باب 15- وجوه إعجاز القرآن

 أقول قد سبق ما يناسب هذا الباب في الباب الأول من هذا الكتاب و قد أوردنا أكثر ما يناسب هذا الباب في كتاب أحوال النبي ص فتذكر. و لنذكر هنا ما أورده القطب الراوندي رحمه الله بطوله في كتاب الخرائج و الجرائح في هذا المعنى فإنه كاف في هذا الباب و مقنع في دفع الشبه الموردة على ذلك في كل باب. قال رضوان الله عليه اعلم أن كتاب الله المجيد ليس مصدقا لنبي الرحمة خاتم النبيين فقط بل هو مصدق لسائر الأنبياء و الأوصياء قبله و سائر الأوصياء بعده جملة و تفصيلا و ليس جملة الكتاب معجزة واحدة بل هي معجزات لا تحصى و فيه أعلام عدد الرمل و الحصى لأن أقصر سورة فيه إنما هو الكوثر و فيه إعجاز من وجهين أحدهما أنه قد تضمن خبرا عن الغيب قطعا قبل وقوعه فوقع كما أخبر عنه من غير خلف فيه و هو قوله إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ لما قال قائلهم   إن محمدا رجل صنبور فإذا مات انقطع ذكره و لا خلف له يبقى به ذكره فعكس ذلك على قائله و كان كذلك. و الثاني من طريق نظمه لأنه على قلة عدد حروفه و قصر آية يجمع نظما بديعا و أمرا عجيبا و بشارة للرسول و تعبدا للعبادات بأقرب لفظ و أوجز بيان و قد نبهنا على ذلك في كتاب مفرد لذلك. ثم إن السور الطوال متضمنة للإعجاز من وجوه كثيرة نظما و جزالة و خبرا عن الغيوب فلذلك لا يجوز أن يقال إن القرآن معجز واحد و لا ألف معجز و لا أضعافه فلذلك خطأنا قول من قال إن للمصطفى ص ألف معجز أو ألفي معجز بل يزيد ذلك عند الإحصاء على الألوف. ثم الاستدلال في أن القرآن معجز لا يتم إلا بعد بيان خمسة أشياء أحدها ظهور محمد ص بمكة و ادعاؤه أنه مبعوث إلى الخلق و رسول إليهم و ثانيها تحديه العرب بهذا القرآن الذي ظهر على يديه و ادعاؤه أن الله أنزله عليه و خصه به و ثالثها أن العرب مع طول المدة لم يعارضوه و رابعها أنه لم يعارضوه للتعذر و العجز و خامسها أن هذا التعذر خارق للعادة فإذا ثبت ذلك فإما أن يكون القرآن نفسه معجزا خارقا للعادة بفصاحته و لذلك لم يعارضوه أو لأن الله صرفهم عن معارضتهم و لو لا الصرف لعارضوه و أي الأمرين ثبت صحت نبوته عليه السلام لأنه تعالى لا يصدق كاذبا و لا يخرق العادة لمبطل. و أما ظهوره ع بمكة و دعاؤه إلى نفسه فلا شبهة فيه بل هو معلوم ضرورة لا ينكره عاقل و ظهور هذا القرآن على يده أيضا معلوم ضرورة و الشك في أحدهما كالشك في الآخر. و أما الذي يدل على أنه ص تحدى بالقرآن فهو أن معنى قولنا إنه تحدى أنه كان يدعي أن الله تعالى خصه بهذا القرآن و إنبائه به و أن

    جبرئيل ع أتاه به و ذلك معلوم ضرورة لا يمكن لأحد دفعه و هذا غاية التحدي في المعنى. و أما الكلام في أنه لم يعارض فلانة لو عورض لوجب أن ينقل و لو نقل لعلم كما علم نفس القرآن فلما لم يعلم دل على أنه لم يكن و بهذا يعلم أنه ليس بين بغداد و البصرة بلد أكبر منهما لأنه لو كان لنقل و علم و إنما قلنا إن المعارضة لو كانت لوجب نقلها لأن الدواعي متوفرة على نقلها و لأنها تكون الحجة و القرآن شبهه لو كانت و نقل الحجة أولى من نقل الشبهة و أما الذي نعلم به أن جهة انتفاء المعارضة التعذر لا غير فهو أن كل فعل ارتفع عن فاعله مع توفر دواعيه إليه علم أنه ارتفع للتعذر و لهذا قلنا إن هذه الجواهر و الأكوان ليست في مقدورنا و خاصة إذا علمنا أن الموانع المعقولة مرتفعة كلها فيجب لنا أن نقطع على أن ذلك من جهة التعذر لا غيره و إذا علمنا أن العرب تحدوا بالقرآن فلم يعارضوه مع شدة حاجتهم إلى المعارضة علمنا أنهم لم يعارضوه للتعذر لا غير و إذا ثبت كون القرآن معجزا و أن معارضته تعذرت لكونه خارقا للعادة ثبت بذلك نبوته المطلوبة. ثم اعلم أن الطريق إلى معرفة صدق النبي ص أو الوصي ع ليس إلا ظهور المعجز عليه أو خبر نبي ثابت نبوته بالمعجز و المعجز في اللغة ما يجعل غيره عاجزا ثم تعورف في الفعل الذي يعجز القادر عن مثله و في الشرع هو كل حادث من فعل الله أو بأمره أو تمكينه ناقض لعادة الناس في زمان تكليف مطابق لدعوته أو ما يجري مجراه. و اعلم أن شروط المعجزات أمور منها أن يعجز عن مثله أو عما يقاربه المبعوثة إليه و جنسه لأنه لو قدر عليه أو واحد من جنسه في الحال لما دل على صدقه و وصي النبي حكمه حكمه. و منها أن يكون من فعل الله أو بأمره و تمكينه لأن المصدق للنبي بالمعجز هو الله فلا بد أن يكون من جهته تعالى.   و منها أن يكون ناقضا للعادة لأنه لو فعل معتادا لم يدل على صدقه كطلوع الشمس من المشرق. و منها أن يحدث عقيب دعوى المدعى أو جاريا مجرى ذلك و الذي يجري مجراه أن يدعي النبوة و يظهر عليه معجزا ثم يشيع دعواه في الناس ثم يظهر معجز من غير تجديد دعوى لذلك لأنه إذا لم يظهر كذلك لم يعلم تعلقه بالدعوى فلا يعلم أنه تصديق له في دعواه. و منها أن يظهر ذلك في زمان التكليف لأن أشراط الساعة ينتقض بها عادته تعالى و لا يدل على صدق مدع. ثم إن القرآن معجز لأنه ص تحدى العرب بمثله و هم النهاية في البلاغة و توفرت دواعيهم إلى الإتيان بما تحداهم به و لم يكن لهم صارف عنه و لا مانع منه و لم يأتوا به فعلمنا أنهم عجزوا عن الإتيان بمثله. و إنما قلنا إنه ص تحداهم به لأن القرآن نفسه يتضمن التحدي كقوله تعالى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ و معلوم أن العرب في زمانه و بعده كانوا يتبارون بالبلاغة و يفخرون بالفصاحة و كانت لهم مجامع يعرضون فيها شعرهم و حضر زمانه من يعد في الطبقة الأولى كالأعشى و لبيد و طرفه و زمانه أوسط الأزمنة في استعمال المستأنس من كلام العرب دون الغريب الوحشي و الثقيل على اللسان فصح أنهم كانوا الغاية في الفصاحة و إنما قلنا اشتدت دواعيهم إلى الإتيان بمثله فإنه تحداهم ثم قرعهم بالعجز عنه بقوله تعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً و قوله تعالى فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا. فإن قيل لعل صارفهم هو قلة احتفالهم به أو بالقرآن لانحطاطه في البلاغة قلنا لا شبهة أنه ص كان من أوسطهم في النسب و في الخصال المحمودة حتى سموه الأمين الصدوق و كيف لا يحتفلون و به و هم كانوا يستعظمون القرآن حتى شهروه بالسحر و منعوا الناس من استماعه لئلا يأخذ بمجامع قلوب السامعين فكيف

    يرغبون عن معارضته. فإن قيل أ لستم تقولون إن ما يأتي به محمد من القرآن هو كلام الله و فعله و قلتم إن مقدورات العباد لا تنتقض بها العادة و قلتم إن القرآن هو أول كلام تكلم به تعالى و ليس بحادث في وقت نزوله و الناقض للعادة لا بد و أن يكون هو متجدد الحدوث لأن الكلام مقدور للعباد فما يكون من جنسه لا يكون ناقضا للعادة فلا يكون معجزا للعباد. الجواب أن الناقض للعادة هو ظهور القرآن في مثل بلاغته المعجزة و ذلك يتجدد و ليس يظهر مثله في العادة سواء جوز أن يكون من قبله أو من قبل ملك يظهر عليه بأمره تعالى أو أوحى الله به إليه فإذا علم صدقه في دعواه بظهور مثل هذا الكلام البليغ الذي يعجز عنه المبعوث إليه و جنسه عن مثله و عما يقاربه و كان ناقضا للعادة فكان معجزا دالا على صدقه و لم يضرنا في ذلك أن يكون تعالى تكلم به قبل إذ لم يجر تعالى عادته في إظهاره على أحد غيره. و قوله إنه مركب من جنس مقدور العباد لا يقدح في كونه ناقضا للعادة و لا في كونه معجزا لأن الإعجاز فيه هو من جملة البلاغة و فيها يقع التفاوت بين البلغاء أ لا ترى أن الشعراء و الخطباء يتفاضلون في بلاغتهم في شعرهم و خطبهم فصح أن يكون في الكلام ما بلغ حدا في البلاغة ينقض به العادة في بلاغة البلغاء من العباد. و يبين ذلك أن البلاغة في الكلام البليغ لا يحصل بقدرة القادر على إحداث الحروف المركبة و إنما يظهر بعلوم المتكلم بالكلام البليغ و تلك العلوم لا تحصل للعبد باكتسابه و إنما يحصل له من قبل الله ابتداء و عند اجتهاد العبد في استعمال ما يحصل عنده و تلك العلوم من فعله تعالى و قد أجرى الله عادته فيها بمنح العبد من العلوم للبلاغة فلا يمنح من ذلك إلا مقدارا يتفاوت فيه   بلاغة بعضهم عن بعض و يتفاوتون في ذلك بقدر تفاوت بلاغتهم فإذا تجاوز بلاغة القرآن ذلك المقدار الذي جرت به العادة في بلاغة العبد و بلغت حدا لا تبلغه بلاغة أبلغهم ظهر كونه ناقضا للعادة و إنما يبين كونه كذلك إذا بينا أنه تحداهم بمثل القرآن فعجزوا عنه و عما يقاربه. فإذا قيل فبما ذا علمتم أن القرآن ظهر معجزة له دون غيره و ما أنكرتم أن الله بعث نبينا غير محمد و آمن محمد به فتلقته منه محمد ثم قتل ذلك النبي و ادعاه معجزة لنفسه. الجواب إنا نعلم باضطرار أنه مختص به كما نعلم في كثير من الأشعار و التصانيف أنها مختصة بمن تضاف إليه كشعر إمرئ القيس و كتاب العين للخليل ثم إن القرآن ظهر منه و سمع و لم يجر في الناس ذكر أنه ظهر لغيره و لا جوزوه و كيف يجوز في حكمة الحكيم أن يمكن أحدا من ذلك و قد علم حال محمد في عزف نفسه عن ملاذ الدنيا من أول أمره إلى أواخره كيف يتهم بما قالوه. فإن قيل لعل من تقدم محمدا كإمرئ القيس و أضرابه لو عاصره لأمكنه معارضته قلنا إن التحدي لم يقع بالشعر فيصح ما قلته و كان في زمانه ص و قريبا منه من قدم في البلاغة من تقدم و لأنه ما كلفهم أن يأتوا بالمعارضة من عند أنفسهم و إنما تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن من كلامهم أو كلام غيرهم ممن تقدمهم فلو علموا أن في كلامهم ما يوازي بلاغة القرآن لأتوا به و لقالوا إن هذا كلام من ليس بمنبئ و هو مساو للقرآن في بلاغته و معلوم أن محمدا ص ما قرأ الكتب و لا تتلمذ لأحد من أهل الكتاب و كان ذلك معلوما لأعدائه ثم قص عليهم قصص نوح و موسى و يوسف و هود و صالح و شعيب و لوط و عيسى و قصة مريم على طولها فما رد عليه أحد من أهل الكتاب شيئا منها و لا خطاؤه في شي‏ء من ذلك و مثل هذه الأخبار لا يتمكن منها إلا بالتبخيت و الاتفاق و قد نبه الله عليه بقوله ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا   أَمْرَهُمْ

