باب 8- قلة عدد المؤمنين و أنه ينبغي أن لا يستوحشوا لقلتهم و أنس المؤمنين بعضهم ببعض

 الآيات قال تعالى وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ و قال وَ قَلِيلٌ ما هُمْ و قال وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ و قال سبحانه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ و قال وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ. و أقول مثله كثير في القرآن و الغرض رفع ما يسبق إلى الأوهام العامية أن الكثرة دليل الحقية و القلة دليل البطلان و لذا يميل أكثر الناس إلى السواد الأعظم مع أن في أعصار جميع الأنبياء كان أعداؤهم أضعاف أضعاف أتباعهم و أوليائهم و قد ذم الكثير و مدح القليل الرب الجليل في التنزيل و الله يهدي إلى سواء السبيل

1-  نهج، ]نهج البلاغة[ قال أمير المؤمنين ع أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله فإن الناس اجتمعوا على مائدة شبعها قصير و جوعها طويل

 بيان لما كانت العادة جارية بأن يستوحش الناس من الوحدة و قلة الرفيق في الطريق لا سيما إذا كان طويلا صعبا غير مأنوس فنهى عن الاستيحاش في تلك الطريق و كنى به عما عساه يعرض لبعضهم من الوسوسة بأنهم ليسوا على الحق لقلتهم و كثرة مخالفيهم كما أشرنا إليه. و أيضا قلة العدد في الطرق الحسية مظنة الهلاك و السلامة مع الكثرة فنبههم ع على أنهم في طريق الهدى و السلامة و إن كانوا قليلين و لا يجوز مقايسة طرق الآخرة بطرق الدنيا. ثم نبه على علة قلة أهل طريق أهل الهدى و هي اجتماع الناس على الدنيا فقال فإن الناس و استعار للدنيا المائدة لكونهما مجتمع اللذات و كنى عن قصر مدتها بقصر شبعها و عن استعقاب الانهماك فيها للعذاب الطويل في الآخرة بطول جوعها. قيل و لفظ الجوع مستعار للحاجة الطويلة بعد الموت إلى المطاعم الحقيقية الباقية من الكمالات النفسانية و هو بسبب الغفلة في الدنيا فلذلك نسب الجوع إليها

2-  صفات الشيعة للصدوق، بإسناده عن المفضل بن قيس عن أبي عبد الله ع قال قال لي كم شيعتنا بالكوفة قال قلت خمسون ألفا فما زال يقول إلى أن قال و الله لوددت أن يكون بالكوفة خمسة و عشرون رجلا يعرفون أمرنا الذي نحن عليه و لا يقولون علينا إلا الحق

3-  كا، ]الكافي[ عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن سنان عن قتيبة الأعشى قال سمعت أبا عبد الله ع يقول المؤمنة أعز من المؤمن و المؤمن أعز من الكبريت الأحمر فمن رأى منكم الكبريت الأحمر

 بيان في القاموس عز يعز عزا و عزة بكسرهما صار عزيزا كتعزز و قوي بعد ذلة و الشي‏ء قل فلا يكاد يوجد فهو عزيز و قال الكبريت من الحجارة الموقد بها و الياقوت الأحمر و الذهب و جوهر معدنه خلف التبت بوادي النمل انتهى. و المشهور أن الكبريت الأحمر هو الجوهر الذي يطلبه أصحاب الكيمياء و هو الإكسير و حاصل الحديث أن المرأة المتصفة بصفات الإيمان أقل وجودا من الرجل المتصف بها و الرجل المتصف بها أعز وجودا من الإكسير الذي لا يكاد يوجد ثم أكد قلة وجود الكبريت بقوله فمن رأى منكم و هو استفهام إنكاري أي إذا لم تروا الكبريت الأحمر فكيف تطمعون في رؤية المؤمن الكامل الذي هو أعز وجودا منه أو في كثرته

4-  كا، ]الكافي[ عن العدة عن سهل عن ابن أبي نجران عن مثنى الحناط عن كامل التمار قال سمعت أبا جعفر ع يقول الناس كلهم بهائم ثلاثا إلا قليل من المؤمنين و المؤمن غريب ثلاث مرات

