تبليغ الرسالة 2

قال تعالى : « لقد ارسلنا نوحا الى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره اني اخاف عليكم عذاب يوم عظيم * فكذبوه فانجيناه والذين معه في الفلك واغرقنا الذين كذبوا باياتنا انهم كانوا قوما عمين » (1). ان اول شيء ذكر به نوح عليه السلام قومه هو الفات نظرهم الى حقيقة التوحيد ، ونفي جميع انواع الوثنية ، وقال لهم : « يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره ». ان شعار التوحيد ليس شعار نوح عليه السلام وحده ، بل هو اول شعار عند جميع الانبياء والمرسلين ، وان اول مايفتتح به اكثر الانبياء دعواتهم بهذا الشعار ، « يا قوم اعبدوا الله الواحد الاحد الفرد الصمد ... ». نفهم من هذا ، ان الوثنية كانت اسوا مانع في طريق سعادة البشرية جمعاء ، واصعب مانع في طريق هداية البشر الى التوحيد ، وخاصة في زمن نوح عليه السلام كان الناس يعبدون الاصنام بكثرة ، وكانت لهم اصنام كبيرة ومهمة اسمها : « ود » و « سواع » و « يغوث » و « يعوق » و « نسر » وغير ذلك ... وبعد ان بلغ فيهم رسالته ودعاهم الى توحيد الله ، وايقظ ضمائرهم وفطرتهم النائمة ، حذرهم من غضب الله وخوفهم من عذابه ، وقال لهم : اني اخاف عليكم عذاب يوم عظيم ، وهذا العذاب سوف يكون في الدنيا او في الاخرة ويوم القيامة. ولكن بدل ان يسمعوا نصائحه ويتعضوا ويهتدوا الى طريق الحق ازدادوا عتوا وظلما ومحاربة وتكذيبا له ، وكان يقابلهم باللطف والمحبة والرحمة ، ويرغبهم لاستجابة دعوته ورسالته ، ويقول لهم ان الايمان بالله يبعث على غفران جميع الذنوب السابقة ، وذلك بقوله : « يغفر لكم من ذنوبكم » ، وذلك حسب القاعدة المعروفة « الاسلام يجب ما قبله ». وكان نوح عليه السلام كلما يزداد تقربا لهم يزدادون بعدا عنه وكانوا احيانا يضعون اصابعهم في اذانهم كي لا يسمعوا صوت الحق ، ويلفون ثيابهم حول انفسهم او يضعونها على رؤوسهم لئلا تصل امواج الصوت الى عقولهم ، ولا تقع ابصارهم على وجه النبي نوح الملكموتي المنير ، وكانوا يصرون على ان تتوقف الاذان عن الاسماع والعيون عن النظر !! وهذا في الواقع امر مدهش ان يصل الانسان الى هذه المرحلة من العداوة والابتعاد عن الحق الى حد لا يعطي لنفسه فرصة النظر او السماع والتفكر !! هذا يدل على ان نوح عليه السلام كان مستمرا في دعوته الالهية طوال عمره الشريف ولعدة اجيال ، وكان لا يعرف التعب ابدا. وقد قيل ان بعض الافراد المنحرفين كان يذهب بابنه الى نوح عليه السلام فيقول له : « احذر هذا لا يغوينك فان ابي قد ذهب اليه ، وانا مثلك صغير محذرني منه مثلما حذرتك » (2). علما ان احد الاسباب المهمة لتعاسة هؤلاء القوم وابتعادهم عن الحق هو الغرور ، والتكبر ، والعصبية. كان صبره عليه السلام عجيبا ، والاعجب ما فيه رافته ، وهمته ، واستقامته ، واخلاقه. والاعجب من ذلك هو : مع طول عمره الشريف ومدة تبليغه بين قومه « 950 » عاما ، لم يؤمن طوال هذه المدة به الا ثمانون شخصا ، ولو قسمنا هذه المدة على عدد الانفار يتضح ان مدة هداية كل فرد دامت « اثنتي عشرة سنة » تقريبا !! اعلم يا عزيزي : لو كان المبلغون والدعاة يتعاملون بمثل هذه الروحية والاستقامة والهمة ، لاصبح الاسلام عالميا ، ولعم الامان والسعادة كل البشرية. 

________________________________________

1 ـ الاعراف 59 و 64. 

2 ـ مجمع البيان : ج 10 ص 361.