 و نحو ذلك من قصص الأنبياء و الأمم الماضين. و أما وجه إعجاز القرآن فاعلم أن المسلمين اتفقوا على ثبوت دلالة القرآن على النبوة و صدق الدعوة و اختلف المتكلمون في جهة إعجاز القرآن على سبعة أوجه فقد ذهب قوم إلى أنه معجز من حيث كان قديما أو لأنه حكاية للكلام القديم و عبارة عنه فقولهم أظهر فسادا من أن يختلط بالمذاهب المذكورة في إعجاز القرآن. فأول ما ذكر من تلك الوجوه ما اختاره المرتضى و هو أن وجه الإعجاز في القرآن أن الله صرف العرب عن معارضته و سلبهم العلم بكيفية نظمه و فصاحته و قد كانوا لو لا هذا الصرف قادرين على المعارضة متمكنين منها. و الثاني ما ذهب إليه الشيخ المفيد و هو أنه إنما كان معجزا من حيث اختص برتبة في الفصاحة خارقة للعادة قال لأن مراتب الفصاحة إنما تتفاوت بحسب العلوم التي يفعلها الله في العباد فلا يمتنع أن يجري الله العادة بقدر من المعلوم فيقع التمكين بها من مراتب في الفصاحة محصورة متناهية و يكون ما زاد على ذلك زيادة غير معتادة معجزا خارقا للعادة. و الثالث و هو ما قال قوم و هو أن إعجازه من حيث كانت معانيه صحيحة مستمرة على النظر و موافقة للعقل. و الرابع أن جماعة جعلوه معجزا من حيث زال عنه الاختلال و التناقض على وجه لم تجر العادة بمثله. و الخامس ما ذهب إليه أقوام و هو أن جهة إعجازه أنه يتضمن الإخبار عن الغيوب. و السادس ما قاله آخرون و هو أن القرآن إنما كان معجزا لاختصاصه بنظم مخصوص مخالف للمعهود. و السابع ما ذكره أكثر المعتزلة و هو أن تأليف القرآن و نظمه معجزان   لا لأن الله أعجز عنهما بمنع خلقه في العباد و قد كان يجوز أن يرتفع فيقدر عليه لكن محال وقوعه منهم كاستحالة إحداث الأجسام و الألوان و إبراء الأكمه و الأبرص من غير دواء و لو قلنا إن هذه الوجوه السبعة كلها وجوه إعجاز القرآن على وجه دون وجه لكان حسنا. ثم إن المرتضى رحمه الله استدل على أنه تعالى صرفهم عن المعارضة و أن العدول عنها كان لهذا لا لأن فصاحة القرآن خرقت عادتهم بأن الفضل بين الشيئين إذا كثر لم تقف المعرفة بحالهما على ذوي القرائح الذكية بل يغني ظهور أمريهما عن الرؤية بينهما و هذا كما لا يحتاج إلى الفرق بين الخز و الصوف إلى أحذق البزازين و إنما يحتاج إلى التأمل الشديد التقارب الذي يشكل مثله. و نحن نعلم أنا على مبلغ علمنا بالفصاحة نفرق بين شعر إمرئ القيس و شعر غيره من المحدثين و لا نحتاج في هذا الفرق إلى الرجوع إلى من هو الغاية في علم الفصاحة بل نستغني معه عن الفكرة و ليس بين الفاضل و المفضول من أشعار هؤلاء و كلام هؤلاء قدر ما بين الممكن و المعجز و المعتاد و الخارج عن العادة و إذا استقر هذا و كان الفرق بين سور المفصل و بين أفصح قصائد العرب غير ظاهر لنا الظهور الذي ذكرناه و لعله إن كان ثم فرق فهو مما يقف عليه غيرنا و لا يبلغه علمنا فقد دل على أن القوم صرفوا عن المعارضة و أخذوا عن طريقها. و الأشبه بالحق و الأقرب إلى الحجة بعد ذلك القول قول من جعل وجه إعجاز القرآن خروجه عن العادة في الفصاحة فيكون ما زاد على المعتاد معجزا كما أنه لما أجرى الله العادة في القدرة التي يمكن بها من ضروب أفعال الجوارح كالطفو بالبحر و حمل الجبل فإنها إذا زادت على ما تأتي العادة كانت لاحقة بالمعجزات كذلك القول هاهنا. ثم إن هؤلاء الذين قالوا إن جهة إعجاز القرآن الفصاحة المفرطة التي خرقت العادة صاروا صنفين منهم من اقتصر على ذلك و لم يعتبر النظم و منهم من اعتبر مع الفصاحة النظم

    المخصوص و قال الفريقان إذا ثبت أنه خارق للعادة بفصاحته دل على نبوته لأنه لو كان من قبل الله فهو دال على نبوته و معجز و إن كان من فعل النبي ص و لم نتمكن من ذلك مع خرقه العادة لفصاحته لأن الله خلق فيه علوما خرق بها العادة فإذا علمنا بقوله إن القرآن من فعل الله دون فعله قطعنا على ذلك دون غيره. و أما القول الثالث و الرابع فكلاهما مأخوذ من قوله تعالى وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً فحمل الأولون ذلك على المعنى و الآخرون على اللفظ و الآية مشتملة عليهما عامة فيهما و يجوز أن يكون كلا القولين معجزا على بعض الوجوه لارتفاع التناقض فيه و الاختلاف فيه على وجه مخالف للعادة. و أما من جعل جهة إعجازه ما تضمنه من الإخبار عن الغيوب فذلك لا شك أنه معجز لكن ليس هو الذي قصد به التحدي لأن كثيرا من القرآن خال من الإخبار بالغيب و التحدي وقع بسورة غير معينة. و أما الذين قالوا إنما كان معجزا لاختصاصه بأسلوب مخصوص ليس بمعهود فإن النظم دون الفصاحة لا يجوز أن يكون جهة إعجاز القرآن على الإطلاق لأن ذلك لا يقع فيه التفاضل و في ذلك كفاية لأن السابق إلى ذلك لا بد أن يقع فيه مشاركة لمجرى العادة كما تبين. و أما من قال إن القرآن نظمه و تأليفه مستحيلان من العباد كخلق الجواهر و الألوان فقولهم به على الإطلاق باطل لأن الحروف كلها من مقدورنا و الكلام كله يتركب من الحروف التي يقدر عليها كل متكلم و أما التأليف فإطلاقه مجاز في القرآن لأن حقيقته في الأجسام و إنما يراد من القرآن حدوث بعضه في أثر بعض فإن أريد ذلك فهو إنما يتعذر لفقد العلم بالفصاحة و كيفية إيقاع الحروف لا أن ذلك مستحيل كما أن الشعر يتعذر على العجم لعدم علمه بذلك لا أنه   مستحيل منه من حيث القدرة و متى أريد استحالة ذلك بما يرجع إلى فقد العلم فذلك خطأ في العبارة دون المعنى. أقول ثم أعاد رحمه الله الكلام على كل من الوجوه المذكورة على الترتيب المذكور فقال في الصرفة. و اعترض فقالوا إذا كان الصرف هو المعجز فلم لم يجعل القرآن من أرك الكلام و أقله فصاحة ليكون أبهر في باب الإعجاز. الجواب لو فعل ذلك لجاز لكن المصلحة معتبرة في ذلك فلا يمتنع أنها اقتضت أن يكون القرآن على ما هو عليه من الفصاحة فلأجل ذلك لم ينقص منه و لا يلزم في باب المعجزات أن يفعل ما هو أبهر و أظهر و إنما يفعل ما تقتضيه المصلحة بعد أن تكون دلالة الإعجاز قائمة فيه ثم يقال فهلا جعل الله القرآن أفصح مما هو عليه فما قالوا فهو جوابنا عنه و ليس لأحد أن يقول ليس وراء هذه الفصاحة زيادة لأن الغايات التي ينتهي إليها الكلام الفصيح غير متناهية. و من اعتراضاتهم قولهم لو كان الصرف لما خفي ذلك على فصحاء العرب لأنهم إذا كانوا يتأتى منهم قبل التحدي ما تعذر بعده و عند الروم المعارضة فالحال في أنهم صرفوا عنها ظاهره فكيف لم ينقادوا. و الجواب لا بد أن يعلموا تعذر ما كان متأتيا منهم لكنهم يجوز أن ينسبوه إلى الاتفاقات أو إلى السحر أو العناد و يجوز أن يدخل عليهم الشبهة على أنه يلزمهم مثل ما ألزمونا بأن يقال إن العرب إذا علموا أن القرآن خرق العادة بفصاحته فلم لم ينقادوا فجوابهم جوابنا. و اعترضوا فقالوا إذا لم يخرق القرآن العادة بفصاحته فلم شهد له بالفصاحة متقدمو العرب كالوليد بن المغيرة و كعب بن زهير و الأعشى الكبير لأنه ورد ليسلم فمنعه أبو جهل و خدعه و قال إنه يحرم عليك الأطيبين فلو لا أنه بهرهم بفصاحته و إلا لم ينقادوا. و الجواب جميع ما شهد به الفصحاء من بلاغة القرآن فواقعه موقعه لأن

    من قال بالصرفة لا ينكر مزية القرآن على غيره بفصاحته و إنما يقول تلك المزية ليست مما تخرق العادة و تبلغ حد الإعجاز فليس في قبول الفصحاء و شهادتهم بفصاحة القرآن ما يوجب القول ببطلان الصرفة و أما دخولهم في الإسلام فلأمر بهرهم و أعجزهم و أي شي‏ء أبلغ من الصرفة في ذلك. و أما القائلون بأن إعجازه الفصاحة قالوا إن الله جعل معجزة كل نبي من جنس ما يتعاطى قومه أ لا ترى أن في زمان موسى ع لما كان الغالب على قومه السحر جعل الله معجزته من ذلك القبيل فأظهر على يده قلب العصا حية و اليد البيضاء فعلم أولئك الأقوام بأن ذلك مما لا يتعلق بالسحر فآمنوا و كذلك زمان عيسى ع لما كان الغالب على قومه الطب جعل الله معجزته من ذلك القبيل فأظهر على يده إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص فعلم أولئك الأقوام أن ذلك مما لا يوصل إليه بالطب فآمنوا به. و كذلك لما كان زمن محمد ص الغالب على قومه الفصاحة و البلاغة حتى كانوا لا يتفاخرون بشي‏ء كتفاخرهم بها جعل الله معجزته من ذلك القبيل فأظهر على يده هذا القرآن و علم الفصحاء منهم أن ذلك ليس من كلام البشر فآمنوا به و لهذا جاء المخصوصون فآمنوا برسول الله كالأعشى مدح رسول الله ص   بقصيدة و أراد أن يؤمن فدافعه قريش و جعلوا يحدثونه بأسوإ ما يقدرون عليه و قالوا إنه يحرم عليك الخمر و الزنا فقال لقد كبرت و ما لي في الزنا من حاجة فقالوا أنشدنا ما مدحته به فأنشدهم

أ لم تغتمض عيناك ليلة أرمدا و بت كما بات السليم مسهدانبي يرى ما لا ترون و ذكره أغار لعمري في البلاد و أنجدا

. قالوا إن أنشدته هذا لم يقبله منك فلم يزالوا بالسعي حتى صدوه فقال أخرج إلى اليمامة ألزمه عامي هذا فمكث زمانا يسيرا و مات باليمامة و جاء لبيد و آمن برسول الله ص و ترك قيل الشعر تعظيما لأمر القرآن   فقيل له ما فعلت قصيدتاك قال أبدلني الله بهما سورتي البقرة و آل عمران. قالوا و من خالفنا في هذا الباب يقول إن طريق إلى النبوة ليس إلا المعجز و زعموا أن المعجز يلتبس بالحيلة و الشعوذة و خفة اليد فلا يكون طريقا إلى النبوة فقوله باطل لأن هذا إنما كان لو لم يكن طريق إلى الفصل بين المعجز و الحيلة و هاهنا وجوه من الفصل بينه و بينها منها أن المعجز لا يدخل جنسه تحت مقدور العباد كقلب العصا حية و إحياء الموتى و غير ذلك و منها أن المعجز يكون ناقضا للعادة بخلاف الحيلة فإنه يحتاج فيه إلى التعليم و منها أن   المعجز لا يحتاج إلى الآلات بخلاف الحيلة فإنها تحتاج إلى الآلات و منها أن المعجز إنما يظهر عند من يكون من أهل ذلك الباب و يروج عليهم و الحيلة إنما يظهر عند العوام و الذين لا يكونون من أهل ذلك الباب و يروج على الجهال و من قال من مخالفينا إن محمدا لم يكن نبيا لأنه لم يكن معه معجز فالكلام عليه أن نقول إنا نعلم ضرورة أنه ادعى النبوة كما نعلم أنه ظهر بمكة و هاجر إلى المدينة و تحدى العرب بالقرآن و ادعى مزية القرآن على كلامهم و هذا يكون تحديا من جهة المعنى و علموا أن شأنه يبطل بمعارضته فلم يأتوا بها لضعفهم و عجزهم كان لانتقاض العادة بالقرآن فأوجب انتقاض العادة كونه معجزا دالا على نبوته. فإن قيل إنما لم يعارضوه لكونهم غبايا جهالا لا لعجزهم. قلنا المعارضات كانت مسلوكة فيما بينهم فإمرؤ القيس عارض علقمة بن عبدة بن الطبيب و ناقضه و طريقة المعارضة لا تخفى على دهاة العرب مع ذكائها. فإن قيل أخطئوا طريق المعارضة كما أخطئوا في عبادة الأصنام أو لأن القرآن يشتمل على الأقاصيص و هم لم يكونوا من أهله. قلنا في الأول فرق بينهما لأن عبادة الأصنام طريقها الدلالة و ما كان طريقه الدلالة يجوز فيه الخطأ بخلاف مسألتنا لأن طريقة التحدي هي الضرورة لا يجوز فيها الخطأ و أما الثاني ففي القرآن ما ليس من الأقاصيص فوجب أن يأتوا بمثله فيعارضوه على أنهم طلبوا أخبار رستم و إسفنديار و حاولوا أن يجعلوه معارضة للقرآن و اليهود و النصارى كانوا أهل الأقاصيص و كان من الواجب أن يتعرفوها منهم و يجعلوها معارضة. فإن قيل لا يجوز أن يكون القرآن معجزا دالا على نبوته من حيث إنه ناقض العادة فلا يمتنع أن يكون العرب أفصح الناس و منهم جماعة أفصح العرب و في الجماعة واحد هو أفصح منهم و إذا أتى بكلام لا يمكنهم أن يأتوا بمثله و لا بما يقاربه فإذا أتى بكلام مختص بالفصاحة لا يمكنهم أن يأتوا بمثله و لا

