باب 4- التواضع في الطعام و استحباب ترك التنوق في الأطعمة و كثرة الاعتناء به

 الآيات الأحقاف وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ تفسير قال الطبرسي رحمه الله وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يعني يوم القيامة أي يدخلون النار كما يقال عرض فلان على السوط و قيل معناه عرض عليهم النار قبل أن يدخلوها ليروا أهوالها أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا أي فيقال لهم آثرتم طيباتكم و لذاتكم في الدنيا على طيبات الجنة وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها أي انتفعتم بها منهمكين فيها و قيل هي الطيبات من الرزق يقول أنفقتموها في شهواتكم و في ملاذ الدنيا و لم تنفقوها في مرضاة الله تعالى. و لما وبخ الله سبحانه الكفار بالتمتع بالطيبات و اللذات في هذه الدنيا آثر   النبي و أمير المؤمنين ع الزهد و التقشف و اجتناب الترفه و النعمة.

 و قد روي في الحديث أن عمر بن الخطاب قال استأذنت على رسول الله ص فدخلت عليه في مشربة أم إبراهيم و إنه لمضطجع على خصفة و إن بعضه على التراب و تحت رأسه وسادة محشوة ليفا فسلمت عليه ثم جلست فقلت يا رسول الله أنت نبي الله و صفوته و خيرته من خلقه و كسرى و قيصر على سرر الذهب و فرش الديباج و الحرير فقال رسول الله ص أولئك قوم عجلت طيباتهم و هي وشيكة الانقطاع و إنما أخرت لنا طيباتنا و قال علي بن أبي طالب ع في بعض خطبه و الله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها و لقد قال لي قائل أ لا تنبذها فقلت اعزب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى

 و روى محمد بن قيس عن أبي جعفر الباقر ع أنه قال و الله إن كان علي ليأكل أكلة العبد و يجلس جلسة العبد و إن كان ليشتري القميص فيخير غلامه خيرهما ثم يلبس الآخر فإذا جاز أصابعه قطعه و إذا جاز كعبه حذفه و لقد ولي خمس سنين و ما وضع آجرة على آجرة و لا لبنة على لبنة و لا أورث بيضاء و لا حمراء و إن كان ليطعم الناس خبز البر و اللحم و ينصرف إلى منزله فيأكل خبز الشعير و الزيت و الخل و لا ورد عليه أمران كلاهما لله عز و جل فيه رضا إلا أخذ بأشدهما على بدنه و لقد أعتق ألف مملوك من كد يمينه تربت منه يداه و عرق فيه وجهه و ما أطاق عمله أحد من الناس و إن كان ليصلي في اليوم و الليلة ألف ركعة و إن كان أقرب الناس شبها به لعلي بن الحسين ع و ما أطاق عمله أحد من الناس بعده

ثم إنه قد اشتهر في الرواية

 أنه ع لما دخل على العلا بن زياد بالبصرة يعوده قال له العلا يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد لبس العباء و تخلى من الدنيا فقال ع علي به فلما جاء قال يا عدي نفسه لقد استهام بك الخبيث أ ما رحمت أهلك و ولدك أ ترى الله أحل الطيبات و هو يكره أن تأخذها أنت أهون على الله من ذلك قال يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة عيشك و   جشوبة مأكلك قال ويحك إني لست كأنت إن الله تعالى فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره انتهى

و أقول الخطاب في هذه الآية للكفار فإن طيباتهم كانت منحصرة فيما تمتعوا بها في الدنيا لتفويتهم على أنفسهم استحقاق نعيم الآخرة فلا تكون حجة في رجحان ترك المؤمنين ملاذ الدنيا و نعيمها

 كما قال أمير المؤمنين ع فيما كتب إلى أهل مصر مع محمد بن أبي بكر و اعلموا يا عباد الله إن المتقين حازوا عاجل الخير و آجله فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم و لم يشاركهم أهل الآخرة في آخرتهم أباحهم الله في الدنيا ما كفاهم به و أغناهم قال الله عز اسمه قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما أكلت شاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون و شربوا من طيبات ما يشربون و لبسوا من أفضل ما يلبسون و سكنوا من أفضل ما يسكنون و تزوجوا من أفضل ما يتزوجون و ركبوا من أفضل ما يركبون أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا و هم غدا جيران الله يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون لا ترد لهم دعوة و لا ينقص لهم نصيب من اللذة فإلى هذا يا عباد الله يشتاق من كان له عقل و يعمل له تقوى الله و لا حول و لا قوة إلا بالله

