الطعن على التدبير من جهة أخرى و الجواب عليه

 و لعل طاعنا يطعن على التدبير من جهة أخرى فيقول كيف يكون هاهنا تدبير و نحن نرى الناس في هذه الدنيا من عزيز فالقوي يظلم و يغصب و الضعيف يظلم و يسالم الخسف و الصالح فقير مبتلى و الفاسق معافى موسع عليه و من ركب فاحشة أو انتهك محرما لم يعاجل بالعقوبة فلو كان في العالم تدبير لجرت الأمور على القياس القائم فكان الصالح هو المرزوق و الطالح هو المحروم و كان القوي يمنع من ظلم الضعيف و المنتهك للمحارم يعاجل بالعقوبة فيقال في جواب ذلك إن هذا لو كان هكذا لذهب موضع الإحسان الذي فضل به الإنسان على غيره من الخلق و حمل النفس على البر و العمل الصالح احتسابا للثواب و ثقة بما وعد الله عنه و لصار الناس بمنزلة الدواب التي تساس بالعصا و العلف و يلمع لها بكل واحد منهما ساعة فساعة فتستقيم على ذلك و لم يكن أحد يعمل على يقين بثواب أو عقاب حتى كان هذا يخرجهم عن حد الإنسية إلى حد البهائم ثم لا يعرف ما غاب و لا يعمل إلا على الحاضر من نعيم الدنيا و كان يحدث من هذا أيضا أن يكون الصالح إنما يعمل للرزق و السعة في هذه الدنيا و يكون الممتنع من الظلم و الفواحش إنما يكف عن ذلك لترقب عقوبة تنزل به من ساعته حتى تكون أفعال الناس كلها تجري على الحاضر لا يشوبه شي‏ء من اليقين بما عند الله و لا يستحقون ثواب الآخرة و النعيم الدائم فيها مع أن هذه الأمور التي ذكرها الطاعن من الغنى و الفقر و العافية و البلاء ليست بجارية على خلاف قياسه بل قد تجري على ذلك أحيانا و الأمر المفهوم فقد ترى كثيرا من الصالحين يرزقون المال لضروب من التدبير و كيلا يسبق إلى قلوب الناس أن الكفار هم المرزوقون و الأبرار هم المحرومون فيؤثرون الفسق على الصلاح و ترى كثيرا من الفساق يعاجلون بالعقوبة إذا تفاقم طغيانهم و عظم ضررهم على الناس و على أنفسهم كما عوجل فرعون بالغرق وبخت‏نصر بالتيه و بلبيس بالقتل و إن أمهل بعض الأشرار بالعقوبة و أخر بعض الأخيار بالثواب إلى الدار الآخرة لأسباب تخفى على العباد لم يكن هذا مما يبطل التدبير فإن مثل هذا قد يكون من ملوك الأرض و لا يبطل تدبيرهم بل يكون تأخيرهم ما أخروه و تعجيلهم ما عجلوه داخلا في صواب الرأي و التدبير و إذا كانت الشواهد تشهد و قياسهم يوجب أن للأشياء خالقا حكيما قادرا فما يمنعه أن يدبر خلقه فإنه لا يصلح في قياسهم أن يكون الصانع يهمل صنعته إلا بإحدى ثلاث خلال إما عجز و إما جهل و إما شرارة و كل هذا محال في صنعته عز و جل و تعالى ذكره و ذلك أن العاجز لا يستطيع أن يأتي بهذه الخلائق الجليلة العجيبة و الجاهل لا يهتدى لما فيها من الصواب و الحكمة و الشرير لا يتطاول لخلقها و إنشائها و إذا كان هذا هكذا وجب أن يكون الخالق لهذه الخلائق يدبرها لا محالة و إن كان لا يدرك كنه ذلك التدبير و مخارجه فإن كثيرا من تدبير الملوك لا تفهمه العامة و لا تعرف أسبابه لأنها لا تعرف دخيلة أمر الملوك و أسرارهم فإذا عرف سببه وجد قائما على الصواب و الشاهد المحنة و لو شككت في بعض الأدوية و الأطعمة فيتبين لك من جهتين أو ثلاث أنه حار أو بارد أ لم تكن ستقضي عليه بذلك و تنفي الشك فيه عن نفسك فما بال هؤلاء الجهلة لا يقضون على العالم بالخلق و التدبير مع هذه الشواهد الكثيرة و أكثر منها ما لا يحصى كثرة و لو كان نصف العالم و ما فيه مشكلا صوابه لما كان من حزم الرأي و سمت الأدب أن يقضى على العالم بالإهمال لأنه كان في النصف الآخر و ما يظهر فيه من الصواب و إتقان ما يردع الوهم عن التسرع إلى هذه القضية فكيف و كلما فيه إذا فتش وجد على غاية الصواب حتى لا يخطر بالبال شي‏ء إلا وجد ما عليه الخلقة أصح و أصوب منه