  بيان كلهم بهائم أي شبيه بها في عدم العقل و إدراك الحق و غلبة الشهوات النفسانية على القوى العقلانية كما قال تعالى إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا إلا قليل كذا في أكثر النسخ و في بعضها إلا قليلا و هو أصوب. المؤمن غريب لأنه قلما يجد مثله فيسكن إليه فهو بين الناس كالغريب الذي بعد عن أهله و وطنه و دياره ثلاث مرات أي قال هذا الكلام ثلاث مرات و كذا قوله ثلاثا و في بعض النسخ عزيز مكان غريب

5-  كا، ]الكافي[ عن علي عن أبيه عن ابن محبوب عن ابن رئاب قال سمعت أبا عبد الله ع يقول لأبي بصير أما و الله لو إني أجد منكم ثلاثة مؤمنين يكتمون حديثي ما استحللت أن أكتمهم حديثا

 بيان ثلاثة مؤمنين ثلاثة إما بالتنوين و مؤمنين صفتها أو بالإضافة فمؤمنين تميز و يدل على أن المؤمن الكامل الذي يستحق أن يكون صاحب أسرارهم و حافظها قليل و أنهم كانوا يتقون من أكثر الشيعة كما كانوا يتقون من المخالفين لأنهم كانوا يذيعون فيصل ذلك إما إلى خلفاء الجور فيتضررون ع منهم أو إلى نواقص العقول الذين لا يمكنهم فهمها فيصير سببا لضلالتهم. و يمكن أن يقال في سبب تعيين الثلاثة إن الواحد لا يمكنه ضبط السر و كذا الاثنان و أما إذا كانوا ثلاثة فيأنس بعضهم ببعض و يذكرون ذلك فيما بينهم فلا يضيق صدرهم و يخف عليهم الاستتار عن غيرهم كما هو المجرب

6-  كا، ]الكافي[ عن محمد بن الحسن و علي بن محمد بن بندار عن إبراهيم بن إسحاق عن عبد الله بن حماد الأنصاري عن سدير الصيرفي قال دخلت على أبي عبد الله ع فقلت له و الله ما يسعك القعود قال و لم يا سدير قلت لكثرة مواليك و شيعتك و أنصارك و الله لو كان لأمير المؤمنين ع ما لك من الشيعة و الأنصار و الموالي ما طمع فيه تيم و لا عدي فقال يا سدير كم عسى أن يكونوا قلت مائة ألف قال مائة ألف قلت نعم و مائتي ألف فقال و مائتي ألف قلت نعم و نصف الدنيا قال فسكت عني ثم قال يخف عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع قلت نعم فأمر بحمار و بغل أن يسرجا فبادرت فركبت الحمار فقال يا سدير ترى أن تؤثرني بالحمار قلت البغل أزين و أنبل قال الحمار أرفق بي فنزلت فركب الحمار و ركبت البغل فمضينا فحانت الصلاة فقال يا سدير انزل بنا نصلي ثم قال هذه أرض سبخة لا يجوز الصلاة فيها فسرنا حتى صرنا إلى أرض حمراء و نظر إلى غلام يرعى جداء فقال و الله يا سدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود و نزلنا و صلينا فلما فرغنا من الصلاة عطفت إلى الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر

 بيان سدير كأمير ما يسعك القعود أي ترك القتال و الجهاد و في المصباح قعد عن حاجته تأخر عنها و الموالي الأحباء المخلصون من الشيعة و تيم قبيلة أبي بكر و عدي قبيلة عمر أي ما طمع من غصب خلافته التيمي و العدوي أو قبيلتهما قال مائة ألف على سبيل التعجب و الإنكار يخف عليك بكسر الخاء أي يسهل و لا يثقل و في القاموس خف القوم ارتحلوا مسرعين. و قال ينبع كينصر حصن له عيون و نخيل و زروع بطريق حاج مصر و في النهاية على سبع مراحل من المدينة من جهة البحر انتهى و قيل على أربع مراحل و هو من أوقاف أمير المؤمنين ع و هو ع أجرى عينه كما يظهر من الأخبار. أن يسرجا بدل اشتمال لقوله حمار و بغل أزين أي الزينة في ركوبه أكثر و عند الناس أحسن و في القاموس النبل بالضم الذكاء و النجابة نبل ككرم نبالة فهو نبيل و امرأة نبيلة في الحسن بينة النبالة و كذا الناقة أو الفرس و الرجل و الحاصل أني إنما اخترت لك البغل لأنه أشرف و أفضل و اختار ع الحمار لأن التواضع فيه أكثر مع سهولة الركوب و النزول و السير. فحانت الصلاة أي قرب أو دخل وقتها في القاموس حان يحين قرب و آن و كان الأمر بالنزول أولا ثم الإعراض عنه للتنبيه على عدم جواز الصلاة فيها و في المشهور محمول على الكراهة إلا أن يحصل الاستقرار و سيأتي في كتاب الصلاة و كره الصلاة في السبخة إلا أن تكون مكانا لينا تقع عليه الجبهة مستويا و سنتكلم عليه إن شاء الله. و قال الجوهري الجدي من ولد المعز و ثلاثة أجد فإذا كثرت فهي الجداء و لا تقل الجدايا و لا الجدي بكسر الجيم و قال عطفت أي ملت و يومئ إلى أن الصاحب ع مع كثرة من يدعي التشيع ليست له شيعة واقعية بهذا العدد و قيل أي لا بد أن يكون في عسكر الإمام ع هذا العدد من المخلصين حتى يمكنه طلب حقه بهذا العسكر لا أن هذا العدد كاف في جواز الخروج