    بما يقاربه يوجب كونه معجزا. قلنا لهم لا يصح و لو اتفق لكان دليلا على صدقه. فإن قيل لو كان القرآن معجزا لكان نبيا مبعوثا إلى العرب و العجم و كان يجب أن يعلم سائر الناس إعجاز القرآن من حيث الفصاحة و العجم لا يمكنهم ذلك. قلنا هذا لا يصح لأن الفصاحة ليست بمقصورة على بعض اللغات يمكنهم أن يعرفوا ذلك على سبيل الجملة إذا أمكن أن يعلموا بالأخبار المتواترة أن محمدا كان ظهر عليه القرآن و تحدى العرب و عجزوا أن يأتوا بمثله فيجب أن يكون القرآن معجزا دالا على نبوته و العرب يعرفون ذلك على التفصيل لأن القرآن نزل بلغتهم و العلم به على سبيل الجملة في هذا الباب كاف. و إنما قلنا إنه معجز من حيث إنه ناقض العادة لأن العادة لم يجر أن يتعلم واحد الفصاحة ثم يبرز عليهم بحيث لم يمكنهم أن يأتوا بما يقاربه فإذا أتى به كذلك كان معجزا. و أما القائلون بأن إعجازه بالفصاحة و النظم معا قالوا إن الذي يدل على أن التحدي كان بالفصاحة و النظم معا إنا رأينا النبي عليه السلام أرسل التحدي إرسالا و أطلقه إطلاقا من غير تخصيص يحصره فقال مخبرا عن ربه قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً و قال وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. فترك القوم استفهامه عن مراده بالتحدي هل أراد مثله في الفصاحة دون النظم أو فيهما جميعا أو في غيرهما فعل من سبق الفهم إلى قلبه و زال الريب عنه لأنهم لو ارتابوا لسألوه و لو شكوا لاستفهموه و لم يجز ذلك على هذا إلا و التحدي واقع بحسب عهدهم و عادتهم و قد علمنا أن عادتهم جارية في التحدي   باعتبار طريقة النظم مع الفصاحة و لهذا لا يتحدى الشاعر الخطيب الذي لا يتمكن من الشعر و لا الخطيب الشاعر و إنما يتحدى كل بنظيره و لا يقنع المعارض حتى يأتي بمثل عروض صاحبه كمناقضة جرير للفرزدق و جرير للأخطل و إذا كانت هذه عادتهم فإنما اختلفوا في التحدي عليها. فإن قيل عادة العرب و إن جرت في التحدي بما ذكرتموه فلا يمنع صحة التحدي بالفصاحة دون طريقة النظم لا سيما و الفصاحة هي التي يصح فيها التفاضل و إذا لم يمتنع ذلك فبما أنكرتم أن يكون تحداهم بالفصاحة دون النظم فأفهمهم قصده فلهذا لم يستفهموه. قلنا ليس نمنع أن يقع التحدي بالفصاحة دون النظم فمن أين عرفته و إنما سمعناه في التحدي بالقرآن من حيث أطلق التحدي به و عرى عما يخصه بوجه دون وجه فحملناه على ما عهده القوم و ألفوه في التحدي فلو كان أفهمهم تخصيص التحدي بقول مسموع لوجب أن ينقل إلينا لفظه و لا نجد له نقلا و لو كان أفهمهم بمخارج الكلام أو بإشارة و غيرها لوجب اتصاله بنا أيضا فإن ما يدعو إلى النقل للألفاظ يدعو إلى نقل ما يتصل بها من مقاصد و مخارج سيما فيما تمس الحاجة إليه. أ لا ترى أنه لما نفى النبوة بعد نبوته بقوله لا نبي بعدي أفهم مراده السامعين من هذا القول أنه عنى لا نبي بقي من البشر كلهم و أراد بالبعد عموم سائر الأوقات اتصل ذلك بنا على حد اتصال اللفظ و في ارتفاع كل ذلك من النقل دليل على صحة قولنا. على أن التحدي لو كان مقصورا على الفصاحة دون النظم لوقعت المعارضة من القوم ببعض فصيح شعرهم أو بليغ كلامهم لأنا نعلم خفاء الفرق بين قصار السور و فصيح كلام العرب. فكان يجب أن يعارضوه فإذا لم يفعلوا فلأنهم فهموا من التحدي الفصاحة و طريقة النظم و لم يجتمعا لهم و اختصاص القرآن بنظم مخالف لسائر ضروب

    الكلام أوضح من أن يتكلف الدلالة عليه. و قد قال السيد و عندي أن التحدي وقع بالإتيان بمثله في فصاحته و طريقته في النظم و لم يكن بأحد الأمرين و لو وقعت المعارضة بشعر منظوم أو برجز موزون أو بمنثور من الكلام ليس له طريقة القرآن في النظم لم تكن واقعة موقعها و الصرفة على هذا إنما كانت بأن يسلب الله كل من رام المعارضة للعلوم التي يتأتى معها مثل فصاحة القرآن و طريقته في النظم و لهذا لا يصاب في كلام العرب ما يقارب القرآن في فصاحته و نظمه. و أما القائلون بأن إعجاز القرآن في النظم المخصوص قالوا لما وجدنا الكلام منظوما موزونا و منثورا غير موزون و المنظوم هو الشعر و أكثر الناس لا يقدرون عليه فجعل الله تعالى معجز نبيه النمط الذي يقدر عليه كل أحد و لا يتعذر نوعه في كلهم و هو الذي ليس بموزون فيلزم حجته الجميع. و الذي يجب أن يعلم في العلم بإعجاز النظم هو أن يعلم مباني الكلام و أسباب الفصاحة في ألفاظها و كيفية ترتيبها و تباين ألفاظها و كيفية الفرق بين الفصيح و الأفصح و البليغ و الأبلغ و تعرف مقادير النظم و الأوزان و ما به يبين المنظوم من المنثور و فواصل الكلام و مقاطعه و مباديه و أنواع مؤلفه و منظومه ثم ينظر فيما أتى به حتى يعلم أنه من أي نوع هو و كيف فضل على ما فضل عليه من أنواع الكلام حتى يعلم أنه من نظم مباين لسائر المنظوم و نمط خارج من جملة ما كانوا اعتادوه فيما بينهم من أنواع الخطب و الرسائل و الشعر و المنظوم و المنثور و الرجز و المخمس و المزدوج و العريض و القصير فإذا تأملت ذلك و تدبرت مقاطعه و مفاتحه و سهولة ألفاظه و استجماع معانيه و أن كل واحد منها لو غيرت لم يكن أن يؤتى بدلها بلفظة هي أوفق من تلك اللفظة و أدل على المعنى منها و أجمع للفوائد و الزوائد منها و إذا كان كذلك فعند تأمل جميع ذلك يتحقق ما فيه من النظم اللائق و المعاني الصحيحة التي لا يكاد يوجد مثلها على نظم تلك العبارة و إن اجتهد البليغ و الخطيب.   و في خواص نظم القرآن وجوه أولها خروج نظمه عن صورة جمع أسباب المنظومات و لو لا نزول القرآن لم يقع في خلد فصيح سواها و كذلك قال عتبة بن ربيعة لما اختاره قريش للمصير إلى النبي ص قرأ عليه حم السجدة فلما انصرف قال سمعت أنواع الكلام من العرب فما شبهته بشي‏ء منها أنه ورد على ما راعني و نحوه ما حكى الله عن الجن قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ إلى قوله فَآمَنَّا بِهِ فلما عدم وجود شبيه القرآن من أنواع المنظوم انقطعت أطماعهم عن معارضته. و الخاصة الثانية في الروعة التي له في قلوب السامعين فمن كان مؤمنا يجد شوقا إليه و انجذابا نحوه و حكي أن نصرانيا مر برجل يقرأ القرآن فبكى فقيل له ما أبكاك قال النظم. و الثالثة أنه لم يزل غضا طريا لا يخلق و لا يمل تاليه و الكتب المتقدمة عارية عن رتبة النظم و أهل الكتاب لا يدعون ذلك لها. و الرابعة أنه في صورة كلام هو خطاب لرسوله تارة و لخلقه أخرى. و الخامسة ما يوجد من جمعه بين الأضداد فإن له صفتي الجزالة و العذوبة و هما كالمتضادتين. و السادسة ما وقع في أجزائه من امتزاج بعض أنواع الكلام ببعض و عادة ناطقي البشر تقسيم معاني الكلام. و السابعة أن كل فضيلة من تأسيس اللغة في اللسان العربي هي موجودة في القرآن. و الثامنة عدم وجود التفاضل بين بعض أجزائه من السور كما في التوراة كلمات عشر تشتمل على الوصايا يستحلفون بها لجلالة قدرها و كذا في الإنجيل أربع صحف و كذا في الإنجيل محاميد و مسابيح يقرءونها في صلواتهم. و التاسعة وجود ما يحتاج العباد إلى علمه من أصول دينهم و فروعه من التنبيه على طريق العقليات و إقامة الحجج على الملاحدة و البراهمة و الثنوية و المنكرة للبعث القائلين بالطبائع بأوجز كلام و أبلغه ففيه من أنواع الإعراب و العربية

    حتى الطب في قوله كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا فهذا أصل الطب و المحكم و المتشابه و الحقيقة و المجاز و الناسخ و المنسوخ و هو مهيمن على جميع الكتب المتقدمة. و العاشرة وجود قوام النظم في أجزائه كلها حتى لا يظهر في شي‏ء من ذلك تناقض و لا اختلاف و له خواص سواها كثيرة. فإن قيل فهلا كانت ألفاظ القرآن كليتها مؤلفة من قبل الألفاظ الموجزة التي إذا وقعت في الكلام زادته حسنا ليكون كلام الله على النظم الأحسن الأفضل إذ كان لا يعجزه شي‏ء عن بلوغ الغاية كما يعجز الخلق عن ذلك. الجواب أن هذا يعود إلى أنه كيف لم يرتفع أسباب التفاضل بين الأشياء حتى يكون كلها كشي‏ء واحد متشابه الأجزاء و الأبعاض و كيف فضل بعض الملائكة على بعض و متى كان كذلك لم يوجد اختلاف الأشياء يعرف به الشي‏ء و ضده على أنه لو كان كلام الله كما ذكر يخرج في صورة المعمى الذي لا يوجد له لذة البسط و الشرح و لو كان مبسوطا لم تبين فضيلة الراسخين في العلم على من سواهم و أنه تعالى حكيم عليم بأن إلطاف المبعوث إليهم إنما هو في النمط الذي أنزله فلو كان على تركيب آخر لم يكن لطفا لهم. ثم لنذكر وجها آخر للصرفة و هو أن الأمر لو كان بخلافه و كان تعذر المعارضة و العدول عنها لعلمهم بفضله على سائر كلامهم في الفصاحة و تجاوزه له في الجزالة لوجب أن يقع منهم معارضة على كل حال لأن العرب الذين خوطبوا بالتحدي و التقريع و وجهوا بالتعنيف و التبكيت كانوا إذا أضافوا فصاحة القرآن إلى فصاحتهم و قاسوا بكلامهم كلامه علموا أن المزية بينهما إنما تظهر لهم دون غيرهم ممن نقص عن طبقتهم و نزل عن درجتهم دون الناس جميعا ممن لا يعرف الفصاحة و لا يأنس بالعربية و كان ما عليه دون المعرفة لفصيح الكلام من أهل زماننا ممن خفي الفرق عليهم بين مواضع من القرآن و بين فقرات العرب البديعة و كلمهم الغريبة فأي شي‏ء أقعد بهم عن أن يعتمدوا إلى بعض أشعارهم   الفصيحة و ألفاظهم المنثورة فيقابلوه و يدعوا أنه مماثل لفصاحته أو أزيد عليها لا سيما و أكثر من يذهب إلى هذه الطريقة يدعي أن التحدي وقع بالفصاحة دون النظم و غيره من المعاني المدعاة في هذا الموضع. فسواء حصلت المعارضة بمنظوم الكلام أو بمنثوره فمن هذا الذي كان يكون الحكم في هذه الدعوى و جماعة الفصحاء أو جمهورهم كانوا حرب رسول الله ص و من أهل الخلاف عليه و الرد لدعوته و الصدود عن محجته لا سيما في بدو الأمر و أوله و قبل أوان استقرار الحجة و ظهور الدعوة و كثرة عدد الموافقين و تظافر الأنصار و المهاجرين. و لا نعمد إلا على أن هذه الدعوى لو حصلت لردها بالتكذيب من كان في حرب النبي ص من الفصحاء لكن كان اللبس يحصل و الشبهة تقع لكل من ليس من أهل المعرفة من المستجيبين الدعوة و المنحرفين عنها من العرب. ثم لطوائف الناس جميعا كالفرس و الروم و الترك و من ماثلهم ممن لا حظ له في العربية عند تقابل الدعوى في وقوع المعارضة موقعها و تعارض الأقوال من الإجابة بها مكانها ما يتأكد الشبهة و تعظم المحنة و يرتفع الطريق إلى إصابة الحق لأن الناظر إذا رأى جل أصحاب الفصاحة و أكثرهم يدعي وقوع المعارضة و المكافاة و المماثلة و قوما منهم كلهم ينكر ذلك و يدفعه كان أحسن حاله أن يشك في القولين و يجوز في كل واحد منهما الصدق و الكذب فأي شي‏ء يبقى من المعجز بعد هذا و الإعجاز لا يتم إلا بالقطع على تعذر المعارضة على القوم و قصورهم عن المعارضة و المقاربة و التعذر لا يحصل إلا بعد حصول العلم بأن المعارضة لم تقع مع توفر الدواعي و قوة الأسباب و كانت حينئذ لا تقع الاستجابة من عاقل و لا المؤازرة من صديق. و ليس يحجز العرب عما ذكرناه ورع و لا حياء لأنا وجدناهم لم يرعووا عن السب و الهجاء و لم يستحيوا من القذف و الافتراء و ليس في ذلك ما يكون حجة و لا شبهة بل هو كاشف عن شدة عداوتهم و أن الحيرة قد بلغت بهم إلى استحسان

