غيري و إن أجزت عليه التقيّة بأن يضطرّني إلى اعتقاده، و عند التقيّة لا يكون ذلك. قلنا و ما المانع لنا من أن نقول هذا بعينه فيما سألت عنه، فأمّا ما تلا كلامه الذي حكيناه عنه من الكلام في التقيّة، و قوله إنّ ذلك يوجب أن لا يوثق بنصّه على أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّما بناه على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يجوز عليه التقيّة في كلّ حال، و قد بيّنا ما في ذلك و استقصيناه. و قوله أ لا جاز أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام نبيّا، و عدل عن ادّعاء ذلك تقيّة.. فيبطله ما ذكرنا من أنّ التقيّة لا يجوز على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السلام فيما لا يعلم إلّا من جهته، و يبطله زائدا على ذلك ما نعلمه نحن و كلّ عاقل ضرورة من نفي النبوّة بعده على كلّ حال من دين الرسول صلّى اللّه عليه و آله. و قوله إن عوّلوا على علم الاضطرار فعندهم أنّ الضرورة في النصّ على الإمام قائمة، فمعاذ اللّه أن ندّعي الضرورة في العلم بالنصّ على من غاب عنه فلم يسمعه، و الذي نذهب إليه أنّ كل من لم يشهده لا يعلمه إلّا باستدلال و ليس كذلك نفي النبوّة، لأنّه معلوم من دينه صلّى اللّه عليه و آله ضرورة، و لو لم يشهد بالفرق بين الأمرين إلّا اختلاف العقلاء في النصّ مع تصديقهم بالرسول

 صلّى اللّه عليه و آله و أنّهم لم يختلفوا في نفي النبوّة لكفى، و لا اعتبار بقوله في ذلك خلاف ما قد ذكر كما ذكر في أنّه عليه السلام إله، لأنّه هذا الخلاف لا يعتدّ به، و المخالف فيه خارج عن الإسلام فلا يعتبر في إجماع المسلمين بقوله، كما لا يعتبر في إجماع المسلمين بقول من خالف في أنّه إله، على أنّ من خالف و ادّعى نبوّته لا يكون مصدّقا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و لا عالما بنبوّته، و لا يدّعي علم الاضطرار في أنّه لا نبيّ بعده و إنّما يعلم ضرورة من دينه صلّى اللّه عليه و آله نفي النبوّة بعده من أقرّ بنبوّته. فأمّا قوله إنّ الإجماع لا يوثق به عندهم، فمعاذ اللّه أن نطعن في الإجماع و كونه حجّة، فإن أراد أنّ الإجماع الذي لا يكون فيه قول إمام ليس بحجّة فذلك ليس بإجماع عندنا و عندهم، و ما ليس بإجماع فلا حجّة فيه، و قد تقدّم عند كلامنا في الإجماع من هذا الكتاب ما فيه كفاية. و قوله يجوز أنّ يقع الإجماع على طريق التقيّة لا يكون أوكد من قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله أو قول الإمام عليه السلام عندهم، باطل، لأنّا قد بيّنا أنّ التقيّة لا تجوز على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السلام على كلّ حال، و إنّما تجوز على حال دون أخرى، على أنّ القول بأنّ الأمّة بأسرها مجتمع على طريق التقيّة طريف، لأنّ التقيّة سببها الخوف من الضرر العظيم، و إنّما يتّقي بعض الأمّة من بعض لغلبته عليه و قهره له، و جميع الأمّة لا تقيّة عليها من أحد. فإن قيل يتّقي من مخالفيها في الشرائع. قلنا الأمر بالضدّ من ذلك، لأنّ من خالطهم و صاحبهم من مخالفيهم في الحال أقلّ عددا و أضعف بطشا منهم، فالتقيّة لمخالفيهم منهم أولى، و هذا أظهر من أن يحتاج فيه إلى الإطالة و الاستقصاء. انتهى كلامه رفع اللّه مقامه.

و لنذكر بعض ما يدلّ على جواز التقيّة

لكثرة تشنيع المخالفين في ذلك علينا مع كثرة الدلائل القاطعة عليها.

