باب 19- آخر في ذكر صبر الصابرين و الصابرات

 1-  مسكن الفؤاد، للشهيد الثاني رفع الله درجته قال أسند أبو العباس بن مسروق عن الأوزاعي قال حدثنا بعض الحكماء قال خرجت و أنا أريد الرباط حتى إذا كنت بعريش مصر إذا أنا بمظلة و فيها رجل قد ذهبت عيناه و استرسلت يداه و رجلاه و هو يقول لك الحمد سيدي و مولاي اللهم إني أحمدك حمدا يوافي محامد خلقك كفضلك على سائر خلقك إذ فضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا فقلت و الله لأسألنه أعلمه أو ألهمه إلهاما فدنوت منه و سلم عليه فرد علي السلام فقلت له رحمك الله إني أسألك عن شي‏ء أ تخبرني به أم لا فقال إن كان عندي منه علم أخبرتك به فقلت رحمك الله على أي فضيلة من فضائله تشكره فقال أ و ليس ترى ما قد صنع بي فقلت بلى فقال و الله لو أن الله تبارك و تعالى صب علي نارا تحرقني و أمر الجبال فدمرتني و أمر البحار فغرقتني و أمر الأرض فخسفت بي ما ازددت فيه سبحانه إلا حبا و لا ازددت له إلا شكرا و إن لي إليك حاجة تقضيها لي فقلت نعم قل ما تشاء فقال بني لي كان يتعاهدني أوقات صلاتي و يطعمني عند إفطاري و قد فقدته منذ أمس فانظر هل تجده لي قال فقلت في نفسي إن في قضاء حاجته لقربة إلى الله عز و جل فقمت و خرجت في طلبه حتى إذا صرت بين كثبان الرمال إذا أنا بسبع قد افترس الغلام يأكله فقلت إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ كيف آتي هذا العبد الصالح بخبر ابنه قال فأتيته و سلمت عليه فرد علي السلام فقلت يرحمك الله إن سألتك عن شي‏ء تخبرني به فقال إن كان عندي منه علم أخبرتك به قال   قلت إنك أكرم على الله عز و جل و أقرب منزلة أو نبي الله أيوب صلوات الله و سلامه عليه فقال بل أيوب أكرم على الله تعالى مني و أعظم عند الله منزلة مني فقلت إنه ابتلاه الله تعالى فصبر حتى استوحش منه من كان يأنس به و كان غرضا لمرار الطريق و اعلم أن ابنك الذي أخبرتني به و سألتني أن أطلبه لك افترسه السبع فأعظم الله أجرك فيه فقال الحمد لله الذي لم يجعل في قلبي حسرة من الدنيا ثم شهق شهقة و سقط على وجهه فجلست ساعة ثم حركته فإذا هو ميت فقلت إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ كيف أعمل في أمره و من يعينني على غسله و كفنه و حفر قبره و دفنه فبينما أنا كذلك إذا أنا بركب يريدون الرباط فأشرت إليهم فأقبلوا نحوي حتى وقفوا علي فقالوا ما أنت و ما هذا فأخبرتهم بقصتي فعقلوا رواحلهم و أعانوني حتى غسلناه بماء البحر و كفناه بأثواب كانت معهم و تقدمت فصليت عليه مع الجماعة و دفناه في مظلته و جلست عند قبره آنسا به أقرأ القرآن إلى أن مضى من الليل ساعة فغفوت غفوة فرأيت صاحبي في أحسن صورة و أجمل زي في روضة خضراء عليه ثياب خضر قائما يتلو القرآن فقلت له أ لست بصاحبي قال بلى قلت فما الذي صيرك إلى ما أرى فقال اعلم أنني وردت مع الصابرين لله عز و جل في درجة لم ينالوها إلا بالصبر على البلاء و الشكر عند الرخاء فانتبهت و روي في عيون المجالس عن معاوية بن قرة قال كان أبو طلحة يحب ابنه حبا شديدا فمرض فخافت أم سليم على أبي طلحة الجزع حين قرب موت الولد فبعثته إلى النبي ص فلما خرج أبو طلحة من داره توفي الولد فسجته أم سليم بثوب و عزلته في ناحية من البيت ثم تقدمت إلى أهل بيتها و قالت لهم لا تخبروا أبا طلحة بشي‏ء ثم إنها صنعت طعاما ثم مست شيئا من الطيب فجاء أبو طلحة من عند رسول الله ص فقال ما فعل ابني فقالت له هدأت