    القبيح الذي يكون نفوسهم تأباه و أخرجهم ضيق الخناق إلى أن أحضر أحدهم أخبار رستم و إسفنديار و جعل يقص بها و يوهم الناس أنه قد عارض و أن المطلوب بالتحدي هو القصص و الأخبار و ليس يبلغ الأمر بهم إلى هذا و هم متمكنون مما ترفع الشبهة فعدلوا عنه مختارين. و ليس يمكن لأحد أن يدعي أن ذلك مما لم يهتد إليه العرب و أنه لو اتفق خطوره ببالهم لفعلوه غير أنه لم يتفق لأنهم كانوا من الفطنة و الكياسة على ما لا يخفى عليهم معه أنفذ الأمرين مع صدق الحاجة و فوتها و الحاجة تفتق الجبل. و هب لم يفطنوا ذلك بالبديهة كيف لم يقعوا عليه مع التفكر و كيف لم يتفق لهم ذلك مع فرط الذكاء و جودة الذهن و هذا من قبيح الغفلة التي تنزه القوم عنها و وصفهم الله بخلافها. و ليس يورد هذا الاعتراض من يوافق في إعجاز القرآن و إنما يصير إليه من خالفنا في الملة و أبهرته الحجة فيرمي العرب بالبله و الغفلة فيقول لعلهم لم يعرفوا أن المعارضة أنجع و أنفع و بطريق الحجة أصوب و أقرب لأنهم لم يكونوا أصحاب نظر و ذكر و إنما كانت الفصاحة صنعتهم فعدلوا إلى الحرب. و هذا الاعتراض إذا ورد علينا كانت كلمة جماعتنا واحدة في رده و قلنا في جوابه إن العرب إن لم يكونوا نظارين فلم يكونوا في غفلة مخامرة في العقول إن مسألة التحدي في فعله و معارضته بمثله أبلغ في الاحتجاج عليه من كل فعل و لا يجوز أن يذهب العرب جلهم عما لا يذهب عنه العامة و الاعتناء بالحرب غير مانعة عن المعارضة و قد كانوا يستعملون في حروبهم من الارتجاز ما لو جعلوا مكانه معارضة القرآن كان أنفع لهم.

في مطاعن المخالفين في القرآن

 قالوا إن في القرآن تفاوتا قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ففي الكلام تكرار بغير فائدة لأن قوله قَوْمٌ مِنْ   قَوْمٍ يغني من قوله نِساءٌ مِنْ نِساءٍ فالنساء يدخلن في قوم يقال هؤلاء قوم فلان الرجال و النساء من عترته. الجواب أن قوله قَوْمٌ لا يقع في حقيقة اللغة إلا على الرجال و لا يقال للنساء ليس فيهن رجل هؤلاء قوم فلان و إنما تسمى الرجال لأنهم هم القائمون بالأمور عند الشدائد كتاجر و تجر و مسافر و سفر و نائم و نوم و زائر و زور يدل عليه قول زهير

و ما أدري و سوف إخال أدري أ قوم آل حصن أم نساء

. و قالوا في قوله تعالى الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي تفاوت كيف يكون الأعين في غطاء عن ذكر و إنما تكون الأسماع في غطاء عنه. الجواب أن الله أراد بذلك عميان القلوب يدل على ذلك قول الناس عمي قلب فلان و فلان أعمى القلب إذا لم يفهم و قال تعالى وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ و قصد القلوب لأن عماها هو المؤثر في باب الدين المانع من الاقتداء فجاز أن يقال للقلب أعمى و إن كان العمى في العين و مثله قوله وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ و الأكنة الأغطية. و سألوا عن قوله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا قالوا لا يقال فلان يجعل لفلان حبا إذا أحبه. الجواب إنما أراد سيجعل لهم الرحمن ودا في قلوب المؤمنين و المعنى إلى يحببهم إلى القلوب. و قالوا في قوله أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ و كانت قريش أميين فكيف جعلهم يكتبون. الجواب أن معنى الكتابة هنا الحكم يريد أ عندهم علم الغيب فهم يحكمون فيقولون سنقهرك و نطردك و تكون العاقبة لنا لا لك و مثله قول الجعدي    

و مال الولاء بالبلاء فملتم و ما ذاك حكم الله إذ هو يكتب

. أي يحكم بيده و مثله وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ و مثل قوله للمتحالفين إليه و الذي نفسي بيده لأقضين فيكما بكتاب الله أي بحكم الله لأنه أراد الرجم و التعذيب و ليس ذلك في ظاهر كتاب الله. و قالوا في قوله وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ و لفظه كما يأتي تشبيه شي‏ء بشي‏ء تقدم ذكره و لم يتقدم في أول الكلام ما يشبه به ما تأخر عنه. قالوا و كذلك قوله لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ما الذي يشبه بالكلام الأول من إخراج الله إياه. قالوا و كذلك قوله وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَما أَرْسَلْنا. الجواب أن القرآن على لسان العرب و فيه حذف و إيماء و وحي و إشارة فقوله أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ فيه حذف كأنه قال أنا النذير المبين عذابا كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ فحذف العذاب إذ كان الإنذار يدل عليه لقوله في موضع آخر أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ و مثله من المحذوف في أشعار العرب و كلامهم كثير. و أما قوله كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ فإن المسلمين يوم بدر   اختلفوا في الأنفال و جادل كثير منهم رسول الله ص فيما فعله في الأنفال فأنزل الله سبحانه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ يجعلها لمن يشاء فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي فرقوه بينكم على السواء وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما بعد إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ و وصف المؤمنين ثم قال كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يريد أن كراهتهم في الغنائم ككراهتهم في الخروج معك. و أما قوله وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَما أَرْسَلْنا فإنه أراد و لأتم نعمتي كإرسالي فيكم رسولا أنعمت به عليكم يبين لكم. سألوا عن قوله وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ و لا يقول أحدهما ذلك. الجواب أنه لما حرق بخت‏نصر بيت المقدس بغى على بني إسرائيل و سبى ذراريهم و حرق التوراة حتى لم يبق لهم رسم و كان في سباياه دانيال فعبر رؤياه فنزل منه أحسن المنازل فأقام عزير لهم التوراة بعينها حين عاد إلى الشام بعد موته فقالت طائفة من اليهود هو ابن الله و لم يقل ذلك كل اليهود و هذا خصوص خرج مخرج العموم. و سألوا عن قوله فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ قالوا كيف جمع الله بينه و بين قوله لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ و هذا خلاف الأول لأنه قال أولا نبذناه مطلقا ثم قال لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ... لَنُبِذَ فجعله شرطا. الجواب معنى ذلك لو لا أنا رحمناه بإجابة دعائه لنبذناه حين نبذناه بالعراء مذموما و قد كان نبذه في حالته الأولى سقيما يدل عليه قوله فَاجْتَباهُ رَبُّهُ   فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ

 لكن تداركه الله بنعمة من عنده فطرح بالفضاء و هو غير مذموم و اختاره الله و بعثه نبيا و لا تناقض بين الآيتين و إن كان في موضع نبذناه مطلقا و هو سقيم و لم يكن في هذه الحالة بمليم و في موضع آخر نبذ مشروطا و معناه لو لا أن رحمنا يونس ع لنبذناه ملوما و كان لوم عتاب لا لوم عقاب لأنه بترك الأولى. و سألوا عن قوله وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ و اسمه في التوراة تارخ فيقال لا ينكر أن يكون له اسمان و كنيتان هذا إدريس في التوراة أخنوخ و يعقوب إسرائيل و عيسى يدعى المسيح و قد قال نبينا لي خمسة أسماء أنا محمد أنا أحمد و العاقب و الماحي و الحاشر و قد يكون للرجل كنيتان كما كان له اسمان فإن حمزة يكنى أبا يعلى و أبا عتبة و صخر بن حرب أبا معاوية و أبا سفيان و أبا حنظلة. و قيل معنى آزر يا ضعيف و يا جاهل و يقال يا معاوني و يا مصاحبي و يا شيخي فعلى هذا يكون ذلك وصفا له و قال الأكثرون إن آزر كان عم إبراهيم و العرب تجعل العم أبا و الصحيح أن آزر كان أبا لأم إبراهيم. و سألوا عن قوله وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً ثم قال قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا و هذا كلام متفاوت لأنه أخبرنا بمدة كهفهم ثم قال اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا و قد علمنا ذلك بما أعلمنا. الجواب أنهم اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم فأعلمنا الله أنهم لبثوا ثلاثمائة فقالوا سنين و شهورا و أياما فأنزل الله سنين ثم قال ازْدَادُوا تِسْعاً و أنا أعلم بما لبثوا من المختلفين. و سألوا عن قوله يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ و لم تكن لمريم أخ يقال له هارون.   الجواب أنه لم يرد بهذا أخوة النسب بل أراد ما يشبه هارون في الصلاح و كان في بني إسرائيل رجل صالح يقال له هارون و قد يقول الرجل لغيره يا أخي و لا يريد به أخوة النسب و يقال هذا الشي‏ء أخو هذا الشي‏ء إذا ما كان مشاكلا له و قال تعالى وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها. و قالوا كيف يكون هذا النظم بالوصف الذي ذكرتم في البلاغة النهاية و قد وجد التكرار من ألفاظه كقوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و نحوه من تكرير القصص. الجواب أن التكرير على وجوه منها ما يوجد في اللفظ دون المعنى كقولهم أطعني و لا تعصني و منها ما يوجد فيهما معا كقولهم عجل عجل أي سرا و علانية و تالله و الله أي في الماضي و المستقبل و قد يقع كل ذلك لتأكيد المعنى و المبالغة فيه و يقع مرة لتزيين النظم و حسنه و الحاجة إلى استعمال كليهما و المستعمل للإيجاز و الحذف ربما عمى على السامع و إنما ذم أهل البلاغة التكرير الواقع في الألفاظ إذا وجدوه فضلا من القول من غير فائدة في التأكيد لمعنى أو لتزيين لفظ و نظم و إذا وجد كذلك كان هذرا و لغوا فأما إذا أفاد فائدة في كل من النوعين كان من أفضل اللواحق للكلام المنظوم و لم يسم تكريرا على الذم و تكرير اللفظ لتزيين النظم أمر لا يدفعه عارف بالبلاغة و هو موجود في أشعارهم. و لنذكر الفرق بين الحيل و المعجزات و هو يتوقف على ذكر الحيل و أسبابها و آلاتها و كيفية التوصل إلى استعمالها و ذكر وجه إعجاز المعجزات. اعلم أن الحيل هي أن صاحب الحيلة يرى الأمر في الظاهر على وجه لا يكون عليه و يخفي وجه الحيلة فيه نحو عجل السامري الذي جعل فيه خروقا تدخل فيها الريح فيسمع منه صوت و منها مخرقة الشعبذة نحو أن يرى الناظر ذبح الحيوان بخفة حركاته و لا يذبحه في الحقيقة ثم يرى من بعد أنه أحياه

    بعد الذبح. و هذا الجنس من الحيل هو السحر و ليست معجزات الأنبياء و الأوصياء عليهم السلام من هذا القبيل بل ما يأتون بها من المعجزات فإنها تكون على ما يأتون به و العقلاء يعلمون أكثرها باضطرار أنها كذلك لا يشكون فيه و أنه ليس فيه وجه حيلة نحو قلب العصا حية و إحياء الميت و كلام الجماد و الحيوانات من السباع و البهائم و الطيور على الاستمرار في أشياء مختلفة و الإخبار عن الغيب و الإتيان بخرق العادة و نحو القرآن في بلاغته و الصرفة فإنه يعلم كونه معجزا أكثر الناس باستدلال و لهذا قال تعالى في قوم فرعون و ما رواه من معجزات موسى ع وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً. فإن قيل بما أنكرتم أن يكون في الأدوية ما إذا مس به ميت حيي و عاش و إذا جعل في عصا و نحوها صارت حية و إذا سقي حيوانا تكلم و إذا شربه الإنسان صار بليغا بحيث يتمكن من مثل بلاغة القرآن. قلنا ليس يخلو إما أن يكون للناس طريق إلى معرفة ذلك الدواء أو لا يكون لهم طريق إلى معرفته فإن كان لهم إليه طريق لزم أن يكون الظفر به ممكنا و كانوا يعارضون به و لا يكون معجزا و إن لم يمكن الظفر به لزم أن يكون الظفر به معجزا لأنه يعلم أنه ما ظفر به إلا بأن الله أطلعه عليه فعلم بذلك صدقه ثم يعلم من بعد بخبره أن ذلك ليس من قبله نحو القرآن بل هو منه تعالى أنزله عليه. و كذلك هذا في الدواء الذي جوزه السائل في إحياء الموتى لا يخلو إما أن لا يمكن الظفر به أو يمكن فعلى الأول يلزم أن يكون الظفر به معجزا للنبي أو الوصي لأنه يعلم أنه ما ظفر به إلا بأن أطلعه الله عليه فيعلم بذلك صدقه و إن أمكن الظفر به و هو الوجه الثاني فالواجب أن يسهل الإحياء لكل أحد و المعلوم خلافه.   ثم اعلم أن الحيل و السحر و خفة اليد كلها وجوه متى فتش عنها الإنسان يقف على تلك الوجوه و لهذا يصح فيها التلمذ و التعلم و لا يختص به واحد دون آخر مثاله أنهم يأخذون البيض و يضعونه في الخل و يتركونه فيه يومين و ثلاثة حتى يصير قشره الفوقاني لينا بحيث يمكن أن يطول فإذا صار طويلا يمده كذلك يطرح في قارورة ضيقة الرأس فإذا صار فيها يصب فيها الماء البارد حتى يصير البيض مدورا كما كان و يذهب ذلك اللين من قشره الفوقاني بذلك بعد ساعات و يشتد بحيث ينكسر انكساره أولا فيظن الغفلة أن المعجز مثله و هو حيلة. و نحو ذلك ما ألقى سحرة فرعون من حبالهم و عصيهم تخيل الناظر أنها تسعى احتالوا في تحريك العصا و الحبال بما جعلوا فيها من الزيبق فلما طلعت الشمس عليها تحركت بحرارة الشمس و غير ذلك من أنواع الحيل و أنواع التمويه و التلبيس و خيل إلى الناس أنها تتحرك كما تتحرك الحية و إنما سحروا أعين الناس لأنهم أروهم شيئا لم يعرفوا حقيقة و خفي ذلك عليهم لبعده منهم فإنهم لم يخلوا الناس يدخلون فيما بينهم. و في هذه دلالة على أن السحر لا حقيقة له لأنها لو صارت حيات حقيقة لم يقل الله تعالى سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ بل كان يقول فلما ألقوها صارت حيات ثم قال تعالى وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ أي ألقاها فصارت ثعبانا فإذا تبتلع ما يأفكون فيه من الحبال و العصي و إنما ظهر ذلك للسحرة على الفور لأنهم لما رأوا تلك الآيات و المعجزات في العصا علموا أنه أمر سماوي لا يقدر عليه غير الله فمنها قلب العصا حية و منها أكلها حبالهم و عصيهم مع كثرتها و منها فناء حبالهم و عصيهم في بطنها إما بالتفرق أو الخسف و إما بالفناء عند من جوزه و منها عودها عصا كما كانت من غير زيادة و لا نقصان و كل عاقل يعلم أن مثل هذه الأمور لا تدخل تحت مقدور البشر فاعترفوا كلهم و اعترف