و مثل ذلك كثير أوردتها في كتاب الإيمان و الكفر و أما الأخبار المعارضة لها فصنفان أحدهما ما ورد في كيفية تعيش رسول الله و أمير المؤمنين و بعض الأئمة ع فمع معارضتها لأطوار بعضهم أيضا محمولة على أنها من خصائص النبي ص و الإمام الممكن من التصرف كما يدل عليه خبر عاصم بن زياد   المتقدم و غيره و الصنف الآخر الذي لا يحتمل ذلك محمولة على من يحصله من الحرام أو الشبهة أو يكون مسرفا في ذلك بحيث لا يناسب حاله أو يعلم من نفسه أن ذلك يصير سببا لطغيانه فيحتاج إلى تذليل بدنه و امتهانه و سيأتي مزيد تحقيق لذلك في أبواب المكارم مع سائر الأخبار المتعلقة بذلك

1-  إرشاد القلوب، عن سويد بن غفلة قال دخلت على علي بن أبي طالب ع فوجدته جالسا و بين يديه إناء فيه لبن أجد فيه ريح حموضته و في يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه و هو يكسر بيده و يطرحه فيه فقال ادن فأصب من طعامنا فقلت إني صائم فقال ع سمعت رسول الله من منعه الصيام عن طعام يشتهيه كان حقا على الله أن يطعمه من طعام الجنة و يسقيه من شرابها قال قلت لفضة و هي قريبة منه قائمة ويحك يا فضة أ ما تتقين الله في هذا الشيخ تنخل هذا الطعام من النخالة التي فيه قالت قد تقدم إلينا أن لا ننخل له طعاما قال ما قلت لها فأخبرته فقال بأبي و أمي من لم ينخل له طعام و لم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام حتى قبضه الله قال و كان ع يجعل جريش الشعير في وعاء و يختم عليه فقيل له في ذلك فقال إني أخاف هذين الولدين أن يجعلا فيه شيئا من زيت أو سمن

2-  المحاسن، عن جعفر بن محمد عن ابن القداح عن أبي عبد الله عن آبائه ع قال دخل النبي ص مسجد قباء فأتي بإناء فيه لبن حليب مخيض بعسل فشرب منه حسوة أو حسوتين ثم وضعه فقيل يا رسول الله أ تدعه محرما قال لا اللهم إني أدعه تواضعا لله

 بيان مخيض بالخاء المعجمة و الياء المثناة التحتانية على فعيل من المخض و هو التحريك كناية عن الخلط الشديد و في بعض النسخ بالباء الموحدة من التخبيص بمعنى التخليط في القاموس خبصه يخبصه خلطه و منه الخبيص و قد خبص يخبص و خبص تخبيصا قوله محرما على بناء الفاعل أو على بناء المفعول حالا عن المفعول

    -3  المحاسن، عن جعفر بالإسناد المتقدم قال أتي بخبيص فأبى أن يأكله فقيل أ تحرمه قال لا و لكني أكره أن تتوق إليه نفسي ثم تلا الآية أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا

 بيان أتي أي النبي ص أو الصادق ع و الأول أظهر و في كتاب الغارات أن المأتي كان أمير المؤمنين ع و في القاموس تاق إليه توقا و توقانا اشتاق

4-  المحاسن، عن محمد بن علي عن أرطاة بن حبيب عن أبي داود الطهري عن عبد الله بن شريك العامري عن حبة العرني قال أتي أمير المؤمنين ع بخوان فالوذج فوضع بين يديه فنظر إلى صفائه و حسنه فوجأ بإصبعه فيه حتى بلغ أسفله ثم سلها و لم يأخذ منه شيئا و تلمظ إصبعه و قال إن الحلال طيب و ما هو بحرام و لكني أكره أن أعود نفسي ما لم أعودها ارفعوه عني فرفعوه