    نفسه ثم قال هل لنا ما نأكل فقامت فقربت إليه الطعام ثم تعرضت له فوقع عليها فلما اطمأن قالت له يا أبا طلحة أ تغضب من وديعة كانت عندنا فرددناها إلى أهلها فقال سبحان الله لا فقالت ابنك كان عندنا وديعة فقبضه الله تعالى فقال أبو طلحة فأنا أحق بالصبر منك ثم قام من مكانه فاغتسل و صلى ركعتين ثم انطلق إلى النبي ص فأخبره بصنيعها فقال له رسول الله ص فبارك الله لكما في وقعتكما ثم قال رسول الله ص الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل صابرة بني إسرائيل فقيل يا رسول الله ص ما كان من خبرها فقال كان في بني إسرائيل امرأة و كان لها زوج و لها منه غلامان فأمرها بطعام ليدعو عليه الناس ففعلت و اجتمع الناس في داره فانطلق الغلامان يلعبان فوقعا في بئر كانت في الدار فكرهت أن تنغص على زوجها الضيافة فأدخلتهما البيت و سجتهما بثوب فلما فرغوا دخل زوجها فقال أين ابناي قالت هما في البيت و إنها كانت تمسحت بشي‏ء من الطيب و تعرضت للرجل حتى وقع عليها ثم قال أين ابناي قالت هما في البيت فناداهما أبوهما فخرجا يسعيان فقالت المرأة سبحان الله و الله لقد كانا ميتين و لكن الله تعالى أحياهما ثوابا لصبري و قريب من هذا ما رويناه في دلائل النبوة عن أنس بن مالك قال دخلنا على رجل من الأنصار و هو مريض فلم نبرح حتى قضى فبسطنا عليه ثوبا و أم له عجوز كبيرة عند رأسه فقلنا لها يا هذا احتسبي مصيبتك على الله عز و جل فقالت و مات ابني قلنا نعم قالت حقا تقولون قلنا نعم قال فمدت يدها فقالت اللهم إنك تعلم أني أسلمت لك و هاجرت إلى رسولك رجاء أن تعينني عند كل شدة و رخاء فلا تحمل علي هذه المصيبة اليوم فكشف الثوب عن وجهه ثم ما برحنا حتى طعمنا معه قال قدس سره و هذا الدعاء من المرأة رحمها الله إدلال على الله و استيناس منه يقع للمحبين كثيرا فيقبل دعاءهم و إن كان في التذكير بنحو ذلك   ما يظهر منه قلة الأدب لو وقع عن غيرهم و لذلك بحث طويل و شواهد من الكتاب و السنة يخرج ذكره عن مناسبة المقام و قال أبان بن تغلب دخلت على امرأة و قد نزل بابنها الموت فقامت إليه فغمضته و سجته ثم قالت يا بني ما الجزع فيما لا يزول و ما البكاء فيما ينزل بك غدا يا بني تذوق ما ذاق أبوك و ستذوقه من بعدك أمك و إن أعظم الراحة لهذا الجسد النوم و النوم أخو الموت فما عليك إن كنت نائما على فراشك أو على غيره و إن غدا السؤال و الجنة أو النار فإن كنت من أهل الجنة فما ضرك الموت و إن كنت من أهل النار فما ينفعك الحياة و لو كنت أطول الناس عمرا يا بني لو لا أن الموت أشرف الأشياء لابن آدم لما أمات الله نبيه ص و أبقى عدوه إبليس و عن مسلم بن يسار قال قدمت البحرين فأضافتني امرأة لها بنون و رقيق و مال و يسار و كنت أراها محزونة فغبت عنها مدة طويلة ثم أتيتها فلم أر ببابها إنسا فاستأذنت عليها فإذا هي ضاحكة مسرورة فقلت لها ما شأنك قالت إنك لما غبت عنا لم نرسل شيئا في البحر إلا غرق و لا في البر شيئا إلا عطب و ذهب الرقيق و مات البنون فقلت لها يرحمك الله رأيتك محزونة في ذلك اليوم و مسرورة في هذا اليوم فقالت نعم إني لما كنت فيما كنت فيه من سعة الدنيا خشيت أن يكون الله قد عجل لي حسناتي في الدنيا فلما ذهب مالي و ولدي و رقيقي رجوت أن يكون الله قد ذخر لي عنده شيئا و عن بعضهم قال خرجت أنا و صديق لي إلى البادية فضللنا الطريق فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق فقصدنا نحوها فسلمنا فإذا بامرأة ترد علينا السلام و قالت من أنتم قلنا ضالون فأتيناكم فاستأنسنا بكم فقالت يا هؤلاء ولوا وجوهكم عني حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل ففعلنا فألقت لنا مسحا فقالت اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني ثم جعلت ترفع طرف الخيمة و