    كثير من الناس معهم بالتوحيد و بالنبوة و صار إسلامهم حجة على فرعون و قومه. و أما معجزات الأنبياء و الأوصياء ص فإن أعداء الدين كانوا يعتنون بالتفتيش عنها فلم يعثروا على وجه حيلة فيها و لذلك كل من سعى في تفتيش عوارهم و تكذيبهم يفتش عن دلالتهم أ هي شبهات أم لا فلم يوقف منها على مكر و خديعة منهم عليهم السلام و لا في شي‏ء من ذلك أ لا ترى أن سحره فرعون كانت همهم أشد في تفتيش معجزة موسى فصاروا هم أعلم الناس بأن ما جاء به موسى ع ليس بسحر و هم كانوا أحذق أهل الأرض بالسحر و آمنوا و قالوا لفرعون وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ فقتلهم فرعون و هم يقولون لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ و قيل إن فرعون لم يصل إليهم و عصمهم الله تعالى منه. و أما القمر الذي أطلعه المعروف بالمقنع فإنه ليس بأمر خارق للعادة و إنما هو إجراء عين من العيون التي تنبع في الجبال في ذلك الموضع متى كانت الشمس في برج الثور و الجوزاء سامتت تلك العين انعكس فيها الشعاع إلى الجو و هناك تكثر الأبخرة في الحر و تتراكم و تتكاثف فيركد الشعاع الذي انعكس من العين فيها فيرى إلى الناس صورة القمر و على هذا لما طمت تلك العين فسد ما فعله المقنع و قد عثر على ذلك و اطلع و كل من اطلع على ذلك الوقت و أنفق المال و أتعب الفكر فيه أمكنه أن يطلع مثل ما أطلعه المقنع إلا أن   الناس يرغبون عن إنفاق المال و إتيان الفكر فيما يجري هذا المجرى سيما و إن تم لهم نسبوه إلى الشعوذة. و أما الطلسمات فإن في الناس من يسمي الحيل الباقية بها و ذلك مجاز و استعارة و إلا فالطلسمات هي التي ظاهرها و باطنها سواء و لا يظهر فيها وجه حيلة كما كان على المنارة الإسكندرية و كما روي أن الله تعالى بفضة أمر نبيا من الأنبياء المتقدمين أن يأخذ طيرا من نحاس أو شبه و يجعله على رأس منارة كانت في تلك الولاية و لم يكن فيها شجر الزيتون و كان أهلها محتاجين إلى دهن الزيت للمأدوم و غيره فإذا كان عند إدراك الزيتون بالشامات خلق الله صوتا في ذلك الطير فيذهب ذلك الصوت في الهواء فيجتمع إلى ذلك ألوف ألوف من أجناسه

    في منقار كل واحد زيتونة فيطرحها على ذلك الطير فيمتلئ حوالي المنارة من الزيتون إلى رأسها و كان ذلك الطير غير مجوف فلا يدعى أنها من الحيل التي يأخذها الناس الصندوق الساعة و نحوها و لا يسمع لذلك الطير صوت إلا عند إدراك الزيتون في السنة و كان أهلوها ينتفعون به طول السنة بذلك فهي عندنا من معجزاته باقية للأنبياء الماضين و الأوصياء المتقدمين و لهذا لم يظهر طلسم بعد محمد ص و حان قصور أيدي الأئمة ع. و أما الزراقون الذين يتفق لهم من الإصابة على غير أصل كالشغراني   فإنه كان ذكيا حاضر الجواب فطنا بالزرق معروفا به كثير الإصابة فيما يخرصه من الإصابة حتى قال المنجمون إن مولده و ما يتولاه كواكبه اقتضى له ذلك و ذلك باطل لأنه لو كانت الإصابة بالمواليد لكان النظر في علم النجوم عبثا لا يحتاج إليه لأن المولد إذا اقتضى الإصابة أو الخطاء فالتعلم لا ينفع و تركه لا يضر و هذه علة تسري إلى كل صنعة حتى يلزم أن يكون كل شاعر مفلق و صانع حاذق و ناسج للديباج موفق لا علم له بذلك و إنما اتفقت له الصنعة بغير علم لما يقتضيه كواكب مولده و ما يلزم من الجهالة على هذا لا يحصى. ثم اعلم أن النبي ص كان يذكر أخبار الأولين و الآخرين من ابتداء خلق الدنيا إلى انتهائها و أمر الجنة و النار و ذكر ما فيهما على الوجه الذي صدقه عليه أهل الكتاب و كان لم يتعلم و لم يقعد عند حبر و لم يقرأ الكتب فإذا كان كذلك فقد بان اختصاصه بمعجزة لأن ما أتى به من هذه الأخبار لا على الوجه المعتاد في معرفتها من تلقيها من ألسنة الناطقين لا يكون إلا بدلالة تكون علما على صدقه. و ما أخبر به عن الغيوب التي تكون على التفصيل لا على الإجمال كقوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ و كان كما أخبر به و لم يكن عليه و آله السلام صاحب تقويم و حساب أصطرلاب و معرفة بطالع نجم و زيج و كان ينكر على المنجمين فيقول من أتى عرافا أو كاهنا فآمن بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد و قد علمنا أن الإخبار عن الغيوب على التفصيل من حيث لا يقع فيه خلاف بقليل و لا بكثير من غير استعانة على ذلك بآلة أو حساب أو تقويم كوكب طالع أو على التنجيم الذي يخطئ مرة و يصيب مرة لا يمكن إلا من ذي معجزة مخصوصة قد خصه الله تعالى بإلهام من عنده أو أمر يكون ناقضا للعادة الجارية في معرفة مثلها إظهارا لصدق من يظهرها عليه و علامة له.   و اعلم أنه قد تضمن القرآن و الأحاديث الصحيحة الإخبار عن الغيوب الماضية و المستقبلة فأما الماضية فكالإخبار عن أقاصيص الأولين و الآخرين من غير تعلم من الكتب المتقدمة على ما ذكرنا. و أما المستقبلة فكالإخبار عما يكون من الكائنات و كان كما أخبر عنها على الوجه الذي أخبر عنها على التفصيل من غير تعلق بما يستعان به على ذلك من تلقين ملقن و إرشاد مرشد أو حكم بتقويم أو رجوع إلى حساب كالكسوف و الخسوف و من غير اعتماده على أصطرلاب و طالع و ذلك قوله تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ و كقوله مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ و كقوله سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ و كقوله لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً و كقوله فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا و كقوله وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها إلى قوله قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها و نحو ذلك من الآيات و كان كلها كما قال. و الأحاديث المعجزة أيضا كثيرة لا يتفق أمثالها على كثرتها مع ما فيها من تفصيل الأحكام المفصلة عن المنجمين فتقع كلها صدقا فيعلم أن ذلك بإلهام ملهم الغيوب يعرف له حقائق الأمور. و وجه آخر و هو ما في القرآن و الأحاديث من الإخبار عن الضمائر كقوله إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا من غير أن ظهر منهم قول أو فعل بخلاف ذلك و كقوله وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ من غير أن يسمعه منهم و لا ينكرونه و كقوله وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ   أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ

 يخبرهم بما يريدون في أنفسهم و ما يهمون به و كعرضه تمني الموت على اليهود في قوله فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ و قوله وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فعرفوا صدقه فلم يجسر أحدهم أن يتمنى الموت لأنه قال لهم إن تمنيتم الموت متم فدل جميع ذلك على صدقه بإخباره عن الضمائر و كذا ما ذكرناه من معجزات الأوصياء فدل على صدقهم و كونهم حججا لله. فإن قيل فما الدليل على أن أسباب الحيل مفقودة في أخباركم حتى حكمتم بصحة كونها معجزة. قلنا كثير من تلك المعجزات لا يمكن فيها الحيل مثل انشقاق القمر و حديث الاستسقاء و إطعام الخلق الكثير من الطعام اليسير و خروج الماء من بين الأصابع و الإخبار بالغائبات قبل كونها و مجي‏ء الشجرة ثم رجوعها إلى مكانها لا تتم الحيلة فيها و إنما تتم الحيلة في الأجسام الطفيفة التي يحدث بالتطفل و القسر و غير ذلك و لا يتم مثله في الشجرة و الجبل لأنه لو كان لوجب أن يشاهد. فإن قيل يجوز أن يكون هاهنا جسم يجذب الشجرة كما أن هاهنا حجرا يجذب الحديد يسمى المغناطيس. قلنا لو كان الأمر كذلك لعثر عليه و لظفر به مع تطاول الزمان كما عثر على حجر المغناطيس حتى علمه كل واحد فلو جاز ما قالوه للزم أن يقال هاهنا حجر يجذب الكواكب و يقلع الجبال من أماكنها و إذا قربت من ميت عاش فيؤدي ذلك إلى أن لا نتيقن بشي‏ء أصلا و يؤدي ذلك إلى الجهالات و كان ينبغي أن يطعن بذلك أعداء الدين و مخالفو الإسلام لأنهم إلى ذلك أشغف و كذلك القول في خروج الماء من بين أصابعه إن ادعى طبيعة فيه أو حيلة لزم تجويز ذلك في قلع الجبال و جذب الكواكب و إحياء الموتى و كل ذلك فاسد و حنين الجذع لا يمكن أن يدعى أنه كان لتجويف فيه لأنه لو كان كذلك لعثر عليه مع   المشاهدة و لكان لا يسكن مع الإلزام و تسبيح الحصا و تكليم الذراع لا يمكن فيه حيلة البتة و في سماع الكلام من الذراع وجهان أحدهما أن الله بنى الذراع بنية حي صغير و جعل له آلة النطق و التميز يتكلم بما يسمع و الآخر أن الله خلق فيه كلاما سمع من جهتها و أضافه إلى الذراع مجازا. و قول من قال لو انشق القمر لرآه كل الناس لا يلزم لأنه لا يمتنع أن يكون الناس في تلك الحال مشاغيل فإنه كان بالليل فلم يتفق لهم مراعاة ذلك فإنه بقي ساعة ثم التأم و أيضا فإنه لا يمتنع أن يكون الغيم حال بينه و بين من لم يشاهده فلأجل ذلك لم يره الكل و أكثر معجزات الأئمة ع تجري مجرى ذلك فالكلام فيها كالكلام في ذلك. ثم نقول في الفصل بين المعجزة و الشعوذة و نحوها فرق قوم من المسلمين بين المعجزات و المخاريق بأن قالوا المعجزة يظهرها الله لرسول أو وصي رسول عند الأفاضل من أهل عصره و الأماثل منهم فيتعذر عليهم فعلها عند التأمل لها و النظر فيها على كل حال و الشعوذة يظهرها صاحبها عند الضعفة من العوام و العجائز فإذا بحث عن أسبابها المبرزون وجدوها مخرقة و المعجزة على مر الأيام لا تزداد إلا عن ظهور صحة لها و لا تنكشف إلا عن حقيقة فيها. و إن الشعوذة ربما تعلم من يظهر عليه مخرجها و طريقها و كيف يتأتى و يظهر مما يهتدي صاحبها إلى أسبابها و يعلم أن من شاركه فيها أتى بمثل ما يأتي هو به و إن المعجزة يجري أمرها مجرى ما ظهر في عصا موسى ع من انقلابها حية تسعى حتى انقادت إليه السحرة و خاف موسى أن تلتبس بالشعوذة على كثير من الحاضرين. و إن المعجزة تظهر عند دعاء الرسول أو الوصي ابتداء من غير تكلف آلة و أداة منه و الشعوذة مخرقة و خفة يد تظهر على أيدي بعض المحتالين بأسباب

    مقدرة لها و حيل متعلمة أو موضوعة فيمكن المساواة فيها و لا يتهيأ ذلك إلا لمن عرف مباديها و لا بد من آلات يستعين بها في إتمام ذلك و يتوصل بها إليه. و اعلم أن المعجزة أمر يتعذر على كل من في العصر مثله عند التكليف و الاجتهاد على المشعبذين فضلا عن غيرهم كعصا موسى الذي أعجز السحرة أمرها مع حذقهم في السحر و صنعتهم و الشعبذة مخرقة و خفة تظهر على أيدي بعض المحتالين بأسباب مقدرة يخفى على قوم دون قوم و المعجزة تظهر على أيدي من يعرف بالصدق و الصيانة و الصلاح و السداد و الشعوذة تظهر على أيدي المجانين و الخبثاء و الأرذال و المعجزة يظهرها صاحبها متحديا و دلائل العقل يوافقها على سبيل الجملة و يباهي بها جميع الخلائق و لا يزيده الأيام إلا وضوحا و لا يكشف الأوقات إلا عن صحته و للمعجزات شرائط ذكرناها. و لأن أكثر الشعوذة و المخرقة تتعلق بزمان مخصوص و مكان معلوم و يستعان في فعلها بالأدوات و المعاناة و المعالجة و المعجزة لا تتعلق بزمان مخصوص و لا ببقعة مخصوصة و لا يستعين فيها صاحبها بآلة و لا أداة و إنما يظهرها الله على يده عند دعائه و دعواه و هو لم يتكلف في ذلك شيئا و لا استعان فيها بمعاونة و لا معالجة و لا أداة و آلة و أنها على الوجه الناقض للعادات و الباهر للعقول القاهر للنفوس حتى تذعن لها الرقاب و الأعناق و تخضع لها النفوس و تسموا إليها القلوب ممن أراد أن يعلم صدق من أظهرها عليه.