فمنها

قوله تعالى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ.

و منها

قوله تعالى لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ‏ءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً.

و منها

ما رواه الفخر الرازي و غيره من المفسّرين عن الحسن قال أخذ مسيلمة الكذّاب رجلين من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال لأحدهما أ تشهد أنّ محمّدا رسول اللّه قال نعم. قال أ فتشهد أنّي رسول اللّه قال نعم، و كان مسيلمة يزعم أنّه رسول بني حنيفة، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله رسول قريش، فتركه، و دعا الآخر فقال أ تشهد أنّ محمّدا رسول اللّه قال نعم نعم نعم قال أ فتشهد أنّي رسول اللّه قال إنّي أصمّ.. ثلاثا. فقدّمه و قتله، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال أمّا هذا المقتول فمضى على صدقه و يقينه فهنيئا له، و أمّا الآخر فقبل رخصة اللّه فلا تبعة عليه.

و منها

 ما رواه الخاصّة و العامّة أنّ أناسا من أهل مكّة فتنوا فارتدّوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، و كان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه مع أنّه كان بقلبه مصرّا على الإيمان منهم عمّار و أبواه ياسر و سميّة، و صهيب و بلال و خباب و سالم عذّبوا، و أمّا سميّة فقد ربطت بين بعيرين و وجئت في قبلها بحربة، و قالوا إنّك أسلمت من أجل الرجال فقتلت، و قتل ياسر، و هما أوّل قتيلين في الإسلام، و أمّا عمّار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها، فقيل يا رسول اللّه إنّ عمّارا كفر. فقال كلّا، إنّ عمّارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، و اختلط الإيمان بلحمه و دمه، فأتى عمّار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو يبكي، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يمسح عينيه يقول ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت.

 و منها

 خبر مولى الحضرمي أكرهه سيّده فكفر ثم أسلم مولاه فأسلم و حسن إسلامهما و هاجرا.

و قال ابن عبد البرّ في الإستيعاب في ترجمة عمّار إنّ نزول الآية فيهم ممّا أجمع أهل التفسير عليه. و يدل عليها أيضا ما يدلّ على نفي الحرج نحو قوله تعالى ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ و لزوم الحرج في مواضع التقيّة سيّما إذا انتهت الحال إلى القتل و هتك العرض واضح.

و يدلّ عليها عموم قوله تعالى

 فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. و قد فسّر مجاهد الاضطرار في آية الأنعام باضطرار الإكراه خاصّة. و يدلّ عليه قوله تعالى وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ على بعض التفاسير. و لا خلاف في شرعيّتها مع الخوف على النفس من الكفّار الغالبين.

و قال الشافعي من العامّة بأنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحال بين المسلمين و المشركين حلّت التقيّة، ذكر ذلك الفخر الرازي في تفسير الآية الثانية، و قال التقيّة جائزة لصون النفس، و هل هي جائزة لصون المال، يحتمل أن يحكم فيها بالجواز،

 لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم حرمة مال المسلم كحرمة دمه،

 و لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم من قتل دون ماله فهو شهيد

و لأنّ الحاجة إلى المال شديدة، و الماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء و جاز الاقتصار على التيمّم دفعا لذلك القدر من نقصان المال، فكيف لا يجوز هاهنا.

و قال في تفسير الآية الأولى

اعلم أنّ للإكراه مراتب

أحدها أن يجب فعل المكره عليه

مثل ما إذا أكرهه على شرب الخمر و أكل الخنزير و أكل الميتة، فإذا أكرهه عليه بالسيف فهاهنا يجب الأكل، و ذلك لأنّ صون الروح عن الفوات واجب و لا سبيل إليه في هذه الصورة إلّا بهذا الأكل، و ليس في هذا الأكل ضرر على حيوان و لا إهانة بحقّ اللّه، فوجب أن يجب، لقوله تعالى وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

