بناء السد

بعد ان انتهى ـ ذي القرنين ـ من سفره الى المغرب والمشرق ، ينتقل الى المرحلة الثانية والسفرة الثالثة وهي بناء السد والتقاءه بقوم آخرين. حيث يقول تعالى : « ثم اتبع سببا » : اي استفاد من الوسائل المهمة التي كانت تحت تصرفه لبناء السد .. فقال تعالى : « حتى اذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا » (1). تشير الآية المباركة الى انه وصل الى منطقة جبلية ، وهناك وجد اناسا ـ غير المجموعتين اللتين عثر عليهما في الشرق والغرب ـ كانوا على مستوى دان من المدينة ، وكانوا لا يفهمون محتوى الكلام ومتخلفين فكريا عندما وصل ذو القرنين اليهم وراوه ، اغتنموا مجيئه واستنجدوا به ، لانهم كانوا في عذاب شديد من قبل اعدائهم « يأجوج ومأجوج » لذا فقد طلبوا منه العون قائلين : « قالوا يا ذا القرنين ان يأجوج ومأجوج مفسدون في الارض فهل نجعل لك خرجا على ان تجعل بيننا وبينهم سدا » (2). تم التفاهم بين هؤلاء القوم وذي القرنين بالعلامات والاشارات او عن طريق المترجمين ، او باسلوب آخر ، على كل حال اتفقوا معه على بناء السد ، وكانت هذه المجموعة من الناس على وضع جيد من حيث الامكانات والثروة المادية ، ولكنهم ضعفاء من حيث الفكر والصناعة والتخطيط ، لذا فقد قبلوا بتكاليف بناء هذا السد المهم بشرط ان يتكفل ذو القرنين ببنائه. اما ذو القرنين فقد اجابهم : و « قال ما مكّنّي فيه ربي خير » واني لا احتاج الى مساعدتكم المالية ، وانما : « فاعينوني بقوة اجعل بينكم وبينهم ردما » (3). فان ذو القرنين طلب منهم قوة بشرية من اجل ان يساعدوه على بناء السد ، وكلمة « ردم » هنا تقال للسد القوي ، ويطلق ايضا على ـ ترقيع الملابس ـ. ثم امر ذو القرنين وطلب منهم وقال : « آتوني زبر الحديد » (4) وهي تعني القطع الكبير من الحديد. وعندما جاءوه بقطع من الحديد اعطى امرا بوضع بعضها فوق بعض الآخر حتى غطى بين الجبلين بشكل كامل : « حتى اذا ساوى بين الصدفين » (5) ومعنى « الصدف » هنا حافة الجبل ، حيث كان بين حافتي الجبل شقا كان يدخل منها يأجوج ومأجوج ويؤذون القوم ، وقد صمم ذو القرنين ملأ هذا الشق. وبعد ذلك امرهم ذو القرنين وطلب منهم ان ياتون الحطب والاخشاب ويضعونها على جانبي السد ، واشعل النار فيه حتى احمر الحديد من شدة النار و « قال انفخوا حتى اذا جعله نارا » (6). لقد كان هدف ذو القرنين من ذلك هو ربط قطع الحديد بعضها مع البعض ليصنع منه قطعة واحدة ، والتحمت اجزاء الحديد بعضها ببعض. وبعدما انتهى من هذه المرحلة ، طلب منهم فقال : اجلبوا لي النحاس المذاب حتى اضعه فوق هذا السد : « قال ءَاتوني أُفرِغ عليه قِطراً » (7). وبهذه الطريقة فقد قام بتغطية هذا السد الحديدي بقطعة من النحاس حتى لا ينفذ فيه الهواء ويحفظ من التآكل. ان علم الحديث اليوم اثبت انه عند اضافة مقدار من النحاس الى الحديد فان ذلك سيزيد من مقدار مقاومته. واخيرا تم بناء السد واصبح محكما وقويا بحيث : « فما اسطاعوا ان يظهروه وما استطاعوا له نقبا » (8). لقد كان عمل ذي القرنين عظيما ومهما ، وكان يمكن له ان يتباهى ويفتخر ويمن به على القوم ، الا انه قال بأدب كامل وتواضع : « قال هذا رحمة من ربي » ، لان اخلاقه كانت اخلاقا الهية. اراد ذو القرنين ان يعِضَهم فقال : انني لا املك شيئا من عندي كي افتخر به ، اذا كنت املك العلم والمعرفة ، وقابلت الكلام والحديث المؤثر ، كل هذا من فضل الله ومن قبل الخالق جل وعلا. واذا كانت مِثل هذه الوسائل والافكار في اختياري فان ذلك من بركة الله ورحمة الخالق الواسعة. ثم استطرد قائلا متواضعا لله تعالى : لا تظنوا ان هذا السد سيكون ابديا خالدا لا يتزعزع : « فاذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا » (9). لقد اشار ذو القرنين في النهاية من كلامه هذا الى فناء الدنيا وتحطيم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث ويوم تقوم القيامة. واعتبر بعض المفسرين ـ الوعد الالهي ـ اشارة الى التقدم العلمي للبشر والذي بواسطته لا يبقى معنى لسد غير قابل للاختراق والعبور ، فالطائرات والصواريخ والقنابل الذرية وما شابهها تستطيع ان تعبر جميع هذه الموانع .... 

________________________________________

1 ـ الكهف : 93. 

2 ـ الكهف : 94. 

3 ـ الكهف : 95. 

4 ـ 7 ـ الكهف : 96. 

8 ـ الكهف : 97. 

9 ـ الكهف : 98.ير الميزان : ج 13 ص 379.