دعاء أخر مروي عنه في المناجاة

 

إلهي صل على محمد وآل محمد، وارحمني إذا انقطع من الدنيا أثري وامَّحى من المخلوقين ذكري، وصِرتُ في المنسيين كمن قد نُسِيَ، الهي كبر سِنّي ودَقّ عظمي ورقّ جلدي، ونال الدهرُ منّي واقترب أجلي، ونَفِدَت أيامي، وذهبت شهوتي، وبقيت تبعتي، وامتحت محاسني، وبُليَ جسمي، وتقطّعت أوصالي، وتفرّقت أعضائي.إلهي أفحَمتني ذنوبي، وقطعت مقالتي، فلا حجة لي ولا عذرَ، فأنا المُقِرُّ بجرمي والمعترف بإساءتي، الأسيرُ بذنبي، المرتهن بعملي، المُتهوّرُ في بحور خطيئتي، المُتحيّر عن قصدي المنقطع بي، فصلّ على محمّد وآل محمّد وارحمني برحمتك وتجاوز عنّي.إلهي إن كان صَغُرَ في جنب طاعتك عملي، فقد كَبُرَ في جنب رجائك أملي، الهي كيف أنقلبُ بالخيبة من عندك محروماً، وكان ظنّي بجودك أن تقلُبني مرحوماً، الهي إن لم اُسلّط على حسن ظنّي بك قنوطَ ظنّ الآيسين، فلا تبطل صدق رجائي بك بين الأملين.
إلهي عظمَ جُرمي إذ كنتَ المبارزَ به، وكَبُرَ ذنبي إذ كنتَ المطالِبَ به، ألا إنّي إذا ذكرتُ كبير جرمي وعظيم غُفرانك، وجدتُ الحاصلَ لي بينهما عَفْوَ رضوانك.الهي ان دعاني الى النار بذنبي مخشيُّ عقابك فقد ناداني الى الجنة بالرجاء حسن ثوابك، إلهي إن أوحشتني الخطايا من محاسن لُطفك فقد آنسني باليقينُ مكارم عطفك.إلهي إن أنامَتني الغفلةُ عن الإستعداد للقائك فقد أنبهتني المعرفةُ يا سيدي بكريم آلائك، إلهي إن عَزَبَ لُبّي عن تقويم ما يصلِحني فما عَزَبَ إيقاني بنظرك لي فيما ينفعني.إلهي ان انقرضت بغير ما أحببت من السعي أيامي، فبالإيمان أمضتها الماضيات من أعوامي، إلهي جئتك ملهوفاً قد ألبست عدم فاقتي، وأقامني مقام الأذلاء بين يديك ضر حاجتي، إلهي كرمت فأكرمني إذ كنت من سؤالك، وجدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك.
إلهي مسكنتي لا يجبرها إلا عطاؤك، وأمنيتي لا يغنيها إلا جزاؤك، إلهي أصبحت على باب من أبواب منحك سائلاً وعن التعرض لسواك بالمسألة عادلاً، وليس من جميل امتنانك رد سائل ملهوف، ومضطر لأنتظار خيرك المألوف.إلهي أقمت على قنطرة من قناطر الأخطار، مبلوا بالأعمال والإعتبار، فأنا الهالك ان لم تعن عليها بتخفيف الأثقال، إلهي أمن أهل الشقاء خلقتني فأطيل بكائي أم من أهل السعادة خلقتني فأبشر رجائي. إلهي ان حرمتني رؤية محمد صلى الله عليه وآله في دار السلام، وأعدمتني تطواف الوصفاء من الخدام، أو صرفت وجه تأميلي بالخيبة في دار المقام فغير ذلك منتني نفسي منك يا ذا الفضل والإنعام. إلهي وعزتك لو قرنتني في الأصفاد طول الأيام، ومنعتني سيبك من بين الأنام، وحلت بيني وبين الابرار، ما قطعت رجائي منك، ولا صرفت انتظاري للعفو عنك. إلهي لو لم تهدني للإسلام ما اهتديت، ولو لم ترزقني الإيمان بك ما آمنت، ولو لم تطلق لساني بدعائك ما دعوت، ولو لم تعرفني حلاوة معرفتك ما عرفت، ولو لم تبين لي شديد عقابك ما استجرت. 
إلهي ان أقعدني التخلف عن السبق مع الأبرار فقد أقامتني الثقة بك على مدارج الأخيار، إلهي قلب حشوته من محبتك في دار الدنيا كيف تطلع عليه نار محرقة في لظى، إلهي نفس أعززتها بتأييد إيمانك، كيف تذلها بين أطباق نيرانك. إلهي لسان كسوته من تماجيدك أنيق(1) أثوابها كيف تهوي إليه من النار مشعلات التهابها، إلهي كل مكروب إليك يلتجئ، وكل محزون إليك يرتجي. إلهي سمع العابدون لجزيل ثوابك فخشعوا وسمع الزاهدون بعظيم جزائك فقنعوا، وسمع المذنبون بسعة رحمتك فرغبوا، وسمع المولون عن القصد بجودك فرجعوا، وسمع المجرمون بكرم عفوك فطمعوا، حتى ازدحمت عصائب العصاة من عبادك، وعجت إليك منهم عجيج الضجيج بالدعاء في بلادك، ولكل أمل ساق صاحبه إليك محتاجا، ولكل قلب تركه وجيب(2) خوف المنع منك مهتاجا(3)، وأنت المسئول الذي لا تسود لديه وجوه المطالب، ولم ترد بنزيله قطيعات المعاطب. 
