قضاء النبي داود عليه السلام

كان داود عليه السلام ذا علم واسع ومهارة فائقة في امر القضاء ، واراد الله سبحانه وتعالى ان يمتحنه ، فارسل له شخصين تسورا عليه جدار محرابه ليحتكما عنده ، كما ذكرت لنا الآيات المباركة من سورة « ص » من آية 21 ـ 25 ، حيث قال تعالى : « وهل اتاك نبأ الخصم اذ تسوروا المحراب ، ... الخ » (1). وذلك عندما كان داود عليه السلام في محرابه ، وكان محاطا باعداد كبيرة من الجند والحرس ، فاذا برجلان تسورا جدران المحراب ودخلا عليه من دون استئذان ومن دون علم مسبق ووقفا امامه فجاة ، ففزع داود عند رؤيتهما ، وظن انهم يكنون له السوء. الا انهما عمدا بسرعة الى تطييب نفسه واسكان روعه وقالا له : لا تخف نحن متخاصمان تجاوز احدنا على الآخر ، فاحكم بيننا وارشدنا الى الطريق الصحيح. وطرح احدهما المشكلة فورا على داود عليه السلام وقال : هذا اخي ، يمتلك  ( 99 ) نعجة ، وانا لا امتلك الا نعجة واحدة ، وانه يصر علي ان اعطيه نعجتي ليضمها الى بقية نعاجه ، وقد شدد علي القول واغلظ. وهنا وبسرعة التفت داود عليه السلام الى المدعي وقبل ان يستمع كلام الآخر واصدر الحكم وقال : من البديهي انه ظلمك بطلبه ضم نعجتك الى نعاجه. وبعد اصدار الحكم خرج المتخاصمان وغادرا المكان بدون كلام واعتراض. وبعد خروجهما غرق داود عليه السلام في التفكير ، رغم انه كان يعتقد انه قضى بالعدل بين المتخاصمين ، فلو كان الطرف الثاني مخالفا لادعاءات الطرف الاول ، لكان قد اعترض عليه ، اذن فسكوته هو خير دليل على ان القضية هي كما طرحها المدعي. ولكن آداب مجلس القضاء تفرض على داود ان يتريث في اصدار الحكم ولا يتعجل ، وكان عليه ان يسأل من الطرف الثاني ايضا ثم يحكم بينهما ، فلذا ندم كثيرا على عمله هذا ، وظن انما فتنه الباري عزوجل بهذه الحادثة. « وظن داود انما فتناه ». وهنا ادركته طبيعته ، حيث انه اواب ، رجع الى ربه طالبا منه العفو والمغفرة وخر راكعا وساجدا تائبا الى الله العزيز الحكيم. وبعد ذلك شمله الله سبحانه وتعالى بلطفه ورحمته وعفا عنه زلته من حيث ترك العمل بالاولى ، وان له منزلة رفيعة عند الله ، كما توضحه الآية المباركة : « فغفرنا له ذلك وان له عندنا لزلفى وحسن مآب » ( 2). كانت هذه الحادثة من جملة الحوادث التي امتحن الله عزوجل بها انبيائه ورسله ، في الواقع مثل هذه الابتلاءات والامتحانات لا تقلل شيئا من شأن ومقام الانبياء والرسل ، بل تزيدهم ايمانا واعتقادا بالله تعالى. وفي نفس الوقت هي دروس وعبر وتجارب لنا جميعا نستفيد منها ونعتبر بها ، من اجل سعادتنا وسعادة الامة في الدنيا والآخرة ، فاعتبروا يا اولي الابصار ... 

________________________________________

1 ـ ص : 21 ـ 25. 

2 ـ ص : 2