زائر الكاظمين عليهما السلام

وقال أدام الله أيام سعادته في كتابه إلي: حكاية اخرى اتفقت لي أيضا وهي أني منذ سنين متطاولة كنت أسمع بعض أهل الديانة والوثاقة يصفون رجلا من كسبة أهل بغداد أنه رأى مولانا الإمام المنتظر سلام الله عليه، وكنت أعرف ذلك الرجل، وبيني وبينه مودة، وهو ثقة عدل، معروف بأداء الحقوق المالية، وكنت أحب أن أسأله بيني وبينه، لأنه بلغني أنه يخفي حديثه ولا يبديه إلا لبعض الخواص ممن يأمن إذاعته خشية الاشتهار، فيهزأ به من ينكر ولادة المهدي وغيبته أو ينسبه العوام إلى الفخر وتنزيه النفس، وحيث إن هذا الرجل في الحياة لا احب أن اصرح باسمه خشية كراهته.(1)

وبالجملة فاني في هذه المدة كنت أحب أن أسمع منه ذلك تفصيلا حتّى اتفق لي أني حضرت تشييع جنازة من أهل بغداد في أواسط شهر شعبان من هذه السنة، وهي سنة اثنتين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية الشريفة في حضرة الامامين: مولانا موسى بن جعفر وسيدنا محمّد بن عليّ الجواد سلام الله عليهما وكان الرجل المزبور في جملة المشيعين، فذكرت ما بلغني من قصته، ودعوته وجلسنا في الرواق الشريف، عند باب الشباك النافذ إلى قبة مولانا الجواد عليه السلام ، فكلفته بأن يحدثني بالقصة، فقال ما معناه:  

إنه في سنة من سني عشرة السبعين(2)، كان عندي مقدار من مال الإمام عليه السلام عزمت على إيصاله إلى العلماء الأعلام في النجف الأشرف، وكان لي طلب على تجارها فمضيت إلى زيارة أمير المؤمنين سلام الله عليه في إحدى زياراته المخصوصة واستوفيت ما أمكنني استيفاؤه من الديون التي كانت لي وأوصلت ذلك إلى متعددين من العلماء الأعلام من طرف الإمام عليه السلام لكن لم يف بما كان عليّ منه، بل بقي عليّ مقدار عشرين تومانا فعزمت على إيصال ذلك إلى أحد علماء مشهد الكاظمين.

فلما رجعت إلى بغداد أحببت أداء ما بقي في ذمتي على التعجيل، ولم يكن عندي من النقد شيء فتوجهت إلى زيارة الإمامين عليهما السلام في يوم خميس، وبعد التشرف بالزيارة، دخلت على المجتهد دام توفيقه وأخبرته بما بقي في ذمتي من مال الإمام عليه السلام وسألته أن يحول ذلك عليّ تدريجا ورجعت إلى بغداد في أواخر النهار حيث لم يسعني لشغل كان لي، وتوجهت إلى بغداد ماشيا لعدم تمكني من كراء دابة.

فلما تجاوزت نصف الطريق رأيت سيدا جليلا مهابا متوجها إلى مشهد الكاظمين عليهما السلام ماشيا، فسلمت عليه فرد عليّ السلام، وقال لي:

يا فلان وذكر اسمي _ لم لم تبق هذه الليلة الشريفة ليلة الجمعة في مشهد الامامين؟

فقلت: يا سيدنا عندي مطلب مهم منعني من ذلك.

فقال لي: ارجع معي وبت هذه الليلة الشريفة عند الامامين عليهما السلام وارجع إلى مهمك غدا إنشاء الله.

فارتاحت نفسي إلى كلامه، ورجعت معه منقادا لأمره، ومشيت معه بجنب نهر جار تحت ظلال أشجار خضرة نضرة، متدلية على رؤوسنا، وهواء عذب، وأنا غافل عن التفكر في ذلك، وخطر ببالي أن هذا السيد الجليل سماني باسمي مع أنّه(3) لم أعرفه، ثمّ قلت في نفسي: لعله هو يعرفني وأنا ناس له.

ثمّ قلت في نفسي: إن هذا السيد كأنه يريد مني من حق السادة وأحببت أن اوصل إلى خدمته شيئا من مال الامام الذي عندي، فقلت له: يا سيدنا عندي من حقكم بقية، لكن راجعت فيه جناب الشيخ الفلاني لاؤدي حقكم باذنه _ وأنا أعني السادة _ فتبسم في وجهي.

وقال: نعم، وقد أوصلت بعض حقنا إلى وكلائنا في النجف الأشرف أيضاً.

وجرى على لساني أني قلت له: ما أديته مقبول؟

فقال: نعم.

ثمّ خطر في نفسي أن هذا السيد يقول بالنسبة إلى العلماء الأعلام (وكلائنا) واستعظمت ذلك: ثمّ قلت: العلماء وكلاء على قبض حقوق السادة وشملتني الغفلة.

ثمّ قلت: يا سيدنا قراء تعزية الحسين عليه السلام يقرؤن حديثا أن رجلا رأى في المنام هودجا بين السماء والأرض فسأل عمن فيه، فقيل له: فاطمة الزهراء وخديجة الكبرى.

فقال: إلى أين يريدون؟

فقيل: زيارة الحسين عليه السلام في هذه الليلة ليلة الجمعة.

ورأى رقاعا تتساقط من الهودج، مكتوب فيها أمان من النار لزوار الحسين عليه السلام في ليلة الجمعة، هذا الحديث صحيح؟

فقال عليه السلام: نعم زيارة الحسين عليه السلام في ليلة الجمعة أمان من النار يوم القيامة.

قال: وكنت قبل هذه الحكاية بقليل قد تشرفت بزيارة مولانا الرضا عليه السلام فقلت له: يا سيدنا قد زرت الرضا عليّ بن موسى عليهما السلام وقد بلغني أنه ضمن لزواره الجنة، هذا صحيح؟

فقال عليه السلام: هو الامام الضامن.

فقلت: زيارتي مقبولة؟

فقال عليه السلام: نعم مقبولة.

وكان معي في طريق الزيارة رجل متدين من الكسبة، وكان خليطا لي وشريكا في المصرف، فقلت له: يا سيدنا إن فلانا كان معي في الزيارة زيارته مقبولة؟

فقال: نعم، العبد الصالح فلان بن فلان زيارته مقبولة.

ثمّ ذكرت له جماعة من كسبة أهل بغداد كانوا معنا في تلك الزيارة وقلت: إن فلانا وفلانا و ذكرت أسماءهم كانوا معنا، زيارتهم مقبولة؟

فأدار عليه السلام وجهه إلى الجهة الاخرى وأعرض عن الجواب، فهبته وأكبرته وسكت عن سؤاله فلم أزل ماشيا معه على الصفة التي ذكرتها حتّى دخلنا الصحن الشريف ثمّ دخلنا الروضة المقدسة، من الباب المعروف بباب المراد، فلم يقف على باب الرواق، ولم يقل شيئا حتّى وقف على باب الروضة من عند رجلي الامام موسى عليه السلام ، فوقفت بجنبه، وقلت له: يا سيدنا اقرأ حتّى أقرأ معك.

فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أمير المؤمنين، وساق على باقي أهل العصمة عليهم السلام حتّى وصل إلى الامام الحسن العسكري عليه السلام.

ثمّ التفت إلي بوجهه الشريف، ووقف متبسما وقال: أنت إذا وصلت إلى السلام على الامام العسكري ما تقول؟

فقلت: أقول: السلام عليك يا حجة الله يا صاحب الزمان.

قال: فدخل الروضة الشريفة، ووقف على قبر الامام موسى عليه السلام والقبلة بين كتفيه. فوقفت إلى جنبه، وقلت: يا سيدنا زر حتّى أزور معك.

فبدأ عليه السلام بزيارة أمين الله الجامعة المعروفة فزار بها وأنا اتابعه، ثمّ زار مولانا الجواد عليه السلام ، ودخل القبة الثانية قبة محمّد بن عليّ عليهما السلام ووقف يصلي فوقفت إلى جنبه متأخرا عنه قليلا، احتراما له، ودخلت في صلاة الزيارة فخطر ببالي أن أسأله أن يبات معي تلك الليلة لأتشرف بضيافته وخدمته، ورفعت بصري إلى جهته، وهو بجنبي متقدما عليّ قليلا فلم أره.

فخففت صلاتي، وقمت وجعلت أتصفح وجوه المصلين والزوار لعلي أصل إلى خدمته، حتّى لم يبق مكان في الروضة والرواق إلا ونظرت فيه، فلم أر له أثرا أبدا، ثمّ انتبهت وجعلت أتأسف على عدم التنبه لما شاهدته من كراماته وآياته من انقيادي لأمره ( مع ) ما كان لي من الأمر المهم في بغداد، ومن تسميته إياي مع أني لم أكن رأيته ولا عرفته، ولما خطر في قلبي أن أدفع إليه شيئا من حق الامام عليه السلام وذكرت له أني راجعت في ذلك المجتهد الفلاني لأدفع إلى السادة باذنه، قال لي ابتداء منه: نعم وأوصلت بعض حقنا إلى وكلائنا في النجف الأشرف.

ثمّ تذكرت أني مشيت معه بجنب نهر جار تحت أشجار مزهرة متدلية على رؤوسنا، وأين طريق بغداد وظل الأشجار الزاهرة في ذلك التاريخ، وذكرت أيضا أنه سمى خليطي في سفر زيارة مولانا الرضا باسمه، ووصفه بالعبد الصالح، وبشرني بقبول زيارته وزيارتي ثمّ إنه أعرض بوجهه الشريف عند سؤالي إياه عن حال جماعة من أهل بغداد من السوقة كانوا معنا في طريق الزيارة، وكنت أعرفهم بسوء العمل، مع أنه ليس من أهل بغداد، ولا كان مطلعا على أحوالهم لولا أنه من أهل بيت النبوة والولاية، ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق.

ومما أفادني اليقين بأنه المهدي عليه السلام أنه لما سلم على أهل العصمة عليهم السلام في مقام طلب الاذن، ووصل السلام إلى مولانا الامام العسكري، التفت إلي وقال لي: أنت ما تقول إذا وصلت إلى هنا؟

فقلت: أقول: السلام عليك يا حجة الله يا صاحب الزمان، فتبسم ودخل الروضة المقدسة ثمّ افتقادي إياه وهو في صلاة الزيارة لما عزمت على تكليفه بأن أقوم بخدمته وضيافته تلك الليلة، إلى غير ذلك مما أفادني القطع بأنه هو الامام الثاني عشر صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين والحمد لله رب العالمين.

وينبغي أن يعلم أن هذا الرجل والرجل المتقدم ذكره في القصة السابقة هما من السوقة، وقد حدثاني بهذين الحديثين باللغة المصحفة التي هي لسان أهل هذا الزمان، فاللفظ مني، مع المحافظة التامة على المعنى، فهو حديث بالمعنى وكتب أقل أهل العلم: محمّد بن أحمد بن الحسن الحسيني الكاظمي مسكنا.

قلت: ثمّ سألته أيده الله تعالى عن اسمه وحدثني غيره أيضا أن اسمه الحاج عليّ البغدادي وهو من التجار وأغلب تجارته في طرف جدة ومكة وما والاها، بطريق المكاتبة، وحدثني جماعة من أهل العلم والتقوى من سكنة بلدة الكاظم عليه السلام بأن الرجل من أهل الصلاح والديانة والورع، والمواظبين على أداء الأخماس والحقوق وهو في هذا التاريخ طاعن في السن(4) أحسن الله عاقبته.

 

 

 

 

(1) ومن عجيب الاتفاق أنى لما اشتغلت بتأليف هذه الرسالة صادف أيام الزيارة المخصوصة فخرجت من سامراء ولما دخلت بلد الكاظمين عليهما السلام نزلت على جنابه سلمه الله فسألته عما عنده من تلك الوقائع، فحدثني بهذه الحكاية. فسألته أن يكتب إلي فقال اني سمعتها منذ سنين ولعله سقط عني منها شيء وصاحبها موجود نسأله مرة أخرى حتّى نكتبها كما هي الا أن لقائي أياه صعب جدا فانه منذ اتفقت له هذه القصة قليل الانس بالناس إذا جاء من بغداد للزيارة يدخل الحرم ويزور ويقضى وطره ويرجع إلى بغداد ولا يطلع عليه أحد فيتفق أني لا أراه في السنة الا مرة أو مرتين في الطريق. فقلت له سلمه الله : اني أزور المشهد الغروي وأرجع إلى آخر الشهر ونرجو من الله أن يتفق لقاؤكم اياه في هذه المدة. ثمّ قمت من عنده ودخلت منزلي فدخل عليّ سلمه الله بعد زمان قليل من هذا اليوم وقال كنت في منزلي فجاءني شخص وقال: جاؤا بجنازة من بغداد في الصحن الشريف وينتظرونك للصلاة عليه فقمت وذهبت معه ودخلت الصحن وصليت عليها وإذا بالمؤمن الصالح المذكور وهو فيهم، إلى آخر ما ذكره أيده الله تعالى وهذه من بركات الحجة عليه السلام ، (منه رحمه الله).

(2) اما أن يكون المراد في العقد السابع من عمره، أو أحد سنوات العشرة السابعة من القرن الذي عاشه صاحب القصة.

(3) الظاهر لم اعرّفه باسمي.

(4) يقال: طعن في السن: شاخ وهرم.