    تردها إلى أن رفعته مرة فقالت أسأل الله بركة المقبل أما البعير فبعير ابني و أما الراكب فليس هو به قال فوقف الراكب عليها و قال يا أم عقيل عظم الله أجرك في عقيل ولدك فقالت له ويحك مات قال نعم قالت و ما سبب موته قال ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر فقالت انزل و اقض ذمام القوم و دفعت إليه كبشا فذبحه و أصلحه و قرب إلينا الطعام فجعلنا نأكل و نتعجب من صبرها فلما فرغنا خرجت إلينا و قالت يا قوم هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئا فقلت نعم قالت فاقرأ علي آيات أتعزى بها عن ولدي فقلت يقول الله عز و جل وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ قالت بالله إنها في كتاب الله هكذا قلت و الله إنها لفي كتاب الله هكذا فقالت السلام عليكم ثم صفت قدميها و صلت ركعات ثم قالت اللهم إني قد فعلت ما أمرتني به فأنجز لي ما وعدتني به و لو بقي أحد لأحد قال فقلت في نفسي لبقي ابني لحاجتي إليه فقالت لبقي محمد ص لأمته فخرجت و أنا أقول ما رأيت أكمل منها و لا أجزل ذكرت ربها بأكمل خصاله و أجمل خلاله ثم إنها لما علمت أن الموت لا مدفع له و لا محيص عنه و إن الجزع لا يجدي نفعا و البكاء لا يرد هالكا رجعت إلى الصبر الجميل و احتسبت ابنها عند الله ذخيرة نافعة ليوم الفقر و الفاقة

 و روي أن يونس ع قال لجبرئيل ع دلني على أعبد أهل الأرض فدله على رجل قد قطع الجذام يديه و رجليه و ذهب ببصره و سمعه و هو يقول متعتني بها ما شئت و سلبتني ما شئت و أبقيت لي فيك الأمل يا بر يا وصول

 و روي أن عيسى ع مر برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بالفالج و قد تناثر لحمه من الجذام و هو يقول الحمد لله الذي عافاني مما   ابتلى به كثيرا من خلقه فقال له عيسى ع يا هذا و أي شي‏ء من البلاء أراه مصروفا عنك فقال يا روح الله أنا خير ممن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته فقال له صدقت هات يدك فناوله يده فإذا هو أحسن الناس وجها و أفضلهم هيئة قد أذهب الله عنه ما كان به فصحب عيسى ع و تعبد معه

 و روي أنه كان في بني إسرائيل رجل فقيه عابد عالم مجتهد و كانت له امرأة و كان بها معجبا فماتت فوجد عليها وجدا شديدا حتى خلا في بيت و أغلق على نفسه و احتجب عن الناس فلم يكن يدخل عليه أحد ثم إن امرأة من بني إسرائيل سمعت به فجاءته فقالت لي إليه حاجة أستفتيه فيها ليس يجزئني إلا أن أشافهه بها فذهب الناس و لزمت الباب فأخبر فأذن لها فقالت أستفتيك في أمر قال ما هو قالت إني استعرت من جارة لي حليا فكنت ألبسه زمانا ثم إنهم أرسلوا إلي أ فأرده إليهم قال نعم و الله قالت إنه قد مكث عندي زمانا قال ذاك أحق بردك إياه فقالت له رحمك الله أ فتأسف على ما أعارك الله عز و جل ثم أخذه منك و هو أحق به منك فأبصر ما كان فيه و نفعه الله بقولها

 و عن أبي الدرداء قال كان لسليمان بن داود ع ابن يحبه حبا شديدا فمات فحزن عليه حزنا شديدا فبعث الله عز و جل إليه ملكين في هيئة البشر فقال ما أنتما قالا خصمان قال اجلسا بمجلس الخصوم فقال أحدهما إني زرعت زرعا فأتى هذا فأفسده فقال سليمان ع ما يقول هذا قال أصلحك الله إنه زرع في الطريق و إني مررت فنظرت يمينا و شمالا فإذا الزرع فركبت قارعة الطريق و كان في ذلك فساد زرعه فقال سليمان ما حملك على أن تزرع في الطريق أ ما علمت أن الطريق سبيل الناس و لا بد للناس من أن يسلكوا سبيلهم فقال له أحد الملكين أ و ما علمت يا سليمان إن الموت سبيل الناس و لا بد للناس أن يسلكوا سبيلهم قال فكأنما كشف عن سليمان ع الغطاء و لم يجزع على ولده بعد ذلك رواه ابن أبي الدنيا  

 و روي أيضا أن قاضيا كان في بني إسرائيل مات له ابن فجزع عليه و صاح فلقيه رجلان فقالا له اقض بيننا فقال من هذا فررت فقال أحدهما أن هذا مر بغنمه على زرعي فأفسده فقال الآخر إن هذا زرع بين الجبل و النهر و لم يكن لي طريق غيره فقال له القاضي أنت حين زرعت بين الجبل و النهر أ لم تعلم أنه طريق الناس فقال له الرجل فأنت حين ولد لك ولد أ لم تعلم أنه يموت فارجع إلى قضائك ثم عرجا و كانا ملكين

 و روي أنه كان بمكة مقعدان كان لهما ابن شاب فكان إذا أصبح نقلهما فأتى بهما المسجد فكان يكتسب عليهما يومه فإذا كان المساء احتملهما فأقبل بهما فافتقده النبي ص فسأل عنه فقيل له مات فقال رسول الله ص لو ترك أحد لأحد ترك ابن المقعدين انتهى ما أردنا إخراجه من كتاب مسكن الفؤاد