المرتبة الثانية

أن يكون ذلك الفعل مباحا و لا يصير واجبا، و مثاله ما إذا أكرهه على التلفظ بكلمة الكفر مباح له ذلك و لكنّه لا يجب. قال و أجمعوا على أنّه لا يجب عليه التكلّم بكلمة الكفر، و يدلّ عليه وجوه أحدها إنّا روينا أنّ بلالا صبر على ذلك العذاب و كان يقول أحد.. أحد، و لم يقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بئسما صنعت، بل عظّموه عليه، فدلّ ذلك على أنّه لا يجب عليه التكلّم بكلمة الكفر. و ثانيها ما روي من قصّة المسيلمة، التي سبق ذكرها، قال

المرتبة الثالثة

أنّه لا يجب و لا يباح بل يحرم، و هذا مثل ما أكرهه إنسان على قتل إنسان آخر أو على قطع عضو من أعضائه، فهاهنا يبقى الفعل على الحرمة الأصليّة انتهى. و لا خلاف ظاهرا في أنّه متى أمكن التخلّص من الكذب في صورة التقيّة بالتورية لم يجز ارتكاب الكذب، و اختلفوا فيما لو ضيق المكره الأمر عليه و شرح له كلّ أقسام التعريضات و طلب منه أن يصرّح بأنّه ما أراد شيئا منها و لا أراد إلّا ذلك المعين، و لم يتفطّن في تلك الحال بتورية يتخلّص منه فالخاصّة و أكثر العامّة ذهبوا إلى جواز الكذب حينئذ. و حكى الفخر الرازي عن القاضي أنّه قال يجب حينئذ تعريض النفس للقتل، لأنّ الكذب إنّما يقبح لكونه كذبا، فوجب أن يقبح على كلّ حال، و لو جاز أن يخرج من القبح لرعاية بعض المصالح لم يمتنع أن يفعل اللّه الكذب لرعاية بعض المصالح، و حينئذ لا يبقى وثوق بعهد اللّه و لا بوعيده، لاحتمال أنّه فعل ذلك الكذب لرعاية المصالح التي لا يعرفها إلّا اللّه تعالى. و يرد عليه أنّ الكذب و إن كان قبيحا إلّا أنّ جواز ارتكابه في محلّ النزاع لأنّه أقلّ القبيحين، و التعريض للقتل لو سلّمنا عدم قبحه لذاته جاز أن يغلب المفسدة العرضيّة فيه على الذاتيّة في الكذب، و يلزمه تجويز تعريض نبيّ من الأنبياء للقتل للتحرّز عن الكذب في درهم، و بطلانه لا يخفى على أحد. و أمّا ما تمسّك به من تطرّق الكذب إلى وعد اللّه سبحانه و وعيده، فيتوجّه عليه أوّلا أنّ العقل يجزم ببطلان الاحتمال المذكور، لأنّ سبحانه هو الذي بيده أزّمة الأمور، و هو القادر الذي لا يضادّه في ملكه أحد، و العالم بالعواقب، فلا يجوز عليه نظم الأمور على وجه لا يمكن فيه رعاية المصلحة إلّا بالكذب. و ثانيا إنّ ذلك باطل بالضرورة من الدين و إجماع المليّين لا من حيث عدم جواز الكذب لرعاية المصالح، و هو واضح. ثم إنّ الشهيد رحمه اللّه عرّف التقيّة في قواعده بأنّها مجاملة الناس بما يعرفون و ترك ما ينكرون حذرا من غوائلهم، قال و أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام و موردها الطاعة و المعصية غالبا، فمجاملة الظالم فيما يعتقده ظلما و الفاسق المتظاهر بفسقه اتّقاء شرّهما من باب المداهنة الجائزة و لا تكاد تسمّى تقيّة. و قسّمها بانقسام الأحكام الخمسة، و عدّ من الحرام التقيّة في قتل الغير، و قال التقيّة تبيح كلّ شي‏ء حتّى إظهار كلمة الكفر و لو تركها حينئذ أثم، أمّا في هذا المقام و مقام التبرّي من أهل البيت عليهم السلام فإنّه لا يأثم بتركها، بل صبره إمّا مباح أو مستحب، و خصوصا إذا كان ممّن يقتدى به، انتهى. و حكى الشيخ الطبرسي رحمه اللّه في مجمع البيان عن الشيخ المفيد رضي اللّه عنه أنّه قال التقيّة قد تجب أحيانا و تكون فرضا، و تجوز أحيانا من غير وجوب و يكون في وقت أفضل من تركها، و قد يكون تركها أفضل و إن كان فاعلها معذورا و معفوّا عنه، متفضّلا عليه بترك اللوم عليها. و قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ظاهر الروايات يدلّ على أنّها واجبة عند الخوف على النفس، و قد روى رخصة في جواز الإفصاح بالحقّ عنده. و أنت إذا وقفت على ما حكيناه ظهر لك أنّ القول بالتقيّة ليس من خصائص الخاصّة حتى يعيّروا به كما يوهمه كلام قاضي القضاة و الفخر الرازي و غيرهما و أكثر أحكامها ممّا قال به جلّ العامّة أو طائفة منهم. ثم إنّ ما جعله قاضي القضاة من مفاسد القول بجواز التقية على الإمام أعني لزوم جوازها على الرسول صلّى اللّه عليه و آله ممّا رووه في أخبارهم و اتّفقوا على صحّته.

