باب جوامع التوحيد

1-  محمد بن أبي عبد الله و محمد بن يحيى جميعا رفعاه إلى أبي عبد الله ع أن أمير المؤمنين ع استنهض الناس في حرب معاوية في المرة الثانية فلما حشد الناس قام خطيبا فقال الحمد لله الواحد الأحد الصمد المتفرد الذي لا من شي‏ء كان و لا من شي‏ء خلق ما كان قدرة بان بها من الأشياء و بانت الأشياء منه فليست له صفة تنال و لا حد تضرب له فيه الأمثال كل دون صفاته تحبير اللغات و ضل هناك تصاريف الصفات و حار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير و انقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير و حال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول في لطيفات الأمور فتبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم و لا يناله غوص الفطن و تعالى الذي ليس له وقت معدود و لا أجل ممدود و لا نعت محدود سبحان الذي ليس له أول مبتدأ و لا غاية منتهى و لا آخر يفنى سبحانه هو كما وصف نفسه و الواصفون لا يبلغون نعته و حد الأشياء كلها عند خلقه إبانة لها من شبهه و إبانة له من شبهها لم يحلل فيها فيقال هو فيها كائن و لم ينأ عنها فيقال هو منها بائن و لم يخل منها فيقال له أين لكنه سبحانه أحاط بها علمه و أتقنها صنعه و أحصاها حفظه لم يعزب عنه خفيات غيوب الهواء و لا غوامض مكنون ظلم الدجى و لا ما في السماوات العلى إلى الأرضين السفلى لكل شي‏ء منها حافظ و رقيب و كل شي‏ء منها بشي‏ء محيط و المحيط بما أحاط منها الواحد الأحد الصمد الذي لا يغيره صروف الأزمان و لا يتكأده صنع شي‏ء كان إنما قال لما شاء كن فكان ابتدع ما خلق بلا مثال سبق و لا تعب و لا نصب و كل صانع شي‏ء فمن شي‏ء صنع و الله لا من شي‏ء صنع ما خلق و كل عالم فمن بعد جهل تعلم و الله لم يجهل و لم يتعلم أحاط بالأشياء علما قبل كونها فلم يزدد بكونها علما علمه بها قبل أن يكونها كعلمه بعد تكوينها لم يكونها لتشديد سلطان و لا خوف من زوال و لا نقصان و لا استعانة على ضد مناو و لا ند مكاثر و لا شريك مكابر لكن خلائق مربوبون و عباد داخرون فسبحان الذي لا يئوده خلق ما ابتدأ و لا تدبير ما برأ و لا من عجز و لا من فترة بما خلق اكتفى علم ما خلق و خلق ما علم لا بالتفكير في علم حادث أصاب ما خلق و لا شبهة دخلت عليه فيما لم يخلق لكن قضاء مبرم و علم محكم و أمر متقن توحد بالربوبية و خص نفسه بالوحدانية و استخلص بالمجد و الثناء و تفرد بالتوحيد و المجد و السناء و توحد بالتحميد و تمجد بالتمجيد و علا عن اتخاذ الأبناء و تطهر و تقدس عن ملامسة النساء و عز و جل عن مجاورة الشركاء فليس له فيما خلق ضد و لا له فيما ملك ند و لم يشركه في ملكه أحد الواحد الأحد الصمد المبيد للأبد و الوارث للأمد الذي لم يزل و لا يزال وحدانيا أزليا قبل بدء الدهور و بعد صروف الأمور الذي لا يبيد و لا ينفد بذلك أصف ربي فلا إله إلا الله من عظيم ما أعظمه و من جليل ما أجله و من عزيز ما أعزه و تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا

 و هذه الخطبة من مشهورات خطبه ع حتى لقد ابتذلها العامة و هي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبرها و فهم ما فيها فلو اجتمع ألسنة الجن و الإنس ليس فيها لسان نبي على أن يبينوا التوحيد بمثل ما أتى به بأبي و أمي ما قدروا عليه و لو لا إبانته ع ما علم الناس كيف يسلكون سبيل التوحيد أ لا ترون إلى قوله لا من شي‏ء كان و لا من شي‏ء خلق ما كان فنفى بقوله لا من شي‏ء كان معنى الحدوث و كيف أوقع على ما أحدثه صفة الخلق و الاختراع بلا أصل و لا مثال نفيا لقول من قال إن الأشياء كلها محدثة بعضها من بعض و إبطالا لقول الثنوية الذين زعموا أنه لا يحدث شيئا إلا من أصل و لا يدبر إلا باحتذاء مثال فدفع ع بقوله لا من شي‏ء خلق ما كان جميع حجج الثنوية و شبههم لأن أكثر ما يعتمد الثنوية في حدوث العالم أن يقولوا لا يخلو من أن يكون الخالق خلق الأشياء من شي‏ء أو من لا شي‏ء فقولهم من شي‏ء خطأ و قولهم من لا شي‏ء مناقضة و إحالة لأن من توجب شيئا و لا شي‏ء تنفيه فأخرج أمير المؤمنين ع هذه اللفظة على أبلغ الألفاظ و أصحها فقال لا من شي‏ء خلق ما كان فنفى من إذ كانت توجب شيئا و نفى الشي‏ء إذ كان كل شي‏ء مخلوقا محدثا لا من أصل أحدثه الخالق كما قالت الثنوية إنه خلق من أصل قديم فلا يكون تدبير إلا باحتذاء مثال ثم قوله ع ليست له صفة تنال و لا حد تضرب له فيه الأمثال كل دون صفاته تحبير اللغات فنفى ع أقاويل المشبهة حين شبهوه بالسبيكة و البلورة و غير ذلك من أقاويلهم من الطول و الاستواء و قولهم متى ما لم تعقد القلوب منه على كيفية و لم ترجع إلى إثبات هيئة لم تعقل شيئا فلم تثبت صانعا ففسر أمير المؤمنين ع أنه واحد بلا كيفية و أن القلوب تعرفه بلا تصوير و لا إحاطة ثم قوله ع الذي لا يبلغه بعد الهمم و لا يناله غوص الفطن و تعالى الذي ليس له وقت معدود و لا أجل ممدود و لا نعت محدود ثم قوله ع لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن و لم ينأ عنها فيقال هو منها بائن فنفى ع بهاتين الكلمتين صفة الأعراض و الأجسام لأن من صفة الأجسام التباعد و المباينة و من صفة الأعراض الكون في الأجسام بالحلول على غير مماسة و مباينة الأجسام على تراخي المسافة ثم قال ع لكن أحاط بها علمه و أتقنها صنعه أي هو في الأشياء بالإحاطة و التدبير و على غير ملامسة

2-  علي بن محمد عن صالح بن أبي حماد عن الحسين بن يزيد عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن إبراهيم عن أبي عبد الله ع قال إن الله تبارك اسمه و تعالى ذكره و جل ثناؤه سبحانه و تقدس و تفرد و توحد و لم يزل و لا يزال و هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن فلا أول لأوليته رفيعا في أعلى علوه شامخ الأركان رفيع البنيان عظيم السلطان منيف الآلاء سني العلياء الذي عجز الواصفون عن كنه صفته و لا يطيقون حمل معرفة إلهيته و لا يحدون حدوده لأنه بالكيفية لا يتناهى إليه

3-  علي بن إبراهيم عن المختار بن محمد بن المختار و محمد بن الحسن عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعا عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال ضمني و أبا الحسن ع الطريق في منصرفي من مكة إلى خراسان و هو سائر إلى العراق فسمعته يقول من اتقى الله يتقى و من أطاع الله يطاع فتلطفت في الوصول إليه فوصلت فسلمت عليه فرد علي السلام ثم قال يا فتح من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق و من أسخط الخالق فقمن أن يسلط الله عليه سخط المخلوق و إن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه و أنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه و الأوهام أن تناله و الخطرات أن تحده و الأبصار عن الإحاطة به جل عما وصفه الواصفون و تعالى عما ينعته الناعتون نأى في قربه و قرب في نأيه فهو في نأيه قريب و في قربه بعيد كيف الكيف فلا يقال كيف و أين الأين فلا يقال أين إذ هو منقطع الكيفوفية و الأينونية