و أما مطاعن المعجزات و جواباتها

فذكر ابن زكريا المتطبب في مقابلة المعجزات أمورا يسيرة فذكر ما نقل عن زردشت من صب الصفر المذاب على صدره و من بعض سدنة بيت الأوثان أنه كان منحنيا على سيف و قد خرج من ظهر لا يسيل منه دم بل ماء أصفر و كان يخبرهم بأمور قال و رأيت رجلا كان يتكلم من إبطه و آخر لم يأكل خمسة و عشرين يوما و هو مع ذلك حصيف البدن و أين ما ذكروه من فلق البحر حتى صار كل فرق منه كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ و من إحياء ميت متقادم العهد و يبقى حيا   حتى يولد و انفجار الماء الكثير من حجر صغير أو من بين الأصابع حتى يشرب الخلق الكثير. و الذي ذكره ابن زكريا عن زردشت إنما يمكن منه بطلاء الطلق و هو دواء يمنع من الاحتراق و في زماننا نسمع أن أناسا يدخلون التنور المسجور بالغضا. و أما إراءة السيف نافذا في البطن شعبذة معروفة فإنهم يصنعونه بحيث يدخل بعضه في البعض فيري المشعبذ أنه يدخل جوفه. و أما الإمساك عن أكل الطعام فهو عادة يعتادها كثير من الناس و المتصوفة يعودون أنفسهم التجويع أربعين يوما و قيل إن بعض الصحابة كان يصوم الوصال خمسة عشر يوما و أما المتكلم من الإبط فيجوز أن يكون ذلك أصواتا مقطعة قريبة من الحروف و أن يكون حروفا متميزة كأصوات كثير من الطيور و قد يسمع من صرير الباب ما يقرب من الحروف و هو مبهم في هذه الحكاية فيجوز أن يخبر أن ذلك كان كلاما خالصا و يجوز أن يتعمل الإنسان له و يصل إلى ذلك بالتجربة و الاستعمال و قد رأينا في زماننا من كان يحكي عن الحلاج أغرب و أعجب و قد وقع العلماء على وجوه الحيل فيها و ما من حيلة إلا و يحصل عقيب سبب و ليس فيها ما تنقض به العادة. و طعن ابن زكريا في المعجزات من وجه آخر فقال و قد يوجد في طبائع الأشياء أعاجيب و ذكر حجر المغناطيس و جذبه للحديد و باغض الخل و هو حجر إذا جعل في إناء خل فإنه يهرب منه و لا ينزل إلى الخل و الزمرد يسيل عين الأفعى و السمكة الرعادة يرتعد صاحبها ما دامت في شبكته و كان آخذا بخيط الشبكة قال و لا نقطع أيضا فيما يأتي به الدعاة أنها ليست منهم بل تنقض الطبائع إلا أن يدعي مدع أنه أحاط علما بجميع طبائع جواهر العالم أو بامتناع ذلك بدليل بين.   و ذكر أبو إسحاق بن عباس أنه أخذ هذا على ابن الراوندي فإنه قال في كتاب له سماه الرد على من يحتج بصحة النبوة بالمعجزات فقال و من أين لكم أن الخلق يعجزون عنه هل شاهدتم الخلق أو أحطتم علما بمنتهى قواهم و حيلهم فإن قالوا نعم فقد كذبوا لأنهم لم يجوبوا المشرق و المغرب و لا امتحنوا الناس جميعا ثم ذكر أفعال الأحجار كحجر المغناطيس و غيره. قال أبو إسحاق فأجابه أبو علي في نقضه عليه أنه يجوز أن يكون في الطبائع ما يجذب به النجوم و تسير به الجبال في الهواء و يحيا به الموتى بعد ما صاروا رميما فإذا لا يمكن أن يفصل بين الممكن المعتاد و ما ليس بمعتاد و لا بين ما ينفذ فيه حيلة و بين ما لا ينفذ فيه حيلة إلا أن يجوب البلاد شرقا و غربا و يعرف جميع قوى الخلق فأما إذا سلم أن يعلم ما الممكن المعتاد و غيره و ما لا يبعد فيه حيلة ليريه النظير في المعجزات قبل أن يجوب البلاد فليس يحتاج من يعرف كون الجاذب معجزا إلى ما ذكره من معرفة قوى الخلق و طبائع الجواهر و لهذا لو ادعى واحد النبوة و جذب بالتراب الجبل علمنا أنه ليس فيه وجه حيلة و إنا نعلم بذلك صدقه قبل أن نجوب البلاد و نعرف جميع الطبائع. و قال أبو إسحاق إن جميع ما ذكره في خصائص الإعجاز أكثره كذب و ذكر أن واحد أمر أن يجي‏ء بالأفاعي في سبد و جعل الزمرد في رأس قصبة و وجه به عين الأفاعي فلم تسل ثم إن جميع ما ذكره يسقط بما شرطناه في المعجزات و يفتش عنه أهل النظر و من يقوى دواعيه إلى كشف عواره الزمان الطويل فلا يوقف منه على وجه حيلة ففيما ذكره ما هو معتاد ظاهر لأكثر الناس كحجر المغناطيس أو وقف منه على وجهه.   

فصل

و إنما يقول المنكرون لمعجزات النبي و الأئمة عليهم أفضل الصلوات و التحية أن الأخبار التي يذكرون و الأحاديث التي يعولون عليها في معجزاتهم و يصولون بها إنما رواها الواحد و الاثنان و مثل ذلك لا يمكن القطع بعينه و الحكم بصحته و أمر المعجزات و الخارج عن العادات يجب أن يكون معلوما متعينا غير مظنون يتوهم. و الجواب عن ذلك أن أخبارنا في معجزات النبي و الأئمة صلوات الله عليهم جاءت من طرق مختلفة و مواضع مفترقة و مظان متباعدة و فرق مخالفة و موافقة في زمان بعد زمان و قرن بعد قرن و كذلك رويت المعجزات من جنس واحد من كل واحد منهم ع و لا يمكن أن يتواطأ الناس على مثل هذا فلا يكون مخبرهم على ما أخبروا به جميعا لأن ذلك ينقض عادتهم كما نقض العادة الاجتماع على الكذب في الجماعات الكثيرة. و مما يدل على ذلك إباؤها من تواطئ الكذب كما إذا أخبر جمهور من الناس فقال بعضهم إن رجلا له مال من ذهب و ورق و آخرون يخبرون عنه أنهم رأوا له أثاثا و جهازا و أواني و آلات و أسبابا و قوم آخرون أن له غلات و ارتفاعات و ضياعا و عقارا و آخرون يخبرون عنه أنهم رأوا له خيلا و بغالا و حميرا إن الخبر إذا ورد عن الإنسان بما ذكرنا أحيط إلى العلم بأن المخبر عنه غني موسر لا يقدر أحد على دفع علم ذلك عن نفسه إذا نظر بعين الإنصاف في تلك الأخبار و إن كان يجوز على كل واحد من المخبرين اللغط و الكذب في خبره لو انفرد من عصابة غيره ثم إن إجماع الفرقة المحقة منعقد على صحة أخبار معجزات الرسول و الأئمة من أهل بيته ع و إجماعهم حجة لأن فيهم معصوما.

فصل

و من أخبار المعجزات أخبار تفاوت أخبار الجماعات الكثيرة نحو خبر الحصاة و إشباع الخلق الكثير بالطعام اليسير و ذلك أن المخبرين بهذه الأخبار إنما أخبروا عن حضرة جماعة ادعوا حضورهم كذلك فقد كانوا خلائق كثيرين مجتمعين شاهدي الحال و كانوا فيمن شرب من الماء و أكل من الطعام فلم   ينكروا عليهم و لو كان الخبر كذبا لمنعت الجماعة التي ادعى المخبرون حضورهم بذلك و أنكروا عليهم و لقالوا لم يكن هذا و لا شاهدناه فلما سكتوا عن ذلك دل على تصديقهم و إن ذلك يجري مجرى المتواتر نقلا في الصحة و القطع. و مما يدل على ذلك أن رجلا لو عمد إلى الجامع و الناس مجتمعون و قال إنكم كنتم في موضع كذا في دار كذا لأملاك فلان فأطعمكم كذا من الطعام و كذا من الشراب لم يمتنعوا أن ينكروا عليه و لا سكتوا عن تكذيبه في الأمر الذي لا يمتنع في العادة فكيف في الأمر الذي خرج عن العادات و النفوس إلى إنكار المنكر أسرع. و من هذه الأخبار أخبار انتشرت في الأمة و لم يوجد له منكر و لا مكذب بل تلقوه بالقبول فيجب المصير إليه لاجتماع عليه من الأمناء و الطائفة المحقة و هم لا يجتمعون على خطاء و فيهم معصوم في كل زمان. و ما رووا أن زوجين من الطير جادلا إلى أحدهم ع و صالح بينهما أو شكا طير من حية في موضع يأكل فراخه فأمر بقتل الحية فلا خفاء في كونه معجزا فأما ما سئل الحسين ع و هو صبي عن أصوات الطيور و الحيوانات فإعجازه من وجه آخر و نحوه قول عيسى في المهد إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ و كلاهما نقض العادة إذ ليس في مقدور الأطفال التكلم بما يتكلم به و قيل إن نفس الدعوى في بعض المواضع معجز.

فصل

و الأخبار المتواترة توجب العلم على الإطلاق و كذلك إذا كانت غير متواترة و قد اقترن بها قرينة من أحد خمسة أشياء من أدلة العقل و الكتاب و السنة المقطوع بها أو إجماع المسلمين أو إجماع الطائفة فهذه القرائن تدخل الأخبار و إن كانت آحادا في باب المعلوم فيكون ملحقة بالمتواتر و العلوم التي تحصل عند الأخبار المتواترة لكل عاقل ملتبسة عند الشيخ المفيد. و ذهب المرتضى إلى تقسيم ذلك فقال العلوم بأخبار البلدان و الوقائع و نحوها يجوز أن تكون ضرورية و يجوز أن تكون ملتبسة و ما عداها كالعلم   بمعجزات النبي و الأئمة ع و كثير من أحكام الشريعة فيقطع على أنه مستدل عليه و هذا أصح و الأدلة في أن الأول فعل الله أو فعل العباد قائمة كافية و إذا كان كذلك وجب التوقف و تجويز كل واحد منهما. و الخبر إذا لم يكن ما يجب وقوع العلم عنده و اشتراك العقلاء فيه و جاز وقوع الشبهة عليه فهو أيضا صحيح على وجه و هو أن يرويه جماعة قد بلغت من الكثرة إلى حد لا يصح معه أن يتفق فيها و أن يعلم مضافا إلى ذلك أنه لم يجمعهم على الكذب جامع كالتواطئ أو ما يقوم مقامه و يعلم أيضا أن اللبس و الشبهة زائلان عما خبروا عنه. هذا إذا كانت الجماعة تخبر بلا واسطة عن المخبر فإن كان بينهما واسطة وجب اعتبار هذه الشروط في جميع من خبرت عنه من الجماعات حتى يقع الانتهاء إلى نفس المخبر و إذا صحت هذه الجملة في صحة الخبر الذي لا بد أن يكون المخبر صادقا من طريق الاستدلال بنينا عليها صحة المعجزات و غيرها من أحكام الشرع.

فصل

و قد ذكرنا من قبل أنهم كثيرا ما يوردون السؤال علينا و يقولون قد جاء في العالم حجر يجذب الحديد إلى نفسه فلم يجب اتباع من يجذب الشجر إلى نفسه كذلك إذ لا نأمن أن يكون معه شي‏ء مما يفعل به ذلك و يؤكدون قولهم بأن المقرين لمعجزات الرسل لم يمتحنوا قوى الخلق و لم يعرفوا نهايته و لم يقعوا على طبائع العالم و كيف يستعان بها على الأفعال و لم يحيطوا علما بأكثرهم و لم يأتهم في مظانهم و لا امتحنوا قواهم و مبالغ حيلهم و مخرقة أصحاب الخفة و أشكالهم. الجواب عنه أن يقال قد لزم النفس العلم لزوما لا يقدر على دفعه بأن ما ذكروا ليس في العالم كما لزمها العلم بأن ليس في العالم حجر إذا أمسكه الإنسان عاش أبدا و إذا وضعه على الموات عاد حيوانا و إذا وضعه على العين العمياء عادت صحيحة و لا فيه ما يرد الرجل المقطوعة و لا ما به يزال الزمانة   الحالة و لا فيه شي‏ء يجتذب به الشمس و القمر من أماكنهما. فلما لزم النفس على ما ذكرنا كذلك لزوم العلم للنفس بأن ليس في العالم حجر يجذب الشجر من أماكنها و يشق به البحور و يحيا به الأموات. و أيضا فإن حجر المغناطيس لما كان موجودا في العالم طلب دون الحاجة إليه حتى بدروا عليه لما فيه من الأعجوبة و خاصة لإرادة التلبث به و استخراج نصل السهم من البدن بذلك فلو كان فيه حجر أو شي‏ء يجذب الشجر فإنه كان أعز من حجر المغناطيس و كان سبيله سبيل الجواهر و غيرها لا يخفى على من في العالم خبرها. كالجوهر الذي يقال له الكبريت الأحمر و لعزته ضرب به المثل فقيل أعز من الكبريت الأحمر و كانت الملوك أقدر على هذا الحجر كما هم أقدر على ما عز من الأدوية و غيرها من الأشياء العزيزة فلما لم يكن من هذا أثر عندهم و لا خبر لكونه بطل أن يكون له كون أو وجود و لو كان كيف كان الرسل و أوصياؤهم عليه مع فقرهم و عجزهم في الدنيا و ما فيها و يكون معروف المنشأ و لم يغب عنهم طويلا.