7-  كا، ]الكافي[ عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن سنان عن عمار بن مروان عن سماعة بن مهران قال قال لي عبد صالح ع يا سماعة أمنوا على فرشهم و أخافوني أما و الله لقد كانت الدنيا و ما فيها إلا واحد يعبد الله و لو كان معه غيره لأضافه الله عز و جل إليه حيث يقول إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فصبر بذلك ما شاء الله ثم إن الله آنسه بإسماعيل و إسحاق فصاروا ثلاثة أما و الله إن المؤمن لقليل و إن أهل الكفر كثير أ تدري لم ذاك فقلت لا أدري جعلت فداك فقال صيروا أنسا للمؤمنين يبثون إليهم ما في صدورهم فيستريحون إلى ذلك و يسكنون إليه

 بيان أخافوني أي بالإذاعة و ترك التقية و الضمير في أمنوا راجع إلى المدعين للتشيع الذين لم يطيعوا أئمتهم في التقية و ترك الإذاعة و أشار بذلك إلى أنهم ليسوا بشيعة لنا ثم ذكر لرفع استبعاد السائل عن قلة المخلصين بقوله لقد كانت الدنيا و ما فيها الواو للحال و ما نافية و لو كان معه غيره أي من أهل الإيمان لأضافه الله عز و جل إليه لأن الغرض ذكر أهل الإيمان التاركين للشرك حيث قال و لم يك من المشركين فلو كان معه غيره من المؤمنين لذكره معه. إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قال في مجمع البيان اختلف في معناه فقيل قدوة و معلما للخير قال ابن الأعرابي يقال للرجل العالم أمة و قيل أراد إمام هدى و قيل سماه أمة لأن قوام الأمة كان فيه و قيل لأنه قام بعمل أمة و قيل لأنه انفرد في دهره بالتوحيد فكان مؤمنا وحده و الناس كفار قانِتاً لِلَّهِ أي مطيعا دائما على عبادته و قيل مصليا حَنِيفاً أي مستقيما على الطاعة و طريق الحق و هو الإسلام وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بل كان موحدا انتهى. و قيل يحتمل أن يكون من للابتداء أي لم يكن في آبائه مشرك و هو بعيد و في النهاية في حديث قس أنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة الأمة الرجل المتفرد بدين كقوله تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ انتهى. و أقول كأن هذا كان بعد وفاة لوط ع أو أنه لما لم يكن معه و كان مبعوثا على قوم آخر لم يكن ممن يؤنسه و يقويه على أمره في قومه فغبر بذلك في أكثر النسخ بالغين المعجمة و الباء الموحدة أي مكث أو مضى و ذهب كما في القاموس فعلى الأول فيه ضمير مستتر راجع إلى إبراهيم و على الثاني فاعله ما شاء الله و في بعض النسخ فصبر فهو موافق للأول و في بعضها بالعين المهملة فهو موافق للثاني. و إن أهل الكفر كثير المراد بالكفر هنا مقابل الإيمان كامل قال سبحانه وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ أ تدري لم ذاك هذا بيان لحقية هذا الكلام أي قلة عدد المؤمنين مع أنهم بحسب الظاهر كثيرون أو لأن الله تعالى لم جعل هؤلاء في صورة المؤمنين أو لم خلقهم و المعنى على التقادير أن الله جعل هؤلاء المتشيعة أنسا للمؤمنين لئلا يستوحشوا لقلتهم أو يكون علة لخروج هؤلاء عن الإيمان فالمعنى أن الله تعالى جعل المخالفين أنسا للمؤمنين فيبثون أي المؤمنون إلى المخالفين أسرار أئمتهم فبذلك خرجوا عن الإيمان. و يؤيد الاحتمالات المتقدمة خبر علي بن جعفر فيستريحون إلى ذلك إلى بمعنى مع أو ضمن في متعلقه معنى التوجه و نحوه