 روى البخاري في صحيحه في باب فضل مكّة و بنيانها بأربعة أسانيد،

 و مسلم في صحيحه، و مالك في الموطأ، و الترمذي و النسائي في صحيحيهما

و ذكرهما في جامع الأصول في فضل الأمكنة من حرف الفاء بألفاظ مختلفة. منها و هو لفظ

 البخاري و مسلم و الموطأ و النسائي أنّ عبد اللّه بن محمّد بن أبي بكر أخبر عن عبد اللّه بن عمر عن عائشة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم قال لها أ لم تري أنّ قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم فقلت يا رسول اللّه أ لا تردّها على قواعد إبراهيم قال لو لا حدثان قومك بالكفر لفعلت.

قال عبد اللّه لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم ما أرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]و آله[ و سلّم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلّا أنّ البيت لم يتم على قواعد إبراهيم. و من لفظ

 البخاري و مسلم عن الأسود بن يزيد عن عائشة قالت سألت النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ عن الجدار، أ من البيت هو قال نعم. قلت فما لهم لم يدخلوه في البيت قال إنّ قومك قصرت بهم النفقة. قلت فما شأن بابه مرتفعا قال فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا و يمنعوا من شاءوا، و لو لا أنّ قومك حديث عهدهم بالجاهليّة فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدار في البيت و أن ألصق بابه بالأرض.

و من لفظ البخاري، عن جرير، عن يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه ]و آله[ قال لها يا عائشة لو لا أنّ قومك حديث عهد بالجاهليّة لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه، و ألزقته بالأرض، و جعلت له بابين، بابا شرقيا و بابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم فذلك الذي حمل ابن الزبير على هدمه. قال يزيد و شهدت ابن الزبير حين هدمه و بناه و أدخل فيه من الحجر، و قد رأيت أساس إبراهيم عليه السلام حجارة كأسنمة الإبل، قال جرير فقلت له أين موضعه قال أريكه الآن، فدخلت معه الحجر، فأشار إلى مكان فقال هاهنا. فخررت من الحجر ستة أذرع أو نحوها..