فصل

ثم إن النبي ص لما دعا الشجرة و كذا وصي من أوصيائه ردها إلى مكانها فإن جذبها شي‏ء و ردها لا شي‏ء كان ردها آية عظيمة و إن كان شي‏ء كان معه فذلك محال من قبل أن ذلك الشي‏ء يضاد ما جذبها فإذا كان الجذب به فإمساكها و ردها لم يجب أن يكون به أو معه فلا يرده لأنه يوجب أن تكون مقبلة مدبرة و ذلك محال. و لأن الحجر لو كان فيه ما ذكروا لكان فيه آية له لأنه ليس في العالم مثله فهو خارج عن العرف كخروج مجي‏ء الشجرة بدعائه و قد أنبع الله لموسى من الحجر الماء فانبجست من الحجر اثنتا عشرة عينا لكل سبط عين و الحجارة يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ فلما كان حجر موسى خارجا عن عادات الناس كان دليلا على نبوته و ليس في الحجر ما يمكن به نقل الجبال و المدن.   و أما قولهم إن المقرين بمعجزات الرسل لم يمتحنوا قوى الخلق إلى آخر الكلام إنه يقال لهم و لم يمتحن أحد من الجاحدين للرسل طبائع العالم و لا عرفوا ما فيه فيعلموا أن جميع حيوانه يموت لعل حيوانا لا يموت يبقى على الدهر أبدا لا يتغير و لعل في العالم نارا لا تحرق إذ لو كان لم يمتحن قوى العالم و لا أحاط علمنا بخواصه و سرائره لزمه قلب أكثر الحقائق و بطلانها

باب في مقالات المنكرين للنبوات و الإمامة عن قبل الله و جواباتها و بطلانها

اعلم أن المنكرين للنبوات فرقتان ملحدة و دهرية و موحدة البراهمة و الفلاسفة عندنا من جملة الدهرية و الملحدة أيضا و قد اجتمعوا على إبطال النبوات و إنكار المعجزات و احتالها تصريحا و تلويحا و زعمت أن تصحيح أمرها يؤدي إلى نقض وجوب الطبائع و قد استقر أمرها على وجه لا يصح انتقاضها و كلهم يطعنون في معجزات الأنبياء و أوصيائهم حتى قالوا في القرآن تناقض و أخبار زعموا مخبراتها على اختلافها. منها قوله وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ثم وجدناكم تقولون إن يحيى بن زكريا قتله ملك من الملوك و نشر رأس والده زكريا بالمنشار معما لا يحصى من الخلق من المؤمنين الذين قتلهم الكفار. و في القرآن أيضا إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ و قد ينكح كثير فيبقى فقيرا أو يزداد فقره و قد قال لنبيه وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ثم وجدنا كسرت رباعيته و شج رأسه. و فيه أيضا ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ و إن الخلق يدعونه دائما فلا يجيبهم و في القرآن فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ و هذا دليل على   أن محمدا لم يكن واثقا بما عنده لأنه ردهم إلى قوم شهد عليهم بكتمان الحق و قول الباطل و هم عنده غير ثقات في الدعوى و الخبر.

فصل

الجواب عما ذكروه أولا أن تأويل ما حكيتم على خلاف ما توهمتم لأن الذي نفاه من كون سبيل الكفار على المؤمنين إنما هو من طريق قيام الحجة منهم على المسلمين في دينهم في إقامة دليل على فساد دينهم لم يرد بذلك المؤالبة و المغالبة و هو معنى قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أي بالدلالة و الحجة لا بالمبالغة و العزة و يحيى بن زكريا لما قتل كانت حجته ثابتة على من قتله و كان هو الظاهر عليه بحقه و إن كان في ظاهر أمر الدنيا مغلوبا فإذا قهر بحق لم يدل ذلك على بطلان أمره و فساد طريقه. و أما قوله إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ففيه جوابان أحدهما أنه أراد أن كانوا فقراء إلى الجماع استغنوا بالنكاح و الثاني أنه خرج على الأغلب من أحوالهم و قد قال تعالى بعد ما تزوج محمد عليه السلام خديجة وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى أي أغناك بمالها. و أما قوله وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فالمعنى أنه يعصمك من قتلهم إياك. و قوله ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فيه أجوبة أحدها أن فيه إضمارا أي إن رأيت لكم مصلحة في الدين و قد صرح به في قوله فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ. و الثاني أن الدعاء هو العبادة أي اعبدوني بالتوحيد آجركم عليه يدل على ذلك قوله إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي. و الثالث أن يكون اللفظ عموما و المراد به الخصوص و هذا في العرف كثير. و أما قوله فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ فإن الله لما احتج لنبيه بالبراهين   المعجزة و رأى فريقا ممن حسده على نعمة الله عنده من عشيرته يميلون إلى أهل الكتاب و يعدلونهم عليه و على أنفسهم و يعتمدون في الاحتجاج لباطلهم على جحدهم إياه أراد أن يدلهم على صدقه بإقرار عدوه و من أعظم استدلالا من الذي استشهد عدوه و يحتج بإقراره له و انقياده إياه ثم إن في التوراة و الإنجيل صفات محمد ص و كل من أنصف منهم شهد له بذلك.

فصل

و قالوا كيف يدعون أن كل إخبار محمد عن الغيب وقع صدقا و عدلا و قد وجدنا بعضها بخلافه لأن محمدا قال إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده و قد وجدنا بعده قياصر كثيرة و أملاكهم ثابتة و قال شهرا عيد لا ينقصان و قد وجدنا الأمر بخلاف ذلك كثيرا و قد قال ما ينقص مال من صدقة و قد وجدنا نقص حسابها. و قال إن يوسف أعطي نصف حسن آدم ثم قال الله في قصة إخوته لما دخلوا عليه فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ و من كان في حسنه ثابتا بهذه البينونة العظمى كيف يخفى أمره و في كتابكم أن عيسى ما قتل و ما صلب و قد اجتمعت اليهود و النصارى على أنه قتل و صلب. و في كتابكم وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ و قال نبيكم إن في نسائكم أربع نبيات و في كتابكم قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً و كان فرعون قتل هامان بزمان طويل و في كتابكم وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ و الشعر كلام موزون و نحن نجد في القرآن كلاما موزونا و هو الشعر في غير موضع فمنه وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ و وزنه عند العروضيين

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

   و منه قوله وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ و وزنه قول الشاعر

ألا حييت عنا يا ردينا نحييها و إن كرمت علينا

و منه قوله مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ وزنه

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

قالوا و منه موجود في كلام نبيكم معما روي أنه قال ما أبالي مما أتيت إن أنا سويت ترياقا أو علفت بهيمة و قال الشعر من قبل نفسي ثم قال يوم حنين

أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

و قال يوم الخندق لما قال الأنصاري

نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بغينا أبدا

و قال أيضا

غير الإله قط ما ندينا و لو عبدنا غيره شقينا

فقال ص

فحبذا دينا و حب دينا

و قال لما دميت إصبعه

هل أنت إلا إصبع دميت و في سبيل الله ما لقيت.

فصل

الجواب عما قالوه أولا فهو من أدل الأعلام على صدقه فيما أخبر به عن الغيوب و ذلك أنه لما أرسل إلى كسرى و هو ممزق كتابه ع قال ص مزق الله مملكته كما مزق كتابي فوقع ذلك كما دعا و أخبر به و لما كتب إلى قيصر لم يمزق كتابه قال ثبت الله مملكته و كان يغلب على الشام و كان النبي مخبرا بفتحها له فمعنى قوله و لا قيصر بعده يعني في كل أرض الشام. و أما قوله شهرا عيد لا ينقصان ففيه أجوبة أحدها أن خرج على سنة بعينها أشار إليها و كان كذلك و هذا كما قال يوم صومكم يوم نحركم لسنة بعينها و كما قال الجالس في وسط القوم ملعون أشار إلى واحد كان يستمع الأخبار من وسط الحلقة و الثاني أنهما لا ينقصان على الإجماع غالبا بل يكون أحدهما ناقصا و الآخر تاما و الثالث أن يكون معناه لا ينقص أجر من صامهما و إن كان في العدد نقصان لأن الشهر الهلالي ربما كمل و ربما نقص و على أي هذه   الوجوه حملته لم يكن في خبره خلف و لا كذب. و أما خبر الزكاة فهو كقوله في خبر آخر أمتعوا أموال اليتامى لا يأكلها الزكاة فلان من تصرف فيه بالتجارة استفاد من ثوابه أكثر مما تصدق به و كأنه لم ينقص من المال شيئا ثم إن المال الذي يزكى منه يكون له بركة. فأما تأويل خبر يوسف بعد قيل إن الله أعطى يوسف نصف حسن آدم فلم يقع فيه التفاوت الشديد و قد كانوا فارقوه طفلا و رأوه كهلا و دفعوه أسيرا ذليلا و رواه ملكا عزيزا و بأقل هذه المدة و اختلاف هذه الأحوال تتغير فيها الخلق و تختلف المناظر فما فيه تناقض. على أن الله ربما يرى لمصالح تعمية شي‏ء على إنسان فيعرفه جملة و لا يعلمه تفصيلا و يحتمل أن يكون بمعنى قوله وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي مظهرون لإنكاره عارفون به. و أما ما قالوا من قتل عيسى و صلبه قال نبينا ص حين أخبر أنه شبه عليهم و رأى القوم أنه قتل و صلب فقد جمعنا بين جزءين لأن إسقاط أحدهما لا يصح و استعمالهما ممكن و هو أن نقلهم عن مشاهدة صلب مصلوب يشبه عيسى صحيح لا خلف فيه و لكن لما كان الصادق أخبرنا أن الذي رأوه كان جسما ألقي عليه شبه عيسى فقلنا نجمع بين تواترهم و خبر نبينا قد قامت دلالة صحتها فنقول إن ما فعلوا عن مشاهدة الجسم الذي كان في صورة المسيح مصلوبا صحيح فأما أنهم ظنوا أنه المسيح و قد كان رجلا ألقي عليه شبه المسيح فلا لأجل خبر الصادق به على أن خبر النصارى يرجع إلى أربع نفر لا عصمة لهم. و أما قوله إن في نسائكم أربع نبيات و أنه تناقض قوله وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فإن معنى النبي غير الرسول فيجوز أن يكون نبيات غير مرسلات و قيل المراد به سارة و أخت موسى و مريم و آسية بعثهن الله لولادة البتول فاطمة إلى خديجة ليلين أمرها. و أما هامان فلا ينكر أن يكون من اسمه هامان قبل فرعون و في وقته   من يسمى بذلك. و الجواب عما ذكره خبر أن النبي ص كان يعاف قول الشعر قد أمره الله تعالى بذلك لئلا يتوهم الكفار أن القرآن من قبله و ليخلص قلبه و لسانه للقرآن و يصون الوحي عن صنعة الشعر لأن المشركين كانوا يقولون في القرآن إنه شعر و هم يعلمون أنه ليس بشعر و لو كان معروفا بصنعة الشعر لنقموا عليه بذل و عابوه و قد سئل أبو عبيدة عن ذلك فقال هو كلام وافق وزنه وزن الشعر إلا أنه لم يقصد به الشعر و لا قاربه بأمثاله و القليل من الكلام مما يتزن بوزن الشعر و روي

أنا النبي لا كذب

و هل أنت إلا إصبع دميت

فقد أخرج عن وزن الشعر.