8-  كا، ]الكافي[ عن العدة عن سهل عن محمد بن أورمة عن النضر عن يحيى بن أبي خالد القماط عن حمران بن أعين قال قلت لأبي جعفر ع جعلت فداك ما أقلنا لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها فقال أ لا أحدثك بأعجب من ذلك المهاجرون و الأنصار ذهبوا إلا و أشار بيده ثلاثة قال حمران فقلت جعلت فداك ما حال عمار قال رحم الله عمارا أبا اليقظان بايع و قتل شهيدا فقلت في نفسي ما شي‏ء أفضل من الشهادة فنظر إلي فقال لعلك ترى أنه مثل الثلاثة أيهات أيهات

 بيان ما أقلنا صيغة تعجب ما أفنيناها أي ما نقدر على أكل جميعها و أشار كلام الراوي و المراد به الإشارة بثلاثة أصابع من يده ع و ثلاثة كلام الإمام و المراد بالثلاثة سلمان و أبو ذر و المقداد

 كما روى الكشي عن الباقر ع أنه قال ارتد الناس إلا ثلاثة نفر سلمان و أبو ذر و المقداد قال الراوي فقلت فعمار قال كان جاض جيضة ثم رجع ثم إن أردت الذي لم يشك و لم يدخله شي‏ء فالمقداد فأما سلمان فإنه عرض في قلبه أن عند أمير المؤمنين ع اسم الله الأعظم لو تكلم به لأخذتهم الأرض و هو هكذا و أما أبو ذر فأمره أمير المؤمنين بالسكوت و لم يأخذه في الله لومة لائم فأبى إلا أن يتكلم

جاض أي عدل عن الحق و مال. و قال الجوهري هيهات كلمة تبعيد و التاء مفتوحة مثل كيف و أصلها هاء و ناس يكسرونها على كل حال بمنزلة نون التثنية و قد تبدل الهاء الأولى همزة فيقال أيهات مثل هراق و أراق قال الكسائي و من كسر التاء وقف عليها بالهاء فقال هيهاه و من نصبها وقف بالتاء و إن شاء بالهاء

9-  كا، ]الكافي[ عن الحسين بن محمد عن المعلى عن أحمد بن محمد بن عبد الله عن علي بن جعفر قال سمعت أبا الحسن ع يقول ليس كل من يقول بولايتنا مؤمنا و لكن جعلوا أنسا للمؤمنين

10-  كا، ]الكافي[ عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس عمن ذكره عن أبي عبد الله ع قال إن المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن الظمآن إلى الماء البارد

 بيان إلى المؤمن قيل إلى بمعنى مع و أقول كأن فيه تضمينا و هذا تشبيه كامل للمعقول بالمحسوس فإن للظمآن اضطرابا في فراق الماء و يشتد طلبه له فإذا وجده استقر و سكن و يصير سببا لحياته البدني فكذلك المؤمن يشتد شوقه إلى المؤمن و تعطشه في لقائه فإذا وجده سكن و مال إليه و يحيا به حياة طيبة روحانية فإنه يصير سببا لقوة إيمانه و إزالة شكوكه و شبهاته و زوال وحشته. و قيل هذا السكون ينشأ من أمرين أحدهما الاتحاد في الجنسية للتناسب في الطبيعة و الروح كما مر و المتجانسان يميل أحدهما إلى الآخر و كلما كان التناسب و التجانس أكمل كان الميل أعظم كما روي أن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف و ثانيهما المحبة لأن المؤمن لكمال صورته الظاهرة و الباطنة بالعلم و الإيمان و الأخلاق و الأعمال محبوب القلوب و تلك الصورة قد تدرك بالبصر و البصيرة و قد تكون سببا للمحبة و السكون بإذن الله تعالى و بسبب العلاقة في الواقع و إن لم يعلم تفصيلها