إلهي وان أخطأت طريق النظر لنفسي بما فيه كرامتها، فقد أصبت طريق الفزع إليك بما فيه سلامتها. إلهي ان كانت نفسي استسعدتني متمردة على ما يرديها، فقد أسعدتها الآن بدعائك على ما ينجيها. إلهي ان عداني الإجتهاد في ابتغاء منفعتي، فلم يعدني برك لي فيما فيه مصلحتي، إلهي ان قسطت في الحكم على نفسي بما فيه حسرتها فقد أقسطت بتعريفي إياها من رحمتك إشفاق رأفتها. إلهي ان أجحف بي قلة الزاد في المسير إليك، فقد وصلته بذخائر ما أعددته من فضل تعويلي عليك، إلهي إذا ذكرت رحمتك ضحكت إليها وجوه وسائلي، وإذا ذكرت سخطتك بكت إليها عيون مسائلي، إلهي فأفض بسجل من سجالك على عبد آيس قد أتلفه الظماء، وأمط بجودك عن خيط جيده كلال الونى.إلهي أدعوك دعاء من لم يرج غيرك بدعائه، وأرجوك رجاء من لم يقصد غيرك برجائه، إلهي كيف أرد عارض تطلعي إلى نوالك، وإنما أنا في استرزاقي لهذا البدن أحد عيالك، إلهي كيف أسكت بالإفحام لسان ضراعتي، وقد أقلقني ما أبهم علي من مصير عاقبتي.
إلهي وقد علمت حاجة نفسي إلى ما تكفلت لي به من الرزق في حياتي، وعرفت قلة استغنائي عنه من الجنة بعد وفاتي، فيامن سمح لي به متفضلا في العاجل، لا تمنعنيه يوم فاقتي إليه في الآجل، فمن شواهد نعماء الكريم استتمام نعمائه ومن محاسن آلاء الجواد استكمال آلائه، إلهي لولا ما جهلت من أمري ما شكوت عثراتي، ولولا ما ذكرت من التفريط ما سفحت عبراتي.إلهي صل على محمد وآل محمد، وامح مثبتات العثرات بمرسلات العبرات، وهب لي كثير السيئات لقليل الحسنات، إلهي إن كنت لا ترحم إلا المجدين في طاعتك فإلى من يفزع المقصرون، وإن كنت لا تقبل إلا من المجتهدين، فإلى من يلتجئ المفرطون، وإن كنت لا تكرم إلا أهل الإحسان، فكيف يصنع المسيئون، وان كان لا يفوز يوم الحشر إلا المتقون فبمن يستغيث المذنبون. إلهي إن كان لا يجوز على الصراط إلا من أجازته براءة عمله، فأنى بالجواز لمن لم يتب إليك قبل انقضاء أجله، إلهي إن لم تجد إلا على من عمر بالزهد مكنون سريرته، فمن للمضطر الذي لم يرضه بين العالمين سعي نقيبته(4). 
الهي انهملت عبراتي حين ذكرت عثراتي، وما لها لا تنهمل ولا أدري إلى ما يكون مصيري، وعلى ماذا يهجم عند البلاغ مسيري، وأرى نفسي تخاتلني، وأيامي تخادعني وقد خفقت فوق رأسي أجنحة الموت، ورمقتني من قريب أعين الفوت، فما عذري وقد حشا مسامعي رافع الصوت. إلهي لقد رجوت ممن ألبسني بين الأحياء ثوب عافيته، ألا يعريني منه بين الأموات بجود رأفته ولقد رجوت ممن تولاني في حياتي بإحسانه أن يشفعه لي عند وفاتي بغفرانه.يا أنيس كل غريب، آنس في القبر غربتي، ويا ثاني كل وحيد، إرحم في القبر وحدتي، ويا عالم السر والنجوى ويا كاشف الضر والبلوى كيف نظرك لي بين سكان الثرى وكيف صنيعك إلي في دار الوحشة والبلى، فقد كنت بي لطيفا أيام حياة الدنيا. يا أفضل المنعمين في نعمائه، كثرت أياديك عندي فعجزت عن إحصائها، وضقت ذرعاً في شكري لك بجزائها فلك الحمد على ما أوليت، ولك الشكر على ما أبليت. يا خير من دعاه داع، وأفضل من رجاه راج، بذمة الإسلام أتوسل إليك، وبحرمة القرآن أعتمد عليك، وبحق محمد وآل محمد أتقرب إليك، فصل على محمد وآل محمد واعرف ذمتي التي بها رجوت قضاء حاجتي، يا أرحم الراحمين. 
*******
المصدر: الصحيفة العلوية

 

(1) التماجيد جمع التمجيد: وهو المجد والسؤدد والعظمة، الانيق: الحسن المعجب.
(2) الوجيب: خفقان القلب واضطرابه.
(3) مهتاجا: ثائراً ومتحرّكاً.
(4) النقيبة: النفس.