فصل

و ربما قالوا إذا كان إخبار المنجمين و الكهنة قد تتفق مخبراتها كما أخبروا كذلك أخبار الأنبياء و الأوصياء فبما ذا يعرف الفرق بينهما. الجواب أن أخبار الأنبياء و الأوصياء و أوصياؤهم إنما كانت متعلقة مخبراتها على التفصيل دون الجملة من غير أن يكون قد اطلع عليها بتكلف معالجة و استعانة عليه بآلة و أداة و لا حدس و لا تخمين فيتفق في جميع ذلك أن يكون مخبراتها على حسب ما تعلق به الخبر من غير أن يقع به خلف أو كذب في شي‏ء منها فأما إخبار المنجمين فإنه يقع بحساب و بالنظر في كل طالع بحدس و تخمين ثم قد يتفق في بعضها الإصابة دون بعض كما يتفق إصابة أصحاب الفأل و الزوج و الفرد من غير أن يكون ذلك على أصل معتمد و أمر موثق به فإذا وقعت الأخبار منهم على هذا لم يوجب العلم و لم يكن معتمدا و لا علما معجزا و لا دالة على صدقهم و متى كان على هذا الوجه الذي أصاب في الكل كان علما معجزا و دلالة قاطعة لأن العادات لم تجر بأن يجري المخبر عن الغائبات فيتفق و يكون جميعها على ما أخبر به على التفصيل من غير أن تقع في شي‏ء منها خلف أو كذب فمتى وقعت المخبرات كذلك كان دليل الصدق ناقضا للعادات فدلنا ذلك على أنه من عند الله خصه بعلمه ليجعله علما على نبوته و كذلك ما يظهر على يد وصي   النبي ص يكون شاهدا لصدقه فعلى هذا يكون إخبار النبي و الأئمة عن الغائبات إعلاما لصدقهم

فصل

و معنى الغيب ما غاب عن الحس أو ما غاب علمه عن النفس و لا يمكن الوصول إليه إلا بخبر الصادق الذي يعلم الغيوب و ليس كل ما غاب عن الحس لا يمكن الوصول إلى علمه إلا بجبرئيل لأن منه ما يعلم بالاستدلال عليه بما شوهد و ما هو مبني على ما شوهد و النوع الذي كان الخبر عنه حجة مما لا دليل عليه من الشاهد و كذلك كان معجزا. فإن قيل ما أنكرتم أن لا يدل خبره عن الغائبات على صدقه لأن قوله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ حكم عليه بالخسران و لو آمن كان له أن يقول إنما أردت أن يكون ذلك حكمه إن لم يؤمن كقوله مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فإن المراد منه إذا مات عليه و لم يقل إن أبا لهب يموت على كفره و كان ذلك وعيدا له كما لسائر الكفار. الجواب أن قوله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ يفارق لما ذكرتم لأنه خبر عن وقوع العذاب به لا محالة و ليس هذا من الوعيد الذي يفرق بالشريطة يدل عليه سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ من حيث قطع على دخوله النار لا محالة فلما مات على كفره كان ذلك دليلا على نبوته. فإن قيل إخباره عن خسران أبي لهب كان على حسب ما رأى من خسران الشرك جرت به العادة في أمثاله قلنا كون خسرانه منه لا تدل على أن يغفل عنه إلى غيره. ثم إن المنجم يخبر بما خبر حتى يقع واحد على ما قال صدقا و قد أخبر النبي ص نيفا و عشرين سنة و كان جميع ما أخبر به صدقا و أخبر عن ضمائر قوم و كان كما قال ص.

باب آخر في مقالهم

و الكلام عليها في مقالات من يقول بصحة النبوة منهم على الظاهر و من لا يقول و الكلام عليها و من الفلاسفة من يقال لمحاصلة أهل الاسم أن الطريق إلى المعرفة صدق المدعي للنبوة هو أن يعلم أن ما أتى به مطابق لما   يصلحون به في دنياهم و لأغراضهم التي بسببها يحتاجون إلى النبي ص و لم يشترطوا ظهور معجزة عليه و ذكر بعضهم أن ظهور المعجزة عليه لا يوصل إلى العلم اليقيني أنه صادق لأنه يظن في المعجز أنه سحر و أنه حيلة نحو انشقاق القمر فأما إذا علم مطابقة ما أتى به لمصالحهم الدنياوية فهو طريق العوام و المتكلمين. و أما العلم بمطابقة شرعه للمصالح الدنياوية فهو طريقة المحققين و قد حكي عنهم أنهم قالوا إن صدق المدعي لصنعة من الصنائع إنما تظهر إذا أتى بتلك الصنعة التي ادعى العلم بها و مثله على الناقل بمن ادعى حفظ القرآن ثم قرأ و ادعى آخر حفظ القرآن فإذا قيل له ما دليلك على أنك تحفظ القرآن قال دليلي إني أقلب العصا حية و أشق القمر نصفين ثم فعلهما و من ادعى حفظ القرآن فإذا قيل له ما دليلك على حفظك له قرأ كله فإن علمنا بحفظ هذا القرآن يكون أقوى من علمنا بحفظ الثاني للقرآن لأنه يشتبه الحال في معجزاته فيظن أنه من باب السحر أو أنه طلسم و لا تدخل الشبهة في حفظ القاري للقرآن.

فصل

فيقال لهؤلاء و بما ذا علمتم مطابقة ما أتى به النبي ص من الشرائع للمصالح و نعرض الكلام في شريعة نبينا ع لأنكم و نحن نصدقه في النبوة و صحة شرعه بطريقة عقلية علمتم المطابقة أم بطريقة سمعية. فإن قالوا بطريقة عقلية قيل لهم إن من جملة ما أتى به من الشرائع وجوب الصلوات الخمس و صوم شهر رمضان و وجوب أفعال الحج فما تلك الطريقة التي علمتم بها بمطابقتها للمصلحة أظفرتم بجهة وجوب لها في العقل و حكمتم لذلك بوجوبها أم ظفرتم بحكم في العقل يدل على وجوبها نحو أن تقول علمنا من جهة العقل أن من لم يصل هذه الصلوات بشروطها في أوقاتها فإنه يستحق الذم من العقلاء كما يستحق الذم من لم يرد الوديعة على صاحبها بعد ما طولب بردها و لا عذر له في الامتناع عن ذلك. و القول به باطل لأنا لا نجد في عقول العقلاء العلم بجهة وجوب شهر رمضان دون العيدين و أيام التشريق على وجه لا يجوز و لا لصلاة الظهر على شروطها بعد الزوال جهة   يقتضي وجوبها في ذلك الوقت دون ما قبله و قد قالوا إن في أفعال الحج مثل أفعال المجانين و قالوا في وجوب غسل الجنابة إنه مشقة و شبهوه بمن نجس طرف من أطراف ثوبه فوجب غسل كله فإنه يعد سفها. و قالوا في المحرمات الشرعية كشرب الخمر أو الزناء إنه ظلم إلى غير ذلك مما يقوله القائلون بالإباحة و غيرها كيف يمكن أن يدعى أن يمكن الوصول إلى معرفة وجوبها أو قبحها بطريقة عقلية فلا يمكن أن يعرف تلك المصالح بقول النبي إلا بعد العلم بصدقه من جهة المعجز فصح أنه لا طريق إلى العلم بذلك إلا من جهة المعجز.

فصل

و أما تشبيههم ذلك بمن ادعى حفظ القرآن أو صنعة من الصنائع الدنيوية إذا أتى بها على الوجه الذي حفظ غيره أو علم تلك الصناعة فليس بنظير مسألتنا لأن ذلك من جملة المعرفة بالمشاهدات لأن بالمشاهدة تعلم الصنعة بعد وقوعها على ترتيب و أحكام و مطابقته لما سبق من العلم بذلك الصنعة و الحفظ لذلك المقرو و ليس كذلك ما أتى به النبي لأنه لا طريق إلى المعرفة بكونه مصلحة في أوقاتها دون ما قبلها و ما بعدها و في مكان دون مكان و على شرائطها دون تلك الشرائط لا بمشاهدة و لا طريقة عقلية أ لا ترى أن المخالفين من القائلين بالمعقولات المنكرين للنبوات و الشرائع لما لم ينظروا في الطريقة التي سلكها المسلمون في تصديق الرسل من النظر في المعجزات دفعوا النبوة و القول بالشرائع لما لم يجدوا طريقة عقلية إلى معرفة شرائعهم و مطابقتها للمصالح الدنياوية.

فصل

و قولهم المعرفة بصدقهم من جهة المعجزات معرفة غير يقينية لأنه يجوز أن يكون فيها من باب السحر فيقال لهم جوزتم في المعجزات أن يكون من باب السحر و لا يحصل لكم العلم اليقيني بصدق النبي فجوزوا فيمن قرأ القرآن أنه ساحر و في كل صنعة من الصنائع أن صانعها ساحر لا يحكمها لكنه يرى السحرة أنه أحكمها و في ذلك سد الطريق عليكم إلى معرفة صدق   النبي و هذا لا يستقيم على أصولكم لأنكم تقولون بصحة السحر و أن الساحر بفضل علومه يتمكن من إحداث ما لا يقدر عليه بشر مثله و قلتم إن هذا السحر هو علم قد كان ثم انقطع بإحراق المسلمين كتب الأكاسرة التي صنفها الفلاسفة في علم السحر فمن يقول منكم بصحة النبوة هو أولى بأن يقول إن الساحر نبي من الأنبياء. على أن قوله من بلغ في علومه إلى أن يتمكن مما لا يتمكن عنه بشر مثله فإنه يتمكن بفضل علومه أن يضع شرائع و سننا مطابقة لمصالح الناس يصلح بها دنياهم إذا قبلوا منهم فعلى هذا إذا أتى النبي بمعجز وجب القول بصدقة و حصول اليقين بنبوته.

فصل

قالوا علمنا بهذه الشرعيات و استعلمنا هذه العبادات فوجدناها راجعة إلى رياضة النفس و التنزه عن رذائل الأخلاق و داعية إلى محاسنها. و إلى هذا أشار بعضهم فقال إذا فهمت معنى النبوة فأكثر النظر في القرآن و الأخبار يحصل لك العلم الضروري بكون محمد على أعلى درجات النبوة و اعضد ذلك بتجربة ما قاله في العبادات و تأثيرها في تصفية القلوب و كيف صدق فيما قال من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم و في قوله من أعان ظالما سلطه الله عليه و في قوله من أصبح و همه هم واحد كفاه الله هموم الدنيا و الآخرة قالوا إذا جربت هذا في ألف و آلاف حصل لك علم ضروري لا يتمارى فيه فمن هذا الطريق يطلب اليقين بالنبوة لا من قلب العصا حية و شق القمر هذا هو الإيمان القوي العلمي و الذي كالمشاهدة و الأخذ تأكيد و لا يوجد إلا في طريق التصوف.

فصل

فيقال لهم إن من اعتقد في طريقه أنها حق و دين و زهد في الدنيا و رغبة في الآخرة و راض نفسه و سلك الطريقة و استعمل نفسه بما يعتقده عبادات في ذلك التدين فإنه يجد لنفسه تميزا ممن ليس في حاله من الاجتهاد   في ذلك التدين و عباداته و اعتقاده في حقية ذلك التدين حقا كان ذلك أو باطلا فرهبان النصارى و أحبار اليهود يجتهدون في كفرهم الذي يعتقدونه حقا فيجدون لأنفسهم تمييزا على عوامهم و متبعيهم و يدعون لأنفسهم صفاء القلوب و النسك و الزهد في الدنيا و كذا عباد الأوثان إذا اجتهدوا في عباداتها فإنهم يجدون أنفسهم خائفة مستحية من أوثانهم إذا تقدموا على ما يعتقدونه معصية لها. و لهذا حكي عن الصابئين المعتقدين عبادة النجوم لاعتقادهم أنها المدبرة للعالم أنهم نحتوا على صورها أصناما ليعبدونها بالنهار إذا خفيت تلك النجوم و يستقبحون أن يقدموا على رذائل الأفعال و لم يزل ما يجدونه في أنفسهم على ما ذهبوا إليه في تدينهم أنه حق و كذا ما ذكر هؤلاء من العمل بشرائع نبينا لاعتقادهم في صدقه من دون نظر في معجزاته.

فصل

قالوا حقيقة المعجز هو أن يؤثر نفس الشي‏ء في هيولى العالم فيغير صورة بعض إخوانه إلى صورة أخرى بخلاف تأثيرات سائر النفوس و إذا كان هذا هو المعجز عندهم لزم أن يكون العلم به يقينيا و أن يعلم أن صاحب تلك النفس هو نبي فبطل قولهم إن العلم بالمعجز غير يقيني و أما على قول المسلمين فهذا ساقط لأن للمعجز شروطا عندهم متى عرفت كانت معجزة صحيحة دالة على صدق المدعي منها أنها ليست من جنس السحر لأن السحر عندهم تمويه و تلبيس يرى الساحر و يخفى وجه الحيلة فيه فهو يرى أنه يذبح الحيوان ثم يحييه بعد الذبح و هو لا يذبحه بل لخفة حركات اليدين به و لا يفعله و من لم يعلم أن المعجزة ليست من ذلك الجنس لم يعلمها معجزة.

فصل

ثم اعلم أن بين المعجزة و المخرقة و الشعوذة و الحيل التي تبقى فروقا ما يوصل إلى العلم بها بالنظر و الاستدلال في ذلك إلا أن يوقف أولا على ما يصح مقدورا للبشر و ما لا يصح و أن يعلم أن العادة كيف جرت في مقدورات البشر و على أي وجه يقع أفعالهم و أن ما يصح أن يقدروا عليه من أي نوع   يجب أن يكون و كيف يكون حالهم إذا خرجوا من القدرة عليه و هل يصح أن يعجز البشر عما يصح أن يقدروا عليه و ينظر فيما يمكن أن يتوصل إليه بالحيلة و خفة اليد و يعلم ما السبب المؤدي إليه و ما لا يمكن ذلك فيه. فمن ذا أحاط علمه بهذه المقدورات عرف حينئذ ما يظهر من المعجزة عليهم فيفصل بين حالها و بين ما يجري مجرى الشعوذة و المخرقة كالعجل الذي صاغه السامري من ذهب لبس به على الناس فكانت له صوت و خوار إذ احتال بإدخال الريح فيه من مداخله و مجاريه كما نقل هذه للآلات التي تصوت بالحيل أو صندوق الساعات أو طاس الفصد الذي يعلم به مقدار الدم و إنما أضاف مقال الصوت إليه لأنه كان محله دخول الريح في جوفه.

فصل

و اعلم أن الفلاسفة أخذوا أصول الإسلام ثم أخرجوها على آرائهم فقالوا في الشرع و النبي إنما أريدا كلاهما لإصلاح الدنيا فالأنبياء يدبرون للعوام في مصالح دنياهم و الشرعيات تهذب أخلاقهم لا أن الشارع و الدين كما يقول المسلمون من أن النبي يراد لتعريف مصالح الدين تفصيلا و أن الشرعيات إلطاف في التكليف العقلي فهم يوافقون المسلمين في الظاهر و إلا فكل ما يذهبون إليه هدم للإسلام و إطفاء لنور شرعه وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