4-  محمد بن أبي عبد الله رفعه عن أبي عبد الله ع قال بينا أمير المؤمنين ع يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له ذعلب ذو لسان بليغ في الخطب شجاع القلب فقال يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك قال ويلك يا ذعلب ما كنت أعبد ربا لم أره فقال يا أمير المؤمنين كيف رأيته قال ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ويلك يا ذعلب إن ربي لطيف اللطافة لا يوصف باللطف عظيم العظمة لا يوصف بالعظم كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ قبل كل شي‏ء لا يقال شي‏ء قبله و بعد كل شي‏ء لا يقال له بعد شاء الأشياء لا بهمة دراك لا بخديعة في الأشياء كلها غير متمازج بها و لا بائن منها ظاهر لا بتأويل المباشرة متجل لا باستهلال رؤية ناء لا بمسافة قريب لا بمداناة لطيف لا بتجسم موجود لا بعد عدم فاعل لا باضطرار مقدر لا بحركة مريد لا بهمامة سميع لا بآلة بصير لا بأداة لا تحويه الأماكن و لا تضمنه الأوقات و لا تحده الصفات و لا تأخذه السنات سبق الأوقات كونه و العدم وجوده و الابتداء أزله بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له و بمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ضاد النور بالظلمة و اليبس بالبلل و الخشن باللين و الصرد بالحرور مؤلف بين متعادياتها و مفرق بين متدانياتها دالة بتفريقها على مفرقها و بتأليفها على مؤلفها و ذلك قوله تعالى و من كل شي‏ء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففرق بين قبل و بعد ليعلم أن لا قبل له و لا بعد له شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه كان ربا إذ لا مربوب و إلها إذ لا مألوه و عالما إذ لا معلوم و سميعا إذ لا مسموع

5-  علي بن محمد عن سهل بن زياد عن شباب الصيرفي و اسمه محمد بن الوليد عن علي بن سيف بن عميرة قال حدثني إسماعيل بن قتيبة قال دخلت أنا و عيسى شلقان على أبي عبد الله ع فابتدأنا فقال عجبا لأقوام يدعون على أمير المؤمنين ع ما لم يتكلم به قط خطب أمير المؤمنين ع الناس بالكوفة فقال الحمد لله الملهم عباده حمده و فاطرهم على معرفة ربوبيته الدال على وجوده بخلقه و بحدوث خلقه على أزله و باشتباههم على أن لا شبه له المستشهد بآياته على قدرته الممتنعة من الصفات ذاته و من الأبصار رؤيته و من الأوهام الإحاطة به لا أمد لكونه و لا غاية لبقائه لا تشمله المشاعر و لا تحجبه الحجب و الحجاب بينه و بين خلقه خلقه إياهم لامتناعه مما يمكن في ذواتهم و لإمكان مما يمتنع منه و لافتراق الصانع من المصنوع و الحاد من المحدود و الرب من المربوب الواحد بلا تأويل عدد و الخالق لا بمعنى حركة و البصير لا بأداة و السميع لا بتفريق آلة و الشاهد لا بمماسة و الباطن لا باجتنان و الظاهر البائن لا بتراخي مسافة أزله نهية لمجاول الأفكار و دوامه ردع لطامحات العقول قد حسر كنهه نوافذ الأبصار و قمع وجوده جوائل الأوهام فمن وصف الله فقد حده و من حده فقد عده و من عده فقد أبطل أزله و من قال أين فقد غياه و من قال علام فقد أخلى منه و من قال فيم فقد ضمنه

6-  و رواه محمد بن الحسين عن صالح بن حمزة عن فتح بن عبد الله مولى بني هاشم قال كتبت إلى أبي إبراهيم ع أسأله عن شي‏ء من التوحيد فكتب إلي بخطه الحمد لله الملهم عباده حمده

 و ذكر مثل ما رواه سهل بن زياد إلى قوله و قمع وجوده جوائل الأوهام ثم زاد فيه أول الديانة به معرفته و كمال معرفته توحيده و كمال توحيده نفي الصفات عنه بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف و شهادة الموصوف أنه غير الصفة و شهادتهما جميعا بالتثنية الممتنع منه الأزل فمن وصف الله فقد حده و من حده فقد عده و من عده فقد أبطل أزله و من قال كيف فقد استوصفه و من قال فيم فقد ضمنه و من قال علام فقد جهله و من قال أين فقد أخلى منه و من قال ما هو فقد نعته و من قال إلام فقد غاياه عالم إذ لا معلوم و خالق إذ لا مخلوق و رب إذ لا مربوب و كذلك يوصف ربنا و فوق ما يصفه الواصفون