و باقي ألفاظ الروايات مذكورة في جامع الأصول. و لا ريب في أنّ الظاهر أنّ تعليق الإمضاء بحدثان عهد القوم و قربه من الكفر و الجاهليّة يستلزم خوفه صلّى اللّه عليه و آله في ارتدادهم و خروجهم عن الإسلام أن يعود بذلك ضرر على نفسه صلّى اللّه عليه و آله أو إلى غيره، و يتطرّق بذلك الوهن في الإسلام، و ذلك هو الذي جعله قاضي القضاة مفزعا للشيعة عند لزوم الكلام. ثم إنّ هذه الروايات تدلّ دلالة ظاهرة على أنّ إيمان القوم لم يكن ثابتا مستقرا، و إلّا لما كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله خائفا وجلا من تغيير ما أسّسه أئمّة القوم في الجاهليّة و الكفر، و إنّهم ممّن قال اللّه تعالى وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ. بل الظاهر من الكلام لمن أنصف و راجع الوجدان الصحيح أنّ القوم لم يكونوا مذعنين لرسالته صلّى اللّه عليه و آله إلّا بألسنتهم، و إلّا لما خاف ارتدادهم لأمر لا يعود بإبقائه إليهم نفع في آخرتهم و دنياهم، و كانوا يحبّون بقاءه لكونه من قواعد الجاهليّة و أساس الكفر، و لا ريب في أنّ توجيه الكلام إلى عائشة و التعبير عن القوم بلفظ يفيد نوعا من الاختصاص بها يقتضي كون الحكم أخصّ و أقرب إلى من كان أقرب إليها و أخصّ بها، لكونه متّبعا في القوم أو أشدّ عصبيّة منهم.. أو نحو ذلك، و ليس في القوم أقرب إلى عائشة من أبيها. فإن قيل تركه صلّى اللّه عليه و آله لهدم ما أسّسه القوم لم يكن لخوفه على نفسه أو غيره حتى يدخل في التقيّة، بل هو من قبيل رعاية المصالح في تأليف قلوب القوم و ميلهم إلى الإسلام، و ذلك من قبيل أمره سبحانه بمشاورة القوم و الرفق بهم في قوله فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ. قلنا أوّلا هذا بعيد من الظاهر، إذ الخوف من إنكار قلوب عامّة القوم كما يظهر من إضافة ما يفيد مفاد الجمع لحدثان عهدهم بالجاهليّة و الكفر مع الأمن من لحوق الضرر و لو إلى أحد من المسلمين ممّا لا معنى له عند الرجوع إلى فطرة سليمة. و ثانيا أنّه يجوز أن يكون المانع لأمير المؤمنين عليه السلام من نقض أحكامهم مثل ذلك، و لم يكن أئمّة الكفر و الجاهليّة في صدور قوم عائشة أمكن من أبي بكر و عمر في قلوب القوم الذين كانوا يبايعون أمير المؤمنين )ع( على سيرتهما و اقتفاء أثرهما، و إذا لم يكن ذلك من التقيّة بطل قول قاضي القضاة، و ليس لهم بعد ذلك إلّا التعلّق بالتقيّة التي هي مفزعهم عند لزوم الكلام. و ثالثا إذا جاز على الرسول صلّى اللّه عليه و آله ترك الإنكار على تغيير ما حرّم اللّه خوفا من هذا النوع من الضعف في الإسلام الذي يئول إلى خروج قوم منافقين أو متزلزلين في الإسلام عن الإسلام من غير أن يعود به ضرر إلى المسلمين و لا إلى نفسه صلّى اللّه عليه و آله، فبالأولى أن يجوز لأمير المؤمنين إمضاء الباطل من أحكام القوم للخوف على نفسه أو غيره من المسلمين، لكون ذلك أضرّ في الإسلام، و كما لم تمنع العصمة في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن تركه إنكار المنكر لم تمنع في أمير المؤمنين عليه السلام، و يتوجه على قول قاضي القضاة جوّزوا مع ظهور المعجز أن يدّعي الإمامة تقيّة.. أنّه إن كان المراد تجويز ظهور المعجز بعد ادّعاء الإمامة مع كونه غير نبيّ و لا إمام فبطلانه واضح. و إن كان المراد تجويز ادّعاء الإمامة مع كونه نبيّا حتى يكون ما بعده كالإعادة لهذا الكلام فيرد عليه أنّه إن كان ذلك الادّعاء على وجه الكذب فامتناع ظهور المعجز على طبقه واضح. و إن كان على وجه التورية حتى يكون المراد من الإمامة النبوّة لكن لم يعرف ذلك أحد من الناس، و كانوا معتقدين لإمامته متديّنين بها لا بنبوّته فهو أيضا باطل، إذ في ظهور المعجز مع تلك الدعوى إغراء للمكلّفين بالباطل، و هو قبيح.