 بيان قال الجوهري الخوان بالكسر ما يؤكل عليه معرب و قال وجأته بالسكين ضربته و قال لمظ يلمظ بالضم لمظا إذا تتبع بلسانه يقيه الطعام في فمه أو أخرج لسانه فمسح به شفتيه و كذلك التلمظ

5-  المحاسن، عن محمد بن علي عن سفيان عن صباح الحذاء عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله ع قال بينا أمير المؤمنين في الرحبة في نفر من أصحابه إذا أهدي له طست خوان فالوذج فقال لأصحابه مدوا أيديكم فمدوا أيديهم و مد يده ثم قبضها فقالوا يا أمير المؤمنين أمرتنا أن نمد أيدينا فمددناها و مددت يدك ثم قبضتها فقال إني ذكرت أن رسول الله ص لم يأكله فكرهت أكله

6-  و منه، عن أبيه عن عبد الله بن المغيرة عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله ع قال كان أمير المؤمنين ع يقول لا تزال هذه الأمة بخير ما لم يلبسوا لباس العجم و يطعموا أطعمة العجم فإذا فعلوا ذلك ضربهم الله بالذل

    -7  و منه، عن أبيه عن عبد الله بن المغيرة و محمد بن سنان عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عن آبائه ع أن عليا ع كان لا ينخل له الدقيق و كان علي ع يقول لا تزال هذه الأمة إلى آخر الخبر السابق

8-  و منه، عن يحيى بن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن بزيع أبي عمرو بن بزيع قال دخلت على أبي جعفر ع و هو يأكل خلا و زيتا في قصعة سوداء مكتوب في وسطها بصفرة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقال ادن يا بزيع فدنوت فأكلت معه ثم حسا من الماء ثلاث حسا حتى لم يبق من الخبز شي‏ء ثم ناولني فحسوت البقية

 بيان يحتمل أن يكون المراد بالماء الخل الباقي في القصعة

9-  المحاسن، عن يعقوب بن يزيد عمن ذكره عن إبراهيم بن عبد الحميد عن الثمالي قال لما دخلت على علي بن الحسين ع دعا بنمرقة فطرحت فقعدت عليها ثم أتيت بمائدة لم أر مثلها قط قال لي كل فقلت ما لك جعلت فداك لا تأكل فقال إني صائم فلما كان الليل أتي بخل و زيت فأفطر عليه و لم يؤت بشي‏ء من الطعام الذي قرب إلي

 بيان في القاموس النمرق و النمرقة مثلثة الوسادة الصغيرة أو الميثرة أو الطنفسة فوق الرحل

10-  المكارم، لقد جاء النبي ص ابن خولي بإناء فيه عسل و لبن فأبى أن يشربه فقال شربتان في شربة و إناءان في إناء واحد فأبى أن يشربه ثم قال ما أحرمه و لكني أكره الفخر و الحساب بفضول الدنيا غدا و أحب التواضع فإن من تواضع لله رفعه الله

11-  كتاب الزهد، للحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله ع قال أفطر رسول الله عشية الخميس في مسجد قبا فقال   هل من شراب فأتاه أوس بن خولة الأنصاري بعس من لبن مخيض بعسل فلما وضعه على فيه نحاه ثم قال شرابان يكتفى بأحدهما عن صاحبه لا أشربه و لا أحرمه و لكني أتواضع لله فإنه من تواضع لله رفعه الله و من تكبر خفضه الله و من اقتصد في معيشته رزقه الله و من بذر حرمه الله و من أكثر ذكر الله أحبه الله

12-  الدعائم، عن رسول الله ص أنه أتى قبا يوم خميس و هو صائم فلما أمسى قال هل من شراب و ذكر نحوه إلى قوله و من أكثر ذكر الله رزقه الله ثم قال فهذا و الله أعلم من رسول الله ص تواضع كما قال لا على أن الله عز و جل حرم شيئا من طيبات الرزق قال جل ذكره قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ و عن علي ع أنه أتي بطبق فالوذج فوضع بين يديه فنظر إليه و رأى صفاءه و حسنه فوجأ بإصبعه فيه ثم استلها فلم ينتزع منه شيئا فتلمظ إصبعه ثم قال إن هذا الحلو طيب و لكن نكره أن نعود أنفسنا ما لم تعود ارفعوه فرفعوه