7-  عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن أحمد بن النضر و غيره عمن ذكره عن عمرو بن ثابت عن رجل سماه عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور قال خطب أمير المؤمنين ع خطبة بعد العصر فعجب الناس من حسن صفته و ما ذكره من تعظيم الله جل جلاله قال أبو إسحاق فقلت للحارث أ و ما حفظتها قال قد كتبتها فأملاها علينا من كتابه الحمد لله الذي لا يموت و لا تنقضي عجائبه لأنه كل يوم في شأن من إحداث بديع لم يكن الذي لم يلد فيكون في العز مشاركا و لم يولد فيكون موروثا هالكا و لم تقع عليه الأوهام فتقدره شبحا ماثلا و لم تدركه الأبصار فيكون بعد انتقالها حائلا الذي ليست في أوليته نهاية و لا لآخريته حد و لا غاية الذي لم يسبقه وقت و لم يتقدمه زمان و لا يتعاوره زيادة و لا نقصان و لا يوصف بأين و لا بم و لا مكان الذي بطن من خفيات الأمور و ظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير الذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحد و لا ببعض بل وصفته بفعاله و دلت عليه بآياته لا تستطيع عقول المتفكرين جحده لأن من كانت السماوات و الأرض فطرته و ما فيهن و ما بينهن و هو الصانع لهن فلا مدفع لقدرته الذي نأى من الخلق فلا شي‏ء كمثله الذي خلق خلقه لعبادته و أقدرهم على طاعته بما جعل فيهم و قطع عذرهم بالحجج فعن بينة هلك من هلك و بمنه نجا من نجا و لله الفضل مبدئا و معيدا ثم إن الله و له الحمد افتتح الحمد لنفسه و ختم أمر الدنيا و محل الآخرة بالحمد لنفسه فقال و قضى بينهم بالحق و قيل الحمد لله رب العالمين الحمد لله اللابس الكبرياء بلا تجسيد و المرتدي بالجلال بلا تمثيل و المستوي على العرش بغير زوال و المتعالي على الخلق بلا تباعد منهم و لا ملامسة منه لهم ليس له حد ينتهى إلى حده و لا له مثل فيعرف بمثله ذل من تجبر غيره و صغر من تكبر دونه و تواضعت الأشياء لعظمته و انقادت لسلطانه و عزته و كلت عن إدراكه طروف العيون و قصرت دون بلوغ صفته أوهام الخلائق الأول قبل كل شي‏ء و لا قبل له و الآخر بعد كل شي‏ء و لا بعد له الظاهر على كل شي‏ء بالقهر له و المشاهد لجميع الأماكن بلا انتقال إليها لا تلمسه لامسة و لا تحسه حاسة هو الذي في السماء إله و في الأرض إله و هو الحكيم العليم أتقن ما أراد من خلقه من الأشباح كلها لا بمثال سبق إليه و لا لغوب دخل عليه في خلق ما خلق لديه ابتدأ ما أراد ابتداءه و أنشأ ما أراد إنشاءه على ما أراد من الثقلين الجن و الإنس ليعرفوا بذلك ربوبيته و تمكن فيهم طاعته نحمده بجميع محامده كلها على جميع نعمائه كلها و نستهديه لمراشد أمورنا و نعوذ به من سيئات أعمالنا و نستغفره للذنوب التي سبقت منا و نشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله بعثه بالحق نبيا دالا عليه و هاديا إليه فهدى به من الضلالة و استنقذنا به من الجهالة من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزا عظيما و نال ثوابا جزيلا و من يعص الله و رسوله فقد خسر خسرانا مبينا و استحق عذابا أليما فأنجعوا بما يحق عليكم من السمع و الطاعة و إخلاص النصيحة و حسن المؤازرة و أعينوا على أنفسكم بلزوم الطريقة المستقيمة و هجر الأمور المكروهة و تعاطوا الحق بينكم و تعاونوا به دوني و خذوا على يد الظالم السفيه و مروا بالمعروف و انهوا عن المنكر و اعرفوا لذوي الفضل فضلهم عصمنا الله و إياكم بالهدى و ثبتنا و إياكم على التقوى و أستغفر